الوقوف في عرفات مع المسلمين(1)
من الشروط المعتبرة في الوقوف في عرفات أن يكون في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة وفقاً لثبوت الهلال بالشروط المعتبرة عند الشيعة الإمامية، أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم، فلو وقف المكلف متعمداً قبل ذلك لم يصح وقوفه. كما يصح وقوفه لو كان وفق الموازين الشرعية المعتبرة في ثبوت الهلال عند الشيعة الإمامية، ووافق ذلك ما حكم به قاضي المسلمين.
وإنما وقع الخلاف بين الأعلام في إجزاء الوقوف لو كان تبعاً لحكم قاضي المسلمين بثبوت الهلال، وهنا صورتان:
الأولى: احتمال مطابقة الصادر عنه للواقع.
الثانية: العلم بالخلاف والجزم بأن اليوم الذي قد حكم به قاضي المسلمين هو يوم الثامن من شهر ذي الحجة، وليس يوم التاسع منه.
تاريخ المسألة:
وقد خلت كلمات قدماء الأعلام من التعرض لهذه المسألة، فلم يذكرها أحد منهم كالصدوق، والمفيد، والمرتضى، وأبي الصلاح وسلار، والطوسي، وابن البراج، وأبن أبي المجد، وابن حمزة، وابن زهرة، وابن إدريس، وابن سعيد، والمحقق، والعلامة، والفاضل الآبي، وفخر المحققين، والشهيد الأول، والفاضل المقداد، والمحقق الكركي(ره).
ولعل أول من تعرض إليها هو الشهيد الثاني(ره)، في كتابه المسالك، فقد ذكر في باب الصد: ومن هذا الباب ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم لا عندنا، ولم يمكن التأخر عنهم لخوف العدو منهم أو من غيرهم، فإن التقية هنا لم تثبت[1].
ولم يتعرض لها من بعده أحد من الأعلام حتى بداية القرن الثالث عشر غير ما حكاه السيد عبد الحي الرضوي الكاشاني المتوفى بعد عام 1152 هـ في كتابه حديقة الشيعة وهو من الكتب التاريخية، من أقوال بعض فقهاء القرن الحادي عشر، فقد حكى عن المولى محمد بن الحسن الشيرواني المتوفى سنة 1099 هـ، وهو تلميذ العلامة التقي المجلسي، وصهره على ابنته وكان من علماء أصفهان من أنه كان يقول: من ابتلي بالمسألة المذكورة ولم يمكنه الوقوف في اليوم التاسع الشرعي فبإمكانه الخروج من إحرامه بعمرة مفردة.
وحكى أيضاً عن غواص بحار الأنوار(ره) أنه أجرى عليه حكم المصدود، وقال: إنه لا يحل من إحرامه إلا بالذبح أو النحر.
وحكى عن علماء أصفهان وقم وشيراز في ذلك العصر أن من لم يحل بالعمرة المفردة، أو بالذبح أو النحر، ورجع إلى بلده فإنه يمنع من دخول منـزله حتى لا يرتكب بعض محرمات الإحرام كالمقاربة، بل يسكن في المساجد ونحوها إلى العام القادم ليحج ويخرج من إحرامه.
وحكى أيضاً عن نجل المولى محمد باقر الخراساني، والظاهر أنه المولى محمد جعفر بن محمد باقر السبزواري الخراساني نجل المحقق السبزواري صاحب الذخيرة والكفاية، وكان من أجلة العلماء، وقد توفي بعد عام 1127 هـ، أنه حج فواجه المشكلة المذكورة فأحل من إحرامه بالعمرة المفردة.
وحكى عمن قال إنه أحد علماء كاشان ويسمى بالمولى هادي أنه كان يرى صحة الحج وإجزائه عن حجة الإسلام، ويحتمل أن يكون المقصود منه المولى محمد هادي الكاشاني شارح مفاتيح الشرائع، وهو من أحفاد أخ المحدث الفيض الكاشاني، وقد توفي سنة 1091 هـ.
ولم تشتمل الكتب الفقهية ذكر حكم هذه المسألة إلى عصر المحقق القمي(قده)، المتوفى سنة 1227 هـ، فقد تعرض لذلك في جواب بعض المسائل في كتابه جامع الشتات، وترجمة ما أجاب به: أنه إذا ثبت لديه بالطريق الشرعي كونه يوم عرفة ثم انكشف الخطأ لم يصح حجه، بل حتى لو كان مضطراً إلى الوقوف فيه تقية من المخالفين، ولم يمكن التدارك لاحقاً لم يجزئه، والظاهر أنه لا خلاف في ذلك أيضاً. نعم بعض أعاظم المعاصرين قال بالإجزاء[2].
ولعل مقصوده من بعض أعاظم المعاصرين، السيد بحر العلوم(ره)، فقد حكي عنه في رسالة متعلقة بالحج أنه سئل عما إذا ثبت الهلال عندهم، ولم يثبت عندنا، أو ثبت العدم، هل يلزمنا العمل على مقتضى ما عندهم من ثبوته موافقة لهم، والعمل صحيح، أم يعاد بعد التمكن؟ فأجاب(قده): الأقرب جريان التقية في مثله، فيكون العمل على مقتضاه صحيحاً مجزياً، وإن كانت الإعادة مع التمكن أحوط[3].
وقد ذكر صاحب الجواهر(ره) أنه وجد الحكم بالإجزاء منسوباً للعلامة الطباطبائي(ره)[4]، والمقصود به السيد بحر العلوم، والتعبير المذكور يوحي بأنه ليس جازماً بصحة النسبة.
وقد تعرض للمسألة أيضاً العلامة الآغا محمد علي الكرمانشاهي نجل الأستاذ الأكبر الوحيد البهباني المتوفى عام 1216 هـ، وهو من المعاصرين للمحقق القمي، والسيد بحر العلوم، فقد جاء في كتابه المقامع ما ترجمته: أنه سئل عما إذا بنى أهل السنة على حلول أول ذي الحجة من دون ثبوت شرعي-أي عندنا-فما يصنع الشيعة؟
فأجاب: أنه إذا أمكن الوقوف في عرفات والمزدلفة على النهج الشرعي بنحو لا يخالف التقية ولو بدفع رشوة تعين ذلك، وإلا وجب العمل مطابقاً للتقية ويحكم بصحة حجه، وفي هذه الصورة إذا وقف على خلاف التقية جهالة بطل عمله، وإن اتفق أن لم يطلع على حاله أحد ولم يتضرر بذلك[5].
وتعرض للمسألة أيضاً ممن عاصرهم الشيخ الكبير كاشف الغطاء(قده)، في مقدمة كتابه كشف الغطاء حيث قسم التقية من أهل الخلاف من جهة المذهب إلى أقسام:
الرابع: ما يكون في الموضوعات الخاصة كهلال ذي الحجة وشوال وشهر رمضان، ونحوها. ثم قال: والظاهر الصحة في جميع الأقسام، والأحوط الاقتصار على القسم الأول-يعني ما يكون في الأحكام العامة-والبناء على الإعادة والقضاء في ما فيه قضاء في ما عداه[6].
وتعرض لها أيضاً صاحب الجواهر(ره)، فإنه بعدما أشار إلى بعض المسائل المتعلقة بالاختلاف في الموقف قال(قده): بقي هنا شيء مهم تشتد الحاجة إليه، وكأنه أولى من ذلك كله بالذكر، وهو أنه لو قامت البينة عند قاضي العامة وحكم بالهلال على وجه يكون يوم التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للإمامي الوقوف معهم، ويجزئ، لأنه من أحكام التقية، ويعسر التكليف بغيره، أو لا يجزي، لعدم ثبوتها-أي التقية-في الموضوع الذي محل الفرض منه-إلى أن قال-لم أجد لهم كلاماً في ذلك، ولا يبعد القول بالاجزاء.
وأما في مقام الفتوى، فقد احتاط في موضع من رسالته العملية نجاة العباد، حيث قال: لو حكم من ليس أهلاً للحكومة بهلال ذي الحجة على وجه يكون يوم التروية يوم عرفة لم يجز الوقوف معهم في الأحوط إن لم يكن أقوى[7].
وفي موضع آخر منها حكم ببطلان الحج، قال(ره): ولو وقف العامة بالموقفين قبل وقته، لثبوت الهلال عندهم دوننا، ولم يمكن التأخر عنهم فهو بحكم من فاته الحج[8].
ومثل ذلك حكم بعدم الإجزاء أيضاً الشيخ الأعظم الأنصاري(ره)، فقد جاء في مناسكه باللغة الفارسية ما ترجمته: إذا ثبت الهلال عند قاضي العامة وحكم بذلك ولم يثبت عند الشيعة، فإن أمكن المخالفة معهم وإدراك الوقوف بعرفات ولو اضطراريه، عمل بذلك وإن لم يمكن فإن أمكنه الوقوف في المشعر كفى وصح حجه، وإلا فسد في ذلك العام.
والحاصل، أن التقية في هذا المقام لا تصحح العمل على الأحوط الأقوى.
وقد وافق الشيخ الأعظم(ره) كل من علق على هذه الرسالة من الأعلام الذين تأخروا عنه، عدا صاحب العروة، والسيد البروجردي(ره)، فإنهما تأملا في الأقوائية المذكورة، واحتاطا في المسألة فلم يفتيا بعدم الإجزاء[9].
وقد تبع الشيخ الأعظم(ره) في القول بعدم الإجزاء اثنان من أعاظم تلامذته، وهما الشيخ عبد الحسين الطهراني، وهو أستاذ المحدث النوري، والسيد حسين الكوهكمري(ره).
وهذا هو مختار المرحوم المير حامد الحسين الهندي(ره) صاحب كتاب عبقات الأنوار فقد حج في سنة 1282 هـ، وكتب في رحلته أنه لم يقف مع العامة، بل وقف في اليوم الثاني[10].
وممن قال بعدم الإجزاء الشيخ محمد حسين الكاظمي(ره)، وكذلك الشيخ زين العابدين المازندراني(قده)، وهو أحد المراجع المعاصرين للميرزا الشيرازي(ره) في كتابه الذخيرة، الذي كان من أشهر الكتب الفتوائية في ذلك العصر.
ومن الذين عاصروا العلمين النائيني والأصفهاني(ره) الشيخ أحمد كاشف الغطاء وكان أحد مراجع تقليد عصره، وقد قال بعدم الإجزاء فقد جاء في رسالته المناسك: ومنه-أي من فوات الحج-ما لو وقف العامة بالموقفين قبل وقته لثبوت الهلال عندهم دوننا ولم يمكن التخلف عنهم حتى في إدراك اضطراري الموقفين[11].
وقد حكى تلميذ السيد أبو الحسن الأصفهاني الشيخ عبد النبي العراقي(ره) عنه تغير رأيه، فإنه بعدما كان يقول بعدم الإجزاء مطلقاً، عدل إلى القول بالإجزاء في الجملة، ولعل المقصود التـزامه به في صورة الشك في مطابقة الموقف الرسمي للواقع.
وكذلك السيد البروجردي(ره) فإنه بعدما كان يقول بعدم الإجزاء ولو احتياطاً أفتى لاحقاً بالإجزاء في صورة الشك.
ولعل استفحال مشكلة عدم التطابق بين الموقفين الرسمي والشرعي في غالب السنين الأخيرة هو الذي دعا مراجع العصر إلى تجديد النظر في هذه المسألة والبحث عن طريق لتصحيح الحج بالوقوف مع الجمهور، ولو في الجملة، وقد أصبح القول بالإجزاء هو السائد بين المراجع المتأخرين، وقل من ألتـزم بعدم الإجزاء أو توقف فيه كالمرجعين الشهيرين السيد محمود الشاهرودي، والسيد أحمد الخونساري(ره)، وسيدي المرجع دامت أيام بركاته[12].
——————————————————–
[1] مسالك الأفهام ج 2 ص 391.
[2] جامع الشتات ج 1 ص 288.
[3] حكى هذا عنه في كتاب إعلام العامة في صحة الحج مع العامة ص 19 للشيخ عبد النبي العراقي المعاصر للعلمين المحقق النائيني، والسيد أبو الحسن الأصفهاني(ره).
[4] جواهر الكلام ج 19 ص 32.
[5] مقامع الفضل ج 1 ص 304.
[6] كشف الغطاء ج 1 ص 300.
[7] نجاة العبادة ص 140.
[8] المصدر السابق ص 184.
[9] مناسك الحج ص 85.
[10] حكى ذلك عنهم في رؤيت هلال المقدمة ص 116.
[11] قلائد الدرر ص 87.
[12] بحوث في شرح المناسك ج 18 ص