علم المعصوم
بين الإطلاق والإشاءة(3)
الدليل المعصومي:
والثاني من أدلة نظرية العلم المطلق، هو النصوص الواردة عن المعصومين(ع)، وهي نوعان، بين ما يدل على المطلوب بالنص، وبين ما يدل على ذلك بالظهور. وهي على طوائف[1]:
الأولى: ما تضمنت أنهم(ع) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل(ع):
منها: ما رواه سماعة، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن لله تبارك وتعالى علمين: علماً أظهر عليه ملائكته وأنبياءه ورسله، فما أظهر عليه ملائكته ورسله وأنبياءه فقد علمناه، وعلماً استأثر به فإذا بدا الله في شيء منه أعلمنا ذلك، وعرض على الأئمة الذين كانوا من قبلنا[2].
ومنها: ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن لله عز وجل علمين: علماً عنده لم يطلع عليه أحداً من خلقه، وعلماً نبذه إلى ملائكته ورسله، فما نبذه إلى ملائكته ورسله فقد انتهى إلينا[3].
ودلالة هذا الطائفة على المدعى بالنص الصريح، ذلك أنه لا يقال بأن ما كان عند الأنبياء والملائكة(ع) لديهم(ع)، وهو غير متحقق فعلاً، ومعلق على حصول المشيئة، بل إن هذا التعبير صريح في وجود العلم المذكور عندهم فعلاً، وهذا يستدعي أن يكون فعلياً.
نعم ربما قيل بكون هذه الطائفة أخص من المدعى ذلك أن أقصى ما تفيده هو علمهم(ع) بما كان، وليس علمهم(ع) بما يكون، وما هو محط البحث إما كلاهما، أو لا أقل ما يكون، وهو الذي يكون معلقاً على المشيئة.
ويندفع، بأن هذا لو تم في علم الأنبياء(ع)، إلا أنه لا يتم في علم الملائكة(ع)، ذلك أن علمهم لا ينقطع، وهذا يعني الاستمرارية والدوام، وهو يستوجب أن يكون علمهم حاضراً فعلاً.
الطائفة الثانية: ما دل على أن الأئمة(ع) يعلمون علم ما كان، وما يكون وأنه لا يخفى عليهم(ع) شيء:
منها: ما رواه سيف التمار، قال: كنا مع أبي عبد الله(ع) جماعة من الشيعة في الحجر، فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة، فلم نر أحداً، فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة ورب البنية-ثلاث مرات-لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما، ولأنبئهما بما ليس في أيديهما، لأن موسى والخضر(ع) أعطيا علم ما كان، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله(ص) وراثة[4]. وتقريب دلالته بلحاظ أنه لا يقال للفرد أنه يعلم ما لم يكن العلم عنده فعلاً، وهو لا ينسجم مع كونه علمه(ع) معلقاً على المشيئة.
ومنها: ما رواه جماعة بن سعد الخثعمي، أنه قال: كان المفضل عند أبي عبد الله(ع) فقال له المفضل: جعلت فداك يفرض الله طاعة عبد على العباد ويحجب عنه خبر السماء؟ قال: لا، الله أكرم وأرحم وأرأف بعباده من أن يفرض طاعة عبد على العباد ثم يحجب عنه خبر السماء صباحاً ومساء[5].
ومنها: ما رواه هشام بن الحكم، قال: سألت أبا عبد الله(ع) بمنى عن خمسمائة حرف من الكلام فأقبلت أقول: يقولون كذا وكذا، قال: فيقول: قل كذا، وكذا، قلت: جعلت فداك هذا الحلال، وهذا الحرام، أعلم أنك صاحبه وأنك أعلم الناس به وهذا هو الكلام، فقال لي: ويك يا هشام لا يحتج الله تبارك وتعالى على خلقه بحجة لا يكون عنده كل ما يحتاجون إليه[6].
ومن الواضح أن مقتضى وجود كل ما يحتاج الخلق إليه عند حجة الله تعالى يستدعي أن يكون علمه مطلقاً، وليس معلقاً على المشيئة، لعدم صدق عنوان الوجود على الشيء غير المعلوم، والمعلق على شيء.
الطائفة الثالثة: ما تضمن أن أمير المؤمنين(ع) شريك لرسول الله(ص) في العلم، وأن كل ما أعلمه الله تعالى نبيه(ص)، أمره أن يعلمه أمير المؤمنين(ع):
منها: ما رواه حمران بن أعين، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن جبرئيل(ع) أتى رسول الله(ص) برمانتين فأكل رسول الله(ص) إحداهما، وكسر الأخرى بنصفين، فأكل نصفاً وأطعم علياً نصفاً، ثم قال رسول الله(ص): يا أخي هل تدري ما هاتان الرمانتان؟ قال: لا، قال: أما الأولى فالنبوة، ليس لك فيها نصيب، وأما الأخرى فالعلم أنت شريكي فيه، فقلت: أصلحك الله كيف كان؟ يكون شريكه فيه؟ قال: لم يعلّم الله محمداً(ص) علماً إلا وأمره أن يعلّمه علياً(ع)[7].
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: نزل جبرئيل على محمد(ص) برمانتين من الجنة، فلقيه علي(ع) فقال: ما هاتان الرمانتان اللتان في يدك؟ فقال: أما هذه فالنبوة، ليس لك فيها نصيب، وأما هذه فالعلم، ثم فلقهما رسول الله(ص) بنصفين فأعطاه نصفها وأخذ رسول الله(ص) نصفها، ثم قال: أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه، قال: فلم يعلم والله رسول الله(ص) حرفاً مما علمه الله عز وجل إلا وقد علمه علياً ثم انتهى العلم إلينا، ثم وضع يده على صدره[8].
وحال هذه الطائفة حال ما تقدمها من حيث الدلالة على المطلوب بالنص والصراحة.
الطائفة الرابعة: ما دل على أنهم(ع) يعلمون بما في السماوات والأرض والجنة والنار، وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة:
منها ما في بصائر الدرجات، عن أبي جعفر(ع)، قال: سئل علي(ع) عن علم النبي(ص)، فقال: علم النبي علم جميع النبيـين، وعلم ما كان وعلم ما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي(ص)، وعلم ما كان، وما هو كائن فيما بيني وبين قيام الساعة[9].
ومنها: ما رواه عبد الأعلى وعبيده بن بشير، قال: قال أبو عبد الله(ع) ابتداء منه: والله، إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة[10].
ولا يختلف حال هذه الطائفة عن حال ما سبقها من الطوائف في الدلالة بالنص على أن علمهم(ع) مطلق حاضر وليس معلقاً على شيء.
الطائفة الخامسة: ما تضمنت أن الله تعالى متى اختار عبداً، أعلمه كل شيء:
منها: ما رواه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا(ع) في حديث: وإن العبد إذا أختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً، فلم يع بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب[11]. ودلالة الخبر على المدعى بالظهور وليس بالنص، ذلك أن الظاهر من قوله(ع): فلم يع بعده بجواب، حضور كل معلوم عنده بحيث أنه متى سئل تمكن من الإجابة دونما تعليق على مشيئة العلم، فتأمل[12].
الطائفة السادسة: ما تضمنت أن أمير المؤمنين(ع)، هو عين الله تعالى ولسانه:
ففي مدينة المعاجز في خبر طويل، عن أمير المؤمنين(ع)، قال: أنا عين الله الناظرة في أرضه، أنا لسانه الناطق في خلقه، أنا نور الله الذي لا يطفئ، أنا باب الله الذي يؤتى منه وحجته على عباده[13]. ومن الواضح أن دلالة هذا الخبر على المدعى بالظهور، وليس بالنص، فإن الظاهر من كونه(ع) عين الله الناظرة في الأرض، ولسانه الناطق في الخلق، والنور الذي لا يطفأ، أن يكون محيطاً بكل شيء إحاطة مطلقة وليست معلقة على المشيئة.
والإنصاف، أن دلالتها على المدعى حتى بالظهور ليست واضحة، فإنه يمكن أن يكون متصفاً بتلك الصفات، وتكون إحاطته معلقة على المشيئة.
الطائفة السابعة: ما تضمن أن أمير المؤمنين(ع) أعلم من أولي العزم، لأن علمه علم رسول الله(ص)، ورسول الله أعلم من أولي العزم:
منها: ما رواه عبد الله بن الوليد، قال: قال لي أبو عبد الله(ع): أي شيء يقول الشيعة في عيسى وموسى وأمير المؤمنين(ع)؟ قلت: يقولون: إن عيسى وموسى أفضل من أمير المؤمنين(ع)، قال: فقال: أيزعمون أن أمير المؤمنين(ع) قد علم ما علم رسول الله؟ قلت: نعم، ولكن لا يقدمون على أولي العزم من الرسل أحداً. قال: قال أبو عبد الله(ع): فخاصمهم بكتاب الله. قال: قلت: وفي أي موضع منه أخاصمهم؟ قال: قال الله تعالى لموسى:- (وكتبنا له في الألواح من كل شيء وموعظة)، إنه لم يكتب لموسى كل شيء، وقال تبارك وتعالى لعيسى:- (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون)، وقال الله تعالى لمحمد(ص):- (وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)[14]. ودلالته على المدعى بلحاظ دلالة قوله تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، كما عرفت فيما تقدم، وهو يستدعي أن يكون رسول الله(ص) محيطاً بكل شيء إحاطة فعلية وليست تعليقية، فيكون أمير المؤمنين(ع) محيطاً بذلك بنحو العلم المطلق غير المعلق على حصول المشيئة، لأن علمه(ع) علم رسول الله(ص).
الطائفة الثامنة: ما تضمنت اشتمال القرآن الكريم على كل شيء، وأنهم(ع) عندهم كل ما فيه:
منها: ما رواه عبد الأعلى بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: قد ولدني رسول الله(ص) وأنا أعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض، وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، اعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول:- (فيه تبيان كل شيء)[15].
ومنها: ما رواه إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه[16].
ودلالتهما على المدعى جلية واضحة فقد تضمنا اشتمال القرآن الكريم على كل شيء، وتضمنا علمهم(ع) بكل ما تضمنه القرآن الكريم، وقد تكرر منا فيما تقدم أن المقصود من عنوان العلم بحسب المتفاهم العرفي هو الفعلية، فلا يطلق هذا المفهوم على العلم المعلق.
الطائفة التاسعة: ما تضمنت أنهم(ع) لا يحجب عنهم شيء من أمر:
منها: ما روي عن أبي عبد الله(ع)، أنه قال: إن الله أحكم وأكرم وأجل وأعلم من أن يكون احتج على عباده بحجة، ثم يغيب عنهم شيئاً من أمرهم[17]. ودلالتها على المدعى بالظهور، ذلك لأن قوله(ع): يغيب عنهم شيئاً، ظاهر في أنهم محيطون بكل شيء مطلعون عليه اطلاعاً تفصيلاً فعلياً، وليس معلقاً على شيء.
ومنها: ما روي عنه(ع) أيضاً، أنه قال: أترى من جعله الله حجة على خلقه يخفى عليه شيء من أمرهم[18].
وربما منع دلالة هذه الطائفة بلحاظ أن أقصى ما يظهر منها أنه سبحانه وتعالى يزود حججه وأوليائه بكل ما يحتاجون إليه، وهذا لا يلزم منه أن يكون فعلياً، بل يمكن أن يكون إشائياً، فيكون معلقاً على ما إذا أراد حصوله، فتأمل.
والمتحصل من النصوص الكثيرة والتي يطمأن باستفاضتها، بل قد قيل بتواترها، البناء على أن علمهم(ع) مطلق فعلي، وليس إشائياً معلقاً.
التوفيق بين النظريتين:
وبعد الفراغ عن تمامية دليلي النظرية الأولى سوف يبنى على حصول المعارضة بين ما دل عليها، وما دل على النظرية الثانية، بعد البناء على تمامية نصوص النظرية الثانية سنداً ودلالة، ومن ثم سوف يعمد إلى محاولة التوفيق بين أدلة النظريتين، وإلا فسوف يعمد إلى تقديم أدلة إحدى النظريتين على الأخرى، فهنا مرحلتان:
المرحلة الأولى: مرحلة التوفيق والجمع العرفي بين نصوص النظريتين:
وقد تضمنت كلمات الأعلام والباحثين مجموعة من المعالجات:
منها: البناء على حمل نصوص النظرية الأولى على مقام الثبوت والواقع، دون مقام الإثبات، وحمل نصوص النظرية الثانية على مقام الإثبات، وعليه، لا يكون عندها بين النظريتين أيما مخالفة، نعم سوف يكون البناء على خصوص النظرية الثانية دون الأولى، لأن التعويل في مقام الاعتقاد على ما يكون مرتبطاً بعالم الاثبات دون عالم الثبوت.
وبكلمة أخرى، يبنى على عدم صلاحية النصوص المستند إليها للدلالة على كون علمهم(ع) مطلقاً، لأن النصوص المتقدمة وإن كان بعضها صريحاً في الدلالة على ذلك، والآخر ظاهراً فيه، إلا أنها ناظرة إلى عالم الثبوت والواقع، وليس عالم الإثبات، والمفروض أن ما ينبغي ملاحظته هو عالم الإثبات دون عالم الواقع، ما يوجب رفع اليد عن النصوص المذكورة، وبالتالي بقاء النظرية الثانية القاضية بكون علمهم(ع) معلقاً على المشيئة.
والإنصاف، منع ما ذكر، ذلك أنه لا يوجد في البين ما يوجب حمل النصوص المذكورة على عالم الثبوت، بل إنها صريحة واضحة في أن موضوعها هو عالم الإثبات لأن المعصوم(ع) كان يتحدث لأصحابه، بما يكون مرتبطاً بما هم فيه، وهو المناسب لعالم الإثبات.
ومجرد وجود من لا يقوى على تحمل أنهم(ع) يعلمون علماً مطلقاً لا يصلح قرينة للبناء على ذلك، وأوهن منه الخوف من أن يألههم الناس.
ومنها: ما جاء في كلام المحقق المازندراني(ره)، وحاصله: البناء على عدم ثبوت إطلاق في نصوص النظرية الأولى لتكون دالة على كون علمهم(ع) مطلقاً في كل شيء، وإنما هي ناظرة لمصاديق وقضايا خارجية قد حصلت لهم(ع)، فتكون النصوص المذكورة ناظرة إلى بعض المعلومات التي علموها، وهي حاضرة عندهم.
وهذا المعنى ينسجم تماماً مع نصوص التعليق على الإشاءة، لأنها سوف تكون ناظرة لما لم يحيطوا به، ولم يعلموه من الأشياء، والتي يحتاجون الاحاطة بها والعلم.
وعليه، لن تكون هناك أيما معارضة بين النظريتين، وعندها يمكن البناء على نظرية ثالثة مفادها، أنهم يعلمون علماً حضورياً لأشياء معينة، ولا يعلمون كل شيء، وما لم يعلموه يتوقف علمهم(ع) به على المشيئة[19].
ولا يخفى ضعف هذه المعالجة ذلك أن نصوص النظرية الأولى مطلقة، وليست منحصرة في خصوص مصاديق وعناوين خاصة ومعينة، فلاحظ مثلاً قول الإمام الصادق(ع): إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان، وما يكون. فإنه لا ينسجم والحصر في عناوين ومصاديق خاصة دون البقية. نعم هو ينسجم في بعض النصوص، مثل ما ورد عن الإمام الرضا(ع)، عندما طلب منه ابن الزيات أن يدعو له ولأهل بيته، فقال(ع): أولست افعل؟ والله، إن أعمالكم لتعرض عليّ في كل يوم وليلة. وهو لا يصلح أن يكون موجباً للاختصاص لعدم معارضته لما دل على ثبوت علمهم مطلقاً، لأنهما مثبتان.
ومنها: ما جاء في كلامه(قده)، ومفاده: أن تحمل نصوص النظرية الأولى الدالة على أن علمهم(ع) مطلق على العلم بالأشياء بصورها الظلية، وليس بأعيانها، فعلم الإمام(ع) بما هو موجود في البلاد الأخرى علم بصور الموجودات هناك والأشياء، وليس علماً بأعيانها، بخلاف نصوص النظرية الثانية، والدالة على أن علمهم بالأشياء معلق على المشيئة، فإنها ناظرة إلى العلم بالأشياء بحقيقتها وأعيانها، فيكون علم المعصوم(ع) بما في بلد ما غير بلده من خلال حضوره بولايته التكوينية في ذلك البلد، ومن ثمّ وقوفه على الأشياء بأعيانها وعلمه وإحاطته بها، وهذا ناجم من التعليق على المشيئة[20].
وهذه المعالجة تقتضي البناء على أن علم المعصوم(ع) حصولي، بمعنى حصول صورة الشيء عند العالم به، وليس حضورياً، كما هو الذي عليه المعتقد، والذي يستدعي أن يكون الشيء حاضراً بنفسه عند المعصوم(ع) ليعلم به، وليس صورته. نعم لو دل الدليل في مورد ما على خلاف ذلك، كان متبعاً.
ومنها: ما جاء في كلمات بعض الأعلام(ره)[21]، من البناء على تقسيم المعلوم عند المعصوم(ع) إلى نوعين، معلوم بالإجمال، ومعلوم بالتفصيل، فالمعلوم بالإجمال هو الذي يكون علمه به مطلقاً غير معلق على شيء، وأما المعلوم بالتفصيل فهو الذي تكون الإحاطة به معلقة على المشيئة، فلا تكون أدنى منافاة بين النصوص، لأن النصوص التي تضمنت علم المعصوم(ع) مطلقاً سوف تكون محمولة على علمه بالشيء بالنحو الإجمال والكليات، وتحمل النصوص الدالة على تعليق علمه(ع) على المشيئة على العلم بالشيء بنحو المشيئة.
ومع حسن المعالجة المذكورة في نفسها، إلا أنها لا تعدو كونها احتمالاً يفتقر إلى وجود شاهد يثبته، لأنه ليس في شيء من طائفتي النصوص ما يشير من قريب أو بعيد إلى تخصيصها بما ذكر، فليس في نصوص النظرية الأولى مثلاً والتي دلت على أن علم المعصوم(ع) مطلق غير معلق على شيء ما يشير إلى تخصيص ذلك بالعلم بالشيء بصورة إجمالية، أو العلم بالشيء على نحو الكلي، دون العلم به على نحو التفصيل وكافة الحيثيات. وكذا يجري ذلك في شأن نصوص النظرية الثانية.
وإن شئت قل، إن المعالجة المذكورة من صغريات الجمع التبرعي، ذلك لأنه حتى يبنى على كون الجمع عرفياً لابد وأن يكون عليه شاهد، وهو مفقود في المقام.
المرحلة الثانية: مرحلة تقديم نصوص إحدى النظريتين على الأخرى:
وبعد عدم تمامية شيء مما ذكر في المرحلة الأولى، تصل النوبة للمرحلة الثانية، فيلزم العمد إلى ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى.
ووفقاً لما هو المعروف بين الأعلام، من أن أول المرجحات هو موافقة الكتاب العزيز سوف يكون التقديم لنصوص النظرية الأولى والتي تقضي بكون علم المعصوم(ع) مطلقاً غير معلق على شيء، لما عرفت من دلالة غير واحدة من آيات الكتاب كما أشير لذلك في كلمات الأعلام للدلالة على مفاد النظرية الأولى.
ولو منع من جعل أول المرجحات هو الكتاب الكريم، كما عليه بعض الأساتذة(دامت أيام بركاته)[22]، وبني على أن أولها هو مخالفة الجمهور، فالظاهر أيضاً أن الأمر يقضي بتقديم نصوص النظرية الأولى، لأن مفاد نصوص النظرية الثانية سوف يكون قريباً مما عليه الجمهور المانعين لثبوت العلم بالغيب مطلقاً للمعصوم(ع)، إلا من خلال الوحي، فتأمل[23].
التشكيك في أصالة الجد:
وقد يعمد منذ البداية لمنع دخول نصوص النظرية الثانية دائرة الحجية، للتشكيك في توفر أصالة الجد فيها، على أساس أنها صادرة عن المعصوم(ع)، تقية، ولم يكن(ع) في مقام البيان، ويساعد على ذلك ما تضمنته بعض النصوص، من قوله(ع): هل علينا عين، فإن مثل هذا التعبير وإن ورد في نصوص النظرية الأولى، إلا أنه يكشف عن مدى مراعاة الإمام(ع) ذلك لأن هناك من يتربص بهم من الأعداء والذين كانوا يسعون لتحريف الكلم عن مواضعه فيتهمونهم مثلاً بادعاء الربوبية وما شابه[24].
موانع القبول بنصوص النظرية الثانية:
ثم إن جميع ما ذكر فرع البناء على حجية نصوص النظرية الثانية، والتي قد عرفت حالها من حيث السند، وما سلم منها لا يخرج عن كونه مجرد خبر واحد، وهو مما لا يرتب عليه الأثر في المسألة العقدية، والتي يعتبر فيها العلم.
ولو بني على التفصيل بين المسألة العقدية الأصلية، والفرعية، كما هو مختار الشيخ الأعظم، وبعض الأعاظم(ره)، على أساس أن سعة دائرة علم المعصوم(ع)، من المسائل العقدية الفرعية، والتي يكفي في ثبوتها خبر الواحد، أمكن أيضاً عدم ترتيب الأثر على نصوص النظرية الثانية أيضاً، وذلك لأن نصوص النظرية الأولى أكثر عدداً كما عرفت فإنها طوائف متعددة، مستفيضة، بل قيل بتواترها، ودلالتها على المدعى ما بين ما هو بالنص، وما هو بالظاهر، وهو يوجب الريب في نصوص النظرية الثانية، والتي هي أقل عدداً، وأقل ظهوراً في الدلالة، فتأمل.
بل إنه يمكن منع شيء من دلالة النصوص التي استند إليها لإثبات النظرية الثانية، والتي قد عرفت أن عمدتها هي موثقة الساباطي، للمناقشة في دلالتها، بلحاظ أن موضوعها ليس بيان مقدار سعة علم المعصوم(ع)، ليستفاد منها تعليق علمه(ع) على المشيئة، بل هي بصدد بيان نكتة أخرى، وهي أن علم المعصوم(ع)، لا يكون من عند نفسه، وإنما يكون ذلك بتعليم من الله تعالى. وقد أشير لهذا المعنى في كلمات بعض الأعلام، فقد ذكر الشعراني(ره) في حاشيته على شرح أصول الكافي للمازندراني(قده): إن المراد من نفي علم الغيب عن الأئمة والأنبياء، هو نفي العلم ذاتاً بغير تعليم من الله تعالى، ومن أثبت فمراده علمهم بالتعليم والإلهام، وهذا ثابت لجميع أفراد الإنسان، ويختلف باختلاف النفوس كمالاً ونقصاً، وقلة وكثرة، ووضوحاً وإبهاماً، وإجمالاً وتفصيلاً، وتصريحاً وتمثيلاً، ويقظة ونوماً، وغير ذلك. والأئمة والأنبياء(ع)، كانوا يعلمون ما يعلمون بتعليم الله تعالى وإلهامه[25].
[1] تعمدت عدم التعرض لدراسة أسناد هذه النصوص لكثرتها الموجبة لاستفاضتها والداعي لتولد الاطمئنان بصدورها.
[2] أصول الكافي ج 1 باب أن الأئمة(ع) يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل(ع) ح 1 ص 255.
[3] المصدر السابق ح 2 ص 255.
[4] أصول الكافي ج 1 باب أن الأئمة(ع) يعلمون علم ما كان وما يكون ح 1 ص 260.
[5] المصدر السابق ح 3 ص 261.
[6] المصدر السابق ح 5 ص 262.
[7] المصدر السابق باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه شريكه في العلم ح 1 ص 263.
[8] المصدر السابق ح 3.
[9] بصائر الدرجات ص 143.
[10] المصدر نفسه ص 143.
[11] أصول الكافي ج 1 باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ح 1 ص 202.
[12] ربما منعت دلالتها على المدعى، إذ لقائل أن يقول، بأنه لا يع بجواب، لأنه قبل حضور كل مجلس يكون قد سأل الله تعالى أن يعلمه، وبالتالي تحققت المشيئة التي يعلق علمهم(ع) عليها.
[13] مدينة المعاجز ج 1 ص 245.
[14] بصائر الدرجات ص 143.
[15] أصول الكافي ج 1 باب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة ح 8 ص 61.
[16] أصول الكافي ج 1 ب الرد إلى الكتاب والسنة وأنه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة ح 9 ص 61.
[17] بصائر الدرجات ص 142.
[18] المصدر السابق.
[19] شرح أصول الكافي ج 5 ص 337.
[20] المصدر السابق.
[21] دراسات في نهج البلاغة ص 173.
[22] سماحة آية الله المرجع الديني الكبير السيد موسى شبيري الزنجاني(دامت أيام بركاته).
[23] لقائل أن يقول بأن المسألة محل البحث لم تبحث في كلمات القوم، وبالتالي لا مجال للعمد للترجيح بهذا المرجح، وهو غير بعيد.
[24] علم الإمام بين الاطلاقية والاشائية على ضوء الكتاب والسنة(بتصرف).
[25] تعليقة الشعراني على شرح أصول الكافي للمازندراني ج 6 ص 27.