علم المعصوم
بين الإطلاق والإشاءة(2)
الدليل القرآني:
أحدها: الدليل القرآني، حيث استندوا إلى مجموعة من الآيات الشريفة:
منها: قوله تعالى:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[1]، وتقريب الاستدلال بها على أساس عدّ الجهل مصداقاً من مصاديق الرجس الذي قد أذهبه الله تعالى عن أهل البيت(ع)، ولم يحدد الرجس المنفي عنهم(ع) ومصاديقه بشيء فيكون مطلقاً ليثبت نفي كل رجس عنهم، وكل جهل مطلقاً، ومن المعلوم أن تعليق علمهم(ع) على المشيئة يوجب الجهل، والمفروض أنه قد نفته الآية الكريمة، فيثبت المطلوب[2].
ولا يخفى أن تمامية الاستدلال بالآية تستدعي أن يكون المقصود من الجهل الذي يعدّ رجساً هو خصوص الجهل الذي يعدّ نقصاً، فكل شيء من شأنه أن يعلم يكون الجهل به رجساً.
مع أن من الواضح أن توقف علمهم(ع) على المشيئة لا يستلزم نقصاَ في مقامهم، ولا في منـزلتهم، لأنه ليس من شأنهم أن يعلموا هذه الأشياء، بل ليس من شأنها أن تُعلم، وقد عرفت أن فقد هذه الأمور لا يوجب نقصاً، فلا يعدّ رجساً.
وبكلمة ثانية، إنه يمكن البناء على التفصيل، فلا يلتـزم بأن كل جهل يعدّ رجساً، بل يختص انطباق عنوان الرجس على خصوص الجهل الذي يكون وجوده في الإنسان نقصاً، وذلك لأن الأشياء نوعان، ما يقبل أن يعلم، وما لا يقبل أن يعلم، وفقد الثاني لا يعد نقصاً، بخلاف الأول، فإن فقده يكون كذلك.
وللمناقشة في ما ذكر مجال، وذلك لأن عدم قابلية الانسان بالعلم بشيء يعود لعدم توفر المقتضي عنده بحيث توجد بعض الأمور التي توجب حجبه عن المعلومات، والاطلاع عليها، وذلك لوجود الرجس فيه، وهو الذي قد نفته الآية المباركة عنهم(ع).
على أنه لو بني على أن الجهل مأخوذ بنحو الملكة والعدم، فلا يعد الجهل لما ليس لديه القابلية للتعلم رجساً في حقها ونقصاً، إلا أن ذلك لا يمكن قبوله في حق أهل البيت(ع)، لما ثبت أنهم(ع) محط للفيض الإلهي، كما هو كل من طهر نفسه من الشوائب وخلاها من الكدورات، لأن الله فياض معطاء، لأن عدم علمهم والحال هذه يعد رجساً، نزهتهم الآية الشريفة عنه.
ومنها: قوله تعالى:- (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)[3]، وقد استدل بها بعض الأعلام(ره)[4]، ودلالة هذه الآية وأمثالها كقوله تعالى:- (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء)[5]، تتضح من خلال رسم مقدمات:
الأولى: إن المستفاد من الآية الشريفة وأضرابها ثبوت شهادة النبي الأعظم محمد(ص) على جميع الخلائق في يوم القيامة، وقد ثبت ذلك بالأدلة القطعية.
الثانية: مع أن الشاهد في الآية المباركة مختص بالنبي(ص)، إلا أن ذلك ثابتاً في شأن الأئمة الأطهار(ع)، ولهم، لوحدة وظيفة النبي والأئمة(ع)، كما دلت على ذلك النصوص إلا ما استثني، ولم تستثن وظيفة الشهادة على الناس يوم القيامة بحيث أن المراجع لكتاب الكافي يجد شيخنا الكليني(ره)، قد عقد باباً كاملاً تحت عنوان أن الأئمة(ع) شهداء الله عز وجل على خلقه، وقد ذكر فيه الروايات الدالة على ذلك[6].
الثالثة: إن مقتضى كون المعصومين(ع) شهوداً على جميع الخلائق في عرصة القيامة، يستدعي أن يكونوا عالمين بكل شيء مما كان أو سيكون، لأن غير العالم لا يمكنه أن يشهد بما لا يعلم، ولا على ما لا يعلم، لأن هناك ملازمة بين الأمرين.
ومع ضم المقدمات المتقدمة بعضها إلى بعض، سوف تكون النتيجة أن الأئمة الأطهار(ع)، يعلمون بجميع الأشياء مطلقاً، علماً حاضراً، وأن علمهم(ع) لا يتوقف على المشيئة.
إن قلت: إننا نمنع المقدمة الثالثة من المقدمات المتقدمة، وهي الملازمة، فلا يلزم أن يكون الشاهد عالماً بكل شيء، فإن من الشهود في عرصة القيامة الأيدي، والأرجل، فإنها تشهد على الإنسان بما عمل، قال تعالى:- (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون)، ولا يتصور أن يكون الشهود المذكورين عالمين بكل شيء مما كان، أو يكون أو ما هو كائن.
قلت: إنه ليس في البين ما يوجب انتفاء العلم المطلق عنها، وثبوت الإحاطة التامة والكاملة لها.
نعم الحق في مناقشة دلالة الآية الشريفة على المدعى أن يقال، هو أنها أخص من المدعى، فإن أقصى ما يستفاد منها بمقتضى الملازمة المذكورة هو الالتـزام بدلالتها على علمهم(ع) بأفعال العباد وإحاطتهم بها منذ زمن تكليفهم حتى موتهم، وأما غير المكلفين من العباد، فلا يعلمون بأفعالهم، ولا يحيطون بها، فضلاً عن أفعال الله تعالى. ومن المحتمل أن يكون هذا المقدار هو مورد لمشيئتهم(ع)، بمعنى إن شاءوا أن يعلموه علموه، وإلا فلا، ومع فرض أنه كان موجوداً عندهم وحاضراً، فإنه لا يكون جلياً واضحاً.
ومنها: قوله تعالى:- (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، وتقريب دلالتها على المدعى بملاحظة، أمرين:
أحدهما: تحديد المقصود من مفردة المؤمنين التي تضمنتها الآية الشريفة، وقد فسرت في النصوص الواردة في كتابي الكافي وبصائر الدرجات وغيرهما، بالأئمة الأطهار(ع):
منها: ما رواه ثقة الإسلام الكليني(ره) بسنده عن يعقوب بن شعيب، قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، قال: هم الأئمة[7].
ومنها: ما رواه الصدوق(ره) في الفقيه، أن أعمال العباد تعرض على رسول الله(ص) وعلى الأئمة(ع) كل يوم، أبرارها وفجارها فاحذروا، وذلك قول الله عز وجل:- (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)[8].
ثانيهما: تحديد المقصود من الرؤية التي تحدثت الآية الشريفة، وتفسيرها بأنها تساوي العلم في الخارج، فكل من يرى شيئاً، فإنه عالم به، فيثبت عندها أن الأئمة الأطهار(ع)، والذين يرون أعمال العباد جميعاً يوم القيامة، يكونوا عالمين بجميع ما يصدر من الناس من أفعال علماً حاضراً لديهم، من دون فرق بين الأحكام والموضوعات.
وتمنع دلالة الآية بعين ما تقدم ذكره من احتمال دخول ذلك كله تحت عنوان المشيئة، فلا يكون مانعاً من البناء على ثبوته، ولا يكون موجباً للالتـزام بكون العلم مطلقاً بما تضمنته النظرية الثانية.
ومنها: قوله سبحانه:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)[9]. وقد ذكر بعض الأعلام(ره) دلالة الآية الشريفة على أن علمهم(ع) حضوري، وليس إشائياً، وقد قرب دلالتها على ذلك من خلال ضم مقدمتين إلى بعضهما البعض:
الأولى: التمسك بإطلاق الآية الشريفة، والتي دلت على اشتمال الكتاب الكريم على كل شيء، فلا يوجد شيء من المعلومات إلا وهو موجود في القرآن الكريم، وهذا يعني أن كل ما يخطر على بال الإنسان من أمر، وما لا يخطر يتضمنه الكتاب الكريم.
الثانية: ملاحظة النصوص، وهي طائفتان:
الأولى: النصوص التي فسرت مفهوم من عنده علم الكتاب في الآيات القرآنية بخصوص المعصومين(ع).
الثانية: النصوص التي دلت على أن علم الكتاب عند المعصومين(ع)، كالنصوص التي تضمنت بيان أن المقصود بقوله تعالى:- (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)، بالأئمة(ع) خاصة[10].
ومقتضى هاتين الطائفتين من النصوص، هو أن أهل بيت العصمة والطهارة(ع) هم الوعاء الحاوي لكل ما في الكتاب الكريم، وهذا يقضي أن يكون علمهم(ع) علماً حضورياً مطلقاً، وليس علماً إشائياً معلقاً على شيء[11].
ولا يخفى أن تمامية الدليل المذكور تعتمد على الالتـزام بعدم تعدد المراتب الوجودية للقرآن الكريم، والبناء على أن له مرتبة وجودية واحدة ليست إلا، وهي التي بأيدينا، والتي تكون حاوية لكل شيء، أما لو بني على وجود مراتب وجودية متعددة للقرآن الكريم، وأن الذي يحوي كل شيء ليس هو الكتاب الموجود بأيدينا، بل هو مرتبة أم الكتاب، والذي لم تنله يد المخلوقات على الإطلاق، فلن يصلح الدليل المذكور على المدعى، لأن المفروض أن الذي يحيط به الأئمة الأطهار(ع)، إنما هو القرآن الموجود بأيدينا. وقد أشار بعض الأعلام(ره) إلى تعدد المراتب الوجودية للقرآن الكريم، قال في تفسير قوله تعالى:- (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون): وجَعلُ رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة والوجود، لا ينالها عقول الناس، ومن شأن العقل أن ينال كل أمر فكري، وإن بلغ من اللطافة والدقة ما بلغ، فمفاد الآية: أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر، أجنبي عن العقول البشرية، وإنما جعله الله قرآناً عربياً، وألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه[12].
نعم لو تم الدليل على أن المرتبة الوجودية للقرآن التي في عالمنا شاملة على كل شيء وحاوية لكل شيء، فسوف يكون الاستدلال بالآية بملاحظة النصوص المتقدمة تاماً. مع أن المقرر في محله أن المرتبة الوجودية للقرآن في عالمنا تعدّ أضعف مراتبه، ما يمنع من البناء على كونه محتوياً لكل شيء.
وربما بني على صلاحية قوله تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، للدلالة على كون القرآن الكريم في مرتبته الوجودية في عالمنا مشتمل على كل شيء. ويساعد على ذلك جملة من النصوص التي دلت على سعة علمهم(ع)، لأنهم يعلمون كل ما في القرآن الكريم، ومن الواضح أن المقصود به القرآن في مرتبته الوجودية في عالم المادة، فمن ذلك، ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد الله الصادق(ع) يقول: والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره، كأنه في كفي، فيه خبر السماء، وخبر الأرض، وخبر مما كان، وخبر ما هو كائن، قال الله عز وجل:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)[13].
والانصاف أنه غير بعيد، خصوصاً مع البناء على أن المقصود بكونه تبياناً لكل شيء يعني اشتماله على كل شيء في كافة المجالات، وليس حصر ذلك في خصوص ما يحتاج إليه(ص) في إثبات نبوته، كما هو مفصل في محله، وعليه، يكون الاستدلال بالآية تاماً.
ومنها: قوله تعالى:- (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)[14]، وتمامية الاستدلال بها تقوم على تحديد المقصود من مفردتي الكتاب، والذي عنده علم الكتاب فيها.
لا ريب في أن دلالة الآية الشريفة على المدعى تستدعي أن لا يكون المقصود من الكتاب الوارد فيها كتاباً آخر غير القرآن الكريم، من الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم، فليس هو التوراة، ولا الأنجيل، ولا الزبور، ولا غير ذلك. نعم لو بني على كونه أوسع من ذلك بحيث يكون شاملاُ لكافة الكتب السماوية لم يضر ذلك بدلالتها على المدعى، وهذا يعني أنه لابد وأن يكون القرآن الكريم مقصوداً في دلالة الآية الشريفة.
والظاهر أن موجب حمل الكتاب في الآية الشريفة على غير القرآن الكريم يعود لبناء القائل على أن المقصود بمن عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام، وتميم الداري، فيكون المقصود من الكتاب عندها التوراة، والانجيل.
وقد تضمنت كتب التفسير رد هذا القول، فقد جاء في تفسير مجاهد، أنه سُئل سعيد بن جبير، عمن عنده علم الكتاب، أهو عبد الله بن سلام؟ فقال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام[15].
وجاء في تفسير ابن جرير الطبري، عن أبي بشر، قال: قلت لسعيد بن جبير: ومن عنده علم الكتاب، أهو عبد الله بن سلام؟ قال: هذه السورة مكية، فكيف يكون عبد الله بن سلام؟ قال: وكان يقرؤها: ومن عنده علم الكتاب، يقول: من عند الله[16].
وقد تضمن الخبرين ذكر مانع من كون المقصود بمن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام، أو تميم الداري، ومن ثمّ منع كون المقصود بالكتاب فيها التوراة، أو الانجيل، والمانع هو كون الآية مكية قد نزلت في مكة المكرمة، وهذا يعني أنه بعدُ لم تظهر على الساحة الإسلامية شخصية عبد الله بن سلام، لأن المفروض أن عبد الله بن سلام بعدُ لم يسلم، ولو طلب منه في ذلك الوقت الذي كان رسول الله(ص) يتحدى كفار مكة لكانت شهادته ضد رسول الله(ص)، وليس معه.
على أن هناك في النصوص ما يمنع من القبول بالتفسير المذكور، وبيان أن المقصود بمن عنده علم الكتاب، هو أمير المؤمنين(ع)ن وهذا يوجب حمل المقصود بالكتاب على القرآن الكريم، ولا أقل على كافة الكتب السماوية، فعن بريد بن معاوية، قال: قلت لأبي جعفر(ع): (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)، قال: إيانا عنى، وعلي أولنا وأفضلنا، وخيرنا بعد النبي(ص)[17].
وبعد وضوح المقصود من الكتاب، ومن الذي عنده علم الكتاب، تقرب دلالتها على كون علم المعصوم(ع) مطلقاً، وليس إشائياً من خلال ظهور الآية الشريفة في ذلك، فإنه لا يطلق على الإنسان أنه عالم بشيء مع كونه لا يعلمه لأن علمه به معلق على شيء ما، وإنما يعبر عن الإنسان بأنه عالم بالشيء متى كان محيطاً به ممتلكاً إياه، وهذا لا يتناسب والتعليق.
[1] سورة الأحزاب الآية رقم 33.
[2] المعارف السلمانية للشيخ عبد الحسين اللاري(ره) ص 60.
[3] سورة النساء الآية رقم 41.
[4] علم الإمام ص 42 للشيخ محمد حسين المظفر.
[5] سورة النحل الآية رقم 89.
[6] الكافي ج 1 ص 190.
[7] أصول الكافي ج 1 ص 220.
[8] من لا يحضره الفقيه ج 1 ص 191.
[9] سورة النحل الآية رقم 89.
[10] بصائر الدرجات ص 226.
[11] علم الإمام ص 43 للشيخ محمد حسين المظفر.
[12] الميزان في تفسير القرآن ج 18 ص 83.
[13] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة(ع) ص 229 ح 4.
[14] سورة الرعد الآية رقم 43.
[15] تفسير مجاهد ج 1 ص 33.
[16] تفسير ابن جرير الطبري ج 13 ص 232.
[17] أصول الكافي ج 1 ص 229.