نية العبادة
تضمنت النصوص الشريفة تقسيم الناس في علاقتهم مع الله تعالى وعبادتهم إياه إلى أصناف ثلاثة، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حباً له، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة.
وجاء عنه(ع) أيضاً أنه قال: إن الناس يعبدون الله عز وجل على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء، وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفاً من النار، فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني أعبده حباً له عز وجل، فتلك عبادة الكرام، وهو الأمن لقوله عز وجل:- (وهم من فزع يومئذٍ آمنون)، ولقوله عز وجل:- (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)، فمن أحب الله عز وجل أحبه الله تعالى، وكان من الآمنين.
وقريب من هذا المعنى جاء عن أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة، حيث قال(ع): إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
صحة وليس قبول:
ولا يخفى أن الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها النصوص لا تعني فساد العبادة وبطلانها، بحيث يتصور البعض انحصار الصحة في خصوص عبادة الأحرار، التي تضمنها النص الأول مثلاً، بل الظاهر أن المقام من صغريات تفاوت القبول، ذلك أنه لا ريب في كون عبادة الأحرار مقبولة، وإنما الكلام في عبادتي التجار والعبيد، وأنها مقبولة أم مجرد صحيحة فقط وتوجب فراغ الذمة مما اشتغلت به من التكليف.
لعل الظاهر من النصوص هو الثاني، ويساعد على ما ذكرناه توصيف عبادة الأحرار في الخبر الأول بالأفضل، وهي صيغة أفعل التفضيل الكاشف عن وجود فضل في العبادتين الأخريـين.
دوافع الناس في العبادة:
وكيف ما كان، فإن هذه النصوص تتحدث عن دواعي الناس ودوافعهم في اختيار عبادة الله سبحانه وتعالى، فليسوا هم سواء في هذا الجانب، بل يختلفون:
منهم: وهم الفئة الأغلب من الناس الذين يغلب عليهم الخوف، فكلما فكروا في توعد الله سبحانه الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب المعدّ لهم من قبل الله تعالى زاد في نفوسهم خوفاً وارتعدت فرائصهم، فانساقوا لعبادة الله تعالى خوفاً من عذابه.
ومنهم: من يغلب عليه دافع الرجاء في العبادة، فكلما فكر في ما وعد الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة، زاد رجاء وبالغ في التقوى والتـزام الأعمال الصالحة، طمعاً في المغفرة والجنة.
ومنهم: وهم العلماء، لا يعبدون الله تعالى خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، وإنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة، لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى والصفات العليا، فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم ويدبر الأمر وحده، وليسوا إلا عباد الله فحسب، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلاً أو تركاً إلا وجه الله تعالى، ولم يلتفتوا في عبادتهم إلى عقاب يخوفهم ولا إلى ثواب يرجيهم، وهذا لا يعني أنهم لا يخافون عذابه وعقابه، ولا يرجون ثوابه، لكنه ليس الغرض والهدف والقصد إليهم.
وتعتبر الفئة الثالثة الفئة المقربة والفائزة بالقرب الإلهي، وهم المتوكلون على الله سبحانه، المفوضون إليه، الراضون بقضائه، لا يرون إلا خيراً، ولا يشاهدون إلا جميلاً. ومن أوضح مصاديق هذه الفئة وأجلى صورها، الأنبياء والمرسلون والأوصياء(ع).
اختلاف النصوص:
ربما يثير البعض مسألة اختلاف النصوص في دوافع العبادة عن أصحاب الفئة الثالثة وهم الأحرار، فقد تضمن الخبران الأولان أن دافع عبادتهم لله تعالى هو الحب، بينما تضمن الخبر الثالث أن دافعهم لذلك هو الشكر، فقال أمير المؤمنين(ع): عبدوا الله شكراً. وهذا يوجب التعارض والتنافي بينها، وعندها إما أن يلتـزم بتعدد الدوافع عند الفئة الثالثة، أو يلتـزم بتفاوت الرتب فيما بينها، أو غير ذلك، بل قد يدعى أن المعارضة موجبة لرفع اليد عن النصوص وعدم العمل بشيء منها.
والصحيح عدم الحاجة لشيء مما ذكر، ذلك أن مرجع الوصفين: الحب والشكر، إلى شيء واحد، فالشكر هو وضع الشيء المنعم به في محله، وشكر العبادة أن تكون لله تعالى الذي يستحقها لذاته، فيُعبد سبحانه وتعالى، لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته، المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه.
الفوارق بين الطرق الثلاثة:
وقد يتساءل البعض عن الفرق بين الأنواع الثلاثة المتقدمة للعبادة، فيقال: إن عبادة الله تعالى خوفاً من العذاب، تبعث الإنسان إلى التروك، وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة، فالزاهد في هذا الطريق من شأنه أن يتجنب المحرمات، أو ما في معنى الحرام، وهو ترك الواجبات.
أما العابدون له سبحانه وتعالى طمعاً في الثواب، فتبعثهم العبادة والعمل الصالح لنيل نعم الآخرة والجنة، فالعابد من هذه الفئة من شأنه أن يلتـزم الواجبات، أو ما في معناها، وهو ترك المحرمات.
ولا يخفى أن الطريقين يدعوان إلى الإخلاص للدين، وليس لرب العالمين.
أما العبادة، والتي هي محبة الله تعالى، فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره سبحانه وتعالى، سواء كان دنيوياً، كالمعبود، أم أخروياً، كفوز الجنة، أو الخلاص من النار، وهذه المحبة تقصر القلب في التعلق بالله تبارك وتعالى، وما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي، وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه، لأن من أحب شيئاً أحب آثاره.
وعند نسبة هذه الطرق بعضها إلى بعض، ينطبق عليها القاعدة المعروفة: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن أصحاب الفئة الثالثة من العبادة، يعتقدون أن الصنفين الآخرين، العبادة خوفاً وطمعاً، لا يخلوان من شرك خفي، فمن يعبد الله الله سبحانه خوفاً من عذابه، يتوسل به تعالى بأن يجعله وسيلة إلى دفع العذاب عن نفسه، ومن يعبده طمعاً في ثوابه، يتوسل به سبحانه وتعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة، بحيث لو أمكنه الوصول إلى ما يريده من غير أن يعبد الله تعالى لم يعبده، ولا عمد إلى معرفته.
والحاصل، حتى تكون العبادة عبادة حقيقية، لابد أن تكون عن خلوص من العبد، وهذا يتم إذا لم يشتغل العبد بغير الله تعالى في عمله، فلم يتعلق قلبه في عبادته رجاء أو خوفاً ليكون الغاية في العبادة، كجنة أو نار، بل تكون عبادته لله تعالى وحده.