مكان الاعتكاف

لا تعليق
خواطر حوزوية
29
0

مكان الاعتكاف

 

اتفق أصحابنا على اعتبار المسجدية في مكان الاعتكاف، فلا يصح الاعتكاف إلا في المسجد، إلا أنهم اختلفوا في تحديد أي المساجد يكون موضعاً له على أقوال:

أحدها: ما أختاره ابن أبي عقيل العماني، من صحة الاعتكاف في المساجد كلها، وأفضلها المسجد الحرام، ومسجد الرسول(ص)، ومسجد الكوفة، ومساجد الجماعات في سائر الأمصار، وقد نقل ذلك عنه الفاضل الآبي[1]، والعلامة[2].

ثانيها: ما أختاره السيد علم الهدى، والشيخ وابن زهرة، والطبرسي، وابن إدريس، والعلامة، وغيرهم من أن الاعتكاف لا ينعقد إلا في أحد المساجد الأربعة، المسجد الحرام، ومسجد النبي(ص)، ومسجد الكوفة، ومسجد البصرة. وقد نسبه العلامة للمشهور بين علمائنا[3].

ثالثها: حصر مشروعية الاعتكاف في خصوص أحد مساجد خمسة، وهي: المسجد الحرام، ومسجد النبي(ص)، ومسجد الكوفة، ومسجد المدائن، ومسجد البصرة، وهو مختار الصدوق(ره)[4]. نعم نسب العلامة لوالد الصدوق(ره) عدّ مسجد المدائن أحد المساجد التي يشرع فيها الاعتكاف بالإضافة إلى المسجد الحرام، ومسجد النبي(ص)، ومسجد الكوفة، دون مسجد البصرة[5].

وهو بهذا يتوافق والقول الثالث الدال على حصر مشروعية الاعتكاف في خصوص أربعة مساجد، لكنه يختلف وإياهم في تحديد المسجد الرابع، وأنه مسجد البصرة، أو مسجد المدائن. كما أنه يختلف ومختار ولده(قده)، في عدّ المساجد التي يشرع الاعتكاف فيها خمسة.

رابعها: عدم صحة الاعتكاف إلا في خصوص المسجد الجامع، وهو مختار شيخنا المفيد، والمحققين الأول والثاني، والشهيدين الأول والثاني(ره)، بل هو مختار المشهور بين المتأخرين، ومتأخري المتأخرين.

والظاهر أن منشأ الاختلاف الحاصل بينهم يعود إلى اختلاف النصوص، لأنها على طوائف كما سيتضح.

وينبغي قبل التعرض إلى النصوص الإشارة لما يستفاد من القرآن الكريم، فقد يدعى دلالة قوله تعالى:- (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[6]، على جواز الاعتكاف في مطلق المساجد، سواء قد صلى فيه معصوم، أم لم يصل فيه، وسواء كانت صلاته التي صلاها صلاة جمعة، أم كانت صلاة جماعة، وسواء سمي مسجداً جامعاً، أم لم يسم.

ويساعد على ذلك أن لفظة المساجد في الآية جمع محلى باللام، فيدل على العموم. وليس في البين ما يوجب حمل اللفظ على العهد حتى يمنع من انعقاد الظهور في العموم.

وقد صرح بعض أصحابنا بدلالة الآية على العموم، فقد ذكر ذلك الشهيد الأول(ره)، والمقداد السيوري(قده)[7].

ولدلالة الآية على العموم، قال الفاضل الكاظمي(قده) في مسالك الأفهام: مقتضى الآية جواز الاعتكاف في كل مسجد، كما يقتضيه عموم المساجد، وأنه لا يختص به مسجد دون مسجد، وبه أخذ جماعة من أصحابنا، وجماعة من العامة[8].

وتعتمد دلالتها على المدعى على أمرين:

الأول: أن تكون الآية في مقام البيان من هذه الجهة.

الثانية: أن يكون المقصود من المساجد الوارد ذكرها فيها كل مسجد.

والظاهر تسليم الأصحاب(رض) بالأمر الأول، نعم قد يدعى منع كون الآية الشريفة في مقام البيان، على أساس منع أن يكون شيء من الآيات القرآنية في مقام بيان الأحكام الشرعية، بل إن أقصى ما تدل عليه أنها في مقام بيان أصل التشريع[9].

والدعوى المذكورة عهدتها على مدعيها، خصوصاً وأن صاحبها قد خالفها بنفسه في موارد متعددة من موسوعته الفقهية، وأستند في مقام الإفتام إلى بعض آيات الأحكام، وهذا يستدعي أن تكون فتاواه من دون دليل، وهو ما لا يمكن القبول به، أو أن يكون قد عدل عما ذكره.

وبالجملة، ليس بين الأصحاب من يناقش في كون آيات الأحكام في مقام البيان، نعم قد يدعى عدم كونها في مقام البيان من جميع الجهات، وهذا أمر آخر.

ولم يسلم جمع منهم بالأمر الثاني، فعرضت مناقشتان:

الأولى: ما جاء في كلام السيد المرتضى(ره)، والسيد ابن زهرة(ره) وحاصله: أن دلالة الآية على مشروعية الاعتكاف تقوم على أن يكون لفظ المساجد الوارد ذكره في الآية يفيد عموماً استغراقياً، وليس الأمر كذلك، فإن المساجد فيها يفيد الجنس.

قال السيد المرتضى(قده): ومما انفردت به الإمامية، القول بأن الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلى فيه إمام عدل بالناس الجمعة-إلى أن قال-ولا اعتراض على ما قلناه بقوله تعالى:- (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)، لأن هذا لفظ مجمل، ولفظ المساجد هاهنا ينبئ عن الجنس لا عن الاستغراق، ولا منافاة بينه وبين مذهبنا[10].

وقال ابن زهرة بعد ذكره اعتبار أن يكون الاعتكاف في مسجد صلى فيه النبي(ص)، أو امام عدل بعده الجمعة…قوله تعالى:- (وأنتم عاكفون في المساجد)، لا ينافي ما ذكرناه، لأن اللفظ مجمل، ولفظ المساجد هاهنا ينبئ عن الجنس، لا عن الاستغراق[11].

وحاصل دعواهما، أن الجمع الموجود في الآية جمع مجموعي، وليس استغراقياً، فلا يكون شاملاً للجميع.

ويمنع من قبول دعواهما، أمران:

الأول: وجود تبادر من لفظ المساجد المذكور في الآية الشريفة، وهو العموم.

الثاني: إن المعروف أن الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق، وحمله على الجنس استعمال مجازي يتوقف على وجود قرينة تشير إلى ذلك، والظاهر عدم وجود قرينة في المقام.

على أنهما لم يعرضا ما يصلح دليلاً لمدعاهما، وهذا يجعل الدعوى عهدتها على مدعيها، والقول بوجود اجمال في اللفظ غريب جداً.

الثانية: ما احتمله العلامة الحلي(ره)،وحاصله، بأن تكون اللام المذكورة في المساجد هي لام العهد، وهذا يوجب اختصاص اللفظ ببعض المساجد المعهودة، لا مطلق المساجد. لأن الذهن سوف ينصرف إليها عند الذكر.

قال(قده): مسألة 174: ويشترط في الاعتكاف أن يكون في مكان خاص- إلى أن قال-ولا دلالة في الآية، لأن اللام قد تقع للعهد[12].

وما أفيد احتمال وجيه بحسب مقام الثبوت، فإنه لا يوجد ما يمنع من البناء على العهد، إلا أن مقام الإثبات لا يساعد عليه، ضرورة أنه لابد من وجود معهود مسبق مشار إليه، وليس في البين ما يشير إلى ذلك.

اللهم إلا أن يكون مقصوده التمسك بسبب النـزول، وبالتالي يكون المقصود المساجد التي وقعت فيها تلك الحادثة، فيكون العهد مشيراً اليها.

أو أن يكون منشأ العهد ملاحظة أن الاعتكاف لم يكن يجري في كافة المساجد في تلك العصور، بل كان يقع في خصوص مساجد مخصوصة ومعينة.

والإنصاف، أن الثاني لا يصلح للكشف عن المعهود، لأنه متأخر زماناً عن العهد، نعم يبقى الأول أمراً محتملاً، فتأمل.

إلا أن يدعى أن المورد لا يوجب تخصيص الوارد، وعليه مجرد كون الآية الشريفة بصدد الحديث عن واقعة ، لا يوجب اختصاصها، ولعل هذا ما دعى المرتضى وابن زهرة(ره) للقول بوجود إجمال في الآية، فتأمل.

وبالجملة، إن من الصعوبة بمكان رفع اليد عن ظهور الآية الشريفة في العموم، وما ذكر من مناقشة لا يصلح لذلك.

وعليه، فإن تم شيء من النصوص للتخصيص، كان ذلك موجباً لرفع اليد عن العموم، وإلا فلا.

والصحيح عدم دلالة الآية الشريفة على المدعى، فإنها ليست في مقام بيان مكان الاعتكاف، بل هي بصدد الحديث عن شيء من الأحكام المرتبطة به، وهو ما تضمنته الآية الشريفة من منع المباشرة حال التواجد في المساجد، وهذا يعني أن ما هي بصدده ليس ملاحظة المكان حتى يقال بأن لفظة المساجد عام يشمل جميع المساجد على حد سواء، بل هي بصدد بيان ما ذكرنا، ما يجعل أن لفظة المساجد أقرب للظهور في العموم المجموعي، وليس الاستغراقي.

وأما النصوص، فإنها على طوائف:

الأولى: ما دل على حصر جواز الاعتكاف في خصوص المساجد الأربعة:

منها: ما رواه عمر بن يزيد[13]ودلالتها على المدعى من خلال ظهور لفظ الإمام العادل الوارد فيها في خصوص المعصوم(ع).

أما لو كان المقصود به مطلق امام الجماعة، فسوف تكون أجنبية عن المدعى.

وعليه، ففي اللفظة المذكورة احتمالان:

أحدهما: الإمام المعصوم(ع).

ثانيهما: مطلق الإمام العادل من أئمة الجماعة.

وقد قرب استظهار الاحتمال الأول، بأن حمل اللفظ المذكور على غير الإمام المعصوم(ع)، يستلزم لغوية ذكر الجملة الأخيرة، وهي قوله: ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة…ألخ، لصلاة الإمام(ع) في تلك المساجد الأربعة جماعة قطعاً، ويساعد على ذلك نفي البأس عن ايقاع الاعتكاف فيها[14].

وبعبارة أخرى، إن الظاهر من النص أنه بصدد بيان قاعدة عامة كلية مفادها أنه يعتبر في المكان الذي يقع فيه الاعتكاف أن يكون موضعاً لصلاة المعصوم(ع)، ثم عمد(ع) إلى ذكر بعض المصاديق مما كان موضعاً لموضع صلاته(ع)، فذكر المساجد الأربعة.

وقرب استظهار الاحتمال الثاني، بأن الموجب لحمل اللفظ على المعصوم(ع)، هو حصول الانسباق في الذهن من اللفظ المذكور إليه، إلا أن دعوى الانسباق المذكور غير ظاهرة، لأن التعبير المذكور لا يخرج عن كونه تعبيراً مشابهاً لمثل التعبير بالشاهد العادل، فكما لا يقال فيه أنه المعصوم(ع)، كذلك لا يقال في الإمام العادل، أنه المعصوم(ع)[15].

والذي يساعد عليه الذوق العرفي هو الاحتمال الأول، خصوصاً مع ملاحظة الذيل الوارد في الصحيح، لأنه لو بني على الثاني، لن يكون لذكر المساجد المذكورة في كلامه(ع) معنى إلا مجرد الإخبار.

وقد تمنع دلالتها على حصر المشروعية في خصوص المساجد الأربعة، ويحمل النص على الاستحباب، لوجود قرينة موجبة لذلك، وهي ملاحظة أن الاعتكاف عبادة عالمية، كما يظهر ذلك من الآيات والروايات الواردة فيها، كما في قوله تعالى:- (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[16]، وتخصيص وقوعها في خصوص المساجد الأربعة أو الخمسة التي تضمنها النص، يحصر الممتثلين لهذه العبادة بخصوص أهل تلك البلدان التي تقع فيها تلك المساجد، أو خصوص من كان فيها، وقد أقام عشرة أيام، وهو كما ترى، فلا مناص، من حمل الحديث على الاستحباب المؤكد في المساجد المذكورة[17].

والحق، أن القرينة المذكورة كما ترى، فإن هذا نظير ما ورد في الكثير من العبادات التي حصر مكانها في مكان محدد، أو العبادات التي حصر زمانها في زمان محدد، فإنه لا يستوجب شيئاً مما ذكر.

وقد روي النص المذكور بطرق عدة

منها: طريق الشيخ الكليني(ره)، وهو ضعيف لوقوع سهل بن زياد فيه.

الثاني: وهو طريق الصدوق(ره)، ولا يوجد فيه إشكال، بعد صحة طريقه إلى الحسن بن محبوب على ما في المشيخة، فقد ذكر أنه كالتالي:

عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن عبد الله بن جعفر الحميري، وسعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عنه. وهو يشتمل على محمد بن موسى بن المتوكل، ولم ينص عليه في كلمات قدماء الرجاليـين، مع أن الشيخ(ره) ذكره في رجاله في باب من لم يرو عنهم(ع). نعم قد وثقه العلامة(ره) في الخلاصة، بعد أن ذكره في القسم الأول منها، ومثل ذلك فعل ابن داوود.

ولا يذهب عليك، أن القبول بتوثيقهما على المبنى المختار في وجه حجية الرجالي، وقد عرفت أن المختار عدم القبول بتوثيقهما.

وقد استند بعض الأعاظم(ره) للبناء على وثاقته، بما حكاه عن السيد ابن طاووس(ره) في فلاح السائل، من نقله الاتفاق على وثاقته[18].

وقد ذكر(ره) في ترجمة إبراهيم بن هاشم، أن الاتفاق المذكور في كلام السيد(ره)، ليس اتفاقاً متأخراً، بل هو اتفاق قدماء الأصحاب على العمل بمروياته، فيكون نافعاً في إثبات الوثاقة.

والحق، أنه لم يحرز أن ما ورد في كلام السيد(ره) حكاية لاتفاق قدمائي، بل الظاهر أنه نقل لاتفاق المتأخرين على العمل مروياته، لأنه لو كان القدماء متفقون على العمل بروايته، لبان ذلك وظهر. ومع التسليم بعملهم بمروياته، فإن منشأ ذلك يعود للوثوق بصدورها، وليس للبناء على وثاقته، وهذا يعني أن الاجماع المحصل من كلماتهم من قبل السيد(ره) لو تم، فهو إجماع حدسي.

وعليه، سوف يكون الطريق المذكور ضعيفاً لعدم وثاقة محمد بن موسى.

الثالث: وهو طريق الشيخ(ره)، وهذا الطريق يعاني مشكلتين سنديتين:

الأولى: ضعف طريق الشيخ(ره) إلى علي بن الحسن بن فضال، لوقوع علي بن محمد بن الزبير القرشي فيه، وهو ممن لم يوثق.

الثانية: وقوع محمد بن علي، وهو مشترك بين الثقة وغيره. فيتردد أمره بين ثلاثة أفراد:

1-محمد بن علي بن محبوب.

2-محمد بن علي الصيرفي المعروف بأبي سمينة.

3-محمد بن علي الهمداني.

وقد جزم بعض الأعاظم(ره) أنه الأول، بقرينة روايته عن الحسن بن علي بن محبوب[19].

ويتم ما ذكره(ره) إذا لم تثبت رواية للهمداني، ولا الصيرفي عن الحسن بن محبوب، وإلا فمع وجود رواية لأحدهما أو كليهما، فإنه لا تصلح القرينة المذكورة للدلالة على المدعى. على أن هناك ما يمنع من البناء على كون المقصود به هو محمد بن علي بن محبوب، وهو رواية ابن فضال عنه، وهو من أصحاب الإمامين العسكريـين(ع)، ومحمد بن علي بن محبوب، عدّه الشيخ(ره) في من لم يرو عنهم(ع)، وقد روى عنه أحمد بن إدريس، ومحمد بن يحيى العطار، وهما يرويان عن صاحب نوادر الحكمة، محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري، وهذا يجعل محمد بن علي بن محبوب في طبقة صاحب النوادر. ومقتضى ما ذكر منع رواية ابن فضال عنه، لأن ابن فضال لو لم يكن متقدماً على صاحب النوادر، لا أقل من كونه معاصراً له، فكيف يروي عن من هو متأخر عنه طبقة.

والأقرب أن يكون المقصود به هو محمد بن علي الهمداني، المستثنى من كتاب نوادر الحكمة.

وأما المشكلة الأولى، فقد ذكرت علاجات للتغلب عليها:

منها: البناء على وثاقة علي بن محمد بن الزبير، فإنه وإن خلت مصادرنا الرجالية عن التعرض لذلك، إلا أنه قد وثق في كلمات العامة وبكلمات عالية، فقد قال فيه الذهبي: الإمام الثقة المتقن[20]. وقال ياقوت: كان من أجل أصحاب ثعلب-إلى أن قال-ثقة صادقاً في الرواية حسن الدراية[21]. ومن المعلوم أن أصحاب الجرح والتعديل من الجمهور لا يوثقون الشيعي إلا إذا كانت وثاقته بمثابة من الوضوح لا يمكن التشكيك فيها، وإلا فإنهم يحجمون عن توثيقه، وهو من الشيعة، وهذا يقتضي البناء على وثاقته، فإن الفضل ما شهدت به الأعداء.

ويدل على كونه من الشيعة ما جاء في ترجمته من أنه لما مات نقل إلى مشهد علي(ع)، ودفن فيه، وهذا لا يفعل عادة إلا بالشيعي[22].

وهذا الوجه إنما يجدي علاجاً على بعض المباني في وجه حجية قول الرجالي، وليس على جميعها، فلو بني على مختار بعض الأعاظم(ره)، من أن الوجه في حجية قول الرجالي، كونه خبر الثقة في الموضوعات، فيلزم إحراز وثاقة من ذكر في كلماتهم، كيما يحكم بالوثاقة، ومع عدم ذلك، لا يتم المدعى.

وكذا لو كان الوجه في حجيته أنه من باب قول الخبير، فالظاهر أنه لابد من أحراز الصغرى، وأن المذكورين من الخبراء في هذا المجال، أو لا.

نعم لا يبعد البناء على القبول بوثاقته، لو كان وجه حجية قوله من خلال جمع القرائن الموجبة لتولد الاطمئنان عند الفقيه، فإن صدور مثل هذه الشهادة من الأعداء، والذين عرف عنهم تضعيف الراوي لمجرد كونه شيعياً، يوجب الاطمئنان بالوثاقة، فتأمل.

ومنها: ما حكي عن بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، من وجود طريق آخر للشيخ(ره) إلى كتب بن فضال، لم يذكره في المشيخة، ولا في الفهرست، وإنما ذكره في أوائل كتابه التهذيب، وهو لا يشتمل على علي بن محمد بن الزبير، وهو كالتالي: ما أخبر به جماعة عن أبي محمد هارون بن موسى عن أحمد بن محمد بن سعيد، عن علي بن الحسن[23].

وليس في الطريق من يتوقف في وثاقته، فإن هارون بن موسى هو التلعكبري، وأحمد بن محمد، هو ابن عقدة.

ولا يذهب عليك أن في البين احتمالين:

أحدهما: أن يكون الطريق المذكور طريقاً إلى جميع كتب ابن فضال، فيكون طريقاً آخر لشيخ الطائفة(ره).

ثانيهما: أن يكون الطريق المذكور طريقاً لخصوص الرواية التي ذكرها الشيخ(ره)، وقد يكون طريقاً لروايات أخرى.

وحتى يصح ترتيب الأثر على المدعى، يلزم احراز الاحتمال الأول، وإلا فلا. ولعل هناك ما يساعد على الثاني منهما، وهو أن عدم تعرض الشيخ(ره)، للطريق في الفهرست ولا في المشيخة، وقد كان بصدد استعراض طرقه الثابتة له للكتب، يمنع كونه طريقاً عاماً لكتب ابن فضال، ويحصرها في خصوص الراوية المذكورة.

والحاصل، إن الجزم بكون الطريق المذكور لجميع الكتب، كيما يكون موجباً للتصحيح من الصعوبة بمكان.

ومنها: أن لا يكون كتاب ابن فضال بحاجة إلى طريق لكونه من الكتب المشهورة، نظير كتاب الكافي وغيره من الكتب الأخرى، والتي يكون ذكر الطريق إليها من باب التبرك ليس إلا، فوجود طريق إليها ضعيف السند، لا يضر بالاستناد إلى مروياته.

ومنها: مرسلة المفيد، قال: قد روي أنه لا يكون-أي الاعتكاف-إلا في مسجد جمع فيه نبي أو وصي نبي، قال: وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام جمع فيه رسول الله(ص)، ومسجد المدينة جمع فيه رسول الله(ص)، ومسجد الكوفة، جمع فيه أمير المؤمنين(ع)، ومسجد البصرة جمع فيه أمير المؤمنين(ع)[24]. ودلالتها على المدعى واضحة، حيث تضمنت حصر الموضع الذي يقع فيه الاعتكاف في مساجد أربعة، نعم المانع من الاستناد إليها إرسالها، ومجرد كون المرسل لها هو الشيخ المفيد لا يخلها دائرة الحجية، لعدم ثبوت أنه لا يرسل إلا عن ثقة، كما أنه ليس في البين ما يكشف عن جبر ضعفها بعمل المشهور.

ومنها: ما جاء في الفقه الرضوي، قال: وصوم الاعتكاف في المسجد الحرام، ومسجد الرسول ومسجد الكوفة، ومسجد المدائن، ولا يجوز الاعتكاف في غير هذه المساجد الأربعة، والعلة في ذلك أنه لا يعتكف إلا في مسجد جمع فيه إمام عادل، وجمع رسول الله بمكة والمدينة، وأمير المؤمنين في هذه المساجد الثلاثة، وقد روي في مسجد البصرة[25].

ودلالته على حصر الاعتكاف في خصوص المساجد الأربعة واضحة جداً، نعم المانع من الاستناد إليه، أنه لم يثبت أنه كتاب رواية صادر عن الإمام الرضا(ع)، حتى يستند إليه، كما فصلنا ذلك في محله.

ولو سلم بكونه نصوصاً مروية عنه(ع)، إلا أنها مراسيل، لم يذكر الطريق إليها، وهذا مانع من الاستناد إليها، إلا إذا أحرز استناد المشهور إليها، ليثبت حصول الجبر بعملهم، هو غير متوفر في المقام.

وقد تحصل عدم تمامية شيء من نصوص هذه الطائفة سنداً، وإن كانت تامة الدلالة على المدعى.

الطائفة الثانية: ما تضمنت أن موضع الاعتكاف هو خصوص المسجد الجامع:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد الله(ع): لا اعتكاف إلا بصوم في مسجد الجامع[26]. وهو صريح في أن موضع الاعتكاف هو المسجد الجامع، وهذا يعني عدم حصره في خصوص المساجد الأربعة، اللهم إلا أن يدعى أن التعبير المذكور مشير لتلك المساجد الأربعة، فتأمل.

ومنها: معتبرة داود بن سرحان، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن علياً(ع) كان يقول: لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام مسجد رسول الله(ص)، أو مسجد جامع[27]. وهو كسابقه من حيث الدلالة، وأن أحد مواضع الاعتكاف وقوعه في المسجد الجامع.

وقد يقال: إن مقتضى ذكره قسيماً للمسجدين، يجعل المقصود به معنى أوسع، فلا يعتبر فيه أن يكون مما جمع فيه المعصوم(ع).

فإنه يقال: إن هذا وإن كان محتملاً، إلا أن من الممكن أيضاً أن يكون ناظراً لمسجد الكوفة ومسجد البصرة، فيكون موافقاً لما تقدم في الطائفة الأولى.

ومنها: خبر أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله(ع) قال: سئل عن الاعتكاف-إلى أن قال-لا أرى الاعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول (ص)، أو مسجد جامع[28]. ويأتي ما قدم ذكره في معتبرة داود بن سرحان. نعم هو مخدوش سنداً، فقد وقع في سنده،

الطائفة الثالثة: ما دلت على كفاية الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة:

منها: صحيحة عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: لا يصلح العكوف في غيرها-يعني مكة-إلا أن يكون في مسجد رسول الله(ص) أو في مسجد من مساجد الجماعة[29].

ومنها: صحيحة يحيى بن العلاء الرازي عن أبي عبد الله(ع) قال: لا يكون اعتكاف إلا في مسجد جماعة[30].

ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) قال: سئل عن الاعتكاف؟ قال: لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول(ص)، أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعة، وتصوم ما دمت معتكفاً[31].

ودلالة النصوص المذكورة على كفاية الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، دون اعتبار أي قيد آخر واضحة، وعليه فيصح الاعتكاف في مسجد السوق، كما يصح الاعتكاف في مسجد القبيلة. وبعبارة واضحة، مقتضى كفاية اعتبار إقامة صلاة الجماعة، عدم اعتبار كونه مسجداً جامعاً، فتكون النصوص معارضة لما دل على لزوم كونه في المسجد الجامع.

نعم قد يناقش في سند الأخيرة منها، أعني صحيحة الحلبي، بوجود شبهة إرسال، المستكشف من التعبير بكلمة(سئل)، وهو غير بعيد، كما أشرنا له في محله.

وقد حملت هذه الطائفة على المسجد الجامع المقابل لمسجد القبيلة ومسجد السوق، فلا تكون منافية للطائفة الثانية، ويبقى بعدها ملاحظة نسبتها لخصوص الطائفة الأولى. وهذا يجعل النصوص على طائفتين، وليس ثلاثاً.

والقرينة على أن المقصود بمسجد الجماعة، هو خصوص المسجد الجامع، لا مطلق مسجد الجماعة، أن الجماعة وصف للمسجد، وهذا يجعل المقصود منه هو المسجد الجامع لأنه لو لم يجعل المذكور وصفاً للمسجد، لزم من ذلك أن يكون قيداً زائداً، لأن المسجد بما هو هو معد للجماعة، سواء قلت و كثرت[32].

وبعبارة أخرى، إنه لا معنى لأخذ قيدية الجماعة في وصف المسجد، لأن أصل تأسيسه وإنشائه قائم على عقدها فيه.

ومن الواضح أن الموجب لأخذ القرينة المذكورة هو الحذر من أخذ قيد زائد في المطلوب، مع أن وجودها مفروغ عنه، لا يكاد ينفك عنه.

وكيف ما كان، فإن جعل الجماعة وصفاً للمسجد خلاف الظاهر جداً، لوضوحها أنها وصف للصلاة الواقعة في المسجد، وليست وصفاً للمسجد. ومجرد كون أحد موجبات تأسيس المسجد إقامة صلاة الجماعة فيه، لا يمنع من وصف الصلاة الواقعة فيه بالجماعة.

وعليه سوف تقع المعارضة بين الطائفتين، الثانية والثالثة، وملاحظة النسبة بينهما تفيد أنها العموم مطلقاً، لأن الطائفة الثالثة أخص مطلقاً من الطائفة الثانية، وعليه،

وقد حمل المحدث البحراني(ره) نصوص الطائفة الثانية على التقية، لقول جماعة من علماء الجمهور، بأن الاعتكاف يكون في المسجد الجامع[33].

وما أفاده(ره)، إنما يصار إليه حال البناء على كون المعارضة مستقرة، وأنه لا مجال للجمع العرفي، وإلا فمعه لا موجب للترجيح.

وقد يجمع بين الطائفتين، بحمل نصوص الطائفة الثانية على الأفضلية، كما صنع ذلك ابن أبي عقيل(ره)، وكما صنع ذلك صاحب الوسائل، والمحقق السبزواري وبعض الأعاظم(ره)، نصوص الطائفة الأولى، فيكون ذلك نظير ما ورد عنه(ص)، لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، بمعنى لا صلاة كاملة، قوله(ص): لا صدقة وذو رحم محتاج، أي لا صدقة كاملة، وقوله(ص): لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة، بمعنى نفي الصلاة الكاملة. وعليه، يكون المقصود من الطائفة الثانية، أنه لا اعتكاف كاملاً إلا في المسجد الجامع، أو لا يكون الاعتكاف كاملاً إلا في أحد المساجد الأربعة أو الخمسة.

ثم إنه أن أبيت عن الجمع المذكور، والبناء على استقرار المعارضة، فإن سلم دلالة الآية الشريفة على تحديد موضع الاعتكاف ومكانه، كتحديدها لبعض أحكامه، ليبنى على شمول الكتاب لمرجح، فإن ذلك يقضي بتقديم الطائفة الثالثة على الطائفة الأولى، فإن المستفاد من الآية الشريفة جواز إيقاعه في أي مسجد من دون تحديد، وهو الموافق لنصوص الطائفة الثالثة.

أما لو بني على عدم كون الآية الشريفة في مقام البيان من هذه الجهة، كما سمعت، فلن يكون هناك مرجح كتابي، وبالتالي سوف يلتـزم بمخالفة الجمهور، لكونه ثانيا لمرجحات، وهذا قد يوجب تقديم الطائفة الثالثة على الثانية، لكونهم قائلين بالاعتكاف في المسجد الجامع.

والحق أنهم مختلفون في ذلك، فإن بعضهم قائل بكون مكانه هو المسجد الجامع، وقال آخرون أن مكانه مسجد الجماعة، وقال ثالث بأن مكانه المسجد الحرام، أو مسجد النبي(ص) أو المسجد الأقصى، وخصه رابع بخصوص المسجد الحرام، ومسجد النبي(ص).

وبالجملة، إن المذكور في كلماتهم خمسة أقوال، وهذا مانع من الترجيح بقولهم، إلا أن يدعى أن المستفاد مما دل على الترجيح بمخالفة العامة ناظر للترجيح بمخالفة فقيه السلطة الحاكمة، ومع تحديد فسوف يكون هو المتبع.

ثم إنه بعد عدم وجود ما يوجب المرجحية، فلا مناص من تساقط الطائفتين، والرجوع لمقتضى الأصل العملي، وأنه يفيد البراءة عن الشرطية في خصوص المسجد الجامع، أو خصوص المساجد الأربعة أو الخمسة، فيصح الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة.

 

 

[1]كشف الرموز ج 1 ص 317.

[2]مختلف الشيعة ج 3 ص 440.

[3]منتهى المطلب ج 9 ص 419.

[4]المقنع ص 219.

[5]مختلف الشيعة ج 3 ص 439.

[6]سورة البقرة الآية رقم 187.

[7]غاية المراد ج 1 ص 349، كنـز العرفان ج 1 ص 216.

[8]مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام ج ص 350.

[9]أجود التقريرات ج ص

[10]الانتصار ص 199-200.

[11]غنية النـزوع ج 1 ص 146.

[12]تذكرة الفقهاء ج 6 ص 244-247.

[13]وسائل الشيعة ج 10 ب 3 من أبواب الاعتكاف ح 8 ص 540.

[14]تفصيل الشريعة كتاب الصوم ص 350. الصوم في الشريعة الغراء ج 2 ص 341.

[15]مستند العروة ج 22 ص 386.

[16] سورة البقرة الآية رقم 187.

[17] الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء ج 2 ص 342.

[18] معجم رجال الحديث ج 18 ص 300.

[19]مستند العروة ج 22 ص

[20]سير أعلام النبلاء ج 15 ص 567.

[21]معجم الأدباء ج 2 ص 120.

[22]بحوث في شرح مناسك الحج ج 8 ص 312.

[23]تهذيب الأحكام ج 1 باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ح 67 ص 27.

[24] المقنعة ص 363.

[25] الفقه الرضوي ص 36.

[26] وسائل الشيعة ج 10 ب 3 من أبواب كتاب الاعتكاف ح 1.

[27] المصدر السابق ح 10 ص

[28] المصدر السابق ح 5 ص

[29] وسائل الشيعة ج 10 ب 3 من أبواب الاعتكاف ح 3 ص

[30] المصدر السابق ح 6 ص

[31] المصدر السابق ح 7 ص

[32] الصوم في الشريعة الإسلامية الغراء ج 2 ص 344. مصباح المنهاج كتاب الصوم ص 468.

[33] الحدائق الناضرة ج 13 ص 468.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة