29 مارس,2024

صعب مستصعب

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

صعب مستصعب

يجد القارئ للنصوص الشريفة الصادرة عن المعصومين(ع)، وكذا المطالع لسيرتهم المباركة اشتمالهما على بعض الأمور والقضايا التي يصعب على العقل البشري تقبلها بسهولة ويسر، بل تحتاج غالباً إلى شدة إيمان، بل عمق في الولاء والانتماء، ومن دون ذلك قد يوجب التشكيك في حصولها وصدورها، ونماذج ذلك كثيرة، منها موقف أمير المؤمنين(ع) مما جرى على الصديقة الطاهرة الزهراء(ع)، وهكذا بعض النصوص الصادرة في شأنها: مثل: نحن حجج الله على البرايا وفاطمة حجة علينا، أو: وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، وكذا بعض الحوادث الواقعة في حادثة شهادة الإمام الحسين(ع)، وما أعقب ذلك من أمور جرت على العائلة الكريمة.

ولا ينحصر الأمر في ذلك، بل يسري إلى الكرامات الصادرة عنهم(ع)، وفقاً لقانون الولاية التكوينية الثابتة إليهم، وهكذا.

وحالة عدم القبول بسهولة لما ورد عنهم، أو ما جرى من شؤونهم وأحوالهم، قد أشير إليه في بعض النصوص الصادرة عنهم، عند وصفها لأمرهم وحديثهم بالصعب المستصعب، ما يؤدي إلى توفر عدة تساؤلات حول ذلك، مثل: ما هو معنى الصعب المستصعب في هذه النصوص، وما هي السبب الداعي إلى وجود مثل ذلك في مروياتهم، وأمرهم(ع)، وما هي الوظيفة التي يلزم المكلف القيام بها حيال هذه النصوص، وكيف يكون التعامل معها.

ولنشر لشيء من تلك النصوص التي تضمنت المعنى المشار إليه، أعنى أن أمرهم وحديثهم من الصعب المستصعب.

فعن سدير الصيرفي قال: كنت بين يدي أبي عبد الله(ع) أعرض عليه مسائل قد أعطانيها أصحابنا إذ خطرت بقلبي مسألة، فقلت: جعلت فداك، مسألة خطرت بقلبي الساعة. قال: أليست في المسائل؟ قلت: لا. قال: وما هي؟ قلت: قول أمير المؤمنين(ع): إن أمرنا صعب مستصعب، لا يعرفه إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان. فقال: نعم، إن من الملائكة مقربين وغير مقربين، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين، ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين، وإن أمركم هذا عرض على الملائكة فلم يقر به إلا المقربون، وعرض على الأنبياء فلم يقر به إلا المرسلون، وعرض على المؤمنين فلم يقر به إلا الممتحنون[1].

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا من كتب الله في قلبه الإيمان[2].

معنى التحمل والاحتمال:

والظاهر عدم اختلاف معنى الصعب والمستصعب في النصوص المذكورة عما ذكر لهما من معنى في كلمات أهل اللغة، من أن المراد منهما ما يكون شاقاً صعب المنال، فيكون التعبير المذكور كناية عن صعوبة الفهم والإدراك والقبول ببعض معارفهم، ومقامتهم(ع).

وأما الاحتمال الذي قد حصر ثبوته في بعض النصوص لفئة معينة من الموجودات، بل ستسمع في نصوص أخرى نفي قابلية تحمله إلا لهم(ع) دون غيرهم، فقد ذكرت له احتمالات ثلاثة:

أحدها: أن يكون المقصود منه في هذه النصوص التسليم والانقياد التام لما عليه أهل البيت(ع)من مقامات ودرجات، وإن لم يقف السامع أو القارئ على حقيقة تلك الأمور وتفاصيلها، فيلتزم بجريان كل ما حصل عليهم من أحداث وآلام وإن كانت صعبة القبول والتصديق، كما يؤمن بأن السيدة الزهراء(ع) أفضل من أولادها الأئمة الطاهرين(ع)، وأن لها ولاية تكوينية كما أنها معصومة مثلاً وإن لم تكن إماماً، وهكذا. وإلى هذا المعنى يشير ما رواه المفضل عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: ما جاءكم منا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا، وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن تكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا[3]. وهو واضح في المطلوب، من أنه يلزم القبول بكل ما جرى وصدر عنهم(ع) من دون حاجة لملاحظة الدليل، ولا البحث عن التفاصيل، بل عليه أن يسلم بذلك تسليماً مطلقاً.

وهذا المعنى لو قبل في النصوص التي حصرت القابلية لتحمل أمرهم(ع) في خصوص الفئات الثلاث: ملك مقرب، نبي مرسل، مؤمن ممتحن، إلا أنه يصعب القبول به في النصوص التي نفت قابلية التحمل لهذه الثلاثة أيضاً، لأن المستفاد من بعض النصوص أن عدم التسليم والانقياد قد يوجب الخروج من ولايتهم ودينهم، وهذا لا يتصور في حق الفئات الثلاث المذكورة، وعليه يكون ذلك مانعاً من حمل هذا المعنى على الاحتمال الوارد في هذه النصوص أيضاً، لأنه سوف يستلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو ولو كان جائزاً كما قرر في الأصول، لكنه يحتاج قرينة بينة واضحة، وهي غير موجودة في المقام.

مضافاً إلى نفي جملة من النصوص أن يكون المقصود به ذلك، فقد روى عبد الأعلى بن أعين، قال: قال أبو عبد الله(ع): إن احتمال أمرنا ليس هو التصديق به والقبول له فقط، إن احتمال أمرنا ستره وصيانته عن غير أهله، فأقرئهم السلام ورحمة الله-يعني الشيعة-وقل لهم، يقول لكم: رحم الله عبداً اجتر مودة الناس إليّ وإلى نفسه، يحدثهم بما يعرفون، ويستر عنهم ما ينكرون[4].

ثانيها: ما أختاره الشيخ زين الدين الأحسائي(ره) في شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، من أن المقصود به هو الفقه والفهم، وقد استند في ما أختاره لما تضمنته بعض النصوص من قوله(ع): نحن نحتمله، لكون المقصود باحتمالهم له هو علمهم وفهمه له. ويساعد على ما ذكره(ره) ما تضمنته بعض النصوص من أن استيعابه وفهمه وإدراكه بيدهم، فيمكنهم أن يجعلوه لمن شاءوا من شيعتهم، فعن أبي الصامت قال: قال أبو عبد الله(ع): إن حديثنا صعب مستصعب، شريف كريم، ذكوان ذكي[5] وعر، لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن ممتحن. قلت: فمن يحتمله جعلت فداك؟ قال: من شئنا يا أبا الصامت[6].

وهذا المعنى قد يفسر النصوص الكثيرة الواردة في بيان منازل الشيعة، وتفاضلهم في ما بينهم، حيث جعلت منشأ ذلك هو مقدار ما يملكونه من معرفة، فعن زيد الزراد، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال أبو جعفر الباقر(ع): يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان، إني نظرت في كتاب لعلي(ع)، فوجدت في الكتاب: إن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، إن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا[7].

والتفسير المذكور متصور، بل ليس بعيداً، لعدم وجود ما يمنع من حمل النصوص المذكورة عليه، بل هو منسجم معها في الجملة، نعم قد يتحفظ في انطباقه على القسم الثاني منها، أعني ما حصرت تحمل معارفهم وحقائهم(ع) فيهم فقط دون بقية الموجودات في عالم الإمكان، لورود الإشكال السابق في الاحتمال الأول حينئذٍ. على أنه لو أمكن أن يوجد معنى أوضح للدلالة على المدعى، كان مقدماً عليه، نعم لو لم يوجد لكان هو أولى بالتفسير لهذه النصوص من الاحتمال الأول.

ثالثها: أن يكون المراد منه الكتمان وحفظ السر، وعدم إذاعة هذه المقامات وبثها عند من لا يملك القدرة على تحملها، وعليه يكون المقصود من قوله(ع): لا يحتمله، أي لا يستطيع كتمانه، وحفظه وعدم إذاعته. ويشير لهذا المعنى المكاتبة المروية عن الإمام الهادي(ع): جعلت فداك، ما معنى قول الصادق(ع): حديثنا لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان؟ فجاء الجواب: إنما معنى قول الصادق(ع) أي لا يحتمله ملك ولا نبي ولا مؤمن، إن الملك لا يحتمله حتى يخرجه إلى ملك غيره، والني لا يحتمله حتى يخرجه إلى نبي غيره، والمؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره، فهذا معنى قول جدي(ع)[8].

وأوضح دلالة في هذا المعنى ما تضمنته النصوص التي ذكرت أن علة قتل المعلى بن خنيس، هو عدم حفظه ما أستأمن، وإذاعته للسر، فعن حفص بن شبيب، قال: دخلت على أبي عبد الله(ع) أيام قتل المعلى بن خنيس مولاه، فقال لي: يا حفص حدّثت المعلى بأشياء فأذعها فابتلي بالحديد، إني قلت له: إن لنا حديثاً من حفظه علينا حفظه الله، وحفظ عليه دينه ودنياه، ومن أذاعه علينا سلبه دينه ودنياه.

يا معلى إنه من كتم الصعب من حديثنا جعله الله نوراً بين عينيه ورزقه العز في الناس، ومن أذاع العب من حديثنا لم يمت حتى يعضه السلاح[9].

أقسام المعارف الثابتة للمعصومين:

وعند العودة للنصوص الشريفة الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة، يستفاد منها أن المعارف والحقائق التي توفر عليها الأئمة الأطهار(ع) على ثلاثة أنواع، فقد روى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: يا أبا محمد إن عندنا والله سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب لا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله ذلك أحداً غيرنا ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإن عندنا سراً من سر الله وعلماً من علم الله، أمرنا الله بتبليغه، فبلغنا عن الله عز وجل ما  أمرنا بتبليغه، فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته(ع)، ومن نور خلق الله منه محمداً وذريته، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمداً وذريته، فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك، وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا، فلولا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه.

ثم قال: إن الله خلق أقواماً لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم، واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به[10]. ويستفاد من النص السابق أن معارفهم قسمان:

الأول: ما يكون مختصاً بهم(ع)، ولذا لم يأمروا بإخراجه إلى الناس.

الثاني: ما ليس مختصاً بهم، بل هم مأمورون بتبليغه إلى الخلق، وهذا نوعان من حيث قبول الناس به، فنوع من الناس قد قبله، بعدم ما بلغ به، وآخر لم يقبله عندما بلغ به.

وعليه، يمكن البناء على أن معارفهم والحقائق التي عندهم من حيث استعداد الناس لتحملها وتلقيها وتقبلها إلى ثلاثة أنواع:

الأول: المعارف التي تختص بشيعتهم:

الموالين، فلا يتحملها أحد غيرهم من الخلق، ونقصد بذلك المقامات الثابتة لهم(ع)، مثل كونهم أوصياء النبي الأكرم محمد(ص)، وخلفائه حقاً من بعده، وأنهم معصومون، منصوبون من قبل الله تعالى أئمة وقادة وهداة، وأن الأرض لا تخلو من حجة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وأن لهم الولاية التكوينية، وأنهم يعلمون الغيب، وأنهم أفضل من أنبياء أولي العزم عدا جدهم المصطفى(ص).

وبالجملة، يشمل هذا النوع الأصول العقدية التي تختص بأتباع مدرسة أهل البيت(ع).

وقد أشارت النصوص لهذا النوع من المعارف، فقد جاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن حديثنا صعب مستصعب لا يتحمله إلا صدور منيرة، أو قلوب سليمة، وأخلاق حسنة، إن الله أخذ من شعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم، حيث يقول عز وجل:- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى)، فمن وفى لنا وفى الله له بالجنة، ومن أبغضنا ولم يؤد حقنا ففي النار خالداً مخلداً[11].

الثاني: الحقائق والمعارف التي لا يتحملها إلا خواص الشيعة:

وقد دلت جملة من النصوص على وجود معارف وحقائق عندهم(ع) قد أمروا بإيصالها إلى الناس، إلا أنه لا يتحملها كل أحد، وإنما تنحصر قابلية تحملها في خصوص ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان. فعن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين(ع) قال، سمعته يقول: إن حديثنا صعب مستصعب، خشن مخشوشن، فانبذوا إلى الناس نبذاً، فمن عرف فزيدوه، ومن أنكر فأمسكوا، لا يتحمله إلا ثلاث: ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان[12].

ويدل على افتراق هذا النوع عن سابقه، ملاحظة قرائن ثلاث تستفاد من النصوص المرتبطة بهذا النوع، وهي:

الأولى: ما تضمنته بعض النصوص من عدم قابلية أبي ذر(رض)، لتحملها، فمن باب أولى أن لا يتحملها عامة الشيعة، فعن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله(ع) قال: ذكرت التقية يوماً عند علي بن الحسين(ع)، فقال: والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخا رسول الله(ص) بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، إن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرء منا أهل البيت، فلذلك نسبته إلى العلماء[13].

الثانية: اشتمالها على التقيـيد بخصوص المؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان، وليس مطلق المؤمن.

الثالثة: جعل المؤمن في هذا النوع من المعارف قسيماً للملك المقرب والنبي المرسل، ومن المعلوم أنه ليس كل أحد من المؤمنين، يصلح أن يكون قسيماً لهما، ما يعني أن المقصود به فئة خاصة من المؤمنين.

المؤمن الممتحن:

كما أنه يمكن عدّ  إحدى الشواهد على مغايرة هذا النوع من المعارف للنوع السابق، ما تضمنته النصوص بياناً للمؤمن الممتحن، وتحديد هويته وحقيقته، وخلاصة ما يستفاد من النصوص، وإحالة تفصيل ذلك إلى مورد آخر، هو أن للإيمان درجات ومراتب، فليس هو مرتبة واحدة، فمن بلغ تلك المراتب بأكملها كان ممتحناً، فعن عمار بن أبي الأحوص، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الله عز وجل وضع الإيمان على سبعة أسهم على البر والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء والعلم والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل[14].

وبالجملة، في النصوص تعبيران، المحتمل، والمؤمن الممتحن، وكلاهما يشيران إلى حقيقة واحدة، وهي بلوغ الشخص مرتبة الإيمان الكامل، بتوفر كافة درجات الإيمان عنده.

الثالث: الحقائق والمعارف التي لا يتحملها أحد سواهم:

ومما تضمنتهم النصوص الشريفة أن هناك معارف وحقائق لا يمكن لأحد سواهم(ع) أن يتحملها، فلا يتحملها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان، فلاحظ ما جاء عن أبي الصامت، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إن من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد مؤمن. قلت: فمن يحتمله؟ قال: نحن نحتمله[15].

وقد برر ذلك الشيخ المازندراني(ره)، بأن ذلك يعود إلى بيان ما هم فيه من شرافة الذات ونورنيتها، والكلمات الفاضلة والأخلاق الكاملة، والإشراقات التي تختص بها عقولهم، والقدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم من العلم بالأمور الغيبية، والأسرار الإلهية والأخبار الملكوتية[16].

ويمكن تقريب الفكرة لهذا النوع، بنصين من القرآن الكريم، يشيران إلى عدم القدرة على تحمل بعض المعارف والحقائق لبعض المقربين:

الأول: بيان عدم قدرة الملائكة المقربين على تحمل بعض المعارف والحقائق، مع وجود القدرة والقابلية عند العنصر البشري، وهذا ما تضمنته قصة خلق آدم(ع)، وتعليمه  الأسماء التي لم يعلمها الملائكة، لعدم وجود القدرة والقابلية لديهم للإحاطة بها، قال تعالى:- (وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون* وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتـنا إنك أنت العليم الحكيم* قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم)[17]. فإن الله تعالى قد أظهر في هذه الآيات نقص الملائكة، وقصور استعدادهم وعدم وجود القابلية فيهم لمعرفة هذا العلم مباشرة منه ومن دون واسطة، بل يحتاجون إلى من يعلمهم ذلك، وهو يتلقاه مباشرة من الله تعالى وبدون واسطة، وهذا يشير إلى عدم قدرة الملك المقرب على تحمل هذا العلم[18].

وهذا المضمون مستقى من نصوص، فعن صالح بن ميثم، عن أبيه، عن علي أمير المؤمنين(ع) أنه قال: أوكل علم يحتمله عالم؟ إن الله تعالى قال لملائكته:- (إني جاعل في الأرض حليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فهل رأيت الملائكة احتملوا العلم؟ الحديث[19].

الثاني: ما جاء في قصة نبي الله موسى والخضر(ع)، قال تعالى:- (فوجدا عبداً من عبادنا ءآتينه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً* قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً)[20]. وموضوع القصة هما نبيان من أنبياء الله تعالى، أحدهما من أولي العزم، وهو موسى(ع)، والآخر هو الخضر(ع)[21]. وقد تضمنت هاتان الآيتان طلب النبي موسى(ع) التعلم منه، وقد أوجب هذا إشكالاً، عولج في كلمات بعضهم بأن المطلوب أن يكون النبي أعلم أهل زمانه فيما يكون مرتبطاً بشأن نبوته، من العقائد وما يتعلق بأسرار الشريعة، لا مطلقاً، وعليه لا يضر بمنصبه أن يتعلم من غيره علوماً غريبة وأسراراً خفية لا تعلق بها بذلك، خصوصاً إذا كان ذلك الغير نبياً أو رسولاً[22].

وهذا المعنى قد تضمنته بعض النصوص، ففي كتاب التفسير المنسب لعلي بن إبراهيم القمي، بسند ينتهي للإمام الرضا(ع) في حديث: قال(الخضر): إني وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه[23].

والحاصل، إن المستفاد من القصة المذكورة أن النبي المرسل، لم يملك القابلية لتحمل ما كان موجوداً عند الخضر(ع)، وهذا هو المطلوب.

سبب وجود الصعب المستصعب في كلامهم:

ثم إنه بعد الإحاطة بوجود الصعب المستصعب في أمرهم وكلامهم، ومعنى كونه صعباً مستصعباً، يلزم الوقوف عند السبب الداعي إلى وجود ذلك، ولمَ لم يكن أمرهم وكلامهم من السهل البين الواضح الذي يمكن لكل أحد أن يتحمله ويحتمله من دون وجود الحاجة للإخفاء والسرية به.

وللوقوف على ذلك، نمهد بمقدمتين:

الأولى: لم يختلف حال النصوص الصادرة عنهم(ع) عن الآيات الشريفة في وجود المحكم والمتشابه فيها، فكما أن الآيات المباركة قسمان، محكم ومتشابه، فكذلك النصوص قسمان أيضاً، محكم ومتشابه. ونفس الأسباب التي دعت إلى وجود المحكم والمتشابه في الآيات القرآنية، تجري أيضاً بالنسبة للنصوص الشريفة، ولا نود أن نعمد إلى بيان تلك الأسباب، لأننا قد تعرضنا لذلك بصورة مفصلة في بحث مستقل، يمكن الرجوع إليه.

الثانية: إن قابلية الناس واستعدادهم من حيث القدرة على تحمل ما يلقى إليها، واستيعابه مختلفة متفاوتة، فليسوا على حد سواء، لأن العقول متفاوتة، فعن اسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): الرجل آتيه أكلمه ببعض كلامي فيعرف كله، ومنهم من آتيه فأكلمه بالكلام فيستوفي كلامي كله ثم يرده علي كما كلمته، ومنهم من آتيه فأكلمه فيقول: أعد علي[24].

فقال: يا إسحاق أو ما تدري لم هذا؟ قلت: لا.

قال: الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرف كله، فذاك من عجنت نطفته بعقله، وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك، فذاك الذي ركّب عقله في بطن أمه، وأما الذي تكلمه بالكلام، فيقول: أعد علي، فذاك الذي ركب فيه بعدما كبر، فهو يقول: أعد علي[25].

وملاحظة هاتين المقدمتين تساعد كثيراً على الوقوف على منشأ وجود الصعب المستصعب في أمرهم وأحاديثهم، إلا أنه رغبة في زيادة البيان، نشير إلى بعض الأسباب الموجبة لذلك:

منها: إن فقدان الاستعداد الموجود عند بعض الأفراد لفهم دقة وعمق بعض الحقائق العقلية، وإدراكها، يوجب أن تكون المعارف والحقائق الصادرة عنهم(ع) صعبة مستصعبة، ويساعد على هذا ما تضمنته بعض النصوص من النهي عن التعرض لما لا يفهمونه العامة من الناس.

ومنها: أن يكون منشأ ذلك هو وجود القوة الواهمة ومعارضتها لما قام عليه البرهان العقلي، ومن المعلوم أن الوهم متقيد بالعادات ويحصر الحقيقة في حدود خاصة يستأنس بها، فإذا فاجأه غير المأنوس أنكره واستوحش منه، وعدّ قائله سفيهاً أو ربما نسب للكفر والضلال[26].

ومنها: إن من الممكن أن يكون الداعي إلى وجود ذلك في ما صدر عنهم، وكذا في أمرهم(ع) حاجة أمرهم وحديثهم إلى نوع خاص من الإدراك والفهم، فلا يكفي للوصول إليها وجود الحالة العادية من الإدراك. وهذا المعنى هو ما فهمه السيد الطباطبائي(قده) من قوله(ص): أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، حيث ذكر أنه إنما يحسن هذا التعبير إذا كان هناك من الأمور ما لا بلغه فهم السامعين من الناس.

وهذا النحو من الإدراك الخاص الذي قد يكون موجوداً عند بعض الأفراد دون البعض، يساعد على تفسير التفاوت الموجود في رتبة أصحاب النبي(ص)، وقد سمعت قبل قليل في الحديث المروي عن الإمام زين العابدين(ع) كيف أن أبا ذر(رض) لم يكن يقدر على تحمل ما يملكه سلمان من علم، ما يعني أفضلية سلمان على أبي ذر.

وقد ورد مثله في شأن المقداد، فقد روى أبو بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص) لسلمان: يا سلمان لو عرض علمك على المقداد لكفر[27].

وقد ورد عن أبي عبد الله(ع)، وقد سئل عن الحديث الذي جاء في الأربعة؟ قال: وما هو؟ قلت: الأربعة التي اشتاقت إليهم الجنة. قال: نعم منهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار. قلت: فأيهم أفضل؟ قال: سلمان[28].

وبالجملة، إنما تميز سلمان وتقدم على البقية بلحاظ ما كان يحمله من علم ومعارف إلهية خاصة، أعطته هذه المنـزلة.

وقد ورد ما يشير إلى فضل المقداد أيضاً، فقد جاء عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: ما بقي أحد بعدما قبض رسول الله(ص) إلا وقد جال جولة إلا المقداد فإن قلبه كان مثل زبر الحديد[29].

وكما عرفت التفاضل في شأن أصحاب النبي الأكرم محمد(ص)، فإن ذلك جار في شأن أصحاب الأئمة الأطهار(ع)، وهذا يلمسه كل من يتأمل في النصوص.

التكليف حيال نصوص صعب مستصعب:

إن مقتضى الأصل الأولي هو البناء على بيان معارف أهل البيت(ع) ونشر علومهم، إلا أن المستفاد من قوله تعالى:- (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)[30]، ترتب التعامل مع الناس في إيصال المعلومة إليهم وفق ما يملكون من قابلية واستعداد، وأن هذا الترتيب الذي ورد في الآية المباركة، قد جاء على وفق صناعة البرهان والخطابة والميزان، كما يذكر في علم المنطق[31].

والحاصل، إن الناس وفقاً لهذه الآية على أصناف:

1-أصحاب النفوس القوية والاستعداد لإدراك المعاني، وهم الذين يميلون إلى تحصيل اليقين، فهؤلاء الذين يدعون بالحكمة، وهي البرهان.

2-أصحاب النفوس الكدرة ضعيفة الاستعداد، شديدة الألفة بالمحسوسات، قوية التعلق بالعادات، قاصرة عن درجة البرهان، إلا أنهم ليسوا أهل عناد ولا لجاج، وهؤلاء يكون الحديث معهم بالمجادلة بالتي هي أحسن.

وعلى أي حال، إن عرض المعارف والحقائق المعصومية، يلزم فيها مراعاة حالتين: حالة المتكلم، وحالة المتلقي والسامع.

حالة المتكلم:

وأهم ما ينبغي أن يتوفر عليه وهو يود أن يبين هذه المعارف التي قد عرفت وصفها بأنها من الصعب المستصعب، أن يملك القدرة على مخاطبة الناس على قدر عقولهم، انطلاقاً مما ورد عنه(ص): إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم[32]، أي على قدر ما تدركه عقولهم من المعارف والحقائق. ويشير إلى هذا ما رواه سدير الصيرفي قال: قال لي أبو جعفر(ع): إن المؤمنين على منازل، منهم على واحدة، ومنهم على اثنتين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ست، ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمّل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقو، وعلى صاحب الثلاث أربعاً لم يقو، وعلى صاحب الأربع خمساً لم يقو، وعلى صاحب الخمس ستاً لم يقو، وعلى صاحب الست سبعاً لم يقو، وعلى هذه الدرجات[33].

ومن الطبيعي أن هذا يستوجب كتمان بعض الأمور وعدم إخبار الناس بها، لأن مقتضى عدم القدرة والقابلية تحول دون بيان ذلك، وإلا استوجب تكذيب المخبر، فضلاً عن تكذب من يحكي عنه، وهذا ما تضمنته النصوص فقد ورد عن حميد الطويل، قال: سمعت أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: لا تحدثوا الناس بما لا يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله[34].

حالة المتلقي والسامع:

والمطلوب من المتلقي أن لا يكذب كل ما لا يقدر على إدراكه وتقبله، فلا يجوز له رد حديث مروي عنهم(ع) لمجرد عدم تقبل عقله له، بل عليه أن يرده إلى أهله، وهم المسؤولون عن بيانه وإيضاحه، وبذلك أمرت النصوص، فقد روى المفضل بن عمر، عن الصادق(ع) أنه قال: ما جاءكم منا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردوه إلينا، وما جاءكم عنا مما لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا[35].

وقد نهت النصوص عن رو الخبر لمجرد عدم القدرة على استيعابه حذراً من أن يوجب ذلك تكذيب المعصوم(ع)[36].

[1] بصائر الدرجات ج 1 تتمة باب أن أمرهم صعب مستصعب ح 108 ص 73.

[2] المصدر السابق  ح 109 ص 73.

[3] بحار الأنوار ج 25 باب غرائب أفعالهم وأحوالهم ووجوب التسليم لهم في جميع ذلك ح 1 ص 364.

[4] الغيبة للنعماني الباب الأول ما روي في صون سر آل محمد عمن ليس من أهله ح 5 ص 35.

[5] علق على ذلك الشيخ المجلسي(ره) في البحار: الذكاء: التوقد والإلتهاب، أي: ينر الخلق دائماً.

[6] بحار الأنوار ج 2 كتاب العلم ح 34 ص 192.

[7] المصدر السابق ح 5 ص 184.

[8] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب ح 4 ص 401.

[9] غيبة النعماني الباب الأول ما روي في صون سر آل محمد عمن ليس من أهله ح 12 ص 38.

[10] الكافي ج 1 كتاب الحجة باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب ح 5 ص 402.

[11] بصائر الدرجات ج 1 باب في أئمة آل محمد وأن حديثهم صعب مستصعب ح 104 ص 70.

[12] بصائر الدرجات ج 1 باب في أئمة آل محمد(ص) وأن حديثهم صعب مستصعب ح 90 ص 64.

[13] الكافي ج 1 باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب ح 2 ص 401.

[14] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب درجات الإيمان ح 1 ص 42.

[15] بصائر الدرجات ج 1 باب في أئمة آل محمد وأن حديثهم صعب مستصعب ح 97 ص 66.

[16] شرح أصول الكافي ج 7 ص 2.

[17] سورة البقرة الآيات 30-33.

[18] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 116(بتصرف).

[19] بحار الأنوار ج 2 كتاب العلم باب 26 ح 106 ص 210.

[20] سورة الكهف الآيتان رقم 65-66.

[21] تعرضنا للحديث حول الخضر(ع) بصور مفصلة، وأنه نبي أو عبد صالح في الحديث حول القصص الواردة في سورة الكهف.

[22] روح المعاني ج 15 ص 319.

[23] تفسير القمي ج 2 ص 38.

[24] إن هذا المعنى نلمسه واضحاً في واقعنا الحياتي، إذ يوجد جملة من الناس يلق إليها الكلام، وبعدد الانتهاء منه، تعود لتسأل عن نفس الأمر، وكأنه لم يلق لها أي شيء من الكلام منذ البداية.

[25] بحار الأنوار ج 1 كتاب العقل والجهل باب 2 حقيقة العقل وكيفيته وبدو خلقه ح 10 ص 97.

[26] من الموارد ما نلمسه في عدم القبول حتى بالبحوث العلمية، لمجرد مخالفتها لما هو المألوف، فعندما تتحدث إلى شخص بأن المستفاد من النصوص أن ذكرى شهادة الصديقة الزهراء(ع) ينبغي أن تحسب بالعدد، وليس هناك تحديد يوم معين، لا يرضى ذلك، ويعتبر القول به خروجاً على ما هو المعروف والمألوف، والنماذج في هذا المضمار كثيرة، يطول الأمر بعرضها وشرحها.

[27] الاختصاص ص 11.

[28] الكافي كتاب الحجة فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب ح 2 ص 401.

[29] المصدر السابق ح 13.

[30] سورة النحل الآية رقم 125.

[31] الميزان ج 12 ص 371(بتصرف).

[32] الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل ح 15 ص 23.

[33] الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب آخر منه ح 3 ص 45.

[34] غيبة النعماني الباب الأول ما روي في صون سر آل محمد ح 2 ص 34.

[35] بحار الأنوار ج 25 باب غرائب أفعالهم ح 1 ص 364.

[36] علم الإمام ص 411-468(بتصرف وتلخيص).