استقبال شهر رمضان المبارك

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
8
0
استقبال شهر رمضان المبارك

 

يتفق العقلاء على ضرورة أن يكون الإنسان حين إقدامه على أمر من الأمور خصوصاً المهمة منها، مستعداً لاستقبالها استعداداً تاماً بحيث يكون مهيئاً لأدائها بصورتها الكاملة، ولا يختلف حال شهر رمضان المبارك عن تلك الأمور المهمة في ضرورة الاستعداد له حين استقباله كي ما يتسنى للإنسان صيامه بصورة كاملة، ويكون محققاً للغرض المنشود، ويكون الاستعداد لاستقباله من خلال توفر أمور عند الإنسان المؤمن قبل قيامه بصيامه، ويمكن حصر ذلك في خصوص محطات أربع:

الأولى: البناء الفقهي.

الثانية: البناء المعرفي، وهو يشمل الجانبين الفكري والثقافي.

الثالثة: البناء الروحي.

الرابعة: البناء العملي.

 

ولا يخفى أن حصول الاستعداد التام لاستقبال الشهر الكريم إنما يكون بتوفر هذه البناءات الأربعة، ففقدان واحدة منها، يوجب عدم تحقق الاستعداد المطلوب لاستقبال الشهر الكريم، ومن ثمّ يؤدي إلى عدم الاستفادة منه بالصورة المطلوبة.

 

البناء الفقهي:

والمقصود من البناء الفقهي، أن يملك الإنسان الإحاطة بالمسائل الفقهية المرتبطة بالصوم وأحكامه، لأن الصوم كما هو معلوم عبادة محكومة بمجموعة من الأحكام الفقهية، فمن أراد أن يصوم صوماً صحيحاً وفق الإرادة الإلهية، لابد وأن يملك الإحاطة والثقافة الفقهية.

كيفية البناء الفقهي:

وتكون عملية البناء الفقهي على محورين:

الأول: قضاء ما فات من صيام في السنة الماضية، فقد يعذر المكلف رجلاً كان أو امرأة لأي سبب من الأسباب فيفوته الصوم في شهر رمضان كاملاً أو بعض أيامه، ويلزمه القضاء، وربما لزمته الكفارة أيضاً، فيكون مطلوباً بأداء ذلك قبل حلول شهر رمضان الجديد على تفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني: الإحاطة بأحكام الصوم الرمضاني، من شرائط وجوب وشرائط صحة، ومعرفة المفطرات، وغير ذلك.

 

غرض البناء الفقهي:

ومن الواضح أن الغرض من البناء الفقهي، هو الوصول إلى أداء صوم صحيح مستجمع لكافة أسباب الصحة، فإن معرفة المفطرات مثلاً سبب رئيس لامتناع الانسان عنها واجتنابها، ما يؤدي إلى صحة صومه. كما أن وقوف الإنسان على كون السفر مثلاً مانعاً من صحة الصوم سبيل إلى الاتيان بصوم صحيح وهكذا.

وبالجملة، إن الإحاطة والدراية الفقهية عامل رئيس لصحة الصوم العبادي، والصوم كما هو معلوم واحد من العبادات.

 

سبيل البناء الفقهي:

ويكون البناء الفقهي كما عرفت من خلال الإحاطة بالفتاوى الشرعية لمرجع التقليد، ويتم ذلك من خلال مجموعة من القنوات يمكن الإشارة إلى شيء منها بصورة موجزة:

الأولى: حضور الدروس الفقهية، والتي تلقى عادة في المساجد، أو في الحسينيات وعلى المنابر، ويكون موضوعها الصوم وأحكامه.

الثانية: الاستفادة من بعض منصات التواصل الاجتماعي، بل يمكن الاستفادة اليوم حتى من الشاشة الفضية وما يعرض خلالها من دروس في هذا المجال.

الثالثة: حضور مجالس أهل العلم والعلماء، والسؤال منهم والاستماع لما يعرضونه في مجالسهم في خصوص هذا الجانب.

 

الرابعة: القراءة في أحكام الصوم إذا كان المكلف يملك القدرة على معرفة الأحكام الشرعية بنفسه دون حاجة منه إلى الاستعانة بمعلم كطالب علم مثلاً.

وما ينبغي التأكيد عليه، هو ضرورة رفع عامل الحياء والخجل في السؤال، فلا ينبغي أن يكون ذلك مانعاً للمكلف من السؤال والاستعلام، فإن جعل الخجل حاجزاً ومانعاً من الإقدام على ذلك، قد يكلفه شيئاً كثيراً مثل فساد صومه، وعدم صحته، أو عدم قبوله.

 

البناء المعرفي:

من الناحية الفكرية، والثقافية، والمقصود من البناء المعرفي، عبارة عن سعي الصائم قدر المستطاع من أجل الإحاطة والدراية لفهم مضامين الصوم ومعطيات هذا الشهر المبارك، ويكون ذلك من خلال الإحاطة بعلة الصوم أو الإحاطة بحكمته، والوقوف على الأهداف الكبرى والعظمى، سواء كان ذلك لخصوص فريضة الصوم أم كان ذلك لشهر رمضان المبارك، فإن من المعلوم أن هناك أهدافاً وغايات لشهر رمضان أرادها الشارع المقدس، ويرغب حصولها من الصائمين، مثل رضا الله سبحانه وتعالى، والقرب منه عز وجل، وتحصيل غفرانه ومغفرته.

ومن الواضح أن ما ذكرناه لا ربط له بالبعد الفقهي من قريب أو بعيد، وإنما هو يرتبط بالجانب المعرفي الذي ينبغي حصول الصائم عليه.

 

أهمية البناء المعرفي:

ثم إن الداعي إلى التنويه على هذه المحطة هي الحالة التي تحصل لبعض الصائمين، فإنهم قد يتوفرون على البناء على الفقهي، بل يملكون الاستعداد التام في هذا الجانب، إلا أنهم يغفلون عن البناء المعرفي، فتجدهم مع امتناعهم عن المفطرات المعروفة يقدمون على فعل بعض المحرمات، لعدم مانعيتها عن صحة الصوم، مع أن هذا يتنافى والأهداف الكبرى والعظمى، سواء كان ذلك لفريضة الصوم، أم كان ذلك لشهر رمضان المبارك.

 

فوظيفة البناء المعرفي للصائم تفيد في رفع مستوى الوعي لديه بفريضة الصوم من جهة، وبأهمية شهر رمضان المبارك من جهة أخرى، ما يعني وجود اختلاف بين الصائمين، فمن يكون صومه عن وعي ومعرفة بفريضة الصوم وعظمة الشهر الكريم، يختلف عمن يكون صومه فاقداً لذلك.

ولا يختص ما ذكرناه من ضرورة وجود وعي معرفي بالعمل العبادي بخصوص صوم شهر رمضان المبارك، بل إن هناك حاجة لوعي ومعرفة لكل عبادة يمارسها الإنسان، فيحتاج وعياً معرفياً للصلاة، كما يحتاج وعياً معرفياً للخمس، وللحج، وهكذا، لأن امتثال العبادة عن وعي يختلف عن امتثالها من دون ذلك، فالمصلي عن وعي تختلف صلاته عن المصلي دون ذلك، فهو يفهم هدف الركوع، وهدف السجود، والتكبير والسلام، وما شابه ذلك.

وذات هذا المعنى ينبغي العناية به حين الذكر وقراءة القرآن الكريم خصوصاً خلال شهر رمضان المبارك، ولهذا نجد أهل المعرفة يقسمون الذاكرين والتاليـن للقرآن الكريم إلى مستويات.

 

وسائل البناء المعرفي:

وبعد الإحاطة بأهمية الاستعداد المعرفي للصائم، لابد من معرفة الوسائل والسبل التي يمكنه من خلالها وبواسطتها تحصيل ذلك، ويمكن الإشارة لبعضها:

أحدها: القراءة والمطالعة:

فإن هناك بعض الكتب والمقالات التي تتحدث عن فضل الصيام، ومضامينه، ومفاهيمه، وفكره وثقافته، ينبغي على الصائم مطالعتها قبل حلول شهر رمضان المبارك، فإنها كفيلة في رقي مستوى الوعي المعرفي لدى الصائم بأهداف الصوم وأهداف الشهر المبارك.

 

ثانيها: حضور المحاضرات:

والتي يصب موضوعها في هذا الجانب[1]، بل يمكن لكل رب أسرة وانطلاقاً من مسؤوليته الدينية عقد محاضرات خاصة بأسرته وفي بيته لخصوص عياله ومن يهمه شؤونهم، فيدعو أحد علماء الدين ليلقي محاضرة في البناء المعرفي حول شهر رمضان المبارك، ويتحدث عن التوبة والاستغفار، ويتصدى للإجابة على أسئلة أفراد الأسرة سواء في الجانب المعرفي للصوم ولشهر رمضان المبارك، أم في الجانب الفقهي بما يكون مرتبطاً به.

 

ثالثها: حضور مجالس أهل العلم:

للاستماع إليهم، والسؤال منهم في هكذا مجال، لما في ذلك من النفع والفائدة، وتكون الاسئلة منصبة حول مضامين الصوم وأهدافه، والغايات المرجوة من شهر رمضان المبارك.

وقد تضمنت النصوص مدى أهمية الحضور في هكذا مجالس تكون منطوية على العلم والمعرفة، فقد جاء رجل من الأنصار إلى النبي(ص) فقال: يا رسول الله، إذا حَضَرَتْ جنازة أو حضر مجلس عالم، أيهما أحب إليك أن أشهد؟ فقال رسول الله(ص): إن كان للجنازة من يتبعها ويدفنها، فإن حضور مجلس العالم أفضل من حضورك ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيام ألف يوم.

 

وفي الحديث السابق وقفتان مهمتان جديرة بالبحث والعناية:

الأولى: إن تقديم تشيـيع الجنازة مخصوص بما إذا لم يكن هناك من يقوم بتجهيزها، لأن الوجوب عندها عيني على المكلف.

الثانية: إنه متى كان الوجوب كفائياً بتوفر من يقوم بعملية التجهيز، فإن حضور مجلس العالم مقدم على تشييع الجنازة.

ولم يكتف(ص) بأفضلية حضور مجلس التوعية والفكر والمعرفة والثقافة، بل ذكر أن هذا الحضور أفضل من تشيـيع ألف جنازة، ومن عيادة ألف مريض، ومن قيام ألف ليلة، ومن صيام ألف يوم[2].

 

البناء الروحي:

ويقصد من البناء الروحي، توفر أمرين عند الصائم:

أولهما: الاخلاص وصفاء النية:

ويكون ذلك بتنقية القلب داخلياً، وهو شرط في صحة العمل، فإن أي عمل يأتي به المكلف فاقداً الاخلاص لله سبحانه وتعالى، بل يكون طلباً لرياء أو سمعة، يكون باطلاً، فلو صام الصائم رياء مثلاً كان صومه باطلاً لفقدانه شرطاً من شرائط صحة الصوم.

ثانيهما: إزالة الشوائب والكدورات من القلب:

وذلك بتنقيته من كل ذلك، فيكون نقياً من كل نفاق وغش وغل، وحقد وحسد وضغينة، ويشير لهذا المعنى ما جاء عن رسول الله(ص) في خطبته الشعبانية في استقبال شهر رمضان المبارك، قال: فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه.

 

والحاصل، إن فقدان الاستعداد الروحي للصائم، مانع عن تحصيله أهداف الصوم، والتي منها:

1-رضا الله سبحانه وتعالى.

2-القرب من الله عز وجل.

3-المغفرة.

يقول النبي الأكرم محمد(ص): فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

ومن خلال ما تقدم، يتضح أن الغاية من تحصيل الاستعداد الروحي وسبب العناية والاهتمام به هو حصول قبول الصوم، لأن الصوم قد يكون صحيحاً لتوفر البناء الفقهي، إلا أنه لا يكون مقبولاً لفقدان البناء الروحي، فوجود البناء الروحي سبب رئيس لحصول قبول العمل، وهو الصوم.

 

وسائل البناء الروحي:

وكما كانت هناك وسائل يحصل من خلالها على البناء الفقهي، والبناء المعرفي، فإن هناك وسائل أيضاً يمكن من خلالها تحصيل البناء الروحي، نشير لبعضها:

منها: المراقبة الذاتية للنفس:

ويكون ذلك من خلال قانون المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، ولا أظن أننا بحاجة للحديث عن هذه العناوين لوضوحها. نعم ما ينبغي التأكيد عليه هو ضرورة قيام الإنسان بمحاسبة نفسه دائماً وأبداً، وعدم التواني في ذلك بعدما يكون قد اشترط عليها، وأخذ في مراقبتها في ما اشترط عليها.

 

ومنها: حضور الدروس الأخلاقية والتربوية:

وذلك من خلال التواجد في المحاضرات التي تحمل هذه السمة والخصوصية[3].

ومنها: قراءة الكتب الأخلاقية والمعنوية:

والتي تعنى بتهذيب النفس وتربيتها، ومن أفضل وأجمل ما يقرأ في هذا المضمار، أحاديث المعصومين(ع)، في باب جهاد النفس، ومن الكتب النافعة في هذا المجال كتاب وسائل الشيعة[4]، فيمكن قراءة كتاب جهاد النفس الوارد فيه، والانتفاع منه.

 

البناء العملي:

وآخر محطات البناء لاستقبال شهر رمضان المبارك، محطة البناء العملي، ويكون هذا البناء جراء الإقلاع التام والكامل عن جميع الذنوب والمعاصي والامتناع عنها. وهذا لا يكون إلا من خلال التـزام الإنسان بالتوبة النصوح.

ولا يبعد البناء على وجود علاقة ولو في الجملة بين البناء الروحي والبناء العملي، إذ يصعب توفر البناء الروحي دون حصول البناء العملي. نعم الظاهر أنه لا يتوقف البناء الفقهي أو البناء المعرفي على وجود البناء العملي، لأن البنائين الفقهي والمعرفي عاملان نظريان ولو في الجملة، بخلاف البنائين الروحي والعملي، فإنهما عاملان عمليان، وهذا يستدعي وجودهما في الخارج.

 

وعلى أي حال، يكفي في مقام التعريف وبيان المقصود لحقيقة البناء العملي، أنه التوبة، ولكن ليس مطلق التوبة، وإنما خصوص التوبة النصوح، وهي التي يشير إليها قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً). فالتوبة شرط لحصول البناء الروحي، وهو شرط لقبول الصوم، فتكون التوبة شرطاً لقبول الصوم أيضاً، فقبول كل عمل عبادي سواء كان الصلاة أم الصوم، أم الحج أم الخمس، أم الصدقة، متوقف على وجود التوبة النصوح عند الإنسان.

ولذا يحتمل أن يكون المقصود من المتقين في قوله تعالى:- (إنما يتقبل الله من المتقين)، يعني التائبين.

 

شرائط التوبة النصوح:

وبعد الإحاطة بحقيقة البناء العملي، وأنه عبارة عن التوبة النصوح، لابد وأن تُعرف مقومات هذا النحو من أنحاء التوبة، فإن قوامها شرائط أربعة:

الأول: اخلاص التوبة لله سبحانه وتعالى:

فلا يكون للتائب من إقدامه عليها شيء آخر غير رضا الله سبحانه وتعالى، فليس دافعه لذلك مال أو مكانة اجتماعية أو زوجة أو غير ذلك.

والداعي للتأكيد على أهمية هذا العنصر هو تفاوت أغراض الناس في إقدامهم على التوبة، فإنهم ليسوا سواسية، إذ أن دوافع بعضهم دنيوية فيكون غرضه من الاقدام على التوبة هو الوصول لذلك الغرض الدنيوي، وليس قصد وجه الله تعالى. ومثال ذلك حال بعض الناس في إظهاره التوبة والصلاح في وسط الناس، والمجتمع، إلا أن واقعه على خلاف ذلك، فهو حينما يكون بين الناس تجده نموذجاً حسناً للمتدين والتائب قولاً وعملاً، إلا أنه حال خلا لنفسه مع ربه تجده شخصاً مختلفاً. ولا ريب في عدم انطباق عنوان التوبة النصوح عليه.

 

الثاني: الندم على ما فعله من ذنوب ومعاصي:

والظاهر أن الندم لا يتحقق بمجرد الإقلاع عن المعاصي والذنوب والامتناع عنها، بل هو حالة أعلى من ذلك، إذ هو الألم والوجع القلبي عند المذنب بعد فعله الذنب والمعصية، فحتى يكون الإنسان نادماً لابد وأن يكون متألماً ومتوجعاً، لأن الانسان قد يترك المعصية إما لعدم قدرته على فعلها، أو لخوفه ممن حوله لو أتى بها، فلا يكون تركه المعصية حينئذٍ ندماً، لأن قلبه لا زال آنساً بالمعصية وراغباً فيها. فحتى يكون الإنسان نادماً لابد وأن يصاحب الاقلاع عن المعصية وتركها، حالة من التوجع والالم يعيشها النادم على ما فعل وأقدم.

فالنادم هو الذي يعيش الحسرة والغليان الداخلي تجاه المعصية، يعيش الاستنفار ضد الخطيئة، يتألم بسبب ما ارتكب من الذنب، وفعل من الخطيئة، يفكر كيف أنه استمر مدة من الزمن يفعل هكذا فعل، ويأتي بهكذا عمل، وهذا كله دليل كاشف عن صدق التوبة.

 

الثالث: العزم والقرار على عدم العود إلى ذلك أبداً:

وذلك بأن يتخذ قراراً بترك الذنوب والمعاصي وعدم الاتيان بها مرة ثانية حتى نهاية عمره وحياته، فهو لا يتوب توبة مؤقتة، بل توبة دائمية، لأن التوبة التي يحكمها زمان ما، ووقت محدود لا تعدّ توبة حقيقية، وربما استظهر هذا المعنى مما ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ. فإن مقتضى المقابلة بينهما يفيد أن المقصود من التائب فيه هو الذي عزم على عدم العودة إلى ذلك مرة ثانية. كما أن مقتضى قوله(ع): كمن لا ذنب له، وإن كان حصول غفران ذنوبه كلها التي صدرت منه، إلا أن ذلك ليس على إطلاقه، لأن ذنوب الناس وكما هو معلوم نوعان، بعضها مربوط بحقوق الله تبارك وتعالى، وبعضها مربوط بحقوق الناس، وما يغفر ويعفى عنه ويزال من صفحة أعمال الإنسان بالتوبة النصوح هو خصوص النوع الأول منها، والذي يكون مربوطاً بحقوق الله عز وجل، وأما يرتبط بحقوق العباد، فسوف تأتي الإشارة إليه إن شاء الله حال الحديث عن الشرط الرابع من شرائط البناء العملي.

 

وكيف ما كان، فقد وصف الإمام الباقر(ع) التائب غير العازم على الامتناع عن الذنوب والمعاصي بالمستهزئ بالله تعالى، لأنه يقول: استغفر الله ربي وأتوب إليه، إلا أنه ليس صادقاً في هذه المقولة، وليس جاداً فيها.

 

الرابع: تدارك ما فرط الإنسان فيه:

ويبقى السؤال المهم دائماً حين الحديث عن التوبة: كيف يمكن للإنسان أن يتدارك ما فرط فيه؟ وقبل الجواب عن ذلك، لابد من الالتفات إلى أنه ليس كل ما فرط فيه الإنسان قابل للتدارك، فإن بعض الأمور كما سوف يتضح مما لا تدارك فيها.

وعلى أي حال، حتى يجاب عن السؤال المرتبط بكيفية تدارك الإنسان ما فرط فيه، لابد وأن يعرف أنواع التفريط أولاً، فإن التفريط الحاصل من المذنب ليس نوعاً واحداً، بل هو نوعان:

 

الأول: ما يكون مرتبطاً بحقوق الله سبحانه وتعالى:

وهذا له مصداقان، فإن التعدي على الحقوق الإلهية، قد يكون بمخالفة الواجبات الصادرة من الله تعالى لعبده، بترك امتثالها وأدائها، فالصوم واحد من الواجبات التي أمر العبد بامتثاله وأدائه من قبل الله سبحانه وتعالى، فإذا عمد العبد إلى تركه وعدم فعله، وتجاهر بالإفطار في نهار شهر رمضان المبارك، كان متعدياً على الحق الإلهي المرتبط بالواجبات. ومثل ذلك ما لو ترك أداء الصلاة، وكذا لو عمد إلى عدم أداء الخمس وسداده، وهكذا.

وقد يكون بمخالفة العبد لنواهي ربه بفعله المحرمات التي قد نهي عنها، بأن يستمع إلى الغناء والموسيقى، أو يلعب بأدوات القمار ولو للتسلية، أو يقوم بالغيبة أو النميمة أو السباب والشتم وما شابه ذلك.

والفرق بين المصداقين، أن الأول منهما يمثل تركاً لفعل واجب، بينما الثاني منهما يعدّ فعلاً لعمل ممنوع منهي عنه.

 

تدارك الحقوق الإلهية:

ولا يخفى أن المصداقين ليسا على مستوى واحد من حيث التدارك، ذلك أن ما يمكن تداركه هو خصوص المصداق الأول منهما دون الثاني، فإن الثاني لا مجال لأن يتدارك، فإن من استمع إلى الغناء والموسيقى، ليس له من سبيل لتدارك ذلك بتعويض ما ضيع وفوت، إلا من خلال الاجتناب والقرار بعدم العود، وهذا ليس تداركاً كما هو واضح، وإنما هو تحقيق للشرط الثالث من شرائط التوبة النصوح، ولذا قلنا قبل قليل بأن هناك تفصيلاً في التعدي على النوع الأول من أنواع الحقوق، أعني الحقوق الإلهية.

نعم حتى تستقر التوبة النصوح وتستكمل، على التائب ممارسة الواجبات والطاعات والإكثار من فعل الحسنات.

 

نعم لا ريب في ضرورة التدارك لما فرط في خصوص المصداق الأول، وهو الواجبات الإلهية التي ضيعها، وهو محصور في خصوص شيء واحد، لا يحصل التدارك إلا من خلاله، وهو الاتيان بكل ما فرط الإنسان فيه وتركه، فإن تدارك الإنسان التارك لصلاته مدة من الزمن، لا يكون إلا بقيامه بقضاء الصلوات التي تركها ولم يصلها، وكذلك من لم يخرج الحق الشرعي من أمواله، فإن طريقه لتدارك ما فاته يكون من خلال إخراج ما تعلق بذمته من الخمس، ومثل ذلك من أفطر في نهار شهر رمضان المبارك، لابد وأن يقضي الأيام التي أفطر فيها حتى يكون قد تدارك ما فاته من الواجبات والطاعات.

 

ومن هنا يتضح أن هذا المصداق من التفريط لا يكتفى في تداركه بمجرد التوبة والندم والعزم على عدم العود لهذه الذنوب مرة أخرى، بل لابد وأن ينضم إليها تدارك ما فاته من الطاعة والواجب.

 

مقابلة الشيء بنقيضه:

ولعل خير علاج لمن أبتلى بالتفريط في الحقوق الإلهية سواء ما كان مرتبطاً بالمصداق الأول منهما أم ما كان مرتبطاً بالمصداق الثاني، هو مقابلته بنقيضه، حتى يتسنى له التخلي عنها واجتنابها، فمن اعتاد على الاستماع للغناء والموسيقى مثلاً يمكنه تعويض ذلك بالاستماع لقراءة القرآن الكريم، والأدعية والمناجاة، والمجالس الحسينية. ومن كان مبتلى بالنظر إلى المحرمات، عليه أن يطيل النظر في الكون الرحب الواسع، ويتأمل ويتفكر في مخلوقات الله سبحانه، فإن ممارسة هكذا أمور كفيلة أن يترك المفرط ما فرط في هذا النوع، ويعود لله تعالى إن شاء الله.

 

الثاني: ما يكون مرتبطاً بحقوق الناس:

ويعدّ هذا النوع من التفريط أصعب من النوع السابق، وتعتبر ذنوبه وهي التي ترتبط بحقوق العباد أخطر من ذنوب النوع الأول والتي ترتبط بحقوق الله سبحانه وتعالى، ومنشأ صعوبتها وخطورتها أن النوع الأول يمكن غفرانه بمجرد تحقيق موجبات التوبة، والله تبارك وتعالى هو صاحب الحق، وهو عفوٌ غفور، إلا أن النوع الثاني من التفريط مربوط كما عرفت بالعباد، وحتى تحصل التوبة منه لابد وأن يحرز رضا صاحب الحق من العباد بما فرط في حقه، وتعدي عليهم، فلا توبة لزوجة فرطت في حق زوجها ما لم يرض الزوج بذلك، كما لا توبة لزوج فرط في حق زوجته ما لم ترض الزوجة بذلك، وهكذا بقية الناس الذين يتعدى على حقوقهم.

أصناف حقوق الناس:

ويمكن تصنيف حقوق الناس التي يتعدى عليها ويفرط فيها إلى صنفين:

 

الأول: ما يكون مرتبطاً بالأموال:

ويكون من خلال طرق متعددة، إذ يمكن أن يكون ذلك حال الصبا ومرحلة الطفولة، كما يمكن أن يكون ذلك في فترة البلوغ الأولى، ويمكن أن يكون بعد أن يصبح الإنسان شاباً، أو كهلاً، بل ربما عجوزاً. وتحصل عملية التعدي على الحقوق المالية للآخرين بسبل متعددة، إذ يمكن أن يتسلط عليها الإنسان بالسرقة، كما يمكن أخذها من خلال الحيلة والخديعة، بل يكون ذلك من خلال الاستدانة والعمد إلى عدم سداد الدين، وغير ذلك من سبل.

والحاصل، إن المقصود من التعدي على الحقوق المالية للآخرين، أن يتسلط الإنسان عليها من دون وجه حق من قريب أو بعيد.

 

تدارك الحقوق المالية:

ويكون تحقيق التوبة بتدارك الحقوق المالية برد تلك الأموال المأخوذة من أصحابها إليهم، فالإنسان الذي استدان من شخص ولم يرجع إليه أمواله، يلزمه حتى يتدارك ما فرط فيه القيام بأداء ذلك الدين إلى صاحبه، وكذا من سرق مال شخص يجب عليه إرجاعه، بل حتى ما أتلفه الإنسان في مرحلة البلوغ الأولى أو حال الصبا والطفولة من أموال الناس، عليه أداؤه وسداده ودفعه.

نعم ربما يتعذر على الإنسان ذلك أحياناً بسبب حرج أو موت صاحب المال أو عدم معرفته، وعلاج ذلك مذكور في الفقه وهو خارج عن محل الكلام.

ولا يسقط لزوم التدارك بمجرد عجز الإنسان عن الأداء، بل يلزمه حينئذٍ طلب الاستحلال من صاحب المال، وأن يسامحه.

 

ولابد هنا من الاكثار من الطاعات وزيادة الحسنات، والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى طلباً لمرضاته وغفرانه.

ثم إن الداعي للإصرار دائماً على ضرورة زيادة الحسنات والطاعات، هو التحسب لما سوف يكون في يوم القيامة في عرصة المحشر حيث توفى الحقوق، فيأتي كل شخص يطالب بحقه، ويعطى عندها من حسنات غريمه، فهذا يأخذ وذاك يأخذ، وهكذا، وحتى يجد الإنسان نفسه بصحيفة أعمال خالية بيضاء من كل عمل، فعليه أن يضاعف جهده في الدنيا حتى يكون ذلك سبيل النجاة في الآخرة.

 

الثاني: ما يكون مرتبطاً بالأعراض:

وهو التعدي الذي يكون في عرض الناس سواء بشتم، أم بقذف أم ببهتان، أم بغيبة أم نميمة، أم غير ذلك، فقد يحصل أن يقوم شخص يوماً بإسقاط فلان من المؤمنين، أو غيبته، أو النميمة عليه.

وطريق التوبة من هذا يكون بأحد أمرين على نحو الطولية:

الأول: قيامه بعملين معاً:

 

أحدهما: تكذيب نفسه فيما قال:

لما كان المتعدي على عرض الآخر قد أقدم على هتك عرضه أمام جمع من الناس بالباطل، سواء كان ذلك بغيبة، أم كان ذلك ببهتان، أو نميمة مثلاً أو إسقاط مكانة وقيمة اجتماعية، وجب عليه وفي محضر هؤلاء الناس أن يقوم بتكذيب نفسه في كل ما نسب إليه ووسمه به.

ثانيهما: طلب الاستحلال:

وذلك بأن يقصد الشخص الذي تعدى عليه ويطلب الاستحلال منه وإبراء ذمته.

 

الاكثار من الاستغفار لصاحب الحق:

ومع عدم إمكانية تحقق هذا الأمر، كما لو كان الشخص المعتدى على عرضه ميتاً، أو يصعب الوصول إليه، أو يصعب على المعتدي أن يقوم بتكذيب نفسه لما في ذلك من هتك لحرمته مثلاً، يلجأ للأمر الثاني منهما، وذلك بالقيام بالإكثار من الاستغفار لصاحب الحق المعتدى عليه، والندم على ما فعل واللجوء إلى الله تعالى، وأن يسأل الله تبارك وتعالى أن يرضي عنه أصحاب الحقوق التي عليه يوم القيامة، فلا يطالبونه بها، لأن المعتدى عليه متى رأى صحيفة أعماله يوم القيامة مشتملة على أعمال لم يقم بها، جاءته من هذا الشخص الذي اعتدى عليه، فإنه سوف يسامحه، ويحلله ويبرأ ذمته.

 

ولا مانع أن يلتـزم الإنسان بالأمرين معاً خصوصاً الثاني منهما، ولو لفترة من الزمن[5].

————————————————————–

 

  

 

 

[1] ومما يؤسف له أنه أصبحنا اليوم نفتقد مثل هذه المحاضرات، أو لم تعد موجودة بالصورة المطلوبة، مع ما لها من أهمية في عملية التنمية في الفكر والثقافة، فحبذا لو تعاد، ويكون هناك موسم بعنوان الاستعداد لاستقبال شهر رمضان المبارك، يتبناه مجموعة من أحبتنا الشباب الذين يملكون وعياً وفكراً وثقافة.

[2] ولا مجال للمناقشة في مدلول الخبر المذكور بضعف سنده، لأنه منقول في كتاب روضة الواعظين للفتال النيسابوري، وذلك لأن مثل هذا المضمون يمكن تحصيله من نصوص أخرى معتبرة، وإن لم تكن دالة على المطلوب بمثل دلالته، إلا أنها متوافقة وإياه في الروح، وهذا كافٍ للبناء على حصول الوثوق العقلائي لدخول الخبر دائرة الحجية.

[3] ما أحوج المجتمعات الإسلامية دائماً وأبداً لمثل هذه المحاضرات لما توجبه من تجديد في الروح والنفس الإنسانية، وتقوم به من تطهير، بل غسيل لها، وتجدد علاقتها مع الله عز وجل.

[4] طبع أخيراً كتاب جهاد النفس من وسائل الشيعة مستقلاً عن موسوعة الوسائل في مجلد واحد مستقل يسهل تناوله وحمله.

[5] نفحات رمضانية ص 53-127(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة