تفويض الدين(2)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
146
0

تفويض الدين(2)

 

ومنها: قوله تعالى:- (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد)[1]، فإن المستفاد منها أن جميع ما لدى رسول الله(ص) مصدره الوحي، فلا يصدر شيء عنه(ص) من عند نفسه مستقلاً عن الله تعالى.

وهي كسابقتها في كونها أجنبية عن المقام، أولاً: إن أقصى ما تدل عليه أنه(ص) يوحى إليه، ولا دلالة فيها لعدم ثبوت حق التفويض له(ص)، فإنه لا منافاة في كونه يوحى إليه، وثبوت حق التفويض له(ص) في نفس الوقت.

ثانياً: إن ظاهر الآية الشريفة سيما بملاحظة توصيف نفسه الشريفة بالبشرية إما الرد على المشركين الذين طالبوه بخوارق العادات كيما يثبت أنه نبي مرسل فيصدّق، أو يكون من الملائكة.

 

ومنها: قوله تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)[2]. وتقريب الاستدلال بها من خلال التمسك بأداة العموم الواردة فيها وهي كلمة(كل)، فإن مقتضاها أن كل شيء موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى، دون استثناء، فهو يشتمل على ما يرتبط بالعلوم الدنيوية من الطب والهندسة وغير ذلك، وما يرتبط بالعلوم الأخروية أيضاً. وهذا يوجب الاستغناء عن أن يقوم النبي(ص)، أو الإمام المعصوم(ع) بجعل شيء من التشريعات والأحكام، لأن التبيان هو التوضيح لما يستلزم البيان والشرح، ومن المعلوم أن الشيء الواضح بذاته لا يحتاج لما يبينه ويوضحه، وإلا كان فضولاً وثرثرة في الكلام لا حاجة إليها.

 

ويساعد على هذا المعنى جملة من النصوص الواردة في بيان دلالة الآية المباركة:

منها: ما رواه مرازم، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وقد أنزله الله فيه[3].

ومنها: ما رواه عمر بن قيس، عن أبي جعفر(ع) قال: سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبينه لرسوله(ص)، وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً[4].

ودلالة النصين المذكورين على المدعى جلية واضحة، حيث تضمنا احتواء القرآن الكريم على كل ما يحتاجه الناس، من دون فرق بين شيء وشيء، وهذا يعني عدم حاجة الأمة أن يجعل المعصوم(ع) شيئاً لعدم وجود نقص في البين.

 

على أنه يمكن الاستناد أيضاً إلى النصوص التي تضمنت تصريح الإمام(ع) أنه يعلم كل شيء مما يحتاجه الناس، لوجود ذلك في كتاب الله، وهذا يعني أن الكتاب الكريم يحوي كل شيء، وأنه لا يوجد شيء إلا وقد تضمنه:

ففي معتبرة عبد الأعلى بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: قد ولدني رسول الله(ص)، وأنا أعلم كتاب الله، وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة وخبر النار، وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي، إن الله يقول:- (تبياناً لكل شيء)[5].

 

ومن ذلك، ما رواه الحارث بن المغيرة، وعدة من أصحابنا منهم عبد الأعلى وأبو عبيدة وعبد الله بن بشر الخثعمي، سمعوا أبا عبد الله(ع) يقول: إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض وأعلم ما في الجنة وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون، قال: ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز وجل، إن الله عز وجل يقول:- (فيه تبيان كل شيء)[6].

 

وحتى تتضح دلالة هذه النصوص على المدعى، نمهد بمقدمة:

إن المذكور في الأبحاث الفلسفية أن للوجود الإمكاني عوالم كلية ثلاثة: عالم التجرد العقلي، وعالم المثال المنفصل، وعالم المادة والماديات. فالعالم العقلي مجرد تام ذاتاً، وفعلاً عن المادة وآثارها. وعالم المثال مجرد عن المادة دون آثارها من الأشكال والأبعاد والأوضاع وغيرها. وعالم المادة، لا يخلو ما فيها من الموجودات عن تعلق ما بالمادة وتستوعبه الحركة والتغير.

وهذه العوالم بعضها سابق على البعض الآخر وفق ترتيب وجودي لا يتغير، فالأول عالم العقل، ثم عالم المثال، ثم عالم المادة، وهذا الترتيب يجعل الأعلى واسطة الفيض لما تحته.

 

ولعل أوضح نص قرآني يدل على وجود عوالم متعددة قوله تعالى:- (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما نـنزله إلا بقدر معلوم)، فإن المستفاد منها أن كل ما هو موجود في عالمنا له وجود في تلك الخزائن، وتلك الخزائن متعددة، فكل شيء في عالمنا له مراتب ثلاث، وهي: مرتبة هذا العالم، ومرتبتان في تلك الخزائن، وجميع هذه الخزائن ليست في عالمنا المادي المشهود، بل هي من عالم آخر فوق عالمنا وهي أمور ثابتة غير زائلة لأنها عند الله.

ومن أهم التطبيقات للأصل المتقدم، والتي أشار إليها القرآن الكريم، هو القرآن الكريم نفسه، قال تعالى:- (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون* وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم)، فإنها تدل على أن القرآن لما كان عند الله تعالى كان أعلى من أن تناله العقول، أو يعرضه التقطع والتفصل، لكن عناية الله تعالى بعباده جعله كتاباً مقروءاً وألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى تعقله ومعرفته ما دام في أم الكتاب.

 

وهذا يعني وجود مراتب وجودية متعددة للقرآن الكريم، أدناها هذا الكتاب الذي بأيدينا، ويدل على هذه المرتبة الدانية من القرآن الكريم التي تستند إلى العالية قوله تعالى:- (وقراءناً فرقناه لتقرأه على الناس على مُكثٍ ونزلناه تنـزيلاً).

وقد تضمنت الآيات الشريفة ذكراً إلى نزول القرآن، فقال تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس)، والنـزول حسب المعنى اللغوي انحطاط من علو، فهل يعني ذلك أنه كان في مكان عالٍ ثم أنزله الله تعالى نزولاً مكانياً؟

 

إن الاحاطة بذلك تستدعي معرفة نحوين من النـزول والتنـزل قد استعملهما القرآن الكريم، لا ينبغي الخلط بينهما:

الأول: النـزول على نحو التجافي، وهو الذي يرتبط بعالم المادة فقط، ومن أهم خصائصه أن الشيء إذا كان موجوداً في الأعلى فهو غير موجود في الأسفل، وكذلك العكس، وقد أشار لهذا النحو من النـزول القرآن، فقال تعالى:- (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، يعني ترتفع عن الفراش.

الثاني: النـزول على نحو التجلي، وهو يتميـز بخصوصية أن الشيء المتنـزل لا يفقد وجوده في مرتبته السابقة بعد التنـزل، بخلاف النحو الأول وهو النـزول على نحو التجافي، ويمكن تقريب ذلك بمثال: لو كانت عند الإنسان فكرة في ذهنه، ثم قام بكتابتها في دفتر، فإن الفكرة قد تنـزلت من مرتبة وجودها في عقل الإنسان وصارت مكتوبة في الدفتر، ومن الواضح أن الفكرة في الوجود الذهني شيء، وهي في الوجود الكتبي شيء آخر، لكنها لما تنـزلت من مرتبة إلى مرتبة أخرى لم يفقد الانسان علمه بها، فهي لا تزال تحافظ على وجودها قبل التنـزل وبعده، عمدة ما كان أنها قد ظهرت في مرتبة أخرى من مراتب الوجود من دون أن تفقد مرتبتها السابقة.

ونزول القرآن الكريم بهذا النحو من النـزول، وهو النـزول على نحو التجلي، وليس النـزول على نحو التجافي.

 

وقد سميت المرتبة العينية التي هي الأصل والتي تنـزل القرآن فيها بأسماء، فتارة سميت بأم الكتاب، وأخرى بالكتاب المكنون، وثالثة باللوح المحفوظ، ورابعة بالكتاب المبين.

والمستفاد من قوله تعالى:- (حم والكتاب والمبين* إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، أن الكتاب المبين هو أصل القرآن العربي المبين الذي تنـزل منه القرآن العربي. وليس المقصود من الكتاب المبين معناه اللغوي والعرفي، وهو الذي يكون من سنخ الألواح والأوراق المادية، فإن هذا يرتبط بعالم المادة، أما الكتاب فإنه في نشأة أخرى فيكون مصداقه مختلفاً بسبب اختلاف النشأة.

 

خصائص الكتاب المبين:

ولهذا الكتاب المبين خصائص:

منها: اشتماله على كل شيء، فهو يشتمل على حدود الأشياء ويضبط جميع ما وقع في عالم الصنع والإيجاد مما كان ويكون وما هو كائن، وله مجموعة من الخصائص، أشار إليها بعض أعلام التفسير(ره) في طيات تفسيره، يمكن ملاحظتها.

ولا ريب ولا إشكال في إحاطة النبي الأكرم محمد(ص)، والأئمة الأطهار(ع) من بعده بما في الكتاب المبين، قال تعالى:- (إنه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون)، ومن المعلوم أن المقصود بالمطهرين في الآية هم خصوص من عنتهم آية التطهير.

 

ووفقاً لما تقدم، سوف تكون النتيجة أن الكتاب المنـزل على النبي محمد(ص) والذي ذكر في الآية محل البحث، وهي قوله تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، شاملاً لكل شيء صغيراً كان أو كبيراً، لأنه مطابق تماماً مع الكتاب المبين الذي عرفت أنه شامل لكل شيء، وبالتالي يثبت دلالة الآية المباركة على استيعاب القرآن الكريم لكل الأشياء، واحتوائه على جميع الأمور فلا يبقى حاجة لثبوت ولاية تشريعية للمعصوم(ع) حينئذٍ.

 

مناقشة دلالة الآية:

وقد تمنع دلالة الآية محل البحث على المدعى، وذلك:

أولاً: بمنع أن تكون أداة العموم الواقعة فيها وهي(كل) محمولة على العموم الاستغراقي، بل المقصود منها هو العموم المجموعي، فيكون مفادها هو الأعم، أو الأكثر، ويشهد لذلك استعمال القرآن الكريم إياها في عدة آيات في هذا المعنى.

ووفقاً لهذا المعنى سوف تكون الآية مختصة بكل ما يكون سبباً وموجباً لحصول الهداية إلى الناس، لأن القرآن الكريم لما كان كتاب هداية لعامة الناس بمقتضى قوله تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)، فيكون الظاهر من قوله تعالى:- (تبياناً لكل شيء) يعني تبيان كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية التي تتعلق بالمبدأ والمعاد والأخلاق الفاضلة والشرائع الإلهية والقصص والمواعظ، فهو تبيان لذلك كله.

 

وقد أشير لهذا المعنى في كلام غير واحد من المفسرين، فقد جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور التونسي بعد التسليم بدلالة كلمة(كل) على العموم الاستغراقي، إلا أنه حملها على العموم المجموعي بلحاظ فهم العرف ذلك بقرينة الهدف الذي من أجله تجئ الأديان والشرائع من إصلاح النفوس وإكمال الأخلاق وتقويم المجتمع المدني، وتبيـين الحقوق، وما تتوقف عليه الدعوة من الاستدلال على الوحدانية، وصدق الرسول(ص) وما يأتي من خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية، ووصف أحوال الأمم وأسباب فلاحها وخسارها، والموعظة بأثارها بشواهد التاريخ وما يتخلل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم. وقريب من كلامه أيضاً قال الشيخ الطبرسي(قده) في تفسيره مجمع البيان.

 

ومن ذلك أيضاً ما ذكره بعض الأعلام المعاصرين(حفظه الله)، فقد ذكر في تفسيره حال تفسير الآية محل البحث: التبيان بكسر التاء أو فتحها، له معنى مصدري، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بياناً لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم(كل شيء) ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع-على كافة الأصعدة المادية والمعنوية-إلى حال التكامل والرقي، يتضح لنا أن المقصود من(كل شيء) هو الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية…ألخ، وإنما القرآن دعوة حق لبناء الانسان، وصحيح أنه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم، وصحيح أنه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربوية، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الانسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول إلى رضوانه سبحانه.

 

ثم استعرض(دامت بركاته) نماذج تعرض لها القرآن الكريم، وإن كانت لا توجب الخروج عن النتيجة التي بنى عليها، وهي مقاربة جداً لكلام ابن عاشور من وجود قرينة حالية ومقامية توجب صرف كلمة(كل) عن ظهورها في العموم الاستغراقي.

وقد أشار(دام ظله) إلى أن استفادة هذه الرؤية من النصوص، واستشهد لذلك بنصوص، وهما ما رواه مرازم، وما رواه عمرو بن قيس اللذين تقدمت الإشارة إليهما.

لا يقال: بأن ملاحظة السياق القرآني للآية يمنع من كون المقصود من لفظة الناس المعاصرين لرسول الله(ص) من أهل مكة والمسلمين، بل المقصود بهم هم أهل الكتاب، الذين نزلت فيهم الكتب السماوية السابقة، واختلفوا وحرفوا فيها بعض ما جاء فيها.

 

ويساعد على هذا المعنى استعمال لفظة الناس في العديد من الآيات الشريفة بمعنى طائفة معينة، كما في قوله تعالى:- (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً)[7]، وقوله سبحانه:- (يوسف أيها الصدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون).

 

والحاصل، إن مفاد الآية الشريفة هو بيان الحق لأهل الكتاب بما تضمنته الكتب السماوية بسبب ما لحقها من تحريف منهم وتغيـير وإخفاء وكتمان لما جاء فيها من الحق.

فإنه يقال: بأن حمل لفظ الناس المذكور في قوله تعالى:- (وأنزلنا إليك الكتاب لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) ، على أهل الكتاب، لا يخرج عن كونه دعوى غير مبرهنة، فتكون عهدتها على مدعيها، لأن المراجع للآيات الشريفة، يجدها قد اشتملت في بعض الآيات على استعمال هذا المفهوم بمعنى الجماعة الكبيرة، قال تعالى:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً). على أن مجرد استعمال لفظة الناس في فئة أو جماعة كأهل الكتاب، لا يوجب تعينها دائماً وأبداً في تلك الجماعة.

 

ومنها: قوله تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[8]، فإن مقتضى كمال الدين بنص هذه الآية يكشف عن كونه مستوعباً لجميع وقائع الحياة، وملبياً لكل ما يحتاجه الإنسان. وهذا يعني عدم الحاجة إلى جعلٍ وتشريع يصدر عن المعصومين(ع)، وإلا لن يكون الدين كاملاً. ويؤيد هذا المعنى بل يدل عليه، ما جاء في خطبة الوداع فقد قال فيها رسول الله(ص): ما من شيء يقربكم من الجنة، ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه[9].

ويقوم الاستدلال بالآية المباركة على تحديد المقصود من كلمة الإكمال الواردة فيها، وقد ذكر في ذلك احتمالان:

الأول: أن يكون المقصود من الكمال فيها هو الشمول والاستيعاب، وهذا يجعل مفادها أن الدين مستوعب ومغطٍ لجميع وقائع الحياة، ومستوعب للواقع كله، وهذا يعني أنه ما من شيء من الأمور والموضوعات إلا وللدين فيه حكم وبيان.

الثاني: أن يكون المقصود من الكمال هو تمام الأجزاء الناقصة، فالدين لما كان مركباً من عدة أجزاء، ولم تُبلّغ جميع أجزائه، كان ناقصاً، ولما بُلّغ الجزء المتبقي منه، فإنه يكون قد كمل، لأنه قد التأمت جميع أجزائه.

ويختلف الاحتمال الثاني عن الأول، في عدم نظره إلى وقائع الحياة، ومستلزماتها، وما يجري فيها وما لا يجري، بل نظره إلى الدين في نفسه، ولذا لا علاقة له بأن الدين كان شاملاً ومستوعباً أم لم يكن.

وقد يقرر ترجيح الاحتمال الثاني، فيقال: بأن الظاهر من الآية هو بيان كمال الدين بتمام أجزائه الناقصة، فتكون الآية بصدد بيان أن الدين لم يكن قد كمل من قبل بالنسبة إليكم، واليوم قد حصل كماله، ولا ظهور فيها من قريب أو بعيد لكونه كاملاً يعني شاملاً لوقائع الحياة كلها.

 

ولعل منشأ ترجح الاحتمال المذكور هو الجمود على المعنى اللغوي لكلمة الكمال، ذلك أن من يرجع إلى كلماتهم يقف على أنهم يذكرون أن كمال الشيء يكون بتمام أجزاءه، وهذا يعني أنه كان ناقص الأجزاء، فكملت بحصول الجزء الأخير منها.

إلا أن الظاهر هو الاحتمال الأول، وهو كون المقصود من الكمال هو الشمولية والاستيعاب، وهو الموافق للمعنى اللغوي لمادة الكمال، فقد ذكر بعض الأعلام(ره): أن الأصل الواحد في المادة هو مرتبة بعد تمامية الأجزاء. وهو بهذا المعنى لن يكون مختلفاً عن التمام، لأن التمام يكون أيضاً بتمامية الأجزاء، ولذا أشار(ره) إلى أن موضوع الكمال هو الكيفيات، أما موضوع التمام فهو الكميات.

ووفقاً للتفريق المذكور، لن يكون الكمال بإضافة جزء ناقص، وإنما يكون بإضافة كيفية ناقصة، وواضح الفرق بينهما، ذلك أن الكيفية تنسجم مع النظم والقوانين والتشريعات، بخلاف الكمية، فإنها ناظرة إلى الأجزاء، ويساعد على ما ذكرنا، ما ذكره(قده) بعد ذلك حيث قال: وأن الكمال يتحقق بعد تمامية الأجزاء إذا أضيفت إليها خصوصيات ومحسنات أخر، فهو مرتبة بعد التمامية. فإنه صريح في الدلالة على كون الكمال مرتبة متأخرة بعد التمام، فإذا كان التمام يعني استكمال الأجزاء الناقصة، فلابد أن يكون الكمال شيئاً آخر غيره، وما ذلك إلا الشمولية والاستيعاب لكافة الوقائع والأمور والموضوعات، وهو ما يعني الاستغناء عن إضافة أي شيء إليه.

 

ولا ينحصر ما ذكر من بيان لحقيقة الكمال، والفرق بينه وبين التمام فيمن حكينا عنه ذلك، بل هو موجود في كلام غيره أيضاً، كمصباح اللغة، فقد جاء فيه: كمل إذا تمت أجزاؤه، وكملت محاسنه. وفي مفردات الراغب، فقد قال: كمال الشيء: حصول ما فيه الغرض منه.

ومن الواضح أن الغرض من الدين، هو تلبية الاحتياجات البشرية، فيكون مستوعباً وشاملاً لكافة وقائع الحياة.

 

مناقشة دلالة الآية:

وقد أشكل على دلالة الآية، بأمور:

أحدها: ما جاء في كلام بعض أعلام التفسير(ره)، وإن أختار في نهاية الكلام خلافه، من أن هناك قرينة خارجية توجب حمل لفظة الإكمال الواردة في الآية الشريفة على خلاف ظاهرها، وتلك القرينة هي ملاحظة الآيات التي تضمنت أحكاماً شرعية، قد نزلت بعد الآية محل البحث، كالآيات التي تتضمن حكم الربا، والآية الأخيرة من سورة المائة وما تضمنته من أحكام[10].

ثانيها: إن المقصود من الكمال المذكور في الآية ليس شمولية الدين واستيعابه لكافة الأمور، بحيث يكون مستغنياً عن إضافة أي شيء إليه، وإنما المقصود منه هو كفاية المسلمين الخوف من عدوهم، وإظهارهم عليه، فيكون معنى الآية: الآن قد كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد، فكفينا ما كنا نخافه[11].

 

وقد يؤيد التفسير المذكور بملاحظة سياق الآية، فقد وقعت بعد الإعلام بيأس الكافرين من الدين الحنيف، قال تعالى:- (اليوم قد يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون)، فهي تخبر بأن الكفار قد يئسوا من القضاء عليكم، وقد أصبحتم أمراً واقعاً لا يمكن إلغاؤه، فيكون الاخبار عن كمال الدين نتيجة طبيعية لبيان يأس الكفار، ويتعزز هذا المعنى أكثر بملاحظة نزول الآية في غدير خم وإعلان إمامة أمير المؤمنين(ع) وأنه الخليفة بعد رسول الله(ص)، لدلالة ذلك على أنه قد استحكم أمر المسلمين أكثر بمنصب الخلافة والولاية، فلا خوف عليهم بعد رحلة الرسول عن عالم الدنيا.

ثالثها: ما جاء في كلام غير واحد من المفسرين، كالفيض الكاشاني(ره)، من إنه لا منافاة بين دلالة الآية الشريفة على كمال الدين، وبين ثبوت السلطة والولاية التشريعية للمعصومين(ع)، لأن كمال الدين إنما تحقق بنصب أمير المؤمنين(ع) خليفة وولياً للمؤمنين بعد رسول الله(ص)، وهذا يستدعي أن تصدر عنه، ومن بعده عن أبنائه المعصومين(ع) مجموعة من التشريعات التي سوف تكمل الدين[12].

 

وبكلمة أخرى، إن كمال الدين لم يكن بتشريعاته، وبيان جميع أحكامه، وإنما حصل بنصب من سوف يتصدى لإكمال تلك التشريعات وجعلها. فالذي كمل ليس هو الدين بكل حيثياته وأجزائه، وإنما كمل من حيث مبادئه العامة، دون التفاصيل التشريعية، ومن مبادئه منصب الإمامة الذي جعل لأئمة الهدى(ع)، وجعل الحجية لهم، ويساعد وجود بعض الأحكام المخزونة عندهم، والتي لم تبين في حياة رسول الله(ص)، يبينوها هم للناس بعد وفاته، ويساعد على هذا المعنى ما ورد عنهم(ع) من قولهم: حديثي حديث أبي.

 

رابعها: إن كمال الدين يكون بجعل كل أجزائه، وما يرتبط به، لكن ذلك لا يستوجب إبلاغها، لأن الإبلاغ يتوقف على الظروف الموضوعية الملائمة، وهذا نظير القرآن الكريم، فقد قيل أنه قد نزل دفعة واحدة على قلب رسول الله(ص) ليلة القدر في شهر رمضان، إلا أنه لم يبلغ للمسلمين إلا نجوماً في كل مورد استدعى ذلك.

وعليه، فيكون الجعل والتشريع حاصلاً وموجوداً، إلا أنه لم يبلغ إلا في حينه، ومورده، من قبل الأئمة الأطهار(ع) فلا ينافى ذلك كمال الدين وتمامه.

 

 

[1] سورة الكهف الآية رقم 110.

[2] سورة النحل الآية رقم 89.

[3] أصول الكافي ج 1 ب الرد إلى الكتاب والسنة ح 1 ص 149-150.

[4] المصدر السابق ح 2 ص 150.

[5]المصدر السابق ح 8 ص 156، تفسير نور الثقلين ج 4 ح 182 ص 89.

[6] المصدر السابق ح 186 ص 90.

[7] سورة آل عمران الآية رقم 173.

[8] سورة المائدة الآية رقم 3.

[9] الكافي ج 2 ص 74.

[10] الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 174، جامع البيان ج 6 ص 107-108.

 

[11] التبيان ج 3 ص 435، مجمع البيان ج 3 ص 274، الكشاف ج 1 ص 593.

[12] الصافي ج 2 ص 10، التفسير الأصفى ج 1 ص 261.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة