مدخل:
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ووجه له جملة من التكاليف الإلزامية في جانبي الفعل والترك، وطلب منه أن يمثتل ذلك، فيفعل ما أمر بفعله، ويجتنب ما أمر بتركه.
ومن الطبيعي أنه لما كان هناك إلزام وتكليف، فذلك يستدعي أن لا يتساوى الناس من حيث الامتثال والعدم، بل إن القانون العقلائي يقضي أن يكون بينهم تفاوت، بحيث يحسن للمطيع، ويجازى المسيئ.
من هنا جاءت فكرة الجزاء بشقيه، جزاء الطاعة، وجزاء التمرد والمعصية، ولسنا بصدد الحديث عن جزاء الطاعة، فإن ذلك له مجاله، وإنما نشير إلى أنه قد تعددت الأساليب المستخدمة من سبحانه وتعالى في جزاء المعصية:
منها: ما يصيب الإنسان عقاباً في عالم الدنيا، من آلام ومحن وابتلاءات، وهو ما يعبر عنه عادة بالسنن الكونية، وارتباط العمل بالنـتيجة.
ومنها: ما يكون عقابه بالاستغفار.
ومنها: ما يكون عقابه بتعذيب الإنسان في عالم الدنيا جسدياً من خلال إقامة الحد أو التعزير أو القصاص عليه.
ومنها: ما يكون عقابه في عالم الآخرة، وليس في عالم الدنيا يوم يعرض الإنسان على الله سبحانه وتعالى في المحشر.
ومن العقوبات المجعولة جزاء من الشارع المقدس للمكلفين نتيجة مخالفتهم الكفارات، وهي على أنحاء:
لأنها قد تكون كفارات مالية، وهذا له مصاديق ثلاثة:
1-عتق رقبة.
2-إطعام جملة من المساكين.
3-كسوة جماعة من المساكين.
وقد تكون جسدية، وذلك بإتيان المكلف صياماً مدة زمنية مقررة.
وسوف يكون حديثنا حول هذه العقوبات المجعولة من قبل الشارع المقدس على جملة من المكلفين تداركاً لما فاتهم من عمل، أو عقاباً لما أوجده من خلل في العمل المطلوب منه إتيانه، أو إبطال العمل الملزم فعله.
تعريف الكفارة:
وينبغي قبل كل شيء العمد إلى بيان حقيقة الكفارة، والمقصود منه، فنقول:
أما بحسب اللغة، فالكفارة مأخوذة من مادة كفر، وهي تعني الستر والتغطية، ومنه سمي الكافر كافراً لأنه يستر الحق، وسمي الليل ليلاً لأنه يستر كل شيء بسواده، وسمي الزارع كافراً لأنه يستر الحب في الأرض، وهكذا.
والظاهر أنه في المصطلح الفقهي لم تخرج عن المقصود منها في المعنى اللغوي، حيث أنها عبارة عن ستر الذنوب والخطايا الصادرة من المكلف.
ومن المعلوم أن الستر قد يكون بإزالتها، كما قد يكون بتدارك النقص والخلل الحاصل فيها، وهكذا.
وعلى أي حال، فيمكن تعريفها في الاصطلاح الفقهي بأنها: الجزاء الثابت شرعاً على ارتكاب بعض الذنوب لسترها له في الجملة.
ونلاحظ أن التعريف المذكور أشار إلى أن الكفارة نحو من أنحاء الجزاء والمعاقبة الصادرة من الله تعالى لعبده للعمل الصادر منه، وهو ما أشرنا له في مطلع الحديث عند الكلام عن أنحاء الجزاءات الإلهية.
كما أن التقيـيد فيه (بالجملة) إشارة إلى أن الستر الكامل لا يحصل إلا من خلال التوبة، ولما لم تكن التوبة متحققة فلا مانع من أن يعمد إلى ستر الذنوب ولو إجمالاً ويكون ذلك من خلال الكفارة.
ويمكن ذكر تعريف آخر لها فيقال: إن الكفارة اسم لما يستغفر به الآثم، أو المخطئ من صدقة أو صوم أو نحوهما.
وهذا التعريف يلتقي مع التعريف السابق في أنه نحو جزاء وعقوبة إلهية، يرتجي منه الفاعل المغفرة من الله، ويتسع دائرة عنه في بيانه مصاديق التكفير التي يتم من خلالها حصول الغرض.
وعلى أي حال، لا ضير في كلا التعريفين، خصوصاً على وفق مسلك جملة من أعلامنا كصاحب الكفاية(ره) من أن أغلب هذه التعاريف، إنما هي تعاريف لفظية توضيحية يسعى من خلالها إلى إيضاح المفكرة وإيصالها للمتلقي.
دور الكفارة في التشريع الإسلامي:
يترتب على الكفارة في الجزاء الإسلامي دور إيجابي، يعود نفعه على المجتمع وأفراده، ولكي يتضح ما ذكرنا نشير إلى أثرين يترتبان على تشريع هذا القانون الجزائي، أحدهما تربوي والآخر اقتصادي.
أما الأول، وهو التربوي: فإن علم المكلف بتشريع الجزاء عليه نتيجة فعله جملة من الأفعال، يحول دون ارتكابه ذلك الانحراف، فمثلاً إذا علم المكلف أنه إذا افطر في نهار شهر رمضان المبارك متعمداً، وجب عليه صوم شهرين متـتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً، أو عتق رقبة، فإن ذلك يوجد حاجزاً ومانعاً أمامه يحول دون تجاوزه وتعمد الإفطار.
وبالجملة، إن نهي الشارع عن الفعل، ومعاقبته بالكفارة يشير إلى تشديد الرادع عن بعض المعاصي التي يهتم بعدم فعلها، ولذا جعل عليها الكفارة.
وأما الثاني، وهو الاقتصادي، فإن للكفارة دوراً فعالاً في تشكيل النظام المالي والاقتصادي، لأنه من خلالها يتعيش الفقراء، ولذا تعدّ الكفارات أحد الموارد المالية في خزانة الدولة الإسلامية. مضافاً إلى أن الكفارة تساعد على إلغاء الرق والعبودية والدعوة لتحرير العبيد.
أقسام الكفارات:
قسم الفقهاء(ره) الكفارات من حيث كيفية أدائها إلى أربعة أقسام:
الأول: كفارة مرتبة، ويقصد منها: ما كانت الخصال التي تتحقق الكفارة من خلالها مرتبة بحيث لا ينـتقل للخصلة الثانية إلا بعد العجز عن فعل الخصلة الأولى، وهكذا، مثلاً من أفطر متعمداً في قضاء شهر رمضان المبارك، وجبت عليه كفارة مرتبة، فيجب عليه أولاً أن يطعم عشرة مساكين، فإن عجز عن ذلك، انتقل التخيـير بين صيام ثمانية عشر يوماً، أو يتصدق بما يطيق، فإن عجز عن ذلك انتقل إلى الاستغفار.
وكذا لو قتل شخصاً خطأً، فإن عليه أن يعتق رقبة، فإن عجز عن ذلك صام شهرين متـتابعين، فإن عجز عن ذلك أطعم ستين مسكيناً، فإن عجز عن ذلك صام ثمانية عشر يوماً مع الاستغفار، فإن عجز عن ذلك الصوم، اكتفى بالاستغفار.
الثاني: كفارة مخيرة، وهي تعني: أن يكون المكلف مخيراً في الإتيان بأي واحدة من خصال الكفارة الواجبة عليه، مثلاً لو أفطر في نهار شهر رمضان المبارك متعمداً على محلل، فإنه يختار في التكفير أحد أمور ثلاثة، إما أن يعتق رقبة، أو أن يصوم شهرين متـتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً.
وكذا أيضاً لو عاهد الله سبحانه وتعالى، وحنث بعهده، وجبت عليه كفارة تخيـير، وهي نفس كفارة الإفطار متعمداً في نهار شهر رمضان المبارك على محلل.
الثالث: ما اجتمع فيه التخيـير والترتيب، وهي التي يكون المكلف مخيراً في بعض خصالها، وفي بعضها الآخر ملزماً بالترتيب، كما لو حنث المكلف بيمينه، أو خالف نذره، فإنه يجب عليه أن يعتق رقبة، أو يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، وحال العجز فإنه ينـتقل إلى الصوم ثلاثة أيام متوالية، فنلاحظ هنا أنه في البداية كان مخيراً بين أمور ثلاثة، لكنه لا ينـتقل للخصلة الثانية، وهي الصوم إلا بعد أن يعجز عن الخصلة الأولى، وهي التخيـير بين ما ذكر.
الرابع: كفارة جمع، وهي التي يكون المكلف مطالباً بفعل الخصال الثلاث جميعاً مع القدرة عليها.
وهذا القسم الأخير من الكفارة لا يوجد له إلا مصداق واحد، وهو ما إذا أقدم على قتل المؤمن متعمداً، فإنه يجب عليه أن يجمع بين خصال الكفارة الثلاث فيعتق رقبة، ويصوم شهرين متـتابعين، ويطعم ستين مسكيناً.
ولا يفرق عندنا بأيها ابتدأ فيمكنه أن يـبدأ بالصوم، ثم العتق، أو الإطعام، وهكذا، بمعنى أنه لا يعتبر فيها الترتيب.
وقد ذكر في كلام جملة من فقهائنا مصداق آخر لكفارة الجمع، وهو الإفطار عمداً على محرم في نهار شهر رمضان المبارك، فلو تقيأ الإنسان أثناء الصوم، وعمد إلى تناول قيئه مرة أخرى، أو أفطر على شرب الخمر مثلاً، فإنه يجب عليه أن يجمع بين خصال الكفارة الثلاث.
لكن هذا الحكم ليس محل اتفاق بينهم، إذ بنى بعض الأعلام على تمامية ما ذكر، لكن آخرين بنوا على أنه لا فرق بين من أفطر على محلل أو محرم في ثبوت كفارة التخيـير عليه.
أسباب الكفارة:
وكما قسمت الكفارة من حيث كيفية الأداء، فإنها تقسم أيضاً بلحاظ أسبابها إلى عدة أقسام، فتجب الكفارة إذا حصلت الأسباب التالية:
1-صيد المحرِم.
2- الظهار.
3- قتل الخطأ.
4- قتل العمد.
5- الإفطار في قضاء شهر رمضان متعمداً.
6- الإفطار في شهر رمضان متعمداً.
7- الحنث بالنذر.
8- الحنث باليمين.
9- الحنث بالعهد.
10- شق الرجل ثوبه في المصاب.
11- نتف المرأة شعرها في المصاب.
12- جز المرأة شعرها في المصاب.
13- وطئ المرأة في الحيض.
14- إفساد الاعتكاف بالجماع ليلاً.
نماذج الكفارة:
قد اتضح من طيات ما تقدم أن للكفارات أربعة نماذج يمكن أدائها بواسطتها:
الأول: عتق الرقبة.
الثاني: الصيام، وهو قد يكون ستين يوماً، وقد يكون عشرة أيام، وقد يكون ثلاثة أيام بحسب الكفارة، كما سيتضح من خلال ما يأتي إن شاء الله تعالى.
الثالث: الكسوة.
الرابع: الإطعام.
موجبات الكفارة:
كنا قد أشرنا قبل قليل إلى أن هناك أسباباً توجب ثبوت الكفارة ولزومها على المكلف، وذكرناه بصورة موجزة، والآن ينبغي أن يكون الحديث عنها بصورة مفصلة، لكل مورد مورد.
الإفطار في نهار الصيام الواجب:
من أفطر في نهار صوم واجب متعمداً وجبت عليه الكفارة، والنهار الصومي الواجب الذي تجب الكفارة بالإفطار فيه له مصاديق أربعة فقط:
الأول: أن يفطر متعمداً في نهار شهر رمضان المبارك، وهذا له صورتان:
الأولى: أن يكون إفطاره فيه على محلل.
الثانية: أن يكون إفطاره فيه على محرم.
أما إذا كان إفطاره فيه على محلل، فإن جميع علمائنا يتفقون على أن الواجب عليه كفارة مخيرة بين ثلاثة نماذج، فيتخير بين عتق رقبة، أو صيام شهرين متـتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً.
وأما إذا كان إفطاره على محرم، فقد عرفت فيما مضى أن هناك خلافاً بين أصحابنا، فقال بعضهم بلزوم كفارة جمع عليه، وقال آخرون بأنه لا يفرق بين الإفطار على محل أو محرم، فما يجب عليه لو افطر على محلل، هو الذي يجب عليه لو أفطر على محرم.
تنويه:
هذا وينبغي أن نشير إلى أمر مهم، وهو أن هناك خلافاً بين علمائنا في لزوم الكفارة للإفطار متعمداً في نهار شهر رمضان، إذ يـبني جملة منهم على أن إفطار المكلف على أي واحد من المفطرات المعدودة في الرسائل العملية، تسعة كانت أو عشرة، موجب للكفارة بالبيان السابق.
وبنى آخرون على أن الموجب لثبوت الكفارة في الإفطار في نهار شهر رمضان عمداً ينحصر في خصوص الإفطار على الأكل والشرب والجماع والاستمناء والبقاء على الجنابة.
الثاني: أن يفطر متعمداً في نهار قضاء شهر رمضان المبارك بعد الزوال، وهذا عليه أن يكفر بكفارة مرتبة، فيجب عليه أولاً أن يطعم عشرة مساكين، فإن عجز انتقل إلى صيام ثلاثة أيام، فإن عجز فعليه الاستغفار.
ولا يخفى أنه سوف يأتي هنا الخلاف المشار إليه في ثبوت الكفارة في الإفطار في نهار شهر رمضان، بمعنى أن الموجب للكفارة هو ما يكون موجباً لها لو أفطر في نهار شهر رمضان، فلا تغفل.
الثالث: أن يفطر في الصوم المنذور المعين، ويتفق أصحابنا على أن جميع المفطرات المعدودة في الرسائل العملية موجبة للكفارة. وكفارته مخيرة ومرتبة،فمخيرة بين عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز انتقل إلى صوم ثلاثة أيام متواليات.
الرابع: أن يمارس العلاقة الطبيعة مع المرأة أثناء الصوم في الاعتكاف، وكفارته مخيرة، بين عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكيناً، أو صيام شهرين متـتابعين. نعم الأفضل والأحسن أن تكون الكفارة مرتبة، فيعتق رقبة، فإذا عجز عن ذلك صام شهرين متتابعين، فإذا عجز أطعم ستين مسكيناً، فإن عجز صام ثمانية عشر يوماً مع الاستغفار، ومع العجز يكتفي بالاستغفار فقط.