25 أبريل,2024

خديجة سيدة النسوان

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال النبي محمد(ص): كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد(ص)[2].

تعتبر هذه الرواية واحدة من الأحاديث النبوية الواردة في بيان فضل ومكانة السيدة الجليلة خديجة بنت خويلد، وقد تحدث النبي(ص) في هذا الحديث الشريف عن أنها واحدة من أربع نساء قد كملن، لكنه لم يبن الكمال الذي بلغنه هذه النساء الأربع، فهل هو كمال مادي، أم كمال معنوي، وعلى أيهما كان، هل هو كمال من ناحية خاصة، أم أنه كمال من جميع الجهات.

الكمال بمعنى عدم النقص:

ولا يخفى أنه لو كنا ومقتضى الظاهر من الحديث النبوي لبني على أن الكمال المقصود في الحديث الشريف مطلق، فيشمل كل ما يتصور من معنى للكمال، حتى لو كان أنواعاً عديدة.

إلا أنه قد يدعى المنع من ذلك، والبناء على أن الكمال الوارد في الحديث ليس له من السعة ما يظهر منه، فليس الكمال في هذا الحديث الشريف كمالاً مطلقاً، ومن جميع الجهات، بل هو كمال في حدود خاصة ومعينة، استناداً للخبر المروي عن أمير المؤمنين(ع)، إذ قال: إن النساء نواقص العقول، نواقص الحظوظ، نواقص الإيمان، فنقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام أيام الحيض، وأما نقصان عقولهن، فشهادة المرأتين فيهن كشهادة الرجل، وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الانتصاف من مواريث الرجال، ثم قال: اتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر.

فيكون النص المذكور بمثابة القرينة المانعة من حجية الإطلاق المتصور في الحديث النبوي، لأن مقتضى ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) من أن النساء ناقصات في أمور ثلاثة، وجمعه مع ما جاء عن النبي(ص) يستوجب أن يكون كمال النساء الأربع في حدود انتفاء هذه النواقص الثلاثة الموجودة في سائر النساء، فيكون تميزهن بهذه الأمور.

وبعبارة فنية، إن الخبر العلوي بمثابة الحاكم على الحديث النبوي، حكومة نظر وتضيـيق، ليقيده بخصوص الأمور الثلاثة المذكورة.

إلا أن الصحيح عدم صلوح هذا الجمع بين النصين، وذلك للتالي:

أولاً: إن مقتضى المقابلة الحاصلة بين كمال الكثير من الرجال، وكمال النسوة الأربعة يستوجب رفض هذا الجمع، توضيح ذلك:

إن الحديث النبوي عبر عن كمال كثير من الرجال، وليس كمال جميع الرجال، ولا يخفى أن النواقص الثلاثة التي وردت في كلام أمير المؤمنين(ع) لا تختص بأحد دون أحد من الرجال، بل هي سارية في الجميع منهم، وهذا لا يستقيم مع ما جاء في حديث النبي(ص)، لأنه بصدد بيان أن الكمال وإن كان في الرجال، لكنه ليس على نحو العموم والاستغراق، بل على نحو البعض وإن كثر، فلاحظ.

وبالجملة، إن الظاهر من الحديث النبوي الإشارة إلى امتياز كثير من الرجال ببلوغهن الكمال، وهذا يختلف عن ما يشترك فيه جميع الرجال، من عدم القعود عن الصلاة، وقبول شهادة الرجل الواحد، وأن نصيـبه في الميراث ضعف نصيب الأنثى.

ثانياً: إن النص الوارد عن أمير المؤمنين علل النقصان الواقع في شأن النساء مطلقاً بأمور ثلاثة، ومقتضى الحديث الوارد عن النبي(ص) والمثبت لكمال النساء الأربع، يستدعي أن يكون الكمال فيهن بوجود الأمور الثلاثة المفقودة في بقية النساء حتى يصح وصفهن بالكمال، لكننا لو جئنا ندرس الأمور الثلاثة المفقودة في النساء، لوجدناها غير متوفرة في النساء الأربع البالغات الكمال، فإن انتفاء النقصان من جهة الإيمان بمعنى أنهن لا يرين دماً، قطعي في شأن سيدتنا ومولاتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء، ولا خلاف فيه بين المسلمين، كما أنه ثابت في شأن السيدة العذراء مريم(ع).

إلا أن إثبات ذلك في شأن السيدتين الجليلتين، السيدة آسية والسيدة خديجة(ع) يحتاج إلى دليل، خصوصاً وأن مقتضى القاعدة أنهن كسائر النساء يرين دماً، والبناء على أنهن لا يرين ذلك يحتاج إلى دليل، وليس في البين ما يمكن التعويل عليه في هذا المقام.

ومع انتفاء هذا الأمر بالنسبة إليهما، بمعنى ثبوت أنهما ناقصات الإيمان لأنهما تريان الدم، يستوجب حمل الكمال الوارد في الحديث النبوي على معنى آخر غير ما ذكر.

اللهم إلا أن يقال: بأن السيدة خديجة(ع) أيضاً لا ترى دماً، وذلك وفقاً للحديث النبوي الذي سوف نذكره في بيان المساواة بين السيدة خديجة والسيدة مريم، من حيث تفضيل السيدة خديجة على نساء أمته(ص) كتفضيل مريم على نساء العالمين، ومن المعلوم أن أحد موجبات التفضيل للسيدة مريم هو انتفاء دم الحيض عنها، فتشترك السيدة خديجة معها، في انتفاء دم الحيض أيضاً، فيثبت أنها لا ترى دماً، فتأمل.

كما أن البناء على أنهما كاملات العقل، بمعنى أن شهادة الواحدة منهما لا تحتاج إلى شهادة امرأة أخرى، في غير محله، لأن أكثر ما يستفاد أنهما من أهل الجنة، وهذا يوجب انتفاء الكذب عنهما، لا أنه يستلزم رفع اليد عن الحكم الشرعي المقرر لزوم شهادة امرأتين، فلاحظ.

وبعبارة جامعة، إن الدليل قائم على أنه لا يكتفى بشهادة امرأة واحدة في أي موضوع من موضوعات الشهادة التي تعتبر فيه شهادة النساء حجة، لا منفردات ولا منضمات، وعليه لا يكون الكمال المذكور في كلامه(ع) متحققاً.

نعم قد ورد في احتجاج سيدتنا ومولاتنا الزهراء(روحي لها الفداء) احتجاجها على الرجلين، عندما ردت شهادة أم أيمن، بأنه كيف ترد شهادة امرأة من أهل الجنة.

ولا يخفى أن هذا لا يفيد قاعدة كلية، بل إن أقصى ما يستفاد منه أنه قضية خارجية، وعليه ينحصر في مورده. ولم يثبت ذلك في شأن غيرها، نعم يمكن التمسك بوحدة الملاك، فتأمل.

ومثل ذلك بالنسبة لنقصان الحظ، إذ من المحتمل أن يكون تنصيف نصيب الأنثى مختص بشريعة النبي محمد(ص)، فتأمل، نعم لم يحدثنا التاريخ عن أن السيدتين آسيا وخديجة كان لهما أخوة يشاركونهما في الميراث، لو لم يقبل باختصاص التنصيف بشريعة النبي(ص).

والحاصل، إن عدم انطباق ما جاء في الخبر المروي عن أمير المؤمنين(ع) خارجاً على المصاديق المذكورة في حديث النبي(ص)، يمنع من صلوح الخبر المذكور للقرينية.

حقيقة الكمال:

ثم إنه بعدما ثبت عدم تمامية التفسير المذكور للكمال الوارد في الحديث النبوي، ينبغي بيان ما يتصور في المراد منه، وهذا يستدعي الحديث حول حقيقة الكمال، وبيان شيء مما يتعلق به.

الكمال كما جاء في كلمات اللغويـين هو التمام، وضده النقصان، وقد عرفوا التمام بأنه ما كملت أجزاؤه، فلا يحتاج إلى شيء خارج اكتماله.

وقد فرقوا بين التمام والكمال من خلال أن التمام يصدق ويتحقق خارجاً متى كملت الأجزاء، فما عادت بحاجة إلى إضافة شيء آخر لها يتوقف وجود الشيء على وجوده.

وأما الكمال، فهو إضافة خصوصية أخرى تزيد الأمر التام حسناً وبهاء وتماماً على تمامه، ويمكننا توضيح ذلك بمثال، فنقول:

إن تمامية الصلاة تتحقق متى أتى المكلف بجميع أجزائها وشرائطها، ولذا يقال عندها صلاة تامة، يعني ليست ناقصة، فما عادت بحاجة إلى أن يضاف إليها شيء آخر لتحقيق وجودها خارجاً، فإذا أضيف إلى هذه الصلاة التامة حضور القلب زادها بهاء وحسناً إلى تمامها، وإذا اشتملت على الخضوع، كانت أكمل وأحسن، وأتم.

ومثل ذلك يجري الصوم، فإن امتناع المكلف عن المفطرات المذكورة في رسائل الفقهاء مدعاة لتحقق التمام في هذا التكليف الإلهي، فمتى أضيف إليه كف اللسان، وكف اليد وبقية الحواس، عما حرم الله سبحانه مما لا يعدّ من المفطرات، زاد هذه العبادة حسناً وبهاءاً وتماماً وكمالاً إلى تمامها.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في آية البلاغ، حيث قال تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[3]، فالدين كان تاماً قبل الولاية بالأحكام والآداب وبيان المعارف الإلهية، لكنه قد أكمل بالولاية، وتعيـين الخليفة بعد النبي(ص)، ليكون مرجعاً في إدامة الدين، وقد أتم الله سبحانه نعمته على المسلمين، بهدايتهم إلى طريق الحق، والصلاح، والخير وترك العادات السيئة، وتزكية الأخلاق.

ويختلف التمام أيضاً عن الكمال غالباً من حيث ما يتعلق به، إذ أن الغالب أن يكون استعمال التمام في الكميات، فيقال تمت أجزائه، فكأن الملحوظ هو جانب العدد والمقدار. بينما الغالب استعمال الكمال في الكيفيات.

أقسام الكمال:

يمكن تقسيم الكمال إلى قسمين بلحاظ الموضوع الذي يقع عليه الكمال:

الأول: كمال في موضوع مادي، كالبدن وقواه.

الثاني: كمال في موضوع معنوي روحاني، كنفس الإنسان.

ثم إن تكميل البدن يكون من خلال تحصيل تقويته من جهة الأعضاء والجوارح، والقوى البدنية، والحواس الظاهرية.

وأما تكميل الروح، فإنه يتحقق بالتهذيب والتـزكية عن الرذائل، وخبائث الصفات حتى يترقى إلى عالم التجرد والملكوت، ويتنـزه عن قيود الحيوانية، ويتخلص من العلائق النفسانية.

ما يوجب الكمال:

هذا وقد تضمنت النصوص الشريفة الإشارة إلى أن هناك أموراً يمكن من خلالها تحصيل الكمال، فقد عدّها الإمام الباقر(ع) ثلاثة أمور، وهي:

1-التفقه في الدين.

2-الصبر على النائبة.

3-تقدير المعيشة.

قال(ع): الكمال كل الكمال، التفقه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة[4]. وعن أمير المؤمنين(ع)، أنه قال: الكمال في ثلاث: الصبر على النوائب، والتورع في المطالب، وإسعاف الطالب[5].

وليس بين النصين معارضة، لأن كليهما مثبت، وبالتالي يمكن عدّ الأمور الخمسة التي وردت في مجموع النصين موجبات تحصيل الكمال، على أنه يمكن القول أن التورع في المطالب، يعود لتقدير المعيشة، فتأمل.

وبالجملة، إن توفر هذه الأمور في فرد من الأفراد موجب لتوصيفه بكونه مالكاً للكمال.

من كمل من النساء:

ثم إنه بعدما اتضحت لنا حقيقة الكمال، وما هو المقصود منه، ينبغي أن نعود لبيان المقصود من كمال من كملن من النساء، وهن السيدات الطاهرات الأربع(ع).

والظاهر أن المقصود من الكمال الثابت لهن هو الكمال المعنوي، وهو الحاصل من خلال تهذيب النفس وتزكيتها من الرذائل، وخبائث الصفات، بحيث يـبلغ مرحلة التجلي والرقي إلى عالم الملكوت، متنـزهاً عن قيود الحيوانية ومتخلصاً من العلائق والعوائق النفسانية.

وعليه، فمعنى كمالهن، يعني بلوغهن أعلى الدرجات في العلاقة مع الله سبحانه وتعالى، والابتعاد عن كل ملذات الدنيا.

وهذا الذي ذكرناه من بيان لمعنى الكمال الثابت فيهن، هو ما يتداول على ألسن جملة من الباحثين والكتاب بعنوان العصمة الكسبية[6].

ولا يخفى أن ما ذكرناه يتفق تماماً ومقتضى الظهور العرفي من الحديث النبوي، ولا معنى لحمل اللفظ على خلاف ظاهره إلا ذا كان هناك ما يوجب هذا الحمل، ومع عدمه، فلا مجال لرفع اليد عن مقتضى الظهور، فلاحظ.

ولكي يكون ما استظهرناه تاماً، ينبغي أن نشير إلى مدى توفر مقومات الكمال الموجب لحصوله عند فرد من الأفراد، وقد عرفنا فيما تقدم أنها ثلاثة تزيد، فأولها التفقه، ولسنا بحاجة للحديث عن ثبوت هذا الشرط في السيدتين الطاهرتين، فاطمة(روحي لها الفداء) والسيدة مريم(ع)، فإن ذلك فيهما من الوضوح بمكان، وأما ثبوته في شأن السيدة آسية(ع)، فيتضح من خلال ما جاء على لسانها في القرآن الكريم في قوله تعالى:- (ربي ابني لي عندك بيتاً في الجنة)فلم لم تقل داراً، وذلك لأن البيت أصغر مكاناً وأجمع للقاء بالمعشوق من الدار، فأرادت أن تخلو بمعشوقها ومحبوبها دون أن يكون لها مشارك فيه، منفردة به وحدها، وهذا يشير لمقدار علاقتها بالباري سبحانه وتعالى، وفقاهتها في مجال هذه العلاقة، فلاحظ.

وأما ثبوت ذلك في شأن سيدتنا ومولاتنا خديجة(ع) فيظهر واضحاً عندما أبلغت أن الله سبحانه وتعالى يلغها السلام، وكيف أجابت على هذا الإبلاغ، كما ذكره المؤرخون في سيرتها المباركة.

وأما صبر السيدتين الجليلتين على النوائب فأوضح من أن يذكر، إذ يكفي أن تعلم معاناة آسية وهي تكتم إيمانها في حياتها مع طاغية العصر فرعون، وكيف كانت شهادتها بعد ذلك، وأبلغ في الصبر على النوائب ما كانت تلاقيه سيدة النسوان خديجة(ع) في معاناتها مع رسول الإنسانية محمد(ص).

ولا أظنني بحاجة لعرض حالهما(ع) في شأن تقدير المعيشة، فإنه واضح جلي لا خفاء فيه.

منشأ تميز الأربع:

هذا وقد يسأل عن الموجب لتميز هذه الأربع من النسوة دون البقية الأخريات ممن ذكرهن القرآن الكريم.

فيقال: إن الموجب لذلك، وجود امتياز في كل واحدة واحدة منهن، فالسيدة آسية(ع) آمنت بالله مخلصة له، لائذة به وحده، ومع أنها كانت تعيش في بيت رأس الكفر والإلحاد وطاغية عصره، إلا أنها جاهرت بإيمانها منكرة على فرعون كفره وفساده، متحدية طغيانه وظلمه، وترتب على ذلك قتله إياها بطريقة شنيعة.

والسيدة مريم(ع)، كرمت بولادة المسيح عيسى(ع) بدون أب، ولم تـثبت هذه الكرامة لأحد غيرها على وجه الأرض.

وأما السيدة خديجة(ع) فهي أول من آمنت برسول الله(ص)، وصدقت به، وصلت معه وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وقد بذلت أموالها في نصرة هذا الدين، ودعم سيد المرسلين(ص)، وقد ورد أن الدين قام بدفاع أبي طالب وسيف علي وأموال خديجة.

كما أنها اعترفت بإمامة أمير المؤمنين(ع)، والأئمة من بعده، كما سنشير لذلك لاحقاً.

وأما سيدتنا فاطمة الزهراء(ع)، فهي التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضب، وهي روح رسول الله التي بين جنبيه.

بين مريم وخديجة:

هذا ووفقاً لما بيننا عليه من أن لخديجة(ع) عصمة كسبية، بمقتضى الظهور المستفاد من الحديث النبوي، وكذا ثبت ذلك للعذراء مريم(ع)[7]، ينبغي أن يصرف عنان البحث للحديث حول التفاضل فيما بينهما، فأيهما هي الأفضل، فهي تفضل السيدة خديجة السيدة مريم(ع)، أم أن للسيدة مريم فضلاً على السيدة خديجة(ع).

وقبل بيان ما هو الحق في ذلك، نشير إلى حديث ورد عن النبي(ص)، حيث قال رسول الله(ص): فضلت خديجة على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين.

ومن المعلوم أن منشأ تفضيل مريم على نساء عالمها يعود لأمور ثلاثة:

الأول: الاصطفاء، بمعنى الاختيار الثابت لها.

الثاني: الطهارة.

الثالث: الاصطفاء لتكون وعاء للمسيح عيسى بن مريم، فتلد من دون زوج.

ومقتضى المشابهة في التفضيل الوارد في الحديث النبوي، يقضي أن يكون لخديجة(ع) عين ما كان لمريم منشأً للتفضيل على نساء قومها، بمعنى أن لخديجة أيضاً تفضيلاً في الأمور الثلاثة الثابتة لمريم(ع)، فتكون خديجة مصطفاة أيضاً، وتكون كذلك مطهرة، وتكون منـتخبة لتكون وعاء للسيدة الطاهرة فاطمة(روحي لها الفداء).

ولا يخفى أنه وفقاً لهذا لو بني على أن عصمة السيدة مريم(ع) ذاتية ناجمة إما من خلال الاصطفاء، أو من خلال التطهير الوارد في قوله تعالى:- (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)، فإنه يلزم أن يكون ذلك ثابتاً للسيدة خديجة(ع) أيضاً لمكانة الحديث النبوي المتضمنة للماثلة بينهما.

على أنه يمكن التمسك لذلك بطريق آخر، وهو نصوص الزيارات التي تضمنت التعبير بـ(الأرحام المطهرة)، ولا ريب في أن ذلك شامل لسيدتنا الجليلة السيدة خديجة، فإن التطهير المتصور في شأن السيدة مريم، جارٍ في التعبير الوارد في شأن الأرحام المطهرة، فيفيد عين ما ثبت للسيدة مريم من عصمة ذاتية في حق السيدة خديجة(ع)، فلاحظ.

وأما لو بني على أن عصمة السيدة مريم(ع) عصمة كسبية، وليست عصمة ذاتية، بمعنى أنها كمال، نتيجة وجود مجاهدات وما شابه، فإن ذلك ثابت أيضاً للسيدة خديجة(ع)، كما لا يخفى.

أفضلية خديجة على مريم:

ثم إنه وفقاً للحديث السابق يتضح أن مريم لا تفضل خديجة، بل إن خديجة تفضل مريم لعدة أمور نشير إلى ثلاثة منها:

الأول: كونها أول مسلمة، وقد بذلت نفسها ومالها ونفيسها في الإسلام، وتكفلت بالنبي محمد(ص)، وهو أفضل الموجودات، فأوجب ذلك أن تحوز درجة لا يتسنى لأحد من النساء الحصول عليها.

الثاني: تلقيـبها بأم المؤمنين، وأم الأئمة الأطهار(ع)، وأم فاطمة الزهراء(ع)، وهذا يوجب شرفاً لها على البقية.

الثالث: قبولها ولاية أمير المؤمنين(ع) وإمامة أولاده الطاهرين(ع)، مع أنها لم تكن حين قبولها مكلفة بقبولها، ذلك لأنه لم يكن قد فرض التكليف بالولاية، لأن فرضه لا يكون إلا بعد رحلة رسول الإنسانية(ص) من عالم الدنيا، فقد روي أن رسول الله(ص) دعى خديجة(ع)، وقال لها: إن جبرئيل عندي يقول لك إن للإسلام شروطاً وعهوداً ومواثيق:

الأول: الإقرار بوحدانية الله عز وجل.

الثاني: الإقرار برسالة الرسول.

الثالث: الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة.

الرابع: إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحداً بعد واحد، والبراءة من أعدائهم، فصدقت خديجة بهم واحداً بعد واحد وآمنت بالرسول(ص)، فأشار إلى علي(ع)، ثم قال: يا خديجة، هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي. ثم أخذ العهد منها..الخ…

والحاصل، إن المستفاد من عدة مصادر من كتب الفريقين، أن السيدة الطاهرة خديجة(ع) كانت عالمة بكتب الرواية المعروفة، وأنها كانت تعرف بين نساء قريش مضافاً لكثرة المال والثراء، بالعقل والكياسة، بل إنها كانت تدعى منذ ذلك الحين بـ(الطاهرة)، و(المباركة)، بل إنها كانت ممن ينـتظر خروج النبي(ص)، ويعدّ العدة له، ولطالما سألت القارئين للكتب السماوية عن علائم النبوة، ولذا كان أول ما طلبته من النبي عندما التقت به الكشف عن خاتم النبوة.

وكفى في فضلها أن نعلم أنها آمنت عصر اليوم الذي بعث فيه النبي(ص) وصلت معه كما قيل.

عمر خديجة في زواجها:

وقد اختلف المؤرخون في عمر خديجة عندما تزوجت بالنبي محمد(ص)، حتى بلغت أقوالهم في هذه المسألة ثمانية أقوال، ومن الواضح أن الإصرار من جملة من المؤرخين على إبراز أن السيدة خديجة(ع) كانت بالغة من العمر عتياً، غايته أمر وهو إضفاء فضل على بعض نساء النبي(ص)، من خلال أنها المرأة الوحيدة التي تزوجها رسول الله(ص) بكراً، ولم تعرف غيره من الرجال، بينما لو قلنا بأن مولاتنا خديجة كانت صغيرة السن، شابة، ولم تعرف رجلاً غير رسول الله(ص)، فلا ريب أن ذلك يوجب امتيازاً وفضلاً لها على بقية النسوة.

وعلى أي حال، نشير إلى الأقوال المذكورة في عمرها وقت زواجها، ثم نشير لما هو الصحيح من تلك الأقوال:

1-خمسة وعشرون سنة.

2-ثمانية وعشرون سنة.

3-ثلاثون سنة.

4-خمسة وثلاثون سنة.

5-أربعون سنة.

6-أربعة وأربعون سنة.

7-خمسة وأربعون سنة.

8-ستة وأربعون سنة.

ويمكن تحديد عمرها(ع) من خلال ضم أمرين بعضهما إلى بعض:

الأول: كم كان عمرها حين وفاتها.

الثاني: كم عاشت مع رسول الله(ص) بعد زواجها لحين وفاتها.

وبطرح مدة حياتها مع رسول الله(ص) من عمرها يوم وفاتها، يمكننا معرفة عمرها الشريف عند الاقتران بالنبي(ص).

والمعروف بين المؤرخين في عمرها حين وفاتها أنه خمسون سنة كما ذكر البيهقي، وقد عاشت(ع) مع رسول الله(ص) خمسة عشر سنة، لأنها تزوجت رسول الله(ص) قبل البعثة بخمس سنين، وكانت وفاتها في السنة العاشرة من البعثة، فعلى هذا سوف يكون عمرها الشريف عند اقترانها برسول الله(ص) هو خمس وعشرون سنة.

ومما يؤكد ما ذكرناه، بل يدل عليه ما نص عليه الحاكم من أن القول بأن خديجة قد توفيت ولها من العمر خمسة وستون عاماً قول شاذ، بل يذهب إلى أنها لم تبلغ الستين من العمر حين وفاتها.

ومن الواضح أنه يترتب على هذا أن كون عمرها الشريف حين اقترانها برسول الله(ص) أربعين عاماً شاذاً أيضاً وفقاً لمقولة الحاكم، وعليه سوف يلتـزم أن أقصى ما يتصور في عمرها أقل من خمس وثلاثين، وهو يساعد على ما ذكرناه.

وبالجملة، إن المتيقن أنها(ع) لم تبلغ عمراً طويلاً قبل اقترانها برسول الله(ص)، بل كانت في أوائل الشباب ومراحل الصبا.

ولو قيل: إن من المستبعد أن تكون امرأة بما لها من مكانة خديجة وجمالها ورجاحة عقلها وكياستها، مضافاً لمالها أن تبقى لهذا العمر ولو كان خمساً وعشرين سنة دون زواج؟…

قلنا: إن خديجة طرق بابها من قبل الكثيرين من سادات قريش وزعمائها، لكنها ما كانت ترى في أحد الطارقين الكفاءة التي تجعلها تقبله قريناً وزوجاً، وهذا طبيعي جداً إذ أن بنات الملوك لا يزوجن بكل خاطب، بل لابد وأن يكون الخاطب كفؤاً للمخطوبة، وليست خديجة(ع) أقل شأناً من بنات الملوك، فلاحظ.

أولاد خديجة:

ثم إنه ربما كان الموجب لقول الكثيرين بأن خديجة عند اقترانها برسول الله(ص) كانت تبلغ الأربعين أو أكثر، ما تصوروه من أن لخديجة أبناء من غير رسول الله(ص)، وهن بنات ثلاث زينب وأم كلثوم ورقية.

والأقوال في هذه البنات الثلاث، ثلاثة:

الأول: أنهن بنات رسول الله(ص)، وقد أنجبهن من خديجة(ع).

الثاني: أنهن بنات خديجة من زوجيها السابقين.

الثالث: أنهن بنات هالة أخت خديجة، وقد توفيت عنهن، فكفلتنه خديجة وقامت بتربيتهن، وهن صغار، ولما كبرن نسبن إليها.

هذا والصحيح من الأقوال هو الثالث، ولعل الموجب لرفض القول الأول هو ما يواجه من إشكال أنه كيف زوج رسول الله(ص) بنـتيه من الرجل الثالث، ولسنا هنا بصدد الإجابة عن ذلك.

على أي حال، القول الثاني بعيد جداً كما قرر ذلك المحقق العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي في كتابه القيم الصحيح من سيرة الرسول الأعظم.

ثم إن اختيار القول الثالث يعين على معرفة السبب الموجب لتأخر زواج خديجة(ع)، إذ من المعلوم أن الكثيرين ربما لم يكونوا يقبلون الزواج بامرأة معيل تتولى رعاية بنات تشترط وجودهن معها.

ثم إن نسبة هذه البنات لخديجة وإدعاء أنهن بناتها في كلا القولين الأول والثاني كانت ورائها أغراض سياسية، فوفقاً للقول الأول، وهو البناء على أنهن بنات رسول الله(ص)، يعمد إلى عدم حصر أبناء رسول الله(ص) في الزهراء(روحي لها الفداء)، كما يستوجب أن يكون هناك مشارك لأمير المؤمنين(ع) في مصاهرته لرسول الله(ص).

وأما وفقاً للقول الثاني، فيلزم من ذلك كبر عمر خديجة(ع)، وأنها لم تكن بكراً يوم تزوجها رسول الله(ص)، وقد عرفت الغرض من ذلك فيما تقدم، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] ذكر تلقيبها بهذا اللقب أمير المؤمنين(ع) في رثائه إياها ورثاء والده أبي طالب(ع)، قال(ع):

أعينيّ جودا بارك الله فيكما على هالكين لا ترى لهما مثلاً

على سيد البطحاء وابن رئيسها وسيدة النسوان أول من صلى

مهذبة قد طيّب الله خِيمها مباركة والله ساق لها الفضلا.

بحار الأنوار ج 35 ص 143 ب 3 ح 85.

[2] مجمع البيان ج 10 ص 480.

[3] سورة المائدة الآية رقم

[4] بحار الأنوار ج 78 ص 172 ح 3.

[5] غرر الحكم الكلمة 1777.

[6] لا يخفى أن عصمة سيدتنا الزهراء(ع) عصمة ذاتية، والنص المذكور يؤكد ذلك من خلال وجود العصمة الكسبية، فلاحظ.

[7] قد يتمسك لإثبات أن عصمة مريم(ع) عصمة ذاتية اعتماداً على قوله تعالى:- (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) بأحد تقريبين:

الأول: الاعتماد على الاصطفاء الأول على أساس أنه نفس الاصطفاء الوارد في قوله تعالى:- (إن الله اصطفى…الخ…) ولا ريب أن هذا الاصطفاء لمن ذكر في الآية يوجب ثبوت العصمة الذاتية لهم، فتكون مريم كذلك.

الثاني: الاعتماد على التطهير الوارد في الآية على أساس أنه تطهير كالتطهير الوارد في آية التطهير الواردة في شأن أهل البيت(ع).

لكن كلا التقريـبين يمكن المناقشة فيهما في الدلالة على المدعى، فيقال بالنسبة للأول: أن الاصطفاء له أسباب، فقد ينشأ نتيجة وجود ملاكات نفسية وقد يكون لغير ذلك، والذي يبدو أن اصطفاء مريم مقدمة لولادة عيسى، فاصطفائها من أولاد الأنبياء.

وأما الثاني، فإن التطهير بحسب الظهور الأولي ظاهر في التطهير المادي، وحمله في آية التطهير على الأعم لموجب، لا يوجد في المقام، فتأمل.