29 مارس,2024

الكرامة الإنسانية أصلٌ تكوينيٌ

اطبع المقالة اطبع المقالة

الكرامة الإنسانية أصل تكويني

إن المطالع للفتاوى الفقهية للأعلام، يجد تفاوتاً فيها من حيث الشمولية والتساوي لكافة العنصر البشري، ذلك أنه يرى أحكاماً تختص بالرجل ولا تشمل المرأة، مثل عدم إمكانية تصديها للقضاء، وعدم استلامها لمنصب المرجعية، وعدم قابليتها لإمامة الرجال في صلاة الجماعة، كما يرى أحكاماً تختص بالمسلمين دون غيرهم، فلا يجوز للكافر دخول مساجد المسلمين، ولا يجوز دفنهم في مقابرهم، كما أنه يحكم بنجاسته متى لاقى شيئاً برطوبة مسرية، بل يرى أحكاماً تختص بالمؤمنين فقط، دون بقية الفرق الإسلامية، كاختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن، ولا تحرم غيبة غيره، وهكذا.

ولا ريب أن وجود مثل هكذا فتاوى مدعاة إلى جعل البعض وإن كان من الوسط الديني، بل من الوسط الشيعي، يأخذ موقفاً سلبياً من الخطاب الديني، يدعوه للمطالبة بإعادة قراء الخطاب الديني، كون الفتاوى المذكورة واضرابها تتنافى والكرامة الإنسانية الثابتة للإنسان، والمستفادة من القرآن الكريم، لقوله تعالى:- (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[1].

ولا يخفى أن تمامية ما ذكر تعتمد على أن يكون التكريم المذكور في الآية المباركة، أصلاً موضوعياً لا يقبل كل ما كان مخالفاً له، وإنما يكون القبول لما يكون متوافقاً وإياه. أما لو بني على عدم دلالة الآية على المعنى المذكور، وأنها ليست بصدد البيان من هذه الناحية، فلا ريب أن الدعوى المذكورة سوف تكون غير برهانية، وتحاج إلى ما يسندها، وإلا كانت بلا دليل.

وبالجملة، يلزم البحث عن مدى دلالة الآية الشريفة على المدعى، وهل أنه يستفاد منها كون التكريم المذكور فيها أصلاً موضوعياً، أم لا، وهذا يستوجب البحث بداية عن حقيقة التكريم، وما هو المقصود منه.

التكريم الإلهي للإنسان:

إن الالتزام بدلالة الآية الشريفة على كون التكريم قاعدة شرعية يناط القبول بالأحكام الفقهية وعدمها على وفقها، يستدعي أن نعرف بماذا قد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، وما هو التكريم الذي قد أعطاه له؟

عند الرجوع لكلمات المفسرين للآية الشريفة، نرى أن هناك اختلافاً بينهم في تحديد التكريم الذي أعطاه الباري سبحانه وتعالى للإنسان، فذكرت أقوال في المقام:

منها: إن التكريم المعطى للإنسان من قبل الله تعالى يتمثل في اليدين اللتين زوده سبحانه وتعالى بهما، فجعله يمتاز بذلك عن بقية الموجودات، فإنها جميعها تتناول طعامها بفيها مباشرة، إلا الإنسان، فإن تناوله لطعامه يكون بواسطة يديه.

ومنها: إن تكريم الله سبحانه للإنسان كان من خلال إعطائه له النطق والتميـيز، لأن كل من عرف شيئاً إما أن يعجز عن تعريفه غيره كونه عارفاً بذلك الشيء، أو يقدر على التعريف، والأول هو الحيوانات سوى الإنسان، لأنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة، فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفاً تاماً. والثاني هو الإنسان، فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به، فقدرته على التعريف معنى كونه ناطقاً، ولا ينقض بالأخرس، لأنه يملك التعريف بواسطة الإشارة والكتابة وما شابه، ولا يشمل الببغاء، لعدم قدرته على تعريف كافة الأشياء.

ومنها: إن تكريمه كان من خلال جعله ممتد القامة، بينما نجد أن بقية الموجودات تسير على أربع، أو أنها من الزواحف على بطنها.

ومنها: إن المقصود من تكريمه عبارة عن حسن الصورة والخلقة التي جعله الله سبحانه وتعالى فيها، فيكفي أن يتأمل الإنسان عضواً واحداً من أعضائه كعينه على سبيل المثال ليرى ذلك.

ومنها: إن التكريم الذي أعطاه تعالى للإنسان كان بجعله يملك القابلية والقدرة على الكتابة والخط.

ومنها: إن المقصود من التكريم الذي حباه الله تعالى للإنسان، أن زوده بالعقل، وجعله يملك القوى العاقلة، فإن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام، ما حصلت له القوة العقلية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية، وهم الملائكة، وما يكون بالعكس وهم البهائم، وغيرهما النباتات والجمادات، وما حصل فيه الأمران وهو الإنسان، وقد خص الله تعالى الإنسان بالعقل، من بين سائر الموجودات الكونية، وجعله يمتاز به عن غيره، ويعرف به الحق من الباطل، والخير من الشر، والنافع من الضار[2].

حقيقة الكرامة:

هذا وحتى نستطيع أن نتعرف أي واحد من هذه الأقوال التفسيرية المذكورة مقبولاً ويمكن جعله المقصود من التكريم الوارد في الآية الشريفة، أو يلتـزم برفع اليد عنها جميعاً، يلزم أن نحيط بالمقصود من مفهوم الكرامة، خصوصاً وأن هناك مفهومين آخرين قد يتصور مشاركتهما إياها في المعنى والمقصود، وهما مفهوم العزة ومفهوم الكبر، فكثيراً ما يخلط بينهم جميعاً، فيقال لمن كان يملك كرامة بأنه متكبر، أو يقال لمن كانت له عزة بأنه صاحب كرامة.

إن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أن الكرامة هي ما يقابل الهوان، وأما العزة فإنها تقابل الذلة، ويقابل الكبر الصغر. ومقتضى ما ذكر وجود فرق بين المفاهيم الثلاثة، وليست جميعها بمعنى واحد، ولا ترادف بينها.

ويمكن أن نعرف المقصود من الكرامة، بمعرفة المقصود من الهوان، كما تعرف العزة بمعرفة الذلة.

هذا وقد عرفت الذلة بأنها هوان بإذلال يصدر ممن يكون أعلى للمذل، وهذا يعني أنه يعتبر في صدق مفهومها وجود مذل يملك صفة علوية من المذل، فيكون متسلطاً عليه، ما جعله يملك القدرة على إذلاله.

وبعبارة أخرى، إن الموجب لحصول عملية الإذلال بالنسبة للمذل كون المذل أقوى سلطة، أو نفوذ من المذل، لذا كان منه الإذلال.

وأما مفهوم الهوان، فإنه في نفسه لا يعتبر فيه أن يكون ممن هو في منصب أعلى، أو قدرة على المهان، بل يمكن أن يكون ذلك من المساوي للمساوي.

ووفقاً لما ذكر، تكون النسبة بين الهوان والذل، هي العموم المطلق، ذلك لأن كل ذل هوان، لكن ليس كل هوان ذل، لأخذ قيدية الاستعلاء في الذل، وعدم اعتبار ذلك في الهوان، فتدبر.

ومنه يتضح أنه سوف يكون قيد الاستعلاء مأخوذاً في العزة لأخذ ذلك في الذلة، بينما لا يكون مأخوذاً بنفسه في مفهوم الكرامة، لعدم أخذه في مفهوم الهوان.

وعليه يمكن أن تعرف الكرامة بأنها: عزة وتفوق في نفس الشيء، ولا يلاحظ فيه استعلاء بالنسبة إلى الغير الذي هو دونه[3].

وبناءً على التعريف المذكور، يقرر أن المقصود من التكريم الوارد في الآية الشريفة، هو إعطاء عزة في ذات الإنسان من دون استعلاء بالنسبة إلى الغير، ولا يوجد في غيره. فما هو الشيء الذي سيعطي الإنسان عزة في ذاته، ولا يكون موجوداً في غيره، دون أن يلحظ فيه جانب الاستعلاء؟

إن الأقوال التفسيرية السابقة كلها، وإن كان ينطبق عليها ما ذكر، ولو في الجملة، إلا أن الظاهر أن أجلاها وضوحاً هو القول الأخير، والذي تضن أن المقصود من التكريم الإلهي للإنسان في الآية عبارة عن إعطائه العقل، كما لا يخفى.

قال السيد العلامة(قده): المراد بالتكريم، تخصيص الشيء بالعناية، وتشريفه بما يختص به ولا يوجد في غيره، لأن التكريم معنى نفسي، وهو جعله شريفاً ذا كرامة في نفسه، فالإنسان يختص من بين الموجودات الكونية بالعقل، وبالجملة بنو آدم مكرمون بما خصهم الله به من بين سائر الموجودات الكونية، وهو الذي يمتازون به من غيرهم، وهو العقل الذي يعرفون به الحق من الباطل، والخير من الشر، والنافع من الضار[4].

بين التكريم والتفضيل:

بقي أن نشير إلى ما قد يثار حول الموجب لوجود التعبير بمفهومين تضمنتهما الآية، وهما التكريم، والتفضيل، فقد ابتدأت بالتكريم، لكنها ختمت في ذيلها بالتفضيل، ما يثير أن المفهومين من واد واحد، ويشيران لمعنى واحد، أم أن كل واحد منهما يشير إلى معنى آخر يغاير المعنى الثاني، وهل يمكن أن يقوم أ حدهما مقام الآخر؟

لقد ذكر المفسرون تفريقاً بين المفهومين، ما يعني اختلافهما، وأنه لا يمكن قيام احدهما مقام الآخر كما لا يخفى، فأشير في كلماتهم إلى تفريقين:

الأول: إن التكريم إشارة إلى المواهب الإلهية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للإنسان ذاتاً، العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة، وأما التفضيل فهي إشارة إلى ما اكتسبه الإنسان من الفضائل بسبب التوفيق من الله تعالى إليه، من العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة[5].

الثاني: إن التكريم إشارة إلى الجوانب المادية، وأما التفضيل فهو إشارة إلى المواهب المعنوية، وقد جعل القرينة على ذلك، هو استعمال كثرة استعمال لفظة التفضيل في القرآن الكريم في الأمور المعنوية[6].

وللسيد العلامة الطباطبائي(ره) كلام في المقام، محصله أنه التكريم والتفضيل كلاهما ناظر على نوع من الموهبة الإلهية للإنسان، فتكريمه بإعطائه موهبة تختص به لا تتعدى لغيره، وأما تفضيله فبإعطائه أموراً تزيده على ما يكون مشتركاً له مع غيره[7].

التكريم أصل تكويني:

ثم إنه بعد الفراغ عن تحديد المقصود من الكرامة الإلهية الممنوحة للإنسان في الآية الشريفة، وأنها العقل، يقع الكلام في أن هذه الكرامة، هل يمكن عدها أصلاً موضوعياً تشريعياً فيجعل ميزاناً في القبول بحكم من الأحكام المستنبطة من الأدلة المقررة أم لا، بحيث يقال: إن أي دليل دل على حكم شرعي ما، لا يلتـزم بمؤداه ما لم يكن متوافقاً ومبدأ الكرامة الإنسانية، وأما إذا كان مخالفاً وإياها، فإنه سوف يعرض عنه، ولا يرتب عليه أثراً. ويكون هذا نظير قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فإن مفاد الحديث النبوي المشهور، هو نفي كل حكم ضرري في الإسلام، وعليه لو وجدنا حكماً ضررياً، فإنه يقال مباشرة بعدم تشريعه، لأن الشرع الشريف قد أعطى قاعدة مفادها نفي كل حكم ضرري[8]، وهكذا أيضاً نفي ما يوجب الحرج والعسر، وغير ذلك.

قد يدعى عدم حصر دلالة الآية الشريفة في البعد التكويني، ما يوجب عدم حصر الموضوع فيها في خصوص الجنبة التكوينية، بل يتعدى منها لتفيد أصلاً تشريعياً، من أصول النظرية القرآنية، يرفض كل ما يؤدي إلى اهانة الإنسان، أو يوحي بالانتقاص من كرامته، كل ذلك من موقع الإنسانية الذي قد أعطيه. وعلى هذا فلن يختلف هذا الأصل الموضوعي عن بقية الأصول التي يقوم عليها الدين الإسلامي، فيكون مثله مثل قاعدة لا ضرر، وقاعدة لا حرج، والتي قد عرفت أنها تكون مرجعاً فوقياً يرجع إليه لتقرير القبول بما يفيده دليل شرعي في مقام الاستنباط من عدمه، فلاحظ.

ومن الواضح أن تمامية التقريب المذكور تقوم على البناء-كما ذكرنا-بكون الآية المباركة في مقام بيان البعد التشريعي، وعدم قصرها في الدلالة على الحكم التكويني، وهذا يعني أنه لو بني على خصوص الأمر الثاني، أعني حصر دلالتها على البعد التكويني فقط، فلن تكون مفيدة للأصل المدعى.

إلا أن الظاهر من خلال التأمل في الآية الشريفة، وملاحظة المقصود من الكرامة التي تضمنتها، كونها ناظرة لخصوص البعد التكويني من دون أن تكون لها أدنى علاقة بالبعد التشريعي كما لا يخفى، فإن كون التكريم الذي أعطيه الإنسان هو مبدأ العقل الذي جعل له من الباري سبجانه وتعالى، من دون أن يكون هناك نظر إلى طرف آخر يدلل على عدم نظرها إلى بيان شيء آخر كما هو واضح.

وقد كان سبب هذا التكريم، أن أنيط بالإنسان دور الخلافة الإلهية في الأرض[9]، فقال تعالى:- (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)[10]، فصار ذلك واحداً من الآثار التي ترتبت عليه.

ومن المعلوم أن هذا الدور الذي قد أنيط به، أعني الخلافة الإلهية في الأرض ليس دوراً تشريفاً محضاً، بل هو دور رسالي ذو أبعاد مهمة، استدعت وجود الاستعداد، والمقومات الداعية لامتلاك الخليفة ما يؤهله لأن يقوم بما هو المطلوب منه، فجعل له العقل والإرادة، ما جعله من خلالهما قادراً على الإبداع والتقدم نحو الأفضل، وهكذا.

والحاصل، إن دلالة الآية الشريفة لا تخرج عن الحديث عن الناحية التكوينية، والتي على أثرها يستكشف الدور الموكل للإنسان، أعني الاستخلاف في الأرض، وأين هذا من الناحية التشريعية التي يراد أن يصار إليها، فلاحظ.

هذا وقد يتمسك لإثبات الدعوى السابقة بما جاء في كلام العلامة الطباطبائي(ره) عند تفسيره للآية الشريفة، حيث قال(قده): …أن المراد بالآية بيان حال لعامة البشر مع الغض عما يختص به بعضهم من الكرامة الخاصة الإلهية، والقرب والفضيلة الروحية المحضة، فالكلام يعم المشركين والكفار والفساق وإلا لم يتم معنى الامتنان والعتاب[11]. لأنه قد تضمن أن الكرامة الواردة في الآية المباركة لا تقبل التجزأ، وليست مختصة بأحد دون أحد، وأن المنظور فيها هو البعد الإنساني الذي يتوفر في كافة البشر كما لا يخفى.

وما ذكر من أن الكرامة الإنسانية لا تقبل التجزأ صحيح، وأن كلام السيد العلامة(ره)، يشير إلى عدم اختصاص الكرامة بعنصر دون آخر من البشر، إلا أن ما فات القائل عدم إحاطته بالمقصود من الكرامة المذكورة في كلامه(ره)، ذلك أنك قد عرفت أن نظره لكونها العقل المعطى للإنسان، وطبيعي أن هذا العقل لا يختلف فيه المسلم عن الكافر، ولا الفاسق، وهكذا، وهو ما يعني عدم التجزأ المذكور في الكلام، وما يعني التساوي بين كافة أفراد البشر فيه على حد سواء، كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكرنا من أن المقصود بالكرامة في الآية الشريفة الناحية التكوينية، ولا نظر فيها للجانب التشريعي، ما جاء على لسان إبليس اللعين، عند اعتراضه على الباري سبحانه وتعالى بأن تكريمه سبحانه لهذا المخلوق عليه بطلبه السجود إليه، في غير محله، لأن موجبات التكريم التكوينية التي يمتلكها أولى من موجبات التكريم الموجودة لديه، فإنه مخلوق من نار، وهذا الذي طلبه أن يسجد إليه قد خلقه من طين.

ومن الواضح جداً أن الحديث كان عن المقومات التكوينية، وليس الحديث عن الجانب التشريعي، قال تعالى:- (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً)[12].

وبالجملة، إن الجزم بكون الآية الشريفة ناظرة إلى بيان أصل فقهي موضوعي يصلح أن يكون قاعدة عامة يؤسس على وفقها العملية الاستنباطية، بحيث يعرض كل نص من النصوص عليها كي ما يقرر أنه صادر ليبنى على ما يستفاد منه، من عدمه، غير واضح، بل الواضح خلافه.

على أنه لو لم يقبل بما ذكرنا، لزم أن يبنى على أن التقوى التي أشير إليها في قوله تعالى:- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[13]. أصلاً موضوعياً يبنى عليه الخطابات الدينية، وبالتالي سوف يقرر أن الميزان على ذلك، وهذا ما يتنافى وما يود المدعي تقريره من خلال البناء على دلالة الآية الشريفة كما لا يخفى.

نعم مما لا ريب فيه، أن مقتضى دلالة الآية على البعد التكويني، سوف يلتـزم بفساد كل ما يكون منافياً والتكريم التكويني للإنسان، مثل نظرية داروين، التي تقرر أن أصل الإنسان قرد، لكونها تنافي التكريم الإلهي للإنسان على مستوى الخلقة، فلاحظ[14].

بين الفتاوى والكرامة الإنسانية:

هذا ولو ألتـزم بما أدعي من كون الكرامة الإنسانية أصلاً فقهياً يجعل معياراً لرد كل خطاب ديني ينافي كرامة الإنسان، مثل النصوص التي جاءت تمنع من الزواج من الأكراد مثلاً لكونهم خلقاً من الجن، أو غيرهم من القوميات الأخرى، والتي قد يدعى منافاتها لكرامة الإنسان، لأن مقتضى قوله تعالى:- (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، عدم الفرق بين قومية وقومية أخرى، وهكذا الخطابات الدينية التي تفرق بين المسلم والكافر، أو بين المؤمن والمخالف، بل بين الرجل والمرأة.

ولا يذهب عليك أن النقاش المذكور له بعدان، فتارة يكون النقاش كبروياً، وأخرى يكون صغروياً.

أما النقاش الكبروي، فذلك في كل من كان مخالفاً لما يوجب الكرامة المعطاة للإنسان، وقد ذكر نموذجان لذلك، وهما الكافر والمخالف، ويمكن تطبيق النماذج الأخرى عليهما.

وأما النقاش الصغروي، فهو في الخطابات الدينية التي ترتبط بالمرأة مثلاً، أو ترتبط ببعض العناوين كالقوميات وما شابه.

أما بالنسبة للبحث الكبروي، فإن البناء على منافاة الخطابات الدينية للكرامة الإنسانية تعتمد على مراعاة الإنسان للكرامة المعطاة له، وهذا يعني أن كل من لم يحترم ما أعطيه من كرامة، فإنه لا يستحق أن يحترم، فالله تعالى عندما زود الإنسان بالعقل، وكرمه به، فإن من الواجب على هذا المخلوق أن يشكر هذا التكريم، ويحمد هذه النعمة، وليس من أدل على أن يقوم بطاعة هذا المنعم، ويؤدي حقه بعبادته، لا أن يكون كافراً بنعمه عليه، وجاحداً لما أولاه إياه، فإن فعل ذلك فهو الذي قد عمد إلى هوان نفسه، فلا يكون هناك من تعدى عليه، لأن الباري سبحانه قد كرمه، عندما زوده بكل ما يكفل له الكرامة والاحترام، وهو الذي عمد إلى التوهين والإذلال لنفسه. وعليه، فإن عملية التميـيز المذكور لا تعد توهيناً، ولا تنافي الكرامة المعطاة له.

وكذا من حاد عن الطريق الذي رسمه الباري تعالى، عندما أمر الأمة بإتباع أهل بيت النبي(ص)، وأنهم الصراط السوي، والطريق المستقيم، فكل من حاد عن ذلك، فقد أختار لنفسه الهوان وعدم الكرامة، فلا يكون مستحقاً للتكريم.

وأما الحديث في الجانب الصغروي، فإن على المدعي إثبات أن منع المرأة من ممارسة بعض الجوانب منافٍ لكرامتها، ويعد هواناً لها.

مع أن مقتضى ما ذكر يتضمن التسليم بأن هناك احتراماً وتقديراً للمرأة، لأنه يقرر أنها قد أعطيت جملة من الحقوق، وقدم لها مجموعة من التقديرات، عمدة ما كان منعت أموراً، ومن الطبيعي جداً أن المنع قد نجم عن أسس دعت إلى ذلك، ولم يكن هذا المنع ناشئاً من التشهي، أو العبثية.

وإن شئت فقل، لقد أعطى الإسلام للمرأة تمام الاحترام والتقدير، وأنه قد كفل لها كل ما يوجب الكرامة والعزة، وجنبها ما يوقعها في الهوان والذل، وإن حجبها عن بعض المناصب ما كان إلا تأكيداً لهذا المبدأ الذي قد خطه الباري سبحانه وتعالى إليها، وليس أدل من ذلك إعطائه إياها حقوقاً وامتيازات لم تثبت للرجل نفسه، ما يمنع من صحة المقولة المدعاة أن الإسلام ذكوري المبدأ نعم لكل نظام أسس يضع قوانينه على وفقها، يأخذ بعين الاعتبار حيثيات تستوجب ذلك، فيقرر أمراً ويمنع آخر لمصالح قد تكون واضحة لكل أحد، وقد تكون خافية إلا على واضعها، وهو ما دعى إلى أن لا يكون للمرأة بعض المسؤوليات، فتدبر.

أما ما ذكر من منع الزواج من الأكراد، أو غيره من القوميات على فرض إحراز الصدور، وتوفر موجبات القبول الأخرى فيه، فلا إشكال في لزوم رفع اليد عنه، لكونه منافياً لروح الشريعة السمحاء، والتي جاءت لتجعل معايير التفاضل في الإسلام على مبدأ التقوى.

ولا ينحصر الأمر في خصوص هذا العنوان، بل يمكن تطبيق غيره من العناوين، على ذلك، فيقرر أن كل ما كان منافياً لروح الشريعة، فإنه لا يقبل وترفع اليد عنه، أو يرد علمه إلى أهله، ومن ذلك ما ورد من أن بني اسرائيل كانت إذا أصابت أحدهم النجاسة قرضوا أبدانهم بالمقاريض، فإنه لو لم يكن تأويله بما يكون متوافقاً وروح الشريعة، فإنه يرد علمه إلى أهله، أو ترفع اليد عنه، فلاحظ.

[1] سورة الإسراء الآية رقم 70.

[2] التفسير الكبير ج 21-22 ص 14. الميزان ج 13 ص 156.

[3] التحقيق في كلمات القرآن الكريم ج 10 ص 49-50 (بتصرف)

[4] الميزان في تفسير القرآن ج 13 ص 156(بتصرف).

[5] التفسير الكبير ج

[6] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 9 ص 59.

[7] الميزان ج 13 ص 158.

[8] للأعلام كلام في عدم جريان القاعدة المذكورة في بعض الأحكام الضررية كالحج مثلاً، ليس هذا مورد ذكره، لكن يمكن للقارئ العزيز طلب ذلك من محله.

[9] الشريعة تواكب الحياة ص 18(بتصرف).

[10] سورة البقرة الآيات رقم 30-33.

[11] الميزان في تفسير القرآن ج 13 ص 155.

[12] سورة الإسراء الآية رقم 62.

[13] سورة الحجرات الآية 13.

[14] الشريعة تواكب الحياة ص 21.