يغضب لغضبها

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
666
0

من الأحاديث النبوية المشهورة التي تشير إلى فضل مولاتي السيدة فاطمة الزهراء(ع)، ما جاء عنه (ص) من أنه قال: إن الله ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها[1].

وقد تضمن الحديث المذكور تعليق غضب الله سبحانه وتعالى على غضب مولاتي الزهراء(ع)، بحيث أنها متى غضبت على أحد كان ذلك سبباً لحلول الغضب الإلهي عليه، كما تضمن أيضاً تعليق الرضا الإلهي على رضاها(ع)، فلو أنها رضت عن فرد كان ذلك كاشفاً عن حصول الرضا الإلهي عنه، وهذا يعني أنها(ع) بمثابة الميزان الذي يمكن من خلاله استكشاف حصول الرضا الإلهي عن فرد من الإفراد، أو حلول السخط الإلهي عليه.

ووفقاً لما تضمنه الحديث المذكور من تعليق للغضب الإلهي والرضا الرباني، بغضبها ورضاها(ع)، أعتبر أعلامنا أن الحديث المذكور أحد الأدلة الأساسية التي تكشف عن عصمتها(ع)، إذ لا يتصور أن يكون الغضب الإلهي معلقاً على غضب شخص تتحكم فيه الأهواء والعواطف، ويكون خاضعاً للاعتبارات الدنيوية، من الشهوة وحب النفس، والأنا، كما أنه لا يمكن أن يكون رضا الله تعالى معلقاً على من لا يكون رضاه لما يرضي الله سبحانه وتعالى فقط، دون أن تكون للعوامل الأخرى مدخلية أبداً.

وبالجملة، لا كلام لأحد في أن الحديث المذكور من أوضح أدلة السنة الشريفة على عصمة الزهراء(ع)، وأن من خلاله يمكن معرفة من يكون في الجنة، ومن يكون في النار.

إلا أن هذا المعنى أعني دلالة الحديث النبوي على عظمتها بأبي وأمي، ليس هو ما يلفت الانتباه، ويدعو للتأمل في الحديث المذكور، خصوصاً وأن أدلة عصمتها متعددة، فالقرآن الكريم، قد تضمنت غير واحدة من آياته الشريفة، كما أن العقل حاكم بذلك أيضاً، فضلاً عن أن نصوص السنة الشريفة دالة على ذلك. بل إن الذي يوجب التوقف، ومن ثمّ يدعو للتأمل في الحديث المذكور، هو: معرفة الأسباب والدواعي التي أوجبت بلوغ مولاتي الزهراء(ع) هكذا منـزلة، وحصولها على مثل هكذا منصب، فكيف وصلت بأبي وأمي لتكون في هذه المنـزلة، بحيث يكون الغضب الإلهي معلقاً على غضبها، كما أن الرضا الإلهي يتوقف على حصول الرضا منها؟

إن الجميع يعلم بأن مجرد امتلاكها العصمة لا يمكن أن يكون هو السبب فقط، لأن العصمة إنما يفيضها الله سبحانه وتعالى على أي عبد من عبيده وفقاً لتوفر مقتضياتها وتحقق شروطها، بمعنى أن الله تعالى يطلع على العباد، فيجد بينهم من يكون مؤهلاً لأن يفاض عليه هذا الأمر، ويعطى هذا المنصب العظيم، وعليه فلا تعطى العصمة لأحد إلا بعد أن يكون المعطى قد امتلك المقتضي لها، وانتفت منه الموانع عنها، وإلا فلا يمكن أن تفاض عليه كما لا يخفى.

ووفقاً لما ذكر، فما هو المقتضي الذي امتلكته مولاتي الزهراء(ع)، حتى صارت محلاً لأن يفاض عليها هذا الأمر، وتكون محطة لمثل هذا العطاء الإلهي؟ إن هذا هو الذي يحتاج إجابة عند التعرض للحديث المذكور، وهو الذي يجدر أن يبحث ويدرس عندما يذكر.

ومما يؤسف له، أنه لا يوجد تسليط للأعلام في هذا المجال عند التعرض لمثل هذا الحديث، وأضرابه من النصوص التي تكشف عن التعريف بحقيقة مولاتي الزهراء(ع)، وبيان من هي!

هذا ويلزم قبل محاولة الغور في دلالة الحديث النبوي، ومحاولة الإحاطة بالمضمون السامي الذي تضمنه، تعريفاً من الرسول الكريم(ص) لجوهرته المكنونة والدرة المصونة الزهراء الأنسية(ع)، التفريق بين تعبيرين، فإن هناك فرقاً بين أن يقال: تغضب لغضب الله، وترضى لرضاه، وبين أن يقال: ويغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها، فإن الأول منهما لا يكاد يفيد امتيازاً إلا من جهة أن هذا العبد يراعي الله تعالى في كل أفعاله وأقواله، وأنه لا يرتكب ما يكون مخالفاً لله تعالى، وهذا بخلاف التعبير الثاني، فإنه لا معنى لأن يقال بأن العبد يراعي الله تعالى في كلما يصدر منه، فإن ذلك مفروغ عنه، بل الحديث لابد وأن يكون كيف بلغ العبد هذه المرتبة، حيث صار الغضب والرضا الإلهي معلقين على غضبه ورضاه.

ثم إن معنى أن الله تعالى يغضب لغضب العبد، وأنه يرضى لرضاه، أي أن الله سبحانه وتعالى يسمع، ويرى، وينطق، ويبطش[2] من خلال هذا العبد، ذلك لأن العبد قد بلغ مرتبة الفناء الأسمى في الله تعالى.

ومن الطبيعي أن الوصول إلى مرتبة الفناء الأسمى في الذات المقدسة، ليس أمراً سهلاً يتسنى لكل أحد، وإنما يكون ذلك لفئة خاصة، يبلغون مقام المُخلَصية، ويتعدون مقام المُخلِصية، الناجم من خلال الارتباط بالله تعالى من خلال مقام التقرب بالفرائض، وتعدي مقام التقرب النوافل.

وهذا يعني أن مولاتي الزهراء(ع) قد بلغت مقام المُخلَصية، لأنها أصبحت تتقرب إلى الله تعالى بمقام التقرب بالفرائض، فصار الله سبحانه وتعالى، يسمع، ويرى، وينطق، ويبطش من خلالها صلوات الله وسلامه عليها.

فيتضح من خلال ما تقدم، أن منشأ التعليق الوارد في الحديث النبوي المذكور يعود لثبوت هذا المقام للزهراء(ع)، لكن كيف بلغت الزهراء(روحي وأرواح العالمين لها الفداء) مثل هذا المقام؟

تحتاج الإجابة على ذلك للإحاطة بأمور:

حب الإنسان للكمال:

لا يخفى على أحد أن الإنسان مخلوق مفطور على حب الكمال، فهو يسعى إلى تحصيله وبلوغ أعلى مراتبه، وهذا الكمال الذي يسعى العبد لبلوغه وهو مفطور عليه منذ خلقه كمال غير متناهٍ صادق على الموجود المطلق سبحانه وتعالى، ولما لم يكن لهذا الكمال المطلوب حداً، فالإنسان ينتقل من منـزل معنوي إلى منـزل آخر أكثر تكاملاً، ومن مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى سمواً، ومن مقام إلى مقام أشد وأقوى منعة. فهو لا يكف عن سعيه، ولا عن مقصوده في سيره لبلوغ مناه، وتحقيق مراده.

وهذا الكمال المفطور عليه الإنسان منذ خلقه من الأمور الذاتية الموجودة في أصل خلقة الإنسان وتركيبته، فلا مجال لتعليلها، لما قالوا من أن الذاتي لا يعلل، فلا مجال وفقاً لهذا أن يسأل عن سبب حب الإنسان للكمال.

ثم إن الكمال الغير متناهٍ والذي يطلبه الإنسان يعتمد على مقدار ما يملك من معرفة لله سبحانه، إذ قد عرفت أن الكمال المنشود هو الكمال الصادق على الذات المقدسة، فلكي يواصل الإنسان في هذا المجال لابد وأن يكون عارفاً بالذات المقدسة، وهذا يعني أن بلوغه أي مرتبة من مراتب الكمال يتوقف على ما يملكه من معرفة بصاحب الكمال المطلق.

وبالجملة، إن الكمال المطلق هو معرفته سبحانه وتعالى بالنسبة للإنسان، ولا إشكال في أن المعرفة سبب لتحقق الحب، فلكي يبلغ الإنسان الكمال المطلق لابد وأن يكون محباً لله تعالى، ومحبته لله عز وجل، هي فرع معرفته، فإذا عرفه كان ذلك سبباً لحبه، وإذا أحبه كان ذلك مؤدياً لبلوغه الكمال المطلق.

المعرفة الحصولية والحضورية:

ولا يذهب أن المعرفة قسمان، فهناك معرفة حصولية، وهناك معرفة حضورية.

ويقصد من المعرفة الحصولية: هي المعرفة التي يتحصل عليها العبد من خلال الدليل والبرهان.

وأما المعرفة الحضورية، فهي التي تعرف بطريق الشهود، وتسمى أيضاً باليقين.

ولا شك أن المعرفة التامة والتي يعبر عنها بالعشق لا تنال إلا عن طريق المعرفة الشهودية، فيرى عندها جميع المحاسن في الله تعالى، وإليه يشير قوله تعالى:- (ءآلله خير أما يشركون)[3]، وطبيعي جداً أن من يبلغ هذه المرتبة لا يكون ملتفتاً لشيء إلا الله سبحانه وتعالى[4]، يقول أمير المؤمنين(ع): ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله، وفيه وبعده.

ويختلف الحب الناجم عن كل واحدة منهما، فلو كانت المعرفة حصولية كسبية، فسوف يكون الحب الحاصل من خلالها محجماً ومحدوداً بمقدارها، لما قرر في علم المنطق من أن النتيجة تتبع أخس المقدمات، لأن المعلوم الذي يحضر عند العالم بهذه المعرفة هو صورة الشيء فيكون الإنسان عالماً بالصورة، وليس عالماً بذيها، فيكون مبلغ علمه هو ذلك.

وهذا بخلاف ما لو كانت المعرفة حضورية، بل وشهودية حقيقية تحققية، فلا ريب في أن الحب الناجم عنها يتضمن تجلياً حقيقياً، ويكون المعلوم الحاضر عند العالم هو عين المعلوم، وليس مجرد صورته، فيكون عالماً بذي الصورة، وليس بالصورة فقط.

ومن خلال ما تقدم، يتضح مدى الفرق في الحب الذي يكون حاصلاً نتيجة المعرفة الحصولية، والحب الناجم من خلال المعرفة الحضورية، فلاحظ[5].

وهذا يعني أن العلاقة التي تكون بين العبد وربه تبتني بصورة أساسية على مقدار ما يملكه من حب، القائم كما عرفت على نوعية المعرفة التي عند العبد لربه، ومن خلال ذلك يتقرر مدى قرب العبد من ربه، وحدود علاقته معه، وما يعطيه سبحانه وتعالى له، فتدبر.

مراتب الحب الإلهي:

ثم إن المحبين لله تعالى وفقاً لما يملكون من معرفة، ليسوا على مستوى واحد، إذ طبيعي جداً أن يكون هناك تفاوت بينهم في المراتب، فكما أن بينهم تفاوتاً في المعرفة، لابد وأن يكون بينهم تفاوت في الحب أيضاً، وهذا يعني أن للحب مراتب يبلغ البعض ما لا يبلغه الآخرون.

ووفقاً ما يملكه الناس من معرفة، يمكن تقسيم مراتبهم في الحب كالتالي:

المرتبة الأولى: ما يكون موجوداً عند عامة الناس من دون فرق بين من كان متديناً متقيـداً بالتعاليم الشرعية، ومن لم يكن كذلك، فتكون هذه المرتبة من الحب حتى عند البعيدين عن امتثال الأوامر والنواهي الإلهية.

والمحب في هذه المرتبة يكون مستغرقاً في الغفلة، غافلاً عن هذا الحب، قد تحصل له بين فينة وأخرى جملة من الالتفاتات الطويلة الناجمة من التوبة، فيستيقظ من غفلته.

وتعتبر هذه المرتبة من مراتب الحب أدناها، لما عرفت من حال المحب فيها، وانغماسه في الغفلة الطويلة والبعيدة.

المرتبة الثانية: وهي التي تكون للذين خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئ، فهم ملتـزمون بالشريعة وأحكامها من جهة، إلا أن النفس الأمارة بالسوء تدعوهم في أوقات الضعف، فيستجيبون إليها، ويتبعون الشهوات، إلا أنهم سرعان ما يندمون، ويعودون إلى رشدهم.

ولا يخفى أن هذه المرتبة أعلى مكاناً من سابقتها، إذ يكفيها أن المحب لا يعيش حالة الغفلة المطلقة التي يعشها أصحاب المرتبة السابقة، وإنما تصيبه أحياناً فينسى إلا أنه سرعان ما يعود.

المرتبة الثالثة: من يكونوا في دائرة الصراع المرير، آخذين بأنفسهم نحو الجادة والوصول عما قريب، فهم لم يتخلصوا من التبعية للدنيا ومتعلقاتها ليكون الارتباط بالله سبحانه وتعالى وحده.

وأصحاب هذه المرتبة قد تخطوا مرحلة الغفلة، فلا يعيشون غفلة عن الذات المقدسة، كما أنهم تمكنوا من كبح جماح النفس، فما عاد هناك نسيان لله ولو في بعض الآنات، إلا أنهم يعانون من مشكلة عدم التخلي والتجرد التام عن الدنيا، فلا زال لها وجود عندهم، فهم يعيشون والأبناء والزوجة، والأموال، وما شابه ذلك.

المرتبة الرابعة: من تخلصوا من تبعية الدنيا ومتعلقاتها، وارتبطوا بالله وحده، فبلغوا مراتب الفناء الثلاث:

1-الفناء في الأفعال، ومعنى ذلك أن جميع الأفعال الصادرة من العبد تكون فانية في أفعال الله سبحانه وتعالى.

2-الفناء في الصفات، فتكون صفات العبد فانية في صفات الله عز وجل.

3-الفناء في الذات، ويكون فناء لذات العبد في ذات الله تعالى.

ومن الطبيعي أنه متى وصل العبد إلى مرحلة الفناء التام في الذات الإلهية، فلن يرى موجوداً سوى الله سبحانه وتعالى، وهذا سوف يعطيه بلوغ مقام من مقامات القرب الإلهي، إذ يكون عندها من عباد الله المخلَصين، وهو أعلى مراتب القرب من الباري سبحانه وتعالى[6].

أقسام القرب من الله:

وما دمنا قد أشرنا إلى أن وصول العبد إلى المرتبة الرابعة من مراتب الحب يكون أحد الأسباب الرئيسة للحصول على أعلى مراتب القرب من الله تعالى، فلنشر إلى مراتب القرب منه سبحانه، فإن المستفاد من كلمات أهل الفن والاختصاص أنها على ثلاثة أنحاء:

الأول: القرب البحثي النظري، وهو الذي يعبر عنه عادة بعلم اليقين، ويحصل نتيجة الإحاطة بالأدلة والبراهين المشيرة إلى وجود الذات المقدسة، ووحدانيتها، وعظم قدرتها، وما يرتبط بذلك، ونقصد بالأدلة، الأدلة الآفاقية، أو الأنفسية من دون فرق بينهما، بل كل ما يصلح الاستناد إليه في تحقيق الغرض، وتحصيل المطلب.

الثاني: قرب المعاينة والشهود، وهو الذي يعبر عنه بعين اليقين، ذلك عندما يصل العبد إلى درجة المشاهدة.

الثالث: قرب غياب المشهود في المشاهد، والرائي في المرئي، ويسمى بحق اليقين، وهي التي يصل العبد فيها إلى مرحلة الإحساس والتصديق تماماً.

وقد مثلوا للأقسام الثلاثة بالنار، فإذا رأى العبد دخاناً من بعيد علم أن هناك ناراً، فإذا وصل إلى مكان الدخان ورأى النار تشتعل، وشهدها صار له عين اليقين، فإذا أحرقته النار أصبح يملك حق اليقين[7].

ولعل هذا ما يشير إليه الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة المعروف: أيستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون له من الوجود ما ليس لك. فهو(ع) يشير إلى أنه لا حاجة إلى إقامة البراهين عليك يا رب، خصوصاً وأن الطريق للاستدلال على ذلك سيكون من خلال أما الدليل الآفاقي، أو الدليل الأنفسي، وكلاهما ليس مستقلاً في وجوده عنك، بل محتاج في وجوده إليك، فكيف يكون دليلاً عليك، وهو(ع) بهذا يشير إلى معرفة الله تعالى ورؤيته بالمعرفة الشهودية، وغياب المشاهد في المشاهد.

هذا ولا يذهب عليك أن أقل هذه الأقسام أثراً هو القسم الأول منها، بينما الثاني والثالث منهما لهما أكبر الأثر في قوة العلاقة مع الذات المقدسة. كما أن وصول العبد إلى القسم الثاني من أقسام القرب يكون من خلال أمر، يختلف عنه بالنسبة إلى القسم الثالث، فلا يكون الوصول إليه إلا من خلال أمر آخر. إذ أن القسم الثاني يكون الوصول إليه من خلال التقرب بمقام قرب النوافل، وأما القسم الثالث، فإن الوصول إليه يكون من خلال مقام قرب الفرائض، وتوضيح ذلك:

لا يخلو حال العبد إما أن يكون متقربا لله تعالى بالنوافل أو يكون متقرباً إليه بالفرائض، ويسمى تقربه إليه تعالى بالنوافل عند العرفاء بمقام قرب النوافل، وهو الذي يشار إليه في الحديث القدسي: إنه-العبد-ليتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته[8].

والمستفاد من الحديث القدسي أن الله تعالى سوف يكون عين العبد، وسمعه ولسانه، ويده، وبذلك سوف تتحول أفعال هذه الجوارح الإنسية إلى أفعال ربانية، وهذا هو الفناء الذي سبقت الإشارة إليه. فإذا أصابت العبد حالة الصحو من خلال رجوع الإحساس بعد غيبة، وصار في الحضور الإلهي، فترتدي عندها النوافل المستحبة في هذا المقام أحكام الوجوب عليه.

إلا أنه ورغم بلوغ العبد مقاماً سامياً في العلاقة الإلهية، إلا أنه لا زال ينطوي على شمة من إنيته الفانية، ونعني بذلك المحدودية، ويظهر ذلك من خلال التعبير الصريح في الحديث القدسي، فإنه قد أشير إلى بقاء المحدودية، حيث كان الله تعالى بصره، وسمعه ولسانه، ويده، ولا ريب في محدودية بصر العبد، ومحدودية سمعه، ولسانه ويده.

ووفقاً لما تقدم، يمكن القول أن المقام الذي يتحصل عليه المتقرب من خلال مقام قرب النوافل، إنما هو مقام المُخلِصية.

أما لو كان تقرب العبد إلى الله تعالى بمقام قرب الفرائض، فسوف يختلف الحال، فقد ورد في الحديث القدسي: ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالفرائض حتى أحبه، فإذا أحببته صار سمعي…ألخ..[9].

فسوف يكون العبد سمع الله تعالى، ويكون لسانه، وأذنه، ويكون البطش بواسطته، وهذا هو معنى ما ورد على لسان أمير المؤمنين(ع) في قوله: أنا علم الله، وأنا قلب الله الواعي، ولسانه الناطق، وعين الله، وجنب الله، وأنا يد الله[10].

الفرق بين مقامي التقرب بالنوافل والفرائض:

ومن الطبيعي أن كون سمع العبد سمع الله وما شابه، يضيف على سمع العبد عدم المحدودية، لأنه لا محدودية في سمع الله تعالى، ولا محدودية في بصره عز وجل، ولا محدودية في نطقه، أو بطشه، فتكون جميع الأمور حاضرة عند العبد الفاني في الباري سبحانه وتعالى. ولا يكون ذلك إلا من خلال وصول العبد إلى مرتبة الفناء الأسمى في الذات الإلهية.

وهذا هو الفرق بين المقامين، مقام التقرب بالفرائض، ومقام التقرب بالنوافل، فإن الثاني منهما لا زال متضمناً للمحدودية، وهو بخلاف الأول منهما، فإنه لا محدودية فيه، وقد عرفت من أين نشأت المحدودية في كل الثاني، وانتفائها في الأول، فلاحظ[11].

ويمكن أن يكون من مصاديق مقام التقرب بالفرائض ما ورد: من أن من أخلص لله أربعين صباحاً جرت ينابيع الحكمة على لسانه، إذ أن جريانها يعود لكون الله تعالى أصبح لسانه. ومثل ذلك: ما جاء في الحديث القدسي: عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، فتقول للشي كن فيكون، فإن ذلك يعود إلى أن الله تعالى صار يد العبد، فلاحظ.

وأود أن أنبه إلى أن الكثير قد يعتقد أن مقام التقرب بالنوافل أعظم من مقام التقرب بالفرائض، ويقيس ذلك من خلال أن الأول منهما مستحباً، وقد جعل العبد على نفسه بمثابة الواجب، بينما الثاني منهما واجب، فليس لإتيان العبد به فضلاً ولا فخراً، إلا أنك قد عرفت أن موجب تفضيل الثاني على الأول، هو ملاحظة المحدودية وعدمها وفقاً لما يستفاد من النص، فلاحظ.

ولعل هذا هو المقصود في الحديث المعروف: حسنات الأبرار سيئات المقربين، إذ لا ريب في أن مقام قرب النوافل حسنة، لكنه لما لم يوجب إخراج العبد من دائرة المحدودية التي أشرنا إليها، كان الوقوف عنده سيئة عند أصحاب قرب الفرائض، لأنهم قد تخطوا مرحلة المحدودية، فتدبر.

على أنه يمكن أن يذكر فرق آخر بين مقامي التقرب بالنوافل، والتقرب بالفرائض، فيقال: بأن المُخلِص لا يزال مشتملاً على اقتضاء فعل المعصية، والنظر إلى الغيرية، وأما المُخلَص، فلا يوجد فيه اقتضاء ذلك، فالأول إن لم يفعل السوء فذلك لملكة حصل عليها من خلال تزكية نفسه، وتطهير قلبه. وهذا ما يمكن التعبير عنه بإيجاد المانع، وإن المقتضي لفعلها لا زال موجوداً، إلا أن المانع يعد حاجباً من الإقدام عليها. وأما الثاني، فإنه لا يقدم على فعل المعصية لأنه لا توجد في نفسه وقلبه الأرضية لفعلها، وهذا يعني أنه لا يوجد مقتضٍ أساساً للإقدام على فعل المعصية وارتكابها، لا أن الموجب لعدم الإقدام هو وجود المانع، فلاحظ[12].

ومن خلال ما تقدم يتضح لنا معنى أن ما ذكرناه في الحديث النبوي: إن الله ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها[13]، عندما قلنا بأن الله تعالى أصبح يد فاطمة، ولسانها، وعينها وأذنها، فذلك يعود إلى أنها بلغت مقام المُخلَصية الحاصل من التقرب بمقام الفرائض.

[1] فرائد السمطين ج 2 ص 46.

[2] لا يذهب عليك أن التعبير بأنه تعالى يسمع، ويرى، وينطق، ويبطش، لا يعني ثبوت التجسيم له الذي لا نقول به، فقد ثبت في علم الكلام بطلانه، فلا تغفل.

[3] سورة النمل الآية رقم 59.

[4] المحبة في الكتاب والسنة ص 234.

[5] معرفة الله ص 24-25. 124-130.

[6] معرفة الله ج 1 ص 151-152.

[7] الأمثل في تفسير كتاب الله المنـزل ج 20 ص 385.

[8] أصول الكافي ج 2 ص 352 ح 7.

[9] رياض الصالحين للمحدث النووي ص 67.

[10] التوحيد لشيخنا الصدوق ص 159 ح 1 ب معنى جنب الله عز وجل.

[11] معرفة الله ج 1 ص 153-154.

[12] معرفة الله ج 1 ص 69.

[13] فرائد السمطين ج 2 ص 46.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة