29 مارس,2024

كرامات أم البنين (عليها السلام)

اطبع المقالة اطبع المقالة

يرتبط ذكر السيدة أم البنين(ع) بذكر الكرامات الصادرة عنها، والمنسوبة إليها، ويختلف عندها المتلقون في التعاطي مع هذه الكرامات، لعدم توافقهم في أصل مبدأ ثبوت الكرامة، فينقسمون إلى فريقين:
الأول: من يعتقد بثبوت الكرامة للأولياء والصالحين، وصدورها عنهم، ويقيم على ذلك شواهد وأدلة تفيد ثبوت ذلك، ووقوعه خارجاً.
الثاني: من يمنع من تحقق ذلك ووقوعه خارجاً، فضلاً عن ثبوته والاعتقاد به.

ولا يتفق أصحاب الفريق الثاني إلا في النتيجة المقررة، وهي عدم الالتـزام بثبوت الكرامة، لكنهم يختلفون في الموجب والداعي للالتزام بهذه النتيجة، فهم صنفان:
1- من ينكر ثبوتها، وقد جعل موجب إنكاره إياها يعود لحصره خرق النواميس الطبيعية في خصوص الإعجاز الجاري على أيدي الأنبياء والرسل، ولما كانت المعجزة منحصرة فيهم، فلا يوجد شيء اسمه كرامة.

2-من ينكر ثبوتها، ويلتـزم بعدم وقوعها خارجاً، لأن القول بثبوتها يعدّ ضرباً من ضروب الخرافة.
وحتى تتضح الأمور وتنجلي الحقيقة، لابد من البحث عن حقيقة الكرامة والمعجزة، وهل تضمن القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك أم لا.

حقيقة المعجزة والكرامة، وبيان الفرق بينهما:

لقد خلى ذكر القرآن الكريم عن ذكر هذا المصطلح بذاته، إذ لا يجد القارئ لآياته الشريفة إشارة من قريب أو بعيد لمثل هذا التعبير، كما لا يجد ما يعادله من حيث الاشتقاق، نعم تضمنت بعض الآيات الشريفة الحديث عن العجز، وهذا بعيد عما نحن بصدد الحديث عنه.
وبالجملة، لم يتضمن القرآن التعريف بالمعجزة بهذا المصطلح، وبهذا اللفظ. والظاهر أن التعبير بالمعجزة من الاصطلاحات الصادرة من أهل الكلام، وليست من المصطلحات القرآنية.

 نعم جاءت الإشارة إليها في غير واحدة من الآيات الشريفة، لكن بعنوان الآية، فتحدث القرآن الكريم عن آيات كانت تجري على أيدي الأنبياء، وكانوا يثبتون من خلالها صدق دعواهم النبوة، وهذا يكشف عن أن المقصود من التعبير بكلمة آية، يعني المعجزة.
وعلى أي حال، ما يهمنا هو معرفة المقصود من المعجزة، أو الآية التي تؤدي معناها وتفيد غرضها، فقد ذكرت لها عدة تعريفات، تتفق جميعها في أمور، وربما اختلفت في قيود في الجملة، فقد عرفت بأنها: أمر يجريه الله على يدي الأنبياء، ويكون على خلاف ما اعتاده الناس من سنن كونية وقوانين، غرضه إثبات صدق نبوتهم.
وعرفها السيد الخوئي(ره) أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره، شاهداً على صدق دعواه[1].

ومن الواضح أنه(قده) قد عمد إلى توسعة مفهوم المعجزة، إذ المعروف عادة بين أهل الكلام حصرها في خصوص الأنبياء والرسل، ولذا يذكر أنها الدليل الصادر منهم لغرض إثبات صدق دعواهم النبوة، والرسالة، في حالة التحدي، مع أننا نجد أنه(ره) جعل الموجب لصدورها دعوى المطلوب منه إتيانها منصباً إلهياً، ومعلوم أن المنصب الإلهي يتضمن دعوى الإمامة والخلافة للنبي(ص)، لأن الخلافة له من المناصب الإلهية التي يكون المتصدي لها معيناً من قبل الله تعالى، ووفقاً لتعريفه(ره)، سوف تكون المعجزة واحدة من السبل والطرق التي يمكن إثبات صدق مدعي الإمامة والخلافة من خلالها. نعم قد اتفق في تعريفه مع بقية المعرفين لها في كونها خرقاً لنواميس الطبيعة، وعجز الآخرين عن مجاراتها.

مقومات حقيقة المعجزة:

هذا وتتوقف حقيقة المعجزة على توفر خمسة أمور:

الأول: الإمكان العقلي والنقلي:

ونقصد بذلك ألا تكون المعجزة المراد إثباتها في الخارج تقرر أمراً مستحيلاً من الناحية العقلية، لكون العقل يحكم باستحالته، وعدم إمكانه وتحققه خارجاً، كما لو أدعى الصادرة منه المعجزة أنه إله، فإن استحالة صدق هذه الدعوى وفقاً لحكم العقل، لما دل من براهين على بطلانها، مانعة من التصديق بها.
كما ينبغي ألا تكون متضمنة المطالبة بالالتـزام بما دل النقل على انتفائه، كما لو كان الفاعل للمعجزة يدعي النبوة، وكلنا يعلم أن الدليل قد قام عندنا على أنه لا نبي بعد نبينا(ص)، فدعوى مسيلمة الكذاب النبوة مانعة من التصديق وإن جاء بمعاجز لكون الدليل النقلي قد تضمن نفي نبوة كل أحد بعد رسول الله(ص).

الأول: أن يكون الداعي لصدورها إثبات منصب إلهي:

ووفقاً لهذا القيد، فإن الخرق لنواميس الطبيعة لو صدر من شخص لا يدعي لنفسه منصباً إلهياً، فلن يطلق على الصادر منه عنوان المعجزة، كما لا يخفى.

الثالث: خرق الفعل لنواميس الطبيعة:

وما كان معتاداً، فلو لم يكن الفعل الصادر من المدعي للمنصب الإلهي خارقاً للعادة ولنواميس الطبيعة، فلا يمكن وصفه بكونه معجزة.

ثم إن المعتبر خرقاً لنواميس الطبيعية هل يشمل المحالات العقلية، فهل يتصور أن تكون المعجزة موجبة لارتفاع النقيضين، أو اجتماع الضدين، أم ينحصر ذلك في خصوص المحالات العادية، التي لا يمنع العقل من وقوعها، ولا يحكم باستحالتها، وإن كانت لا تتحق في وعاء الخارج بحسب العادة، كمعالجة الأمراض المستعصية كالسرطان على سبيل المثال، أو السكسل، فإن هذا أمر ممكن لذاته عقلاً، فلا يحكم العقل باستحالته، نعم ربما يكون وقوعه في عصرنا اليوم من المحالات العادية، بسبب قصور المعرفة البشرية، وفقدان العلم الكامل بعلاجه، ومع تقدم العلم في المستقبل ربما تمكن البشر من إيجاد علاج إليهما، بل ولكافة الأمراض المستعصية، وعليه لو توسل شخص بالنبي(ص) في شفاء مريضه من السرطان، أو من السكسل، وبرء مريضه من ذلك، فإن هذا خرق لنواميس الطبيعية الممكنة عقلاً، وإن كانت من المحالات العادية؟ ما عليه علماء الكلام هو الثاني، فهم يلتـزمون بأن المعجزة منحصرة في خرق نواميس الطبيعة في المحالات العادية، دون المحالات العقلية، فيعجز البشر عن الإتيان بمثل ما أتى به صاحب المعجزة.

وهل ينحصر عجز البشر في مجاراة ما جاء به صاحب المعجز[2] في خصوص أهل زمانه فقط، ومن بعث إليهم، أم أن المقصود من العجز البشري عجز كافة المعاصرين له، وإن لم يكن مبعوثاً لهم، فالمكيون وإن لم يكن موسى أو عيسى قد بعثا إليهم، إلا أنهم عاجزون عن مجاراتهما فيما أتيا به من معجزات، أم المقصود من العجز هو عجز البشرية جمعاء على مدى الزمان والمكان؟ لعل المستفاد من ظواهر كلماتهم البناء على ثالث المحتملات، بحيث يعتبر في صدق عنوان المعجزة أن يكون البشر جميعاً عاجزين عن مجاراتها. نعم ربما يفصل بين أنواع المعاجز، فإن بعضها تكون وليدة إثبات قضية خاصة، لا أنها بصدد إثبات أصل دعوى المنصب الإلهي، فلا يعتبر فيه ذلك.
وعلى أي، إنما يعتبر عجز البشر جميعاً في كل زمان ومكان في مجاراة المعجزة في خصوص المعاجز التي تعتمد إثبات دعوى المنصب الإلهي عليها، فلاحظ.

الرابع: التطابق بين المعجزة ودعوى المنصب الإلهي:

لأنه لو لم يكن بينهما توافق ومطابقة، فلن يكون ذلك موجباً لصدق عنوان المعجزة عليها، فما صدر عن مسيلمة الكذاب، وإن كان يعجز عن مجاراته البشر، عندما تفل في بشر فغار جميع مائها، وأمر يده على رؤوس صبيان فأصابهم القرع، إلا أنه كان مخالفاً لما كان يدعي، لذا لا ينطبق عليه عنوانا لمعجزة، فلاحظ.

الخامس: اتحاد وقت المعجزة مع وقت الدعوى:

فلا يكون الخرق لنواميس الطبيعة متقدماً على صدور دعوى المنصب الإلهي، فإنهم يطلقون على خرقها قبل إدعاء المنصب الإلهي بالإرهاصات، كما في الأمور التي سبقت ولادة النبي الأكرم محمد(ص)، أو تزامنت مع ولادته، فإنه لم يكن حينها دعوى منصب إلهي من أحد، مع كون ما جرى كان من الخرق لنواميس الطبيعة الاعتيادية[3].

وأما الكرامة، فيمكننا أن نذكر لها تعريفين موجودان في كلمات المتكلمين أيضاً، إذ تعرف بأنها أمر يجريه الله تعالى على يد أوليائه، ويكون على خلاف ما اعتاده الناس من سنن الكون وقوانينه، من دون غاية إثبات أو تحدي.

ولا يخفى أن هذا التعريف قد تضمن قيوداً  كثيرة، غايتها إبراز الفرق بين الكرامة وبين المعجزة، وما يهمنا أنها لا تتضمن إدعاء منصب إلهي، فلا يكون هناك غاية لإثبات صدق دعوى، فضلاً عن عدم اشتمالها على تحدٍ صادر من الطرف المقابل. نعم هي تتفق والمعجزة في كونها خرقاً لنواميس الطبيعة العادية، دون المحالات العقلية.

وربما عرفت أيضاً: بأنها الأمر الخارق لقانون الطبيعة من دون أن تقترن بدعوى مقام معين مرتبط بالدين. وهذا التعريف وإن كان أخصر من الأول، وأقل قيوداً منه، إلا أنه لا يختلف معه من حيث المضمون والمؤدى، وأنه أمر خارق لقانون الطبيعة في المحالات العادية دون العقلية، وأنه لا يتضمن إدعاء منصب إلهي، فلا يستوجب صدورها إثباته، فلاحظ.

عدم اختصاص جريان الكرامة بالأولياء والصالحين:

هذا ويعتقد الكثيرون انحصار جريان الكرامة على أيدي أولياء الله تعالى وعباده الصالحين، فلا يتصورن صدورها من قبل الأنبياء والرسل، ويحصرون ما يجري على أيديهم في خصوص المعاجز، دون الكرامات، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن مقتضى التعريف المتقدم للكرامة لا يمنع من صدورها على أيدي الأنبياء والرسل، لأن ما يصدر منهم خرقاً لقانون الطبيعة في المحالات العادية، حال عدم دعوى منصب إلهي، وعدم توفر تحدي، ينطبق عليه ذلك. بل ما يصدر عنهم بعد ثبوت نبوتهم، وتصديق الأمة إياهم مانع من انطباق عنوان المعجزة عليه، لعدم توفر شروط تعريفها فيه، وبالتالي لا تنطبق عليه، فيلزم أن يكون الصادر كرامة، وليست معجزة، فلاحظ.

الكرامة في القرآن الكريم:

ثم إنه بعدما عرفنا حقيقة الكرامة، ومدى الفرق بينها وبين المعجزة، نحتاج أن نتعرف هل اشتمل القرآن الكريم على ذكر لها، فضلاً عن أن يكون قد تضمن مصاديق تكشف عنها، أم هي من الأمور الثبوتية الذهنية التي لا وجود لها إلا في خصوص التصور، ولا يوجد لها في عالم التصديق والواقع الخارجي عين ولا أثر.
والحقيقة أن الإجابة على هذا الأمر سوف تكون إيجابية بمعنى أنه قد تضمنت غير واحدة من آيات القرآن الكريم الحديث عن الكرامة، من خلال ذكر وقوعها خارجاً، ومن المعلوم أن أقوى الأدلة على الإمكان هو الوقوع كما قالوا، ويمكننا تصنيف الآيات القرآنية المتضمنة للحديث عن الكرامة إلى صنفين:

الأول: الآيات التي تضمنت الحديث عما جرى على أيدي الأنبياء والرسل، ومع عدم كونهم في مقام إثبات دعوى النبوة.
الثاني: الآيات التي تحدثت عن وقوع الكرامات على يد ثلة من عباد الله الصالحين، مع أنهم ليسوا أنبياء، ولا كانوا فيم عرض إدعاء منصب إلهي أصلاً.

ومصاديق الصنف الأول عديدة جداً، بل لا يكاد أن يخلو نبي من الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم وتحدث عنهم عن واحدة، بل أكثر منها، فعند قراءة قصة خليل الرحمن إبراهيم(ع)، نجد ذكراً لعدة كرامات جرت له، وعلى يديه، منها رزقه ولداً وقد صار شيخاً كبيراً، وقد كانت امرأته سارة عقيماً،قال تعالى:- (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب* قالت يا ويلتا ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب)[4].

ومنها: قصته التي تحدث عنها القرآن في سؤاله عن كيفية إحياء الموتى، وقصة إحياء الطيور قال تعالى:- (رب أرني كيف تحيى الموتى)[5]. ويحتمل أن يكون إنقاذه من نار نمرود في قوله تعالى:- (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم)[6]، من مصاديق الكرامة أيضاً، وليست من مصاديق المعجزة، لثبوت نبوتهم عندهم لما دار بينه وبينهم من حوار طويل، أقام خلاله خليل الرحمن(ع) شواهد وأدلة عديدة في إثبات نبوته، وصدق دعوته.

وقد أشارت الآيات القرآنية أيضاً لما صدر من كليم الله موسى بن عمران من كرامات، فقال تعالى:- (وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشر عينا قد علم كل أناس مشربهم)[7]، ومن المعلوم أن ظهور هذه الآية كانت أثناء رحلة الكليم(ع) في الطريق بين مصر وفلسطين، لما أصاب الإسرائيليون العطش، فسألوا موسى الماء، وقد كان ذلك بعدما آمن بنبوته وصدقوه.

وقد كان قومه يقطعون الصحراء، فأتعبتهم حرارة الشمس، فأرسل الله غيوماً لتظلل عليهم من حرارتها، قال سبحانه:- (وظللنا عليهم الغمام)[8]، ومن كراماته أيضاً نزول المن والسلوى على قومه.

وقد كانت مائدة المسيح عيسى بن مريم(ع)، واحدة من كراماته، لأنها لم تكن من أجل إثبات نبوته، بل كان طلب قومه إياه بعد قد آمنوا به واتبعوه، قال عز من قائل:- (قال عيسى بن مريم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وءاخرنا وءاية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين)[9].
وهكذا تجد كرامات لنبي الله زكريا، وكذا نبي الله داود، ونبيا لله سليمان، وذي النون(ع)، فلاحظ.

وأما مصاديق الصنف الثاني، فمنها ما جاء في شأن السيدة مريم العذراء(ع)، قال تعالى:- (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب)[10]، فإن المذكور في كتب التفسير وفقاً لما جاءت به النصوص أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. ومنها حديثها مع الملائكة، إذ يقول الباري عز وجل:- (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين)، وكذا قال سبحانه:- (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم)[11].

ومن المصاديق أيضاً قصة طالوت، ومجيء التابوت له[12]، فهو لم يكن نبياً إلا أن الله تعالى أظهر له الكرامة، فقال تعالى:- (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم)[13].
ومن الكرامات التي وقعت لغير الأنبياء، بل لعباد الله الصالحين، ما جرى لأهل الكهف، ونومهم تلك الفترة الزمنية الطويلة التي قدرها القرآن الكريم بثلاثمائة وتسع سنين، ثم استيقظوا.

ولنختم الحديث في هذا المضمار بالإشارة إلى ما جرى من كرامة لأم الكليم موسى بن عمران(ع)، إذ يقول سبحانه:- (وأوحينا إلى أمّ موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)[14].

وقد اتضح من خلال ما تقدم، وقوع الكرامة خارجاً، وأنها أمر واقع فلا معنى لنفي تحققها في الخارج، فضلاً عن قصر خرق نواميس الطبيعة على خصوص المعجزة، وأضعف من ذلك كله القول بأن الكرامات مجرد خرافات[15].

مصدر المعجزة والكرامة:

ونقصد من مصدرهما العلة التي تكون موجبة لحصولها ووقوعها في الخارج، فقد ذكر المتكلمون في ذلك احتمالات:

منها: أن تكون العلة الفاعلة لذلك هي الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة من دون توسيط علة أو سبب، فكلما أوجد المادة الأولى، وأجرى فيها عللاً وأنظمة، أوجد تلك الأمور الثعبان من العصا خرقاً لقانون الطبيعة والعادة.

ومنها: أن تكون عللاً مادية غير متعارفة، قد اطلع عليها الأنبياء والأولياء(ع) لاتصالهم بعالم الغيب، فيكون الأمر من قبيل إحاطة الخبير ببعض الأمور الخاصة بتخصصه ومجاله مما لا يطلع عليه كل أحد.

ومنها: أن تكون العلة في حصول ذلك وتحققه خارجاً هم الملائكة، والموجودات المجردة، لقوله تعالى:- (والمدبرات أمراً)[16]، فيأمر الله سبحانه فتوجد المعجزة عندما يريد النبي(ص) إثبات نبوته، أو تجري الكرامة على يد أوليائه، إظهاراً لمقامهم عند الله تعالى.

ومنها: أن تكون العلة الموجبة لحصول المعجزة أو الكرامة، هي نفس المعصوم، وروحه، ونفس الولي وروحه، بحيث يكون لها القدرة على السيطرة على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها، وتخضعها لمشيئتها، فتقدر على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير، ولا يتصور أحد غرابة ما ذكر، ضرورة أن هناك أناساً مثاليـين، أفنوا أعمارهم في سبيل العبادة ومعرفة الله تعالى، وبلغوا حداً قدروا على خرق العادة والمجاري الطبيعية، ويشهد لما ذكر قصة آصفيا بن برخيا، الذي عرض على نبي الله سليمان(ع) أن يأتيه بعرش بلقيس بأسرع من لمح البصر.

ولا يذهب عليك أن ما ذكرنا يمكن أن يحصل لكل عبد أطاع الله تعالى، ففعل الواجبات واجتنب المحرمات، فضلاً عمن كان مورد عناية خاصة من الله تعالى، ورعاية منه سبحانه[17].

وقد تحصل من جميع ما تقدم، أن الحديث عن الكرامات الصادرة عن أولياء الله الصالحين، وعباده المقربين، ومنهم السيدة الجليلة أم البين، أمور حقة وواقعة، وأن منشأ ذلك يعود لروحها القدسية، ونفسها الإيمانية التي حظيت بعناية خاصة من الله تعالى، وأودعت فيها القدرة على فعل ذلك نتيجة قربها منه سبحانه، ولا ريب أنها إنما نالت ذلك لما كانت عليه قوة إيمان، وطاعة، وإخلاص لله سبحانه وتعالى.
 

 

[1] البيان في تفسير القرآن ص 35.
[2] الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان ص 34.
[3] البيان في تفسير القرآن ص 35-36، الإلهيات ج 2 ص 64-67.
[4] سورة هود الآيتان رقم 71-72.
[5] سورة البقرة الآية رقم 248.
[6] سورة الأنبياء الآية رقم 69.
[7] سورة الأعراف الآية رقم 160.
[8] سورة الأعراف الآية رقم 160.
[9] سورة المائدة الآية رقم 114.
[10] سورة آل عمران الآية رقم 37.
[11] سورة آل عمران آية رقم 45.
[12] بناءً على أن ذلك ليس معجزة لنبي تلك الفترة والتي سمته النصوص صموئيل.
[13] سورة البقرة الآية رقم 248.
[14] سورة القصص الآية رقم 7.
[15] معارف القرآن ج 4 ص 73-83(بتصرف).
[16] سورة النازعات الآية رقم 5.
[17] الإلهيات ج 2 ص 70-74.