29 مارس,2024

المشي لزيارة الإمام الحسين(ع)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أفتى علماؤنا الأبرار رحم الله تعالى الماضين منهم، وأطال في عمر الباقين باستحباب زيارة الإمام الحسين(ع) مشياً على الأقدام، وقد استندوا في ذلك إلى جملة من النصوص الدالة على ذلك، والمتضمنة بيان ما يكون من أجر وثواب لمن زاره(ع) ماشياً. وقد نقلها شيخنا الحر العاملي(ره) في موسوعته الحديثية وسائل الشيعة:

منها: ما رواه الحسين بن علي بن ثوير بن أبي فاختة قال: قال لي أبو عبد الله(ع): يا حسين، من خرج من منـزله يريد زيارة الحسين ابن علي بن أبي طالب(ع) إن كان ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة، وحطّ بها عنه سيئة، وإن كان راكباً كتب الله له بكل حافر حسنة، وحطّ عنه بها سيئة، حتى إذا صار بالحائر كتبه الله من الصالحين، وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله، ربك يقرئك السلام، ويقول لك: استأنف فقد غفر لك ما مضى[1].

ودلالتها على استحباب الزيارة ماشياً واضحة، كما أنها تضمنت الإشارة إلى الثواب الذي يتحصل عليه الماشي للزيارة، بل دلت على أنه يغفر له ما تقدم من ذنوبه، وأنه يعود صافياً كيوم ولدته أمه، وهو مقتضى قوله(ع): استأنف فقد غفر لك ما مضى.

ومنها: ما رواه بشير الدهان عن أبي عبد الله(ع) قال: إن الرجل ليخرج إلى قبر الحسين(ع) فله إذا خرج من أهله بأول خطوة مغفرة ذنبه، ثم لم يزل يقدس بكل خطوة حتى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه الله، فقال: عبدي سلني أعطك، ادعني أجبك[2].

ودلالة هذا النص على المدعى كسابقه، بل زاد عليه أنه تضمن أن مغفرة الذنوب الثابتة على الزائر تغفر بمجرد أول خطوة يخطوها عند خروجه من منـزله، كما أنها تضمنت أنه مجاب الدعوة، مقضي الحاجة، ومعطي السؤل.

ومنها: ما رواه أبو الصامت قال: سمعت أبا عبد الله(ع) وهو يقول: من أتى قبر الحسين(ع) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة، فإذا أتيت الفرات فاغتسل وعلّق نعليك، وامش حافياً، وامش مشي العبد الذليل، فإذا أتيت باب الحائر فكبر أربعاً، ثم امش قليلاً، ثم كبر أربعاً، ثم ائت رأسه، فقف عليه فكبر أربعاً، وصل عنده وسل الله حاجتك[3].

ولا يخـتلف هذا النص عن سابقيه من حيث بيان ما يناله الزائر ماشياً من الأجر والثواب، نعم اختلف عما تقدم في أنه قد تضمن جملة من الآداب والمستحبات التي ينبغي للزائر مراعاتها أثناء أدائه الزيارة.

ومنها: ما رواه علي بن ميمون الصائغ عن أبي عبد الله(ع) قال: يا علي زر الحسين ولا تدعه، قلت: ما لمن زاره من الثواب. قال: من أتاه ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحا عنه سيئة، وترفع له درجة، ثم ذكر حديثاً طويلاً يتضمن ثواباً جزيلاً[4].

ومنها: ما رواه سدير الصيرفي عن أبي جعفر(ع) في زيارة الحسين(ع) قال: ما أتاه عبد فخطا خطوة إلا كتب الله له حسنة وحطّ عنه سيئة[5].

وبالجملة، لا كلام في دلالة هذه النصوص على استحباب الزيارة ماشياً، وما للزائر من الفضل والمثوبة، كما هو واضح.

ثم إنه قد يتصور أن بين النصوص المذكورة تعارضاً من حيث التباين والاختلاف فيما بينها بالنسبة للثواب، فيقال أن ما دل على أن للزائر بكل خطوة حسنة، وتمحى عنه سيئة، يعارض ما دل على خلاف ذلك.

إلا أنه في غير محله، ضرورة أن المقرر في الأصول أن المعارضة إنما تكون بين الخبرين المتنافيـين، لا بين الخبرين المثبتين، وموردنا من هذا القبيل، لأن النصوص الواردة كلها مثبتة، وليس بينها أدنى تنافٍ، فلاحظ ولا تغفل.

الإشكال على هذه النصوص:

هذا ولكن قد يعترض على هذه النصوص بإشكالين، وهما:

الأول: إن الثابت في البحوث الأصولية أن الثواب إنما يكون على الأمور النفسية، ولا يكون على الأمور الغيرية، كما أنه يكون على ذي المقدمة، ولا يكون على المقدمة، ولو تأملنا المشي للزيارة لوجدناه أمر غيري، وليس أمراً نفسياً، ووجدناه مقدمة، وليس ذا مقدمة، فكيف يتصور ترتب الثواب عليه.

الثاني: إن مضامين هذه النصوص مما لا يقبله العقل، فلاحظ تعبير بعضها: من أتى قبر الحسين(ع) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة. أو ما جاء في بعضها الآخر: من أتاه ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة، ومحا عنه سيئة، وترفع له درجة. بل إن هذا المضمون أقرب للإسرائيليات، إذ هو شبيه لحدٍ ما بما هو الموجود عند النصارى من أن المسيح قد قتل لتغفر ذنوب أمته، وهذا قد يتصور أيضاً بأن يقال: إن الإمام الحسين(ع) قتل ليُغفر لشيعته.

ومن الطبيعي أن مثل هكذا مضمون موجب لحصول الإغراء عند عامة الناس، بارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي والسيئات، ولا يخـتلف اثنان في أن الشريعة السمحاء التي جاء بها النبي الأكرم محمد(ص)، لا يتصور هذا الأمر فيها، وعليه لا يمكن القبول بهذه النصوص.

جواب الإشكال الأول:

هذا وينبغي قبل الإجابة على الإشكال الأول، من تقديم مقدمتين، لهما مدخلية في وضوح جواب الإشكال المذكور:

الأولى: وقع الاتفاق بين الأعلام جميعاً على أن المخطئ يستحق العقوبة، وأن العقوبة التي توقع عليه نتيجة طبيعة مترتبة على ما صدر منه من عمل، ولذا يعبر عنها بالاستحقاق، بمعنى أنه يستحق ما يوقع عليه من عقاب، لكنه وقع الكلام بينهم في أن المطيع، هل يكون إعطائه الثواب استحقاقاً، أم أن إعطاء الثواب إياه نحو من أنحاء التفضل من الله سبحانه وتعالى، أم لا هذا ولا ذاك، وإنما هو كالعقوبة الواقعة على المذنب، إذ كما أن العقوبة الواقعة على المذنب نتيجة طبيعة وحتمية لما صدر عنه من عمل، كأمر تكويني، فكذلك الثواب، فالمحتملات المتصورة في البين ثلاثة، نشير إليها، ونوكل التفصيل عن كل واحد منها، وما يستدل به عليه، إلى محله.

الأول: أنه بنحو الاستحقاق، وهو مختار عدة من المتكلمين، وهو مختار المحقق الطوسي، وشارح التجريد، والعلامة الحلي(قده)، وقد ذكر في المقصود من الاستحقاق معنيان:

أولها: أن يكون حق المكلف على الله سبحانه وتعالى، كحق المكلفين بعضهم على بعض، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر العبد بفعل ما، فإنه يستحق العوض عليه حينئذٍ.

ثانيها: أن يكون المراد منه اللياقة والاستعداد للتفضل عليه بالثواب والنعيم في الدار الآخرة، فالعبد بطاعته يكون لائقاً وأهلاً للتفضل عليه بدخول دار النعيم.

الثاني: التفضل، بمعنى أن الإنسان لا يستحق على الله سبحانه وتعالى ثواباً، لأنه عندما أمتـثل ما أمر به إنما هو مطيع لما كلف به، وهو أمر واجب عليه ملزم بإيجاده خارجاً، فلا يستحق عليه أجراً، نعم تفضل وكرم من الله سبحانه يعطي الإنسان ثواباً على إطاعته وامتـثاله لأوامره.

الثالث: أن الثواب والعقاب نتيجة تكوينية لنفس العمل. وقد انقسم أصحاب هذا القول على ثلاثة احتمالات:

أحدها: أن كل عمل يصدر من الإنسان حسن أم سيء، بذور تزرع في هذه الدنيا، ويكون حصد نتائجها في الآخرة، وهذا يعني أن الرابطة بين العمل والجزاء، رابطة تكوينية توليدية، ذلك أن العمل علة، والجزاء معلول.

ثانيها: أن الجزاء ثواباً كان أم عقاباً، هو نفس العمل، لكن بلباسه الأخروي، لأن لعمل الإنسان صورتين ووجودين، وجوداً دنيوياً، ووجوداً أخروياً، يتجسم في كل موطن بالوجود المناسب له.

ثالثها: أن الجزاء سواء كان ثواباً، أم كان عقاباً، فإنه مخلوق للنفس، فهي يحصل لها الاستعداد بحسب ما اكتسبت من عقائد صالحة أو فاسدة، أو ما فعلت من أعمال صالحة أو سيئة، فتقدر معها على إنشاء صور مناسبة لتلك الملكة التي أصبحت لها.

الثانية: مما لا إشكال فيه بين الأصحاب أن ترك الواجب النفسي يستدعي استحقاق التارك العقاب، لكونه تمرداً وطغياناً على المولى، ولأنه قبيح عقلاً وشرعاً، فيستحق العقاب. كما لا إشكال في أن ترك الواجب الغيري مدعاة لاستحقاق التارك العقاب أيضاً، ضرورة أن تركه يلازم ترك الواجب النفسي، فيكون العقاب عندها على ترك الأمر النفسي لا على مقدمته.

ولا ريب في ثبوت الثواب على امتـثال الواجب النفسي، متى توفرت شرائط الصحة المعتبرة فيه. إنما الكلام ثبوت الثواب على الواجب الغيري، أو المستحب الغيري، وهو ما يكون مقدمة لواجب نفسي، أو مقدمة لمستحب نفسي، خلاف بين الأعلام، على أقوال:

الأول: أن الثواب إنما يترتب على خصوص الأمر النفسي، وعلى ذي المقدمة، أما الأمر الغيري، والمقدمة، فلا يترتب عليهما ثواب أصلاً.

الثاني: أن الثواب كما يترتب على الأمر النفسي، فإنه يترتب على الأمر الغيري أيضاً، وهذا يعني أنه كما يترتب على ذي المقدمة، فإنه يترتب على المقدمة أيضاً. نعم لابد من أن يكون الأمر الغيري أمراً أصلياً بمعنى أنه مدلول لخطاب مستقل.

الثالث: البناء على التفصيل في ترتب الثواب على المقدمة، والأمر الغيري وعدمها، ويذكر لهذا التفصيل صورتان:

الأولى: أن يؤتى بالأمر الغيري أو بالمقدمة بقصد التوصل، فيترتب عليه الثواب، ولا يترتب عليه ذلك لو أتى بالأمر الغيري من دون هذا القصد.

الثانية: أن يلتـزم بترتب الثواب لكن بشرط أن لا ينصرف عن الإتيان بالواجب بعد الإتيان بالمقدمة، وإلا فلن يترتب عليه الثواب.

وعندما نود الإجابة عن الإشكال المذكور بعد الفراغ عن المقدمتين، سوف يخـتلف الحال بين ما إذا قلنا بأن الثواب مأخوذ على نحو الاستحقاق، وبين البناء على أنه مأخوذ بنحو التفضل، وكذا لو قلنا أنه أخذ بنحو العلاقة التكوينية بين العمل والجزاء، ذلك أن النـتيجة سوف تخـتلف على وفق كل مبنى من المباني كما لا يخفى.

فلو قلنا أن الثواب مأخوذ بنحو الاستحقاق، فعندها سوف تأتي الأقوال الثلاثة السابقة في ثبوت الثواب في الأمر الغيري، والمقدمة، أما لو قلنا بأن الثواب مأخوذ على نحو التفضل، فلا معنى للحديث في أي واحد منها أصلاً، بل سوف يكون المدار على مقدار ما يدل عليه الدليل، فإن كان الدليل مفيداً ثبوت الثواب على الإتيان بكل أمر أعم من النفسي والغيري، فسوف يؤخذ به، وإن كان دالاً على الاختصاص بخصوص النفسي، فسوف يقتصر عليه حينئذٍ.

وأوضح من ذلك لو بني على أن الثواب مأخوذ بنحو العلاقة التكوينية بين العمل والجزاء، فالظاهر أنه لا يفرق بين كون العمل مقدمة، أو ذي المقدمة، كونه غيرياً، وكونه نفسياً، على أي واحد من المحتملات الثلاثة التي ذكرت.

والنـتيجة التي نصل إليها أنه سوف يكون الإشكال الوارد مبنائياً، وليس بنائياً، إذ أنه سوف يرد على القول بأن الثواب مأخوذ بنحو الاستحقاق، ومن ثمّ الالتـزام بالقول الأول من الأقوال الثلاثة في ثبوت الثواب على الأمر الغيري والمقدمة. ومن المعلوم أن الإشكال المبنائي لا يعدّ إشكالاً فنياً مانعاً من التمسك بالدليل، فلاحظ.

ومع كون الإشكال المذكور إشكالاً مبنائياً، إلا أنه يمكننا الإجابة عنه بما ذكر في كلمات غير واحد من أعلامنا، فقد ذكر المحقق الخراساني(ره) جوابين:

الأول: أن يلتـزم بأن الثواب في الحقيقة ليس مترتباً على المقدمة، وإنما هو مترتب على ذي المقدمة.

الثاني: أن يلتـزم بأن الثواب الوارد في هذه النصوص إنما هو تفضل، وليس استحقاقاً، وقد عرفت في ما تقدم أنه لا ضير في ذلك.

جواب الإشكال الثاني:

وقد تضمن دعوى رفض العقل وعدم قبوله بهذه النصوص وبمضامينها، على أساس أنها قد اشتملت على أمور غير مقبولة، وأشير إلى أن الأمور غير المقبولة المقصودة في هذا الحديث عبارة عن الثواب المعطى على العمل الصادر من المكلف، ومن الطبيعي أن هذا يوجب حصول الإغراء للناس على ارتكاب الذنوب.

وهذا الإشكال يمكن دفعه بجوابين، أولهما جواب نقضي، وثانيهما جواب حلي:

أما الجواب النقضي، فما يذكر بالنسبة لهذه النصوص وكونها موجبة لإغراء المكلفين يمكن ذكره في شأن القرآن الكريم، فلاحظ قوله تعالى:- (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)[6]، فإن الآية المباركة صريحة في أن اجتناب المكلف ارتكاب كبائر الذنوب موجب لغفران الله سبحانه وتعالى هل صغائرها. وقال تعالى:- (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)[7]، فإنها صريحة في أنه تعالى يقبل كل توبة، ويغفر كل معصية مهما كانت، إلا الإشراك به سبحانه. فهل يقول قائل بأن هذا إغراء منه سبحانه وتعالى للمكلفين بارتكاب الذنوب، والإقدام على فعل المعاصي!.

وكذا أيضاً يمكن النقض بما جاء من النصوص الشريفة في بيان فضل وثواب ما لمن أقدم على عمل من أعمال الطاعة لله سبحانه وتعالى، كمن صام، أو صلى أو ما شابه ذلك، فلاحظ.

وأما الجواب الحلي، فلابد من الالتفات إلى أن ما جاء في هذه النصوص من الأثر المترتب على العمل، والأجر هل هو مأخوذ بنحو العلة التامة، أم أنه مأخوذ بنحو المقتضي، إذ لو كان مأخوذاً بنحو العلة التامة، فالظاهر هو التوقف في القبول بها، لأنها تكون منافية لما دل من الأدلة على ثبوت تكاليف أخرى، على أن القبول بكونها علة تامة يوجب لغوية جعل التكاليف الأخرى، ومجرد احتمال تخيـير المكلف بين النحوين، بين الإتيان بمضمون هذه النصوص، وبين التكاليف الأخرى، بعيد جداً، وهذا بخلاف ما لو كانت مأخوذة بنحو المقتضي، فالظاهر أنه لا وجه للتوقف فيها حينئذٍ، والصحيح أنها مأخوذة في مقامنا بنحو المقتضي، وهذا يعني أنه لابد من توفر أمور أخرى مع هذا العمل الصادر من الإنسان مثل عدم الإصرار على الصغائر، والعزم على ترك الذنوب والمعاصي، والاستمرار على الطاعة، وصدق النية في التوبة، وما شابه ذلك، فإذا توفرت هذه الأمور كلها كانت علة تامة لحصول تكفير الذنب، وغفران الخطيئة والمعصية.

ووفقاً لهذا المعنى، فلن تكون النصوص المذكورة موافقة لما ورد عند النصارى، فضلاً عن أنها لا تتضمن أدنى إغراء للمكلفين بارتكاب الذنوب، ولا تكون منافية للعقل أصلاً.

————————————————————-

[1] وسائل الشيعة ب 41 من أبواب المزار وما يناسبه ح 1.

[2] المصدر السابق ح 2.

[3] المصدر السابق ح 3.

[4] المصدر السابق ح 4.

[5] المصدر السابق ح 6.

[6] سورة النساء الآية رقم 31.

[7] سورة النساء الآية رقم 48.