نظرة عابرة في دعاء أبي حمزة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
276
0

لشهر رمضان المبارك حلاوته وطعمه الخاص عند العباد والمستغفرين في الأسحار لأنه شهر الطاعة والعبادة وهو ربيع القرآن وهو شهر المناجاة. ومن الأدعية التي يبرز الإهتمام بها في هذا الشهر عند المؤمنين بحيث يداومون على قراءته ويقضون من خلاله ساعات هيام وعشق مع المولى جل اسمه الدعاء المروي عن إمامنا زين العابدين المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي . وقد كانت هذه الوقفة السريعة التي نجمت من نظرة عابرة على هذا الدعاء أحاول فيها الإشارة لأهم نكتة تضمنها هذا الدعاء المبارك والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق فنقول :

إن كثيراً من أدعية أهل البيت تتضمن قمة وقاع. أما القاع فهو ما يكون تجسيداً لموضع العبد وما ارتكبه من سيئات وذنوب فليس هو إلا حضيض العبودية وما يكتنفها من سيئات، وأما القمة فهي ذاك الطموح والأمل الذي يرجوه العبد من الله سبحانه وتعالى ونجد هذا الفاصل النفسي بين القاع والقمة واضحاَ في هذا الدعاء الذي نحن بصدده حيث يقول : إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت وإذا رأيتُ كرمك طمعت. وفي موضع آخر من الدعاء نفسه :

“عظم يا سيدي أملي وساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوء عملي”.

ويقول في الدعاء نفسه في بداية الإنطلاق من نقطة القاع: ـ ” وما أنا يارب وما خطري هبني بفضلك وتصدق عليّ بعفوك أي رب جللني بسترك واعف عن توبيخي بكرم وجهك ….. فلا تحرقني بالنار وأنت موضع أملي ولا تسكنّي الهاوية فإنك قرة عيني … ارحم في هذه الدنيا غربتي وعند الموت كربتي وفي القبر وحدتي وفي اللحد وحشتي وإذا نشرت للحساب بين يديك ذل موقفي وارحمني صريعاً على الفراش تقلبني أيدي أحبتي وتفضل عليّ ممدوداً على المغتسل يقلبني صالح جيرتي وتحنن عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي وجد عليّ منقولاً قد نزلتك بك وحيداً في حفرتي” .

وبعد ما يطوي مرحلة القاع نجده يقول بعدها في مرحلة القمة التي هي مرحلة الطموح والأمل في الرحمة الإلهية : “اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبادك الصالحون يا خير من سئل وأجود من أعطى… أعطني سؤلي في نفسي وأهلي وولدي وأرغد عيشي وأظهر مروتي وأصلح جميع أحوالي واجعلني ممن أطلت عمره وحسنت عمله وأتممت عليه نعمتك ورضيت عنه وأحييته حياة طيبة …

….. اللهم خصني بخاصة ذكرك ….. واجعلني من أوفر عبادك نصيباً عندك في كل خير أنزلته أو تنـزله”.

وتعتبر هذه الرحلة من القاع إلى القمة تعبير عن حركة الإنسان إلى الله سبحانه فهي رحلة أمل ورجاء وطموح ولما كان أمل الإنسان ورجائه وطموحه في الله فهو لا حدّ له ولا غاية.

وكيف كان فإن الشئ الملاحظ في هذه الرحلة من القاع هو أن الإمام زين العابدين قد علمنا التوسل بوسائل ثلاث إلى الله عز وجل وهي: الحاجة والسؤال والحب .

الوسيلة الأولى: الحاجة:

أما بالنسبة للوسيلة الأولى وهي: الحاجة: قال : “رضاك بغيتي ورؤيتك حاجتي وعندك دواء علتي” وهي بنفسها من منازل الرحمة الإلهية لأنه تعالى كريم ينـزل رحمته على جميع خلقه حتّى الحيوان والنبات لحاجتهم من دون سؤال وطلب وليس هذا نفياً للسؤال والطلب لأنهما بابان آخران من أبواب رحمة الله إلى جنب الحاجة .

وهذا أمير المؤمنين يعلمنا منهجية أخرى غير منهجية حفيده زين العابدين لإستنـزال الرحمة الإلهية من خلال عرض الحاجة فقد جاء عنه في مناجاته: ـ “مولاي يا مولاي أنت المولى وأنا العبد وهل يرحم العبد إلا المالك مولاي يا مولاي أنت العزيز وأنا الذليل وهل يرحم الذليل إلا العزيز مولاي يا مولاي أنت الخالق وأنا المخلوق وهل يرحم المخلوق إلا الخالق مولاي يا مولاي أنت العظيم وأنا الحقير وهل يرحم الحقير إلا العظيم مولاي يا مولاي أنت القوي وأنا الضعيف وهل يرحم الضعيف إلا القوي مولاي يا مولاي أنت الغني وأنا الفقير وهل يرحم الفقير إلا الغني مولاي يا مولاي أنت المعطي وأنا السائل وهل يرحم السائل إلا المعطي مولاي يا مولاي أنت الحي وأنا الميت وهل يرحم الميت إلا الحي مولاي يا مولاي أنت الباقي وأنا الفاني وهل يرحم الفاني إلا الباقي مولاي يا مولاي أنت الدائم وأنا الزائل وهل يرحم الزائل إلا الدائم مولاي يا مولاي أنت الرازق وأنا المرزوق وهل يرحم المرزوق إلا الرازق مولاي يا مولاي أنت الجواد وأنا البخيل وهل يرحم البخيل إلا الجواد مولاي يا مولاي أنت المعافي وأنا المبتلى وهل يرحم المبتلى إلا المعافي مولاي يا مولاي أنت الكبير وأنا الصغير وهل يرحم الصغير إلا الكبير مولاي يا مولاي أنت الهادي وأنا الضال وهل يرحم الضال إلا الهادي مولاي يا مولاي أنت الغفور وأنا المذنب وهل يرحم المذنب إلا الغفور مولاي يا مولاي أنت الغالب وأنا المغلوب وهل يرحم المغلوب إلا الغالب مولاي يا مولاي أنت الرب وأنا المربوب وهل يرحم المربوب إلا الرب مولاي يا مولاي أنت المتكبر وأنا الخاشع وهل يرحم الخاشع إلا المتكبر مولاي يا مولاي ارحمني برحمتك وارضَ عني بجودك وكرمك وفضلك يا ذا الجواد والإحسان والطول والإمتنان [1].

فالمخلوق يستنـزل رحمة الخالق والحقير يطلب رحمة العظيم والضعيف يسأل رحمة القوي والفقير يرجو رحمة الغني والمرزوق يأمل رحمة الرازق.

وهذه من السنن الكونية لله سبحانه وتعالى ولن تتبدل هذه السنن فمهما كانت حاجة العبد وفقره كان عندهما رحمة الله وفضله وكما ينـزل الماء إلى الموضع المنخفض فإن رحمة الله تنـزل على واضح الحاجة لكرمه سبحانه وجوده والكريم دائماً يرعى مواضع الحاجة ويخصها برحمته.

يقول الإمام السجاد في دعاء أبي حمزة: “أعطني لفقري وارحمني لضعفي” فنراه قد جعل وسيلته التي يتوسل بها إلى الله عز وجل في طلب رحمته فقره وضعفه .

ولا يذهب عليك أن استنـزال الرحمة الإلهية لا ينحصر طريقه بهذا ليكون هو العامل الوحيد، فإن هناك عوامل أخرى بواسطتها تستنـزل الرحمة الإلهية وكما توجد وسائل لإستنـزال الرحمة توجد حواجب وموانع تحجب رحمة الله تعالى وهناك عامل الإبتلاء أيضاً في سنن الله جل اسمه.

وقد تضمن القرآن الكريم نماذج من عرض الحاجة والفقر لإستنـزال الرحمة الربانية وبحثاً عن الإجابة من عنده ومن تلك النماذج:

ما جاء في قصة نبي الله أيوب u وهو العبد الصالح والمبتلى عندما نادى الله سبحانه وهو في غمرة الإبتلاء والمحنة: ـ )وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضرّ وانت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ([2].

ولا يخفى أن هذا النص القرآني لم يتضمن سؤالاً وإنما تضمن عرض حاجة وفقر

ومنها: ما جاء في قصة نبي الله يونس u قال تعالى ) وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين([3].

فهو يعرض فقره وحاجته وهو في ظلمات بطن الحوت في البحر وقد جاءت الإستجابة هنا أيضاً ليس للطلب والدعاء والسؤال وإنما كانت للحاجة والفقر .

ومنها: ما جاء في قصة كليم الله النبي موسى u وأخيه هارون عندما كلفهما الله بحمل رسالته إلى فرعون قال عز من قائل )اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ([4].

فنلاحظ أنهما لم يطلبا من الله سبحانه حمايتهما من فرعون وجلاوزته وأن يوفر لهما الأمن الذي يحتاجانه وإنما ذكر لله ضعفهما وخوفهما من بطش فرعون فاستجاب الله لحاجتهما من خلال توفير الحماية والدعم فقال تعالى )قال لا تخافا إننّي معكما أسمع وأرى ([5].

ومنها: العبد الصالح نبي الله نوح عليه السلام لما عرض على الله حاجته في قضية ابنه لما وقع الطوفان قال تعالى)ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين([6]. وهذا العرض في غاية الأدب إذ لم يطلب من الله انقاذ ابنه بل عرض حاجته إلى انقاذه من الغرق فقط.

هذا وفي مقطع من قصة خليل الله إبراهيم نجد ثلاثة مشاهد لإستجابة الله تعالى في وقت واحد :

أحدها: استجابة للحاجة وهو ما يمكننا أن نصطلح عليه بالفقر غير الواعي.

الثاني : استجابة للدعاء والسؤال وهو ما يمكننا الإصطلاح عليه بالفقر الواعي.

الثالث: استجابة للسعي والحركة والعمل.

وهذا الموضع في قصة اسكانه أهله بواد غير ذي زرع قال تعالى)ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة ([7].

وخلاصة القصة: أن خليل الرحمة ذهب بزوجه هاجر وطفله إسماعيل إلى وادٍ غير ذي زرع وكان إسماعيل طفلاً يرضع وترك معهما شيئاً من الماء والطعام فلما نفذ ذلك من عندهما وغلب العطش على الطفل الرضيع وأخذ يصرخ ويضرب الأرض برجليه ويديه وكانت أمه هاجر تسعى بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة وتصعد هذا الجبل حيناً تطل منه على الصحراء باحثة عن الماء وتصعد الآخر حيناً وهذا هو “السعي” الموطن الآخر لنزول رحمة الله وهي في ذلك كله تدعو الله تعالى أن يسقيها الماء في هذا الصحراء وهذا هو الذي عبرنا عنه بالفقر الواعي أعني السؤال والدعاء فاستجاب الله سبحانه لحاجة الطفل وفقره ولسعي الإم وحركتها ودعائها وسؤالها فتفجرت الأرض من تحت أقدام الطفل الرضيع إسماعيل فانحدرت الأم من الجبل إلى طفلها تسقيه وتجمع الماء وتحوطه لئلا يذهب الماء هدراً وتقول: زم …. زم، وهذا المشهد يحييه الحجاج ويعيدونه كل عام في أعمال الحج وهو من أروع مشاهد علاقة العبد بالله سبحانه وتعالى.

ويمكن تلخيص منطلقات هذه العلاقة في ثلاثة أمور:

1 ـ الحاجة والفقر.

2 ـ السعي والحركة.

3 ـ الدعاء والسؤال

هذا بعض الحديث عن الوسيلة الأولى التي يعلمنها الإمام زين العابدين u لنقدمها بين يدي حاجاتنا إلى الله سبحانه وتعالى.

الوسيلة الثانية: الدعاء: قال u: ـ “جوارك طلبي وقربك غاية سؤلي… فكن أنيسي في وحشتي ومقيل عثرتي وغافر زلتي وقابل توبتي ومجيب دعوتي وولي عصمتي ومغني فاقتي.

من المعلوم أن الدعاء أحد مفاتيح الرحمة الإلهية قال تعالى)ادعوني استجب لكم ([8].

وقال عز من قائل)قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ([9]. وهو من أشد روابط القرب إلى المعبود ولا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله وأطواره وجميع نشآته سواء بلسان الإستعداد والفطرة أم بلسان المقال.

وجاء في صحيفة زين العابدين الملكوتية بعد ذكر قوله تعالى ) وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ( قوله: فسميت دعاءك عبادة وتركه استكباراً وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين فذكروك بمنك وشكروك بفضلك ودعوك بأمرك وتصدقوا لك طلباً لمزيدك وفيها كانت نجاتهم من غضبك وفوزهم برضاك .

ومن المعلوم أن الدعاء هو الوسيلة بين العبد وخالقه واتصال من عالم الملك بعالم الملكوت وهو كما ذكرنا من أهم الأسباب الطبيعية الإختيارية الواقعية لنجح المطلوب والنيل إلى المقصود.

فالدعاء اتصال بمبدأ لا نهاية لعظمته وقدرته ومالكيته وقهاريته والتوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي والمدعو يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه وقضاء حاجته

الوسيلة الثالثة: الحب:

ويستنـزل العبد بواسطته ما لا يستنـزله بأمر آخر، قال : ” فقد انقطعت إليك همتي وانصرفت نحوك رغبتي فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي ولقاؤك قرة عيني ووصلك منى نفسي وإليك شوقي وفي محبتك ولهي وإلى هواك صبابتي” .

والتأمل في هذه الفقرة يعطي شيئاً عظيماً فلاحظ كلمة الإنقطاع حيث فيه ما ليس في التعلق ولذا لم يعبر بالتعلق فلم يقل وتعلقت بك همتي. والنكتة في ذلك تعود لأن التعلق بالله لا ينفي التعلق بغيره وإن كان العبد صادقاً في تعلقه بالله وهذا بخلاف الإنقطاع فإنه يتضمن معنى إيجابياً وسلبياً معاً فإنه انقطاع من الخلق إلى الله والإنقطاع من الخلق هو المعنى السلبي الذي قصده الامام وكونه إلى الله هو المعنى الإيجابي الذي قصده .

فإن الإخلاص في الحب “فصل” و”وصل” فصل مما عدا الله ووصل بالله وبمن يحب الله ويأمر بحبه وهما وجهان لقضية واحدة.

واعلم أن الحب متى ما صفا وخلص تضمن وجهين: “ولاء” و”براءة” و”وصلاً” ” و”فصلاً” وانقطاعاً من الخلق إلى الحق.

وهذا المعنيى يستفاد من العبارة الثانية: “وانصرفت نحوك رغبتي لأن الإنصراف إلى الله “إعراض” و”إقبال” معاً “إعراض” عما عدا الله و”إقبال” على الله وما يأمر به ويحبه.

ثم يؤكد روحي له الفداء هذه الحقيقة بلسان هو أبلغها جميعاً ويحمل من معاني الحب والإنصراف إلى الله والإنقطاع عما عداه فيقول: فأنت لا غيرك مرادي ولك لا لسواك سهري وسهادي.

والسهر والسهاد وإن كانا خلاف النوم إلا أن السهر هو قيام الليل في حالة الأنس بينما السهاد فنحو من الأرق يصيب الإنسان عندما يكون مشغولاً بشئ يهمه ويسلب عنه النوم وهو هنا الحنين والشوق إلى الله.

والحاصل هما يمثلان حالتين من حالات الحب: “الأنس” و”الشوق” أنس بذكر الله وبحضوره عند العبد حيث يحس بحضور الله في دعائه وذكره ومناجاته وصلاته وشوق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.

وإنما يشعر المحب بهذا أو ذاك معاً متى ما وقف بين يدي الله وهذا وذاك ينفيان عنه النوم ويؤرقانه عند استسلام الناس للنوم وفقدهم وعيهم وشعورهم بلذة النوم.

لكن أولياء الله لا يستسلمون للنوم بل يأخذون حاجتهم منه فقط بما يعينهم على طاعة محبوبهم بخلاف عامة الناس الذين يستسلمون للنوم بحيث يتحكم فيهم.

ولذا نقرأ في سيرة رسول الله أنه ما كان ينام إلا هنيئة ثم يقوم بين يدي الله وكان يأمر أن يوضع وضؤوه عند رأسه ليقوم بين يدي الله كلما أخذ نصيباً من هذه الحاجة الطبيعية، ولقد كان يفرش له الفراش الوثير المريح فيأمر برفعه حذراً من أن يستدرجه ذلك للإستسلام للنوم فكان ينام على الحصير الخشن حتّى كان يؤثر في جنبه لأجل أن لا يستغرق في النوم .

وقد أودع الله في هدأة الليل من كنوز مناجاته وذكره وقربه ما ليس في النهار ولليل رجال كما للنهار رجال يقومون إذا نام الناس وينشطون إذا خملوا ويعرجون إلى الله متى استسلم الناس للنوم وسقطوا على فرشهم. وقليل من الناس من يعرف قيمة دولة الليل وكنوزه إذ أكثرهم يسرعون لدولة النهار وكنوزه والعاقل هو الذي ينتفع من كلا الدولتين ويأخذ من كنوزهما معاً ليكون سوياً راشداً متوازناً.

وهذا ما كان عليه رسول الله إذ كان من رجال الليل والنهار معاً يأخذ من كليهما بصورة متوازنة فيأخذ من الليل الحب والإخلاص والذكر ويأخذ من النهار القوة والسلطان والمال لتمكين الدعوة وترسيخها وكانت ناشئة الليل تعينه وتمكنه من حمل عبء الرسالة الثقيل. يقول تعالى)يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلاً إن لك في النهار سبحاً طويلاً .. ([10].

هذا وقد جاء وصف رجال الليل في حديث قدسي فقد روي أنه سبحانه أوصى إلى بعض الصديقين:

“إن لي عباداً من عبادي يحبوني فأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إليّ وأنظر إليهم وإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك. قال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الشفيق غنمه ويحنّون إلى غروب الشمس كما يحنّ الطير إلى وكره عند الغروب فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إليّ أقدامهم وافترشوا إليّ وجوههم وناجوني بكلامي وعلقوا إليّ بأنغامي فمن صارخ وباكٍ ومتأوهٍ شاكٍ ومن قائمٍ وقاعدٍ وراكع وساجد بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشكون من حبي أول ما أعطيهم ثلاث:

1 ـ اقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون مني كما أخبر عنهم.

2 ـ والثانية: لو كانت السموات والأرض في موازينهم لاستقللتها لهم.

3 ـ والثالثة: أقبل بوجهي عليهم أفترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه[11].

وفي الرواية عن امامنا الباقر : كان مما أوصى الله تعالى إلى موسى بن عمران: كذب من زعم أنه يحبني فإذا جنه الليل نام عني يابن عمران لو رأيت الذين يقومون لي في الدجى وقد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني وقد جللت عن المشاهدة ويكلموني وقد عززت عن الحضور يا بن عمران هب لي من عينيك الدموع ومن قلبك الخشوع ثم ادعني في ظلمة الليالي تجدني قريباً مجيباً [12].

وفي نهج البلاغة لسيد الموحدين يصف أبو الحسن لهمام حال أولياء الله في مناجاتهم إذا جنهم الليل وكيفية ذكرهم ووقوفهم بين يدي الله سبحانه وتعالى فيقول أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً يحزّنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية منها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم ، وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء قد براهم الخوف بري القداح …[13].

ونعود إلى أبي محمد زين العابدين نتعلم منه صورة أخرى من صور الشوق إلى الله إذ يقول في مناجاة العارفين: إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم فهم إلى أوكار الأفكار يأوون وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون ومن حياض المحبة بكأس الملاطفة يكرعون وشرائع المصافاة يردون قد كشف الغطاء عن أبصارهم وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم وعذب في معين المعاملة شربهم وطاب في مجلس الأنس سرّهم وأمن في موطن المخافة سربهم واطمأنت بالرجوع إلى رب الأرباب أنفسهم وتيقنت بالفوز والفلاح أرواحهم وقرت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم واستقر بإدراك السؤل ونيل المأمول قرارهم وربحت في بيع الدنيا بالآخرة تجارتهم. إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بك على القلوب وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب وما أطيب طعم حبك وما أعذب شرب قربك فأعذنا من طردك وإبعادك واجعلنا من أخص عارفيك واصلح عبادك واصدق طائعيك وأخلص عبادك [14].

ونلاحظ في هذه الرائعة من روائعهم تشبيه الإمام صدور أولياء الله بأنها حدائق ذات بهجة وثمار طيبة فإن صدور الناس على أشكال:

منها: ما تكون مكاتب ومدارس للعلم الذي هو خير ونور شرط أن يبقى ذلك الصدر حديقة للشوق إلى الله.

ومنها: ما تكون متاجر وبنوك وبورصات للمال مزدحمة بالأرقام وجداول الإحصاء وحسابات الربح والخسارة. ومن المعلوم أن المال والتجارة خير لكن شرط أن لا يكون الشغل الشاغل لقلب الإنسان وصدره وأن لا يكون همه الذي لا يفارقه.

ومنها: ما تكون أرضاً سبخة ينبت فيها الشوك والحنظل والسموم والأحقاد والصراع على المال والسلطان والكيد والمكر بالآخرين.

ومنها: ما تكون ملاهٍ وملاعب إذ الدنيا لهو ولعب لطائفة واسعة من الناس.

من الناس من يتملك نوعين من هذه الصدور في نفس الوقت: فقسماً من صدره يكون سموماً وأحقاداً ومكراً وكيداً والقسم الآخر للهو واللعب فإذا أقلقه القسم الأول وسلب منه الراحة والإستقرار يلجأ إلى القسم الثاني فيستعين باللهو لكي ينقذ نفسه من عذاب القسم الأول.

وأما صدور أولياء الله فكما يصفه سيد الساجدين فهي حدائق الشوق لله ذات بهجة وثمار طيبة قد ترسخت فيها أشجار الشوق وامتدت فيها جذورها فليس الشوق إلى الله سبحانه فيها أمراً طارئاً يزول إذا ألح عليه الهوي أو أقبلت وتزينت له الدنيا ولا يخف هذا الشوق ولا تذبل أوراقه إذا ضاقت بصاحبه الدنيا وتراكمت عليه الإبتلاءات فإنه أشجار الشوق إذا كانت راسخة في هذه الصدور تبقى مورقة وخضراء ومثمرة رغم كل العقبات والمصاعب .

وليست حالة الشوق الا حالة خفة الروح وهي حالة تعاكس حالة التثاقل والركون إلى الدنيا التي يتحدث عنها كتاب الله المجيد فيقول تعالى: ـ “مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة”[15].

فكلما تعلق الإنسان بالدنيا وركن إليها ثقلت نفسه وترهلت ومتى ما تحرر منها وانتزع نفسه منها خف فجذبه حب الله سبحانه والشوق إليه. اللهم اجعلنا من المحبين لك والمشتاقين إلى لقائك العارفين بك السائرين على نهج أوليائك.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

——————————————————————————–

[1] مفاتيح الجنان أعمال مسجد الكوفة.

[2] سورة الأنبياء الآية رقم 83.

[3] سورة الأنبياء الآية رقم 87.

[4] سورة طه الآية رقم 43-45.

[5] سورة طه الآية رقم 46.

[6] سورة هود الآية رقم 45.

[7] سورة إبراهيم الآية رقم 37.

[8] سورة غافر الآية رقم 61.

[9] سورة الفرقان الآية رقم 77.

[10] سورة المزمل الآيات من 1-7.

[11] لقاء الله ص 104.

[12] المصدر السابق ص 103.

[13] نهج البلاغة ص 303.

[14] مفاتيح الجنان مناجاة العارفين.

[15] سورة التوبة الآية رقم 38.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة