19 أبريل,2024

الاستخلاف على المدينة (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

كانت تبوك آخر غزوة غزاها النبي(ص)قبل وفاته،وكانت من أشق الغزوات وأبعدها عن المدينة،وكل من يتأمل ظروف تلك الغزوة يلاحظ أنها كانت امتحاناً للمسلمين بحسن إسلامهم،وتميـيزاً بين المؤمنين والمنافقين،وقد استخلف النبي(ص)أمير المؤمنين(ع)في هذه الغزوة على المدينة.

وقد تكلم القوم في استخلافه على المدينة كثيراً،فقالوا كما في رواية النسائي:ملّه وكره صحبته،فتبع علي(رض)النبي(ص)حتى لحقه في الطريق،قال:يا رسول الله،خلفتني بالمدينة مع الذراري والنساء،حتى قالوا:مله وكره صحبته؟فقال النبي(ص):يا علي إنما خلفتك على أهلي،أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى،غير أنه لا نبي بعدي .
وقد تعرض علمائنا للحديث عن قضية الاستخلاف وبالتالي الحديث عن حديث المنـزلة من ناحية دلالته على الإمامة،وأحقية أمير المؤمنين بمنصب القيادة بعد النبي(ص)لأنه(ص)استخلفه على المدينة يوم غزوة تبوك.

ونحن لا نود الحديث حول قضية الاستخلاف من هذه الناحية،وبالنحو الذي تعرضه
الأعلام،وإنما نود الحديث عنه من ناحية أخرى،للوصول لنفس النـتيجة إن شاء الله تعالى.

مدخل:

قد اشتملت غزوة تبوك على مجموعة من الخصائص،يمكننا تلخيصها في ثلاث:

الأولى:قول النبي(ص)لعلي(ع)وهو على مشارف المدينة:اخلفني في أهلي واهلك. وبمراجعة الكتب اللغوية لمعنى كلمة الأهل يستنـتج أن المراد من جملة:اخلفني في أهلي،أحد أربعة احتمالات:

1-أن يكون المراد،اخلفني في أسرتي،وهذا المعنى لا وجه له،لأن الخلافة في الأسرة تقتضي الأبوة والبنوة،وهذا ليس بين علي(ع)ومحمد(ص).

2-أن يكون المراد اخلفني في نسبي،وهذا المعنى لا يمكن قبوله أيضاً إذ لا معنى لأن يخلفه في عشيرته دون سائر الناس.

3-أن يراد منه،اخلفني في أهل داري،وهذا وإن كان في نفسه حسناً،لكنه لا يستقيم في المقام،لأن الخلافة هنا ولاية شرعية غير منحصرة،إلا اللهم يراد منها دار الإسلام،فيستقيم حينها المعنى تماماً،ويكون المعنى هكذا:يا علي اخلفني في أهل دار الإسلام،وهم أهلي وأهلك،وهو معنى يشمل أهل بيت النبي(ص)وذريته وزوجاته وكل من سكن دار الإسلام.

4-أن يراد منه،اخلفني في أهل ديني،وهو معنى مقارب لمعنى أهل دار الإسلام،لأن الإسلام يجمعهم،وهو معنى قوي.
إلا أن التفسير الثالث،وهو اخلفني في أهل داري أقوى،لأنه يشمل دار الإسلام بما فيهم المتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة،ويشمل العاجزين والقاعدين لأسباب شرعية وغير شرعية.

فنستنتج أن النبي(ص)أراد من الإمام(ع)أن يخلفه في دار الإسلام،وهي المدينة وما جاورها،خلافة شرعية مع صلاحيات الخلافة من توزيع الثروة الاجتماعية،وإقامة الحدود،والدفاع عن المدينة من الأعداء.

الثانية:كانت غزوة تبوك أول غزوة كبيرة يصالح فيها العدو على الجزية،وهذا يعود إلى أن شجاعة أمير المؤمنين وتطاير أنبائها في الآفاق،جعلت الأعداء يخشون الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله(ص)ويفضلون دفع الجزية على الدخول في حرب مع المسلمين.

الثالثة:كان لاستخلاف الإمام(ع)على المدينة دلالات كبيرة،فقد كانت تلك الغزوة آخر غزوات النبي(ص)وأبعدها عن المدينة،ففكان لابد من إجراء احترازي لمستقبل الأحداث في الإسلام،وكان لابد من إظهار مقدرة علي(ع)في الإدارة الاجتماعية لمجتمع المسلمين،وكان لابد من إرسال رسالة واضحة المعالم للطامحين بخلافة رسول الله(ص)بالتنحي عن مطامحهم،لأن علياً(ع)هو المؤهل الوحيد لتلك المهمة الاستثنائية.

ولاشك أن كلمات الاستخلاف كانت واضحة وقوية للغاية،فقد جعله(ص)بمنـزلة هارون من موسى،لكنه نفي عنه النبوة بعده(ص).
والقوة في التعبير لا تبقي مجالاً للشك في منـزلة علي(ع)في الإسلام ودرجة قرابته الدينية والعلمية من رسول الله(ص).

معاني الاستخلاف على المدينة:

لقد كان لاستخلاف علي على المدينة معانٍ ضخمة،أراد المنافقون في ذلك الزمان التقليل من شأنها وتحجيمها،ولكن بدراسة معمقة لطبيعة النيابة والاستخلاف على المدينة نكتشف أنه لم يكن مجرد استخلاف على مجموعة أفراد،بل كان استخلافاً على مجتمع ودولة بما تعنيه الكلمة.

اخلفني في أهلي،انتقال الإدارة الاجتماعية:

إن فلسفة (اخلفني في أهلي)تقتضي الحفاظ على مجموعة من الأنظمة الاجتماعية والأجهزة الدينية التي تمسك بخيوط المجتمع،فهي تقتضي الحفاظ على تركيـبة النظام الاجتماعي والسياسي للمجتمع الديني من حيث الهرم الإداري.
وتقتضي أيضاً الحفاظ على العمليات الاجتماعية من زاوية القضاء وحل الخصومات،وتوزيع الثروات وإشباع الفقراء والتعبديات واقامة الفرائض الجماعية،وعدالة السوق التجاري ونظافته من الربا والاحتكار،وتطبيق العقوبات على المنحرفين ونحوها،وهذا كله يقضي بانتقال الإدارة الاجتماعية من يد أمينة إلى يد أمينة أخرى.

فإذا أريد لحركة الإسلام أن تستمر فلابد أن يخلف النبي(ص)شخصاً علماً مؤتمناً كفوءاً لإدارة مجتمع المدينة خلال غيابه في تبوك كما خلف النبي موسى(ع)أخاه هارون لإدارة شؤون مجتمع بني إسرائيل خلال غيابه(ع)عنهم.
ولا شك أن تبوك كانت مرحلة تمرين وامتحان للصحابة بحسن استيعاب قضية الولاية الشرعية بعد رسول الله(ص)وفهمها فهماً صحيحاً بعيداً عن الأهواء والطموحات السياسية والقبلية،خصوصاً وأن قضية تبوك ونظرية(اخلفني في أهلي)قد جاءت قبل واقعة الغدير بفترة زمنية قصيرة.

وقد كانت مخاطبة الرسول(ص)علياً(ع)بقوله:اخلفني في أهلي،لحظت الضغط السياسي المحلي من قبل الطامحين بالسلطة من قريش من الذين اسلموا مؤخراً ولحظت الكبار الذين وضعهم الإسلام بحجمهم الحقيقي وكانوا وقتها قادة قريش.ولحظت الوضع النفسي المتغير للأعراب وبعض الجنود الذين لا يفكرون إلا بالغنائم.
فصورة الوضع الاجتماعي للمدينة كانت صورة واضحة لرسول الله(ص)عندما خلف علياً(ع)لإدارتها وقت غيابه في معركة حاسمة مثل تلك المعركة،وقد كان النبي(ص)يعلم يقيناً أن عليا هو أكثر الناس كفاءة لإدارة المجتمع الديني في المدينة،لأسباب:

1-إدراكه الواقعي لأحكام الشريعة.
2-نضوجه الحربي والفكري والاجتماعي بحيث يستطيع حمل راية الإسلام خفاقة بعد رسول الله(ص)،وكان الإمام علي(ع)يعلم حجم التكليف الذي حمله إياه رسول الله(ص)،ولكنه أرادها أن تسمع عالية واضحة أنه لم يخلفه(ص)على مجرد النساء والصبيان،كما يتبادر إلى الأذهان في أول مرة،بل أراده في ذلك التكليف إنجاز ما ينجزه الرسل والأنبياء(ع)عادة كما قال(ص):ألا ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى،إلا أنه لا نبي بعدي.
وقد كلف موسى أخاه هارون بقوله:- (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) .

اخلفني في أهلي،أصالة النيابة:

تعني عبارة:اخلفني في أهلي،أصالة علاقة أخلاقية وقانونية بين خصين،هما:النائب،والمنوب عنه.
حيث تنـتقل السلطة أو المسؤولية القانونية إلى النائب للقيام بالأعمال الموكولة إليه من قبل المنوب عنه،وتلك العلاقة محكومة بشروط موضوعية عديدة،ولا يمكن تفريغ علاقة ضخمة من ذاك القبيل من شروطها الموضوعية،ففكرة النيابة مشروطة بتطابق التكليف مع القدرة الكاملة على إنجازه تاماً.
ولذلك قيل أن(النيابة)عملية معقدة خصوصاً إذا تعلقت بقضايا السلطة وإدارة المجتمع،لأن لها تأثيراً على حقوق الناس ومعتقداتهم وتكاليفهم الشرعية والاجتماعية.

كفاءة النائب:

ولا شك أن دراسة حجم المسؤولية الملقاة على عاتق علي(ع)في النيابة أو الخلافة على المدينة خلال غزوة تبوك يكشف عن عمق شخصية الإمام علي(ع)وعلاقته الصميمة بالنبوة وبمحمد(ص)،فقد كان رسول الله يعلم أن في شخصية علي(ع)ثلاثة عناصر تستطيع أن تحقق خلفا صالحاً لخير سلف وهي:

1-قوة إدراك علي(ع)لمقتضيات الشريعة واحكامها ونظامها الأخلاقي والعقائدي،وكان ذلك واضحاً في إدراكه أسرار القرآن الكريم،والسيرة النبوية الشريفة،وتوضيح الأمر اكثر عندما كان المنقذ لكثير من المشاكل التي حصلت بعد رسول لله(ص)وعجز الخلفاء الثلاثة عن معالجتها معالجة شرعية.
2-قوة علي الذهنية التي تستطيع أن تدير الأمور الإجتماعية في عاصمة الدولة الإسلامية،خصوصاً اهتمامه بالفقراء والمعوزين،وتقسيم الثروة الاجتماعية بالتساوي لمستحقيها.
3-قدرة علي(ع)في إحكام تماسك المجتمع الإسلامي دينياً،لأنه كان يمتلك تلك الشخصية الاستثنائية في البطولة،والإيثار،والزهد،والتقوى،والعلم،والعبادة ومواساة الفقراء والمحرومين،وتلك الصفات الفاضلة إذا اجتمعت في شخصية واحدة كان لها القدرة على جمع العابد مع العالم،والتاجر مع الفقير،والغني مع المحتاج،والقوي مع الضعيف،وإذا تم جمع تلك العناصر في خيمة اجتماعية واحدة يسودها الحب والتكاتف والمسؤولية،اقترب الإسلام من تحقيق أهدافه العليا في الحياة.

أسس البناء الاجتماعي للمدينة:

ومن الطبيعي فإن رسول الله(ص)عندما قال لعلي(ع):اخلفني في أهلي وأهلك،أما ترضى أن تكون مني بمنـزلة هارون من موسى،لحظ بعض الأسس في البناء الاجتماعي للمدينة وهي:

أولا:التركيبة الاجتماعية لمجتمع غاب عنه رسول الله(ص)،وفيه المنافقون الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وكان فيه تجار ومتمولون،والقاعدون الذين لا يهمهم انتصار الإسلام أو انكساره،والقاصرون والعاجزون من نساء وصبيان وشيوخ وبعض من المؤمنين تخلفوا كسلاً وليس عدم رغبة في القتال.
ثانياً:الشعور في المجتمع المدني تجاه القضايا العامة،وكان شعوراً يتراوح بين اللاابالية وبين العداء المبطن ضد الإسلام،يصفه لنا القرآن الكريم بالقول:- (فرح المخلفون بمقعدهم خلف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) ،وكانوا يتظاهرون بأنهم مؤمنون ولكنهم ليسوا كذلك:- (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) ،وكان منهم من يطعن في أمر الصدقات:- (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) ،ومنهم الذين استأذنوا النبي(ص)وأعطوا الأعذار الفاسدة:- (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم اغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ،(ومنهم من يقول أئذن لي ولا تفتني الا في الفتنة سقطوا) .
وكانت تلك النماذج موجودة في مجتمع المدينة خلال غياب النبي(ص)فكانت النيابة أو الخلافة على دار الإسلام تقتضي التعامل مع هؤلاء تعاملاً أخلاقياً حذراً بما يوخيه التكليف الشرعي.

وبالإجمال فقد كان شعور تلك الشريحة الواسعة في مجتمع المدينة شعوراً سلبياً ضد الدين،ولذلك قال علي(ع)متسائلاً مخاطباً:يا رسول الله خلفتني بالمدينة مع الذراري والنساء حتى قالوا:مله وكره صحبته.
وكأنه تجاهل(ع)وجود تلك المجاميع من الرجال التي فضلت البقاء على نصرة الدين،ولكنها على أية حال،كانت تشكل خطراً على الوضع الاجتماعي والديني في المدينة.
ثالثاً:إن النيابة أو الخلافة لم تكن مجرد خلافة على مال محفوظ أو على أرض مستثمرة أو على بستان أو على ملك محدود،بل كانت خلافة تدبير أمور مجتمع تضمن شرائح متناقضة من مؤمنين ومنافقين وأعراب وأهل ذمة،ومجتمع احتوى على مؤسسات مدنية مثل بيت المال،ومصالح زراعية وصناعية وتجارية ومساكن وأدوات حر وأسلحة ونحوها.
ولا شك أن الأمة تـتوقع من الخليفة أو النائب دوراً يشابه دور الأصل في الإدارة الدينية والاجتماعية،وصفات النائب وموقفه الحكيم الحازم من الأحداث ودوره في المؤسسات الاجتماعية كبيت المال والجيش والزراعة والصناعة والتعليم ينبغي أن يكون متمماً لدور الأصيل في ذلك.

ولم يكن علي بن أبي طالب بعيداً عن ذلك،بل كان(ع)من أهل بيت النبوة،قضى جل حياته مع رسول الله(ص)وكان يتحلى بصفات خاتم الأنبياء،ويحمل نظرته نحو الدين والحياة والتكاليف الشرعية،ولذلك فقد كان متوقعاً أن يقوم علي(ع)بإتمام دور الأصيل وهو دور النبي(ص)عبر طريقين متلازمين:

الأول:المهارة الدينية التي كان يمتلكها(ع)في إدارة أمور الأمة سياسياً وعسكرياً واجتماعياً.
الثاني:توقع الأمة ثبات الوضع الديني وعدم تغيره عند غياب رسول الله(ص)لأنها كانت تعرف أن علياً(ع)كان فيه بقية من النبوة ونسخة من علم رسول الله(ص)وتقواه وعفته وزهده وشجاعته.