28 مارس,2024

انهيار المجتمعات

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيـيكم)[1].

مدخل:

تتعرض المجتمعات للموت والحياة،كما يتعرض لهما الأفراد،وهذا المعنى هو الذي تشير له الآية القرآنية التي جعلناها مفتـتح حديثنا،حيث أنها تخبر عن أن هناك حياة ترتجى من خلال إجابة الدعوة التي يوجهها الرسول(ص)للأمة،فمتى تحققت تلك الإجابة من الأمة لها،فإن مصيرها سوف يكون الحياة،كما أنه بمقتضى المفهوم أنه متى رفضت الأمة إجابة الدعوة الموجهة منه(ص)لها،فلا ريب أنه سيكون مصيرها هو الموت.

حياة المجتمع:

ما هو المراد من الحياة التي تكون للمجتمع في الآية،وهل كان الناس موتى قبل الإسلام ونزول القرآن،حتى يدعوهم الله سبحانه وتعالى إلى الحياة؟…

هذه مجموعة تساؤلات نلاحظها ونحن نتأمل هذه الآية المباركة،وحتى نتمكن من الإجابة عليها،علينا أن نعرف في البداية الحياة التي تعرض لها القرآن الكريم،فنقول:

لقد أشار القرآن الكريم في آياته المباركة إلى عدة معاني للحياة:

منها:الحياة النباتية،قال تعالى:- (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها)[2].

ومنها:الحياة الحيوانية،قال سبحانه وتعالى:- (إن الذي أحياها لمحيي الموتى)[3].

ومنها:الحياة الفكرية،قال تعالى:- (أو من كان ميتاً فأحيـيناه)[4].

ومنها:الحياة الخالدة في العالم الآخر،قال تعالى:- (يا ليتني قدمت لحياتي)[5].

ومن المعلوم أن الناس في الجاهلية كانوا يعيشون حياة حيوانية مادية،بعيدين عن حياة العقل والفكر،فجاء القرآن الكريم يدعوهم للحياة.

دعوة للحياة:

هذا وقد كانت الحياة التي دعتهم الآيات القرآنية لها،هي الحياة الإسلامية،فكأن الآية تقول،بأن دعوة الإسلام متمثلة في قيمه وآدابه وتعاليمه هي دعوة الحياة بجميع أقسامها،فهي دعوة للحياة المعنوية،والحياة الثقافية،والحياة الاقتصادية،والحياة الأخلاقية والحياة الاجتماعية.

وبعبارة موجزة،هي دعوة للحياة والعيش على جميع الأصعدة،حيث أن الإسلام هدفه هو الحياة على جميع الأصعدة،وفي كل زمان ومكان.

ومما ذكرنا يمكننا أن نعرف خطأ الذين يضعون الدين في أطر ضيقة،بعيدة عن الحياة ويحجمونه عن شموله للقضايا الفكرية والاجتماعية.

لأن الدين الصحيح هو الذي يبعث الحركة في كل جوانب الحياة،ويحيي الفكر والثقافة والإحساس بالمسؤولية،ويوجد التكامل والرقي والتآلف.

أسس الحياة في المجتمع:

هذا وبالعود للآية المباركة نلاحظ أنها قررت أن حياة أي مجتمع من المجتمعات تتوقف على الاستجابة لدعوة الله سبحانه وتعالى ورسوله الأكرم محمد(ص).

ومن المعلوم أن هذه الدعوة التي بها حياة المجتمع تقوم على أسس الحياة،وهي:

1-التوحيد.

2-العدل.

3-الأمر بالمعروف.

4-النهي عن المنكر.

فالتوحيد يمثل القاعدة العقائدية السليمة للمجتمع،كما أن العدل يمثل إقامة العلاقات الاجتماعية على نحو متوازن،ويجسد الأمر بالمعروف إبقاء الجانب الإيجابي الخيّر في بناء المجتمع،ويجسد النهي عن المنكر إبقاء التصدي لكل مظاهر الانحراف وعوامل الهدم.

هذا ويمكننا أن نعبر عن هذين الأمرين،أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،بجهاز المراقبة والصيانة للمجتمع من حدوث أي خلل وانحراف فيه،مما يؤدي إلى تداعي بنيانه وقواعده.

موت المجتمع:

وعلى النقيض تماماً ينهار المجتمع ويتفكك،ويموت متى ما لم تتحقق الاستجابة لدعوة الله سبحانه ورسوله الكريم من قبل الأمة.

هذا وقد يكون الموت سريعاً،بمعنى أن الله سبحانه ينـزل العذاب مباشرة بذلك المجتمع ويخسف به،وهذا في المجتمعات التي لا تكون قائمة على الاستجابة للدعوة لله ولرسوله(ص)،بل تكون قائمة على أساس بعض المفاهيم الوضعية التي وضعها بعض البشر.

قال تعالى:- (وإن من قرية إلا نحن مهلوكها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطوراً)[6].

وقد يكون الموت بطيئاً إذا كان المجتمع قد قام في الأساس على أساس الاستجابة والقبول لهذه الدعوة،لكنه بدأ الانحراف يدب في أوصاله تدريجياً،كما في المجتمع الإسلامي الأول،حتى إذا وصل الانحراف درجة من القوة تفوق ما يستطيع أن يتحمله البناء،انهار وسقط ومات.

أسباب انهيار المجتمعات:

وكما كانت هناك أسس للحياة في المجتمع،يمكننا أن نجعلها أسباب حياته،هناك أسباب لموت المجتمع،يمكننا تلخيصها في التالي:

الكفر بالله سبحانه:

وهذا هو العامل الرئيسي في انهيار المجتمعات،لكونه يعتبر القاعدة الفاسدة التي تنبت عليها كل المفاسد وعوامل التخريب الأخرى،ذلك أن سلوكيات الناس في مجتمع الكفر بالله تعالى،وعلاقاتهم ببعض،وعلاقاتهم بالمجتمعات الأخرى وعلاقاتهم بالطبيعة،ستكون عوامل هدم وتخريب للمجتمع،لكونها سلوكيات وعلاقات خاطئة،منحرفة،مخربة،ظالمة،إضافة إلى أنها ستكون سبباً لنـزول العذاب الإلهي بشكل مباشر أو غير مباشر على الأمة.

ولهذا كثير من المظالم التي تشهدها المجتمعات الإنسانية اليوم في شتى المجالات كالظلم الاقتصادي،والظلم الاجتماعي،وظواهر الاستعمار والاستغلال والتميـيز العنصري،والمفاسد الأخلاقية والسلوكية،تتفرع عن ظاهرة الكفر بالله سبحانه وتعالى ورسالاته،وهذا هو معنى قوله تعالى:- (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)[7]،وقال تعالى:- (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)[8].

الذنوب والمعاصي:

وتعتبر الذنوب المظهر المادي الملموس للكفر بالله سبحانه وتعالى،أو الشرك به،أو الانحراف عنه،لكونها تعني ممارسة الحياة بالصيغ التي تخالف أحكام الله سبحانه،سواء على الصعيد الفردي أم على الصعيد العام،دون فرق في نوع الممارسة بين كونها سلوكية أو غير ذلك.

هذا ويكمن دور الذنوب في انهيار المجتمعات وهلاكها في عاملين:

الأول:العامل الغيبي الذي يتمثل في نـزول عذاب الله تعالى.

الثاني:العامل المادي،وهو الآثار الوضعية والتكوينية الخارجية التي تحصل نتيجة ارتكاب الذنوب،لأن هناك تناسباً طردياً بين كل عمل يصدر من الإنسان،وبين ما يحيط به من أمور،فكما أن الأعمال الحسنة لها مردودات إيجابية فالصدقة مثلاً لها تأثير في إطالة العمر والإنساء فيه،كما أن لصلة الرحم مجموعة من الآثار،وهكذا بقية الأعمال الخيرة.

توجد للأعمال القبيحة والمعاصي والذنوب آثار سلبية تترتب على مرتكبيها،فيتأثرون بها.

فارتكاب الفاحشة من زنا أو لواط مثلاً ذنبان يجسدان التعامل الخاطئ مع القضية الجنسية،كما أن الربا ذنب يجسد تعاملاً خاطئاً على الصعيد الاقتصادي،وهكذا بالنسبة للذنوب الأخرى.

وعلى أي حال،متى تحققت هذه الذنوب في مجتمع دون إنكار من أهله كان ذلك المجتمع مستحقاً للعذاب الإلهي،أو الاستئصال،فإن الله سبحانه وتعالى لا يأخذ بعذابه وعقابه الشديد أحداً،ولا يبدل نعمته نقمة على أحد إلا إذا كان ظالماً يبدل نعمة الله كفراً بآياته،فهو تعالى لا يعذب بعذابه وعقابه إلا من كان مستحقاً لذلك.

هذا ويمكننا تشبيه المجتمع المذنب بالقرحة أو الغدة السرطانية وسط الجسم البشري،فلابد من استئصاله وإزالته،وذلك يتم من خلال الإهلاك الإلهي المباشر،كما حدث ذلك في عصور مضت تحدث عنها القرآن الكريم،قال تعالى:- (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قوماً آخرين)[9].

وقال عز من قائل:- (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين)[10].

هذا ومن طرق انهيار المجتمع،تـنامي الصحوة الإيمانية في المجتمع،وقوة الطاعة،بشكل يؤدي إلى اختلال بناء ذلك المجتمع،حتى يورث الله الأرض لعباده الصالحين،قال تعالى:- (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)[11].

الشيطان:

وهو الذي يزين للإنسان المعصية دائماً وأبداً،قال تعالى:- (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء)[12]،وقال عز وجل:- (ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً)[13].،وقال سبحانه:- (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر)[14].

فالشيطان هو قوة التخريب والهدم في المجتمعات البشرية،وثمة عداوة تاريخية بـين الإنسان والشيطان منذ اليوم الأول لخلق الجنس البشري،يوم رفض إبليس السجود لآدم،والاعتراف بخلافته على الأرض تكبراً منه وغروراً وحقداً وتعصباً لجنسه.

فمنذ ذلك الحين أقسم الشيطان على تخريب الجماعة البشرية وإعاقتها عن قيامها بدورها المرسوم.

ولقد ضرب القرآن الكريم بعض النماذج للمجتمعات التي انهارت وكان الشيطان سبباً رئيسياً في انهيارها،قال تعالى:- (وعاداً وثموداً وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين)[15].

الفساد:

ويلعب الفساد دوراً كبيراً في انهيار المجتمعات،قال تعالى:- (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)[16].

وينقسم الفساد إلى ثلاثة أقسام:

الفساد الأخلاقي:

وقد أشار له القرآن في سياق حديثه عن قصة لوط،حيث كانت الفاحشة منتشرة في ذلك المجتمع،قال سبحانه:- (ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين،إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مترفون،وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم انهم أناس يتطهرون،فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين،وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين)[17].

الفساد الاقتصادي:

ممثلاً في سوء استغلال الثروات الطبيعية،والإسراف،والتـرف،وغير ذلك،قال تعالى:- (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً،وكنا نحن الوارثين)[18].

وقال تعالى:- (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)[19].

وهناك القسم الثالث من أقسام الفساد وهو الفساد السياسي والإداري،ولا أراني بحاجة للحديث عنه في هذا المقام.

خاتمة:

هذا وينبغي أن يعلم أن للمحتوى الداخلي للإنسان والمجتمع دخلاً كبيراً في حياة المجتمع أو موته،باعتباره الأساس الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي،فإذا كان المحتوى الداخلي صالحاً كان البناء الاجتماعي صالحاً وقادراً على البقاء والنماء.

أما إذا غير الناس من محتواهم الداخلي الصالح،واتخذوا محتواً داخلياً جديداً فاسداً،فإن ذلك سوف يؤدي إلى تبدل أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية نحو الأسوأ،وبالتالي انهيار مجتمعهم،قال سبحانه وتعالى:- (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم)[20].

————————————————-

[1] سورة الأنفال الآية رقم 24.

[2] سورة الحديد الآية رقم 17.

[3] سورة فصلت الآية رقم 39.

[4] سورة الأنعام الآية رقم 122.

[5] سورة الفجر الآية رقم 24.

[6] سورة الإسراء الآية رقم 58.

[7] سورة طه الآية رقم 124.

[8] سورة الحج الآية رقم 31.

[9] سورة الأنعام الآية رقم 6.

[10] سورة الأنفال الآية رقم 55.

[11] سورة الأعراف الآية رقم 128.

[12] سورة البقرة الآية رقم 268.

[13] سورة النساء الآية رقم 60.

[14] سورة النور الآية رقم 21.

[15] سورة العنكبوت الآية رقم 38.

[16] سورة البقرة الآية رقم 27.

[17] سورة الأعراف الآيات رقم 80ـ84.

[18] سورة القصص الآية رقم 58.

[19] سورة النحل الآية رقم 112.

[20] سورة الأنفال الآية رقم 54.