لا إشكال في قبول بعض الحيوانات للتذكية،بحيث تكون موجبة فيها الحلية والطهارة،كالدجاج والغنم والبقر وما شابه ذلك من الحيوانات مأكولة اللحم.
كما لا إشكال في عدم قبول بعض الحيوانات للتذكية كالكلب والخنـزير،فإنه حتى لو ذبح ذبحاً شرعياً مستجمعاً الشرائط يـبقى على النجاسة والحرمة.
لكن وقع الكلام في الحيوانات الأخرى،فهل تقبل التذكية بحيث تكون التذكية موجبة لطهارتها وحلية استعمال جلودها مثلاً،أولا ؟…
وقع الخلاف بين الأصحاب في ذلك،على قولين،حيث اختار جمع منهم كبعض الأساطين في منهاجه،وتبعه بعض الأعاظم(ره)كما في تقرير درسه الشريف وجمع من تلامذته،في أن كل حيوان قابل للتذكية،بينما أختار آخرون كالمحقق في الشرائع وغيره،عدم قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما دل عليه الدليل.
فالكلام بين الأصحاب(رض)إذن فيما هو مقتضى الأصل في المسألة،فهل هو قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل،أو أن الأصل هو عدم قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل؟…
هذا وقد ذهب قسم منهم كما عرفت إلى أن الأصل هو قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل،فإذا شككنا في قابلية حيوان معين للتذكية يـبنى على قابليته لها،وذهب آخرون إلى خلاف ذلك،لعدم الدليل الذي يصلح الإستناد إليه في إثبات المدعى.
ثم إن القائلين بأن الأصل هو عدم القابلية،اختلفوا أيضاً فيما بينهم في الحدود التي دلت عليها الأدلة،فاختار بعضهم أن القابلية لخصوص ما يؤكل لحمه فقط،واختار آخرون بأن قابلية التذكية فيما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه باستثناء المسوخ،واختار جماعة ثالثة أن قابلية التذكية للجميع حتى المسوخ ما عدا الحشرات.
وكيف ما كان المتبع هو خصوص الدليل،فلابد من ملاحظة أدلة الطرفين،نعم مع عدم تمامية إحداهما،تـتعين الأخرى فلا حاجة للبحث عنها،فنقول:استدل القائلون بقابلية كل حيوان للتذكية بعدة أدلة:
الأول:الإجماع،فقد ذكر في الحدائق نفي الخلاف بين الأصحاب في قبول كل حيوان طاهر عدا الكلب والخنـزير والإنسان للتذكية[1].
وفيه:مع التسليم بتحقق هذا الإجماع في نفسه،إلا أنه لا يركن إليه لإحتمال المدركية فيه،بل قد يطمئن بذلك بعد كثرة الوجوه المستدل بها على ذلك.
الثاني:التمسك بقوله تعالى:- (قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه)[2]،بتقريب:
إن المستفاد من الآية هو حلية كل حيوان إلا ما خرج،ولا معنى للحلية إلا قبول الحيوان للتذكية،لأنه لو لم يكن قابلاً للتذكية لما كان حلالاً.
وأجيب عن هذا الإستدلال:بأن الآية مقيدة بما دل على اعتبار التذكية في حل الحيوان،مضافاً إلى صدق الميتة على غير المذكى كما يفهم من جملة من النصوص.
وفيه:مع التسليم بعموم الآية في حلية الحيوان،فالجواب المذكور مخدوش،لأن الآية قيدت بما لم تقع عليه التذكية فزهقت روحه بدونها،لا بما يقبل التذكية،فإستفادة القابلية من عموم الحل جلية واضحة،ويكون المراد أن كل حيوان يحل أكله إذا ذكي،فتفيد أن التذكية مؤثرة في حلية كل حيوان،وليس هذا إلا قابلية كل حيوان للتذكية.
الثالث:التمسك بقوله تعالى:- (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه)[3].
وفيه:إن الآية أجنبية عن المقام،لكونها في مقام بيان ما يحل مما يقبل التذكية،فهي لا تـتكفل اثبات قابلية كل حيوان للتذكية.
الرابع:التمسك بقوله تعالى:- (فكلوا مما أمسكن)
والجواب عن هذا الوجه،هو عين الجواب عن سابقه،لكون الآية واردة مورد حكم آخر.
الخامس:موثقة ابن بكير لقوله(ع):فإن كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة إذا علمت أنه ذكي قد ذكاه الذابح،فإن كان غير ذلك مما نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل شيء منه فاسدة ذكاه الذابح أو لم يذكه[4].
وقد قرب دلالتها على المدعى في الجواهر بأن قوله(ع):ذكاه الذبح أو لم يذكه،ظاهر في كون الذبح تذكية لكل حيوان[5].
والتحقيق أن الإحتمالات المتصورة في الرواية كما يلي:
الأول:أن يكون مراده(ع)بيان عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه وإن ذكي.
الثاني:أن يكون المراد بيان عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه سواء أثر الذبح أم لم يؤثر.
الثالث:أن يكون(ع)بصدد بيان أن الذبح الذي يفترض تأثيره في حصول الذكاة لا يجدي في رفع مانعية ما لا يؤكل لحمه في الصلاة.
هذا وقد يدعى الإجمال في الموثقة إذا لم يظهر منها أحد هذه الإحتمالات،ثم إننا لو قلنا بظهور أحدها،فإن ذلك لا يدل على قابلية كل حيوان للتذكية،إذ أن كلام الإمام(ع)لا يثبت الموضوع.
ثم إن هذا الذي ذكرناه لا يختلف بملاحظة اختلاف نسخ الرواية،بين كون الوارد فيها لفظة الذبح أو الذابح.
على أن لنا تأملاً في النص من جهة التشويش الموجود فيه،تعرضنا لتفصيله في بحث تعارض الأدلة،وكتاب الصلاة،حيث يحتمل قوياً أنه من النصوص المصححة،كما فصلنا ذلك هناك.
السادس:صحيحية علي بن يقطين قال:سألت أبا الحسن(ع)عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود،قال:لا بأس بذلك[6].
وقد استدل بها في الجواهر على قابلية كل حيوان للتذكية،وجعل دلالتها أظهر من دلالة الموثقة،وقرب استفادة عموم القابلية منها بإعتبار أنها لو لم تقبل التذكية لم يجز لبسها لكونها ميتة حينئذٍ[7].
والتـزم بهذا المعنى بعض الأعاظم(قده)فذكر أن معنى نفي البأس عن جميع الجلود يفيد أنه لا مانع من لبسها ولو في حال الصلاة فتكشف التـزاماً عن تذكيتها،إذ لولا ذلك لكانت ميتة لم يجز لبسها،إما مطلقاً لو قلنا بعدم جواز الإنتفاع بالميتة،أو في خصوص الصلاة[8].
وقد أورد المحقق النائيني(ره)على الصحيح،بعدم دلالته على قبول كل حيوان للتذكية حتى الحشرات،لأن الحشرات إما أنها لا تصدق الجلود عليها،أو لا يصلح بعضها للبس،أو لا يتعارف لبسها في البعض الآخر.
هذا ويمكن أن يعلق على هذا الإيراد فيقال:إنه لو أريد منه دعوى إنصراف اطلاق نفي البأس،فيرده منع الانصراف،لأن الإمام(ع)في مقام الجواب عن السؤال الذي كان عن جميع الجلود.
أما لو أريد منه ادعاء عدم مقصود السائل في عبارته كل الجلود بنحو يشمل الحشرات فهو ادعاء غير بعيد.
وكيف ما كان فيرد على الإستدلال بالصحيح اولاً:إن الحيثية الملحوظة في ذهن السائل،إما أن تكون هي الإنتفاع بجلود هذه الحيوانات بحيث يسئل عن حكم لبسها تكليفاً،أو تكون الحيثية الملحوظة هي لبسها حال الصلاة،أو تكون هي لبسها في الصلاة وغيرها.
وعلى الأول لا تـتم دلالتها،إلا بناء على حرمة الإنتفاع بالميتة،لأن ما لا يقبل التذكية ميتة بلا إشكال،فمقتضى نفي البأس هو القبول للتذكية.
وعلى الثاني تكون الرواية معارضة بما دل على عدم جواز الصلاة فيما لا يؤكل لحمه فتحمل صحيحة علي بن يقطين على التقية لموافقتها للعامة.
وعلى الثالث يقيد اطلاقها بما دل على عدم جواز لبسها في الصلاة،والباقي يكون الكلام فيه كالكلام عن الأول.
والحاصل إنما تكون الصحيحة تامة الدلالة على المدعى،إذا كان النظر فيها إلى الحيثية الأولى،بناء على حرمة الإنتفاع بالميتة.
وعليه نلاحظ على ذلك:بأننا قد ذكرنا في بحث المكاسب المحرمة جواز الإنتفاع بالميتة في غير ما اشترط فيه الطهارة وعدم الموت بلا تذكية.
فالنـتيجة أنه لم يدل دليل على قابلية كل حيوان للتذكية، فالأصل إذن هو عدم التذكية،إذا شك في قابلية كل الحيوان للتذكية.
نعم هناك روايات دلت على قبول بعض الحيوانات مما لا يؤكل لحمه للتذكية،حيث دلت على جواز الصلاة في جلودها،وهي على فرض كونها مطلقة مقيدة بصورة كون الجلد مأخوذاً من حيوان مذكى.
كما أن معتبرة سماعة الواردة في جلود السباع،دالة على قبولها التذكية إذا تحقق الرمي والتسمية،قال:سألته عن جلود السباع ينـتفع بها،قال:إذا رميت وسميت فأنـتفع بجلده،وأما الميتة فلا[9].
ومن الواضح دلالتها على قابلية المحل، نعم هي مختصة بالسباع،فلا يتعدى منها إلى غيرها.
——————————————————————————–
[1] الحدائق ج ص
[2] سورة الأنعام الآية رقم 145.
[3] سورة الأنعام الآية رقم 118.
[4] الوسائل ب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.
[5] جواهر الكلام ج ص
[6] الوسائل ب 5 من أبوب لباس المصلي ح
[7] جواهر الكلام ج ص
[8] التنقيح ج 1 ص 488.
[9] الوسائل ب 49 من أبواب النجاسات ح