19 أبريل,2024

حدود الطواف

اطبع المقالة اطبع المقالة

اعتبر المشهور في الطواف أن يكون بين الكعبة ومقام إبراهيم(ع)،ويقدر هذا الفاصل بستة وعشرين ذراعاً ونصف ذراع،وبما أن حجر إسماعيل داخل في المطاف،فمحل الطواف من الحجر لا يتجاوز ستة أذرع ونصف ذراع.

وعلى هذا لا كلام عندنا في الطواف الواقع بين البيت والمقام،وإنما الكلام في الطواف خلف المقام،وما هو حكمه.

هذا والأقوال في المسألة ثلاثة:

الأول:ما هو المشهور،أو الأشهر كما في تعبير الفقيه صاحب الحدائق(ره)[1] بين أصحابنا من ضرورة كون الطواف بين البيت ومقام إبراهيم(ع)،بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه،كما في الغنية.

الثاني:ما أختاره ابن الجنيد،على ما حكاه العلامة عنه،من سقوط الشرطية،وجواز الطواف خارج المقام عند الضرورة.

وينسب هذا القول للشيخ الصدوق(ره)أيضاً[2]،فإنه وإن لم يذكر هذا المعنى في كتابيه المقنع والهداية،إلا أنه نقل في كتابيه الفقيه صحيحة الحلبي الآتية[3].

وبناء على ما ذكره وتعهد به في الديـباجة،من عدم إيراده إلا خصوص ما يراه حجة بينه وبين ربه،نسب له هذا القول.

ثم إن هذا بناءاً على تمامية دلالة الصحيح على المدعى،وإلا لو قيل بعدم تماميته،لم يكن إيراد الصدوق(ره)له في كتابيه يعني قوله بهذا القول،بل ربما فهم الصدوق منها ما سنشير له عند التعرض للصحيح،وبه تنـتفي صحة النسبة.

وقد يظهر من العلامة الحلي(قده) الميل إلى هذا القول أيضاً في كتابيه منـتهى المطلب،وتذكرة الفقهاء[4].

وكذا يظهر الميل إلى هذا القول من الشيخ الحر صاحب الوسائل(ره)للعنوان الذي ذكره في كتابه[5].

هذا ويمكن أن يكون وجه هذا القول هو الاستناد إلى صحيحة الحلبي الآتية،كما تشير إليه بعض الكلمات.

ثم إنه قد يفرق بين قول المشهور وهذا القول من خلال،أن وقوع الطواف بين هذين الحدين يمثل شرطاً لصحة الطواف بصورة دائمة،بحيث إنه حتى لو عجز الإنسان عنه فإن الشرطية تبقى على حالها،لعدم شمول أدلة الاضطرار ونحوه لها ما دامت لا تمثل تكليفاً شرعياً بقدر ما تمثل حكماً وضعياً يوجب انتقال الوظيفة في حال عدم توفره للعجز إلى الاستـنابة،وهذا بخلاف القول الثاني فإن الشرطية بنفسها مقيدة بمورد القدرة دون العجز والاضطرار.

القول الثالث:عدم اعتبار هذا الشرط سواءاً عند الاختيار والقدرة أو حال العجز والاضطرار،وإنما العبرة بصدق الطواف بالكعبة المشرفة عرفاً على الطائف،فلو كان بعيداً جداً بحيث لم يصدق عليه أنه يطوف بالبيت إلا بعناية وتكلف لم يصح.

وعن المحقق السبزواري في كفاية الأحكام أن العدول عن القول بعدم الشرطية مشكل،فيما القول بالشرطية أحوط[6].

واستحسنه المحقق النراقي في المستند لولا الإجماعات والشهرات[7].

هذا ولم يتعرض جملة من فقهائنا لهذه الشرطية في أبحاثهم في الحج كالصدوق في كتابيه الفقهيـين المقنع والهداية،والمفيد في كتابه المقنعة،والسيد المرتضى في الناصريات وجمل العلم والعمل والانتصار،وكذلك سلار في المراسم العلوية،وأبو الصلاح الحلبي في الكافي.

هذا ولنبدأ بذكر بعض كلمات الأصحاب:

قال الشيخ في الخلاف:إذا تباعد من البيت حتى يطوف بالسقاية وزمزم لم يجزه،وقال الشافعي يجزيه.

دليلنا:أن ما ذكرناه مقطوع على إجزائه،وما ذكروه ليس على إجزائه دليل،فالاحتياط أيضاً يقتضي ما قلناه[8].

أقول:يظهر من عبارته أمران:

الأول:أنه لم يشترط أن يكون الطواف بين البيت والمقام،وحكمه بفساد طواف الطائف بالسقاية وزمزم،لا يظهر منه الشرطية المطلوبة،لاحتمال أن مرجع ذلك لانتفاء صدق عنوان الطواف بالبيت عليه حينئذٍ للتباعد الموجود بين الطائف والمطاف به.

الثاني:على فرض التسليم بكون ما ذكره ناظر لمختار المشهور،فإنه قد استدل له بالقطع بالجواز في غير ما ذكر،وعدم القطع بالجواز في ما ذكر،فالاحتياط يقتضي الترك.

ولا يخفى أنه تمسك للمدعى بغير النصوص،مما يعني أنه لو كان في البين خبر ضعيف سنداً،لن يكون الشيخ من العاملين به لإحراز الجبر.

وقال في المبسوط:…وينبغي أن يكون طوافه فيما بين المقام والبيت،ولا يجوزه،فإن جاز المقام وتباعد عنه لم يصح طوافه[9].

أقول:بناء على ظهور كلمة(ينبغي)في الشرطية واللزوم يكون الاشتراط في كلامه واضحاً لا خفاء فيه،بل يؤكد هذا المعنى حكمه بعدم صحة الطواف متى تحقق التباعد،بأن جاز المقام.

وقال ابن زهرة في الغنية:والواجب في الطواف النية ومقارنتها،واستمرار حكمها،والطهارة من الحدث والنجس،وستر العورة،والبدأة بالحجر الأسود،والختام به،وأن يكون سبعة أشواط،وأن يكون البيت عن يسار الطائف،وأن يكون خارج الحجر،وأن يكون بين البيت والمقام،فمن ترك شيئاً من ذلك لم يجزه الطواف،بدليل الإجماع الماضي ذكره،وطريقة الاحتياط،واليقين لبراءة الذمة،لأنه لا خلاف في براءة الذمة منه إذا فعل على الوجه الذي ذكرناه،وليس على براءتها منه إذا فعل على خلافه دليل[10].

أقول:وكلامه واضح في الشرطية،لكن الذي يهمنا هو الدليل الذي تمسك به لإثباتها،إذ من الواضح أنه لم يتمسك لإثبات المدعى بالنص،بل تمسك بالإجماع،وبطريقة الاحتياط،وباليقين لبراءة الذمة.

وقال في السرائر:وينبغي أن يكون الطواف بالبيت،فيما بين مقام إبراهيم(ع)،والبيت،يخرج المقام في طوافه،ويدخل الحجر في طوافه،ويجعل الكعبة على شماله،فمتى أخلّ بهذه الكيفية،أو بشيء منها،بطل طوافه[11].

أقول:واعتبار الشرطية وموافقته لقول المشهور،أو الأشهر واضح.

وقال المحقق في الشرائع عند تعرضه للطواف:وأن يكمله سبعاً،وأن يكون بين البيت والمقام[12].

وقال الشهيد الثاني(ره)في المسالك:بمعنى أن كون الطواف في المحل الخارج عن جميع البيت والداخل عن جميع المقام،ويجب مراعاة هذه النسبة من جميع الجهات،فلو خرج عنها ولو قليلاً بطل،ومن جهة الحجر يحتسب المسافة من خارجه بأن ينـزله منـزلة البيت،وإن قلنا بخروجه عنه،مع احتمال احتسابه منها على القول بخروجه،وإن لم يجز سلوكه[13].

أقول:تعرض(قده)إلى بيان المراد من كون الطواف حول البيت والمقام،وقد ذكر في تفسير مراد الأعلام من شرطية الطواف بين البيت والمقام، احتمالان:

الأول:ما أحتمله الشهيد الثاني(ره)في كلامه هنا ولم يجزم به،من أن المراد هو التحديد بالبعد الخاص من البيت بحيث لا يجوز الطواف في الأبعد في بعض تلك النواحي،بل لابد من السير خلفه وحوله كالحجر.

الثاني:أن يكون المراد هو التحديد بالمسافة الخاصة للسير والطواف بحيث يكون جميع تلك النواحي مشتركة في الجواز بهذا الحد من المسافة بما هي،لا البعد من البيت بما هو بعد معين،وإن اختلفت أيضاً بالسعة والضيق،بأن يكون البعد في بعضها أكثر وفي بعضها أقل للزوم كون تلك المسافة مقيسة فيما عداها،إنما هي بلحاظ ما بين حد البيت والمقام،وأما في ناحية الحجر،فإنما هي بلحاظ ما ينـتهي إليه حده،وبين المقام فبمقدار الحجر يزيد على البعد في تلك الناحية فقط.

ولا خفاء في أن الحجر لو كان من البيت لأنساق إلى الذهن من التعبير بما بين البيت والمقام احتساب مسافته أيضاً،ولكن تحقق خروجه عنه موضوعاً.

ثم إن المشهور،بل كاد أن يكون مورد إجماع بين الأصحاب المعنى الثاني،فعليه لا يتضيق الناس عند الطواف مع الزحام،لأن تلك المسافة المحددة بالأذرع الخاصة إنما هي بلحاظ ما يجوز فيه الطواف،لا مجرد البعد عن البيت فحينئذٍ يكون الأمر في الحجر وغيره سواء من حيث المسافة التي يجوز الطواف فيها وإن اختلفت مع غيره في البعد عن البيت،إذ يزيد بمقدار الحجر في البعد في خصوص تلك الناحية.

هذا ولم نجد أحداً من الأصحاب قدماء أو متأخرين وافق الشهيد الثاني(قده)في احتماله،نعم يظهر من بعضهم الاحتياط بالمعنى الذي أحتمله الشهيد دون الجزم به.

وقال السيد في المدارك:وأما أنه يعتبر كون الطواف واقعاً بين البيت والمقام،بمعنى كونه في المحل الخارج عن جميع البيت والداخل عن جميع المقام،فهو المعروف من مذهب الأصحاب،ويدل عليه ما رواه الكليني عن محمد بن مسلم…….

-ثم تعرض لنقل قول ابن الجنيد،وبيان ما يصلح مستنداً له،ثم أشار لمعنى الطواف بين البيت والمقام،فقال:

وقد قطع الأصحاب بأنه يجب مراعاة قدر ما بين البيت والمقام من جميع الجهات،وفي رواية محمد بن مسلم المتقدمة دلالة عليه،وتحتسب المسافة من جهة الحجر من خارجه وإن كان خارجاً من البيت،لوجوب إدخاله في الطواف،فلا يكون محسوباً من المسافة.

واحتمل الشارح احتسابه منها على القول بخروجه وإن لم يجز سلوكه،وهو أحوط[14].

وقال في الجواهر:لا خلاف معتد به أجده في وجوب كون الطواف بينه وبين البيت،بل عن الغنية الإجماع عليه،لخبر حريز عن محمد بن مسلم…[15].

هذا وقد تعرض(قده)لبيان معنى الطواف بين البيت والمقام،فقال:ثم إنه لابد من ملاحظة المقدار المزبور من جميع الجوانب كما سمعت التصريح به في الخبر الزبور،بل نسبه في المدارك إلى قطع الأصحاب،وهو كذلك وهو كما عن تاريخ الأزرقي إلى الشاذروان ست وعشرون ذراعاً ونصف،نعم لا إشكال في احتساب المسافة من جهة الحجر من خارجه بناء على أنه من البيت،بل في المدارك وغيرها وإن قلنا بخروجه عنه لوجوب إدخاله في الطواف فلا يكون محسوباً من المسافة.

وفيه أنه خلاف ظاهر الخبر المزبور،ولذا احتمل في المسالك احتسابه منها وإن لم يجز سلوكه،ولا ريب في أنه الأحوط[16].

وقال المحقق في المختصر:وأن يطوف سبعاً،وأن يكون بين المقام والبيت.

وعلق السيد الطباطبائي في الرياض،على كون الطواف بين البيت والمقام بقوله:مراعياً قدر ما بينهما من جميع الجهات مطلقاً على المشهور،بل قيل كاد أن يكون إجماعاً،وفي الغنية الإجماع عليه صريحاً[17].

وجاء في المختلف:المشهور أنه لا يجوز إدخال المقام في الطواف،وقال ابن الجنيد:يطوف الطائف بين البيت والمقام الآن وقدره من كل جانب،فإن اضطر أن يطوف خارج المقام،أجزئه……[18].

وقال في قواعد الأحكام بعد تعرضه لواجبات الطواف،وأنها أحد عشر:الطواف بين البيت والمقام،فلو أدخل المقام فيه،لم يصح.

وعلق عليه في كشف اللثام:إلى الحجر الذي عليه أثر القدم الشريفة لا البناء اختياراً واضطراراً،ولابد من اعتبار قدره من المسافة من الجوانب كلها،وهي كما في تاريخ الأزرقي،إلى الشاذروان ست وعشرون ذراعاً ونصف[19].

وقال في شرح إرشاد الأذهان:وإخراج المقام.

وعلق المقدس الأردبيلي:الظاهر أن وجوب كون الطواف بين البيت والمقام،فيكون المقام خارجاً عن الطواف وعلى يمين الطائف،مما لا خلاف فيه عند الأصحاب[20].

هذا وبعد نقل كلمات الأصحاب،نـتعرض الأدلة التي تصلح مستنداً للأقوال،فنقول:

استدل المشهور للشرطية بأمور:

الأول:الإجماع،الذي سمعت دعواه من قبل السيد(ره)في الغنية.

أقول:اتضح من استعراض كلمات الأصحاب(رض)أن المسألة ذات مدرك واضح،سنشير له فيما يأتي،وهذا بنفسه يضعف من حجية الإجماع،ذلك لما ذكرناه في محله،من أن منشأ حجية الإجماع هو كشفه عن الارتكاز المتشرعي المتلقى من أصحاب الأئمة(ع)،ويستفاد بنحو وآخر من مجموع دلالات السنة الشريفة.

ويعتبر في تحققه تلقيه من قبل الطبقة الأولى من الفقهاء،فمخالفة مثل الصدوق إما بنقله للرواية الدالة على الترخيص بناءاً على تمامية دلالتها على ذلك،فضلاً عن عدم تعرضه للمسألة في كتابـيه الفقهيـين.

وبالجملة الإجماع غير محرز من الناحية الصغروية،لا سيما بعد عدم تعرض الصدوق والمفيد والمرتضى وسلار وأبي الصلاح من القدماء،للمسألة واعتبار الشرطية.

لا يقال:إن إيراد الصدوق(قده)لصحيح الحلبي الآتي،لا يكشف عن فتواه بخلاف المشهور،لعدم تمامية دلالتها على جواز الطواف خلف المقام.

قلت:إن هذا وإن كان حسناً،لكنه لا يمنع من الخدشة في الإجماع،لوجود من لم ينص على الشرطية،من القدماء ،وهو على هذا سيكون منهم،لأنه لم يتعرض لذكر رواية محمد بن مسلم.

إن قلت:إن الصدوق لمّا استظهر من الصحيح جواز الطواف خلف المقام في حال الاضطرار،ر خص ذلك في تلك الحالة،فلا يكون مخالفاً لما عليه المشهور.

قلت:المستفاد من النص بحسب الظهور الأولي،هو جواز ذلك حتى للمختار على تأمل منا يأتي عند تعرضنا للصحيح.

وبالجملة،إن هذا الاستظهار المحتمل في حق الصدوق كافٍ في منع انعقاد الإجماع.

نعم يمكن دفع الإشكال على الإجماع بخلاف الشيخ الصدوق(ره)بالتالي:

إن خلاف الصدوق لا يخلو عن أن يكون مرده إما إلى الأصل العملي،أو إلى الدليل الاجتهادي الروائي.

فإن مستنده هو الأصل العملي،فلا ريب في كونه مضراً بالإجماع،لأنه مع وجود الارتكاز المتشرعي المسلم الذي يحصل من مجموع دلالات السنة المباركة،لا وجه لإفتاء الفقيه بمقتضى الأصل،وهو يتلقى ارتكازاً مأخوذاً من بيانات المعصوم(ع).

نعم لو كان مستند خلافه يعود لكونه قد استند إلى الدليل الاجتهادي الروائي بالخصوص،فإنه لا يكشف بالضرورة عن عدم وجود ارتكاز متشرعي،لإمكان أن يكون الفقيه قد استند إلى نكتة اجتهادية قدم على أساسها الدليل الروائي،على الارتكاز.

وفي مثل ذلك لا يكشف خلافه عن عدم وجود ارتكاز بين المتشرعة على الحكم،ويشهد لذلك وجود فتاوى منفردة لبعض قدماء الأصحاب،وفي بعض الموارد يوجد ارتكاز متشرعي على خلاف تلك الفتوى،لكنه يعمل بالدليل الروائي.

وعليه فمن المحتمل أن يتجه نظر الفقيه إلى تقديم الدليل الروائي،بلحاظ أنه دليل تام ناطق في قبال ارتكاز لم يتولد من دليل معروف،حتى لو كان مسلماً بين الأصحاب.

وقد يحتمل أن وقوفه على الدليل الروائي صار مدعاة له للتشكيك في كشف الارتكاز عن الحكم،وبهذا لن تكون مخالفة الصدوق موجبة لإسقاط الإجماع.

وهذا يستدعي من الفقيه حينئذٍ لو اقتصر المخالف على الصدوق،لا أقل من الاحتياط لضآلة منفذ التشكيك.

لكن قد عرفت وجود آخرين يمنعون من تحقق الصغرى،لهذا الإجماع،وبه يصعب الالتزام بمفاده.

ثم إنه يمكننا المنع عن حجية الإجماع بطريق آخر،ذلك أن منشأ حجية الإجماع عندنا على ما بنينا عليه في الأصول ترجع إلى حساب الاحتمالات كما عليه بعض الأعيان المحققين(دامت بركاته)وبعض الأكابر(قده)من خلال إفادته للعلم بحساب الاحتمال.

وعلى هذا فكل كاشف احتمالي على الخلاف يكون مانعاً من حصول العلم،وفي المقام توجد عدة نقاط تصلح للمنع عن حصوله،وكفانا في ذلك رواية محمد بن مسلم.

الثاني:ما ذكره السيد(قده)في الغنية،من أن الطواف بين البيت والمقام،هو طريقة الاحتياط،ونحن بحاجة إلى اليقين بـبراءة الذمة،الأمر الذي لا يحصل إلا بإيقاع الطواف في هذا الإطار المحدد.

ويلاحظ على هذا الوجه:أن جريان أصالة الاشتغال،إنما تكون مجرى لمورد الشك في المكلف به،لا للشك في التكليف الشامل لأصل الحكم وقيده وشرطه.

على أنه ينبغي أن تلحظ بداية الأدلة الاجتهادية،قبل الركون للأصول العملية،فلو تمت لن تصل النوبة للأصل العملي،كما لا يخفى.

الثالث:التمسك برواية محمد بن مسلم قال:سألته عن حد الطواف بالبيت الذي من خرج عنه،لم يكن طائفاً؟…

قال:كان الناس على عهد رسول الله(ص)يطوفون بالبيت والمقام،وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام والبيت،فكان الحدّ موضع المقام اليوم،فمن جازه فليس بطائف،والحد قبل اليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت من نواحي البيت كلها،فمن طاف فتباعد من نواحيه أبعد من مقدار ذلك كان طائفاً بغير البيت بمنـزلة من طاف بالمسجد،لأنه طاف في غير حد ولا طواف له[21].

وتقريب دلالتها على المدعى أن يقال:إن ظاهر الخبر كون الطواف ما بين البيت والمقام،بحسب مكانه الذي هو فيه اليوم،والطواف في هذا الحد واجب لا مفر منه،نعم لقد كان المقام في زمن رسول الله(ص)بقرب البيت حيث هو مقره الواقعي،لأن كلمة (مقام)مأخوذة لغة من موضع قدم القائم،كما أفاده فقيه الجواهر،فكأن إبراهيم(ع)كان يقوم عليه لبناء البيت أو لغير ذلك،وفي الأيام اللاحقة لعهد الرسالة،وعلى حد بعض النصوص أنه حصل في زمن عمر بن الخطاب تغيـير محله إلى موضعه الحالي الآن كما كان عليه قبل الإسلام وفق بعض النصوص الأخرى.

وبالجملة لا خلاف في تمامية ظهور الخبر على الشرطية،مما يثبت مدعى المشهور.

هذا وقد أشكل على الخبر من الناحية السندية بإشكالين:

الأول:ما جاء في كلام بعض الأعاظم(ره)وغيره،من أن الخبر ضعيف لاشتماله على ياسين الضرير،وهو ممن لم تثبت وثاقته،فلا يمكن التعويل عليها[22].

الثاني:كون الخبر مضمراً،حيث أن الراوي وهو محمد بن مسلم لم يصرح باسم الشخص الذي يروي عنه،فلا يحرز أنه الإمام(ع)فتسقط الرواية عن الحجية والاعتبار.

هذا ويمكن دفع كلا الإشكالين:

أما الإشكال الثاني،وهو إشكال الإضمار فيمكن الجواب عنه:

بأن الإضمار إذا كان من أحد أجلاء ومشاهير الأصحاب،يمكن التعويل عليه،لأنه لا يتصور فيه أن يروي عن غير الإمام(ع).

بل لا يتصور ذلك في مثل محمد بن مسلم،بأن يكون راوياً عن غير الإمام(ع)مما يعني تحقق الوثوق بكون الخبر منقولاً عن الإمام(ع).

هذا ويمكننا أن نجيب عن إشكال الإضمار من خلال طريق آخر،وهو الاستفادة من حساب الاحتمال الرياضي،بأن يقال:

إن الغالبية الساحقة من روايات محمد بن مسلم إنما هي عن الإمام(ع)،ووفقاً لذلك فإن احتمال أن تكون هذه الرواية المضمرة عن غير الإمام(ع)مع ندرة لو لم يقل بانعدام رواياته عن غير الإمام(ع)هو احتمال منعدم عملياً طبقاً لحساب الاحتمالات الرياضي،وهذا يجعلنا نحصّل الوثوق بكون المضمرة منقولة عن الإمام(ع).

نعم لو قيل بأن هناك مقداراً مهماً من روايات الراوي المباشر عن غير الإمام(ع)فإن هذا يرفع من احتمال كون المضمرة عن غير الإمام(ع)،وبالتالي لا يتولد لنا الوثوق المذكور.

والفارق بين هذا الطريق والطريق الأول،هو أننا في الطريق الأول نعتمد في دخول المضمرات دائرة على الحجية بشكل رئيسي ومباشر على مدى جلالة الراوي ووثاقته ومعروفيته بين الطائفة،وما له من منـزلة علمية،تمنع من أن يروي عن غير المعصوم(ع).

بينما في هذا الطريق،لا يرتبط دخول المضمرة دائرة الحجية بجلالة الراوي ومقامه،بل يرتبط ذلك بحجم رواياته إلى جانب المقدار الذي أحرزنا أنه رواه عن غير المعصوم(ع)،لا سيما بملاحظة أن الرواة كان يهمهم العثور على أكبر قدر ممكن من روايات أهل البيت(ع)،سواءاً كان ذلك عن طريق المباشرة أو عن طريق راوٍ آخر،لا سيما إذا كان هو الآخر جليلاً ومتقدماً.

ويترتب على هذا الطريق عدم الحاجة إلى القول بأن طبيعة الإضمار تـتطلب أن يكون صاحب الضمير معروفاً وبارزاً حتى يصح الإضمار حسبما تقتضيه أدبيات اللغة،كما عليه بعض المعاصرين.

لأنه افتراض يتجاهل الفارق التدويني الذي حصل بين مرحلة الرواة الأوائل وبين مرحلة الكتب والمجاميع الحديثية،التي اتسمت كما هو معروف بالتقطيع،وفرز تلك الأحاديث المتلاحقة ووضع كل واحد منها في بابه.

وهذا يعني أن من الممكن جداً أن يكون الإضمار قد حصل نـتيجة ذكر المسؤول في الرواية أو الروايات السابقة بحسب ترتيب الراوي المتقدم،ويكفينا هنا قوة الاحتمال،وعليه فلا نرى ما يوجب حصر تفسير ظاهرة الإضمار بمعروفية صاحب الضمير,

وهذا الذي ذكرناه في بعض بحوثنا الفقهية السابقة،بأن هناك بعض الشواهد في بعض الرواة تشير إلى منشأ الإضمار المتصور في رواياتهم كسماعة،على سبيل المثال.

هذا بالنسبة لدفع الإشكال الثاني،وقد اتضح عدم تماميته.

وأما الإشكال الأول،وهو اشتمال السند على ياسين الضرير،فيقع الجواب عنه في مرحلتين:

المرحلة الأولى:في إمكان توثيق ياسين الضرير،والطرق المتصورة لذلك.

المرحلة الثانية:بعد عدم الفراغ عن عدم نهوض طريق معتبر في المرحلة الأولى،لتوثيق ياسين،يقع البحث في إمكان علاج الخلل السندي من ناحيته.

المرحلة الأولى:

يمكن ذكر عدة طرق،يتمسك بها في إثبات وثاقة ياسين الضرير،وتلك الطرق:

1-إن رواية الأجلاء عن شخص،فضلاً عن إكثارهم الرواية عنه تكشف عن وثاقته،هذا بحسب الكبرى.

وأما الصغرى،فإن راوي كتاب ياسين الضرير هو محمد بن عيسى بن عبيد،وجلالته بمكان من الوضوح،والتوقف من ابن الوليد في شأنه إنما هو في خصوص روايته عن يونس لا مطلقاً،فيثبت المطلوب.

وفيه:قد ذكرنا في فوائدنا الرجالية،أننا لم نجد وجهاً فنياً لهذه الدعوى،وما تصورناه من وجوه لا تخلو عن نقض،مما يعني أن أصل المبنى غير تام فينهدم البناء.

2-كونه من المعاريف،لكونه صاحب كتاب،وقد نص على ذلك النجاشي والشيخ،وكتابه معروف،لرواية محمد بن عيسى بن عبيد له،ولم يرد فيه قدح من الرجاليـين،وله روايات في الكتب الأربعة،فيكون من المعروفية بمكان،فيستغني عن التوثيق.

أقول:أما الكبرى،وهي وثاقة المعاريف،بمعنى كل شخص لما كان من المعروفية بمكان،يقال بكونه ثقة،فهذا مسلك شيخنا التبريزي(دامت أيام بركاته)وهو في تطبيقه بين الإفراط والتفريط،وما يتصور كوجه فني لهذا المدعى ذكرناه في فوائدنا الرجالية،وأشرنا لعدم نهوضه مما يمنعنا من التعويل عليه.

3-إن للشيخ الصدوق(ره)طريقاً صحيحاً إلى روايته نص عليه في مشيخة الفقيه،والطريق هو:أبوه،ومحمد بن الحسن(رض)قالا:حدثنا سعد بن عبد الله،وعبد الله بن جعفر الحميري جميعاً عن محمد بن عيسى بن عبيد عن ياسين الضرير البصري[23].

وقد ذكر الصدوق(قده)في ديـباجة كتابه أنه لا يروي إلا خصوص الروايات التي تكون بينه وبين ربه تعالى ذكره حجة،مما يعني أنه يصحح روايات ياسين الضرير،وهذا يكشف عن وثاقته عنده.

ولا يخفى ضعف هذا الوجه،لا لما يقال من أن الصدوق(ره)مقلد لشيخه ابن الوليد في الرجال،فلا ينفعنا كلامه في إثبات المدعى،وإنما لكونه يعتمد اعتماداً كلياً على كون مسلك الصدوق في حجية الخبر هو الوثاقة،لا الوثوق،وهذا خلاف مقتضى التحقيق كما ذكرنا ذلك في بحث حجية خبر الواحد.

مضافاً إلى أننا ذكرنا في فوائدنا الرجالية،أنه قد حصل خلط عند الأصحاب في التعامل مع بعض العبائر التي توهموا أنها تشير إلى التوثيق العام،كما جاء في ديـباجة الكافي والفقيه والتهذيـبين وكامل الزيارات والتفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم،فحملوها على المنهج الرجالي،مع أنها ناظرة إلى المنهج الفهرستي،والتفصيل يطلب من هناك.

4-إن المستفاد من أدلة حجية خبر الواحد،إمكان الاعتماد على الخبر الحسن،لشمول دائرة الحجية له،هذا بحسب الكبرى،وأما الصغرى،فياسين الضرير حسن،فيمكن الاعتماد على خبره.

وأما الوجه في كونه حسناً،فهو:قد علم من المعهود من ديدن النجاشي،أنه صنف كتابه من أجل التعرض لبيان مصنفات أصحابنا،وقد ذكره النجاشي،فيكشف ذلك عن كونه شيعياً.

لا يقال:إن النجاشي قد خرم هذه القاعدة بتعرضه لبعض المصنفين،من غير الشيعة.

فإنه يقال:إن العادة جرت عنده(ره)أنه متى ذكر مصنفاً غير إمامي،ينص على ذلك،ونراه هنا قد تعرض لياسين الضرير،دونما مغمز منه عليه.

وضعف هذا الوجه واضح،لا يحتاج إلى بيان.

5-إن كل شخص لم يرد فيه مغمز من الرجاليـين،يدخل خبره في دائرة الخبر القوي،وياسين من الرواة الذين تعرض لهم الرجاليـون دونما مغمزٍ منهم في شخصه،فيكون خبره من الخبر القوي،ويدخل دائرة الحجية.

وهذا الوجه كسابقه في الضعف.

فتحصل إلى هنا أنه لم ينهض وجه معتبر يمكن التعويل،عليه للبناء على وثاقة ياسين الضرير.

إن قلت:إن هذه الوجوه،وإن لم يكن كل واحد منها بنفسه يدل على وثاقة ياسين الضرير،لكنها بمجموعها مع بعضها البعض،يمكن التعويل عليها للوصول إلى النـتيجة المطلوبة.

قلت:إن ضم الوجوه المتصورة للبناء على وثاقة ياسين،مع بعضها البعض،عمدة ما يفيد تولد وثوق واطمئنان عند الفقيه باعتبار روايته،وهذا خلاف المطلوب،إذ المطلوب هو إثبات وثاقته،لا الوثوق بخبره.

وتظهر الثمرة فيما لو كان في البين ما يمنع من تولد الوثوق والاطمئنان،فإنه حينئذٍ لا يعول على هذا الاحتمال،بخلاف ما لو تمكننا من تحصيل وثاقته.

المرحلة الثانية:

بعد الفراغ عن المرحلة،والوصول إلى نـتيجة مفادها أنه لم ينهض وجه معتبر للبناء على وثاقة،ياسين،فهل يمكننا علاج الخلل السندي الحاصل بسببه من خلال طريق آخر؟…

والصحيح، هو إمكان ذلك،بناء على ما سلكناه في فوائدنا الرجالية تبعاً لبعض الأكابر(قده)من البناء على نظرية التعويض في الأسناد،فيمكننا أن نعوض طريق هذه الرواية بطريق الشيخ الطوسي(ره)إلى حريز الراوي عنه ياسين الضرير،وذلك لما ذكره الشيخ(ره)في الفهرست من أن له طرقاً إلى جميع كتب ورايات حريز بن عبد الله السجستاني[24].

بقي شيء لا بأس بالإشارة له،حيث أنه ورد الخبر من طريق الكافي بهذا النحو:عن محمد بن يحيى وغيره…الخ.

وجاء الخبر في التهذيب بهذا النحو:عن محمد بن يحيى عن غير واحد…الخ.

فقد يصور هنا وجود إرسال على نسخة التهذيب،ومع الاختلاف لا يمكن الاعتماد على الخبر لعدم حصول الوثوق.

لكن هذا غير وجيه،وذلك،لا لترجيح نسخة الكافي على التهذيب،لكونه أدق،بل لأن الإرسال المتصور في المقام غير متحقق حيث أن التعبير الوارد عن غير واحد،يحقق كثرة قد استغني عن ذكرهم.

فتحصل إلى هنا أيضاً،أن الإشكال الأول السندي على الرواية أيضاً يمكن علاجه،لكن بناحية صغروية،وليس بناحية كبروية،كما لا يخفى.

هذا وقد يعالج الضعف السندي بطريق آخر تعرض له غير واحد من متأخري الأصحاب،وقال به بعض المعاصرين(حفظه الله)[25]،وحاصله:

إن الرواية منجبرة بعمل المشهور،ويشهد لذلك أنه لا يوجد دليل يصلح مستنداً لفتواهم إلا خصوص هذه الرواية،خصوصاً وأن في البين رواية صحيحة السند تغايرها في الحكم،ومع ذلك نجدهم قد تركوها بالرغم من كونها صحيحة سنداً،وأفتوا بمضمون خبر ياسين الضرير مع كونه ضعيفاً،مما يعني رفعهم اليد عن الضعف السندي،وارتقاء الخبر لديهم إلى مستوى الصحة،وإلا لم يكن هناك وجه للاعتماد عليه.

وقد لوحظ على هذا الوجه،كما عن بعض الأعاظم(قده)بالمنع من تمامية الكبرى،قال(ره)بعد تعرضه لكونها تامة من ناحية الدلالة على مختار المشهور،لكنها مبتلاة بضعف السند بوجود ياسين الضرير:وقد ذكرنا غير مرة أن الإنجبار مما لا أساس له عندنا[26].

أقول:قد ذكرنا غير مرة،أن مقتضى التحقيق هو الالتزام بما عليه المشهور من كون الشهرة جابرة كاسرة،وما أفاده(قده)قد تم النظر فيه على ما هو مذكور في محله،ولذا لا خدشة عندنا في أصل الكبرى.

لكن الإشكال في البين،في تحقق الصغرى،حيث أنه قد اتضح من خلال عرض كلمات الأصحاب أنهم بالنسبة لأصل الشرطية على ثلاثة أقسام:

القسم الأول:من ألتـزم باعتبار الشرطية،وهذا القسم لم يحرز منهم جميعاً الاستناد لخبر محمد بن مسلم،فالسيد في الغنية،تمسك بالاحتياط وبراءة الذمة لليقين،والشيخ الطوسي في الخلاف تمسك بالاحتياط والقطع،وابن إدريس لا يعمل بأخبار الآحاد.

وبالجملة لم نحرز من هؤلاء القائلين باعتبار الشرطية تحقق الاستناد منهم،لخصوص هذا النص،والقول بأنه لما لم يكن في البين دليل سواه،فإحراز الاستناد بيّن،في غير محله،لما عرفت من استنادهم لغير ذلك كما اتضح ذلك خلال عرض الكلمات.

القسم الثاني:وهم من لم يلتـزموا بالشرطية مطلقاً،بل في غير حال الضرورة،والقدر المتيقن منهم ابن الجنيد،وقد نسب ذلك للصدوق أيضاً على توقف في صحة النسبة كما تقدمت الإشارة لذلك،وهذا بنفسه يكشف عن عدم تحقق الصغرى أيضاً،المحققة للوثوق،الداعي للاستناد للخبر الضعيف،بحيث يصعد من درجة اللاحجية إلى درجة الحجية.

الثالث:وهم الذين لم يتعرضوا لإثبات هذا الشرط في كتبهم الفقهية،وقد عرفت أسمائهم فيما تقدم،وهم طبقة غير قليلة من فقهاء الطائفة،ورؤساء المذهب،كالصدوق،وابن أبي عقيل العماني،والمفيد والمرتضى وسلار وأبي الصلاح،وابن حمزة.

وهذا بنفسه مانع آخر من تحقق الصغرى،فلا يمكن الالتزام بكون الخبر مجبوراً بعمل المشهور،والله العالم.

لا يقال:لو سلمنا بتحقق الصغرى،فإن ذلك،لا ينفعنا أيضاً للالتزام بحجية الخبر والاعتماد عليه،لأن من الممكن أن قدماء الأصحاب قد استندوا في مقام العمل،للخبر الضعيف،ولنفرض أنه خبر ياسين الضرير،لكن ذلك كان منهم لضفرهم ببعض القرائن،التي أوجبت لهم الاطمئنان بتحقق الصدور،وتلك القرائن لو وصلتنا اليوم،لم توجب لنا ذلك،فلا يمكن الاعتماد على عملهم.

فإنه يقال:قد ذكرنا في محله،أن الحجية عندنا ليست لعمل المشهور،حتى يلحظ ما هو منشأ عملهم،بل المدار عندنا في الاستناد للخبر المجبور بعمل المشهور،للاطمئنان،فمتى تولد عند الفقيه ذلك،أمكنه التمسك بالخبر الضعيف،وعمل المشهور بخبر ضعيف،أحد الأسباب المؤدية لحصول الاطمئنان وتحققه عند الفقيه،كما لا يخفى.

إن قلت:لعل المشهور استندوا لخبر ياسين الضرير،من باب الترجيح،حيث أنه لما وجدوه معارضاً لصحيح الحلبي الآتي،قاموا بترجيحه من باب الترجيح بمخالفة العامة،لكون الرشد في خلافهم.

وقد يوجه تقدم خبر ياسين بوجه آخر،لكونه قد اشتمل على قصة نقل المقام من موضعه الأصلي التي هي من محدثات الثاني،وهذا المعنى موجود في مضمون كثير من النصوص،فقدم لأجل ذلك.

قلت:كلا الاحتمالين لا ينهضان لمنع صحة الاعتماد على الخبر من قبل المشهور،وذلك لما ذكر في باب تعارض الأدلة،من أن التعارض فرع الحجية،فالقول بتقدم خبر ياسين الضرير،إما للنكتة الأولى،أو لخصوص النكتة الثانية،مرده إلى شمول دائرة الحجية لخبر ياسين،وهذا يعني أنهم قائلون بصحة الخبر واعتباره من البداية،ولذا عارض صحيح الحلبي،فلا ينفي الدعوى،وهي جبر الخبر،لكون الخبر سيكون من البداية معتبراً،مع أنك قد عرفت أن الخبر غير معتبر،وعليه فلا وجه لما ذكر.

فالنـتيجة التي وصلنا إليها إلى هنا،أن خبر محمد بن مسلم،لا مجال لعلاجه إلا من خلال الناحية الصغروية،التي ذكرها اعتماداً على نظرية تعويض الأسناد،والله العالم.

ثم إنه بعد الفراغ عن اعتبار ما رواه محمد بن مسلم،ودخوله دائرة الحجية،فإنه قد أورد عليه بإيراد آخر،مفاده:

إن الصحيح معارض بصحيح محمد بن علي الحلبي،قال:سألت أبا عبد الله(ع)عن الطواف خلف المقام،قال:ما أحب ذلك،وما أرى به بأساً فلا تفعله،إلا أن لا تجد منه بداً[27].

لظهوره في كراهة في تجاوز المقام في الطواف على أبعد تقدير،وتسقط الكراهة في مورد الاضطرار.

وبهذا يكون مختار ابن الجنيد حسناً،بالحكم بالتفصيل بين مورد الاضطرار،فيجوز الطواف خلف المقام،وبين مورد عدم الاضطرار،فيجب الطواف بين البيت والمقام.

لكن الإنصاف،أن ظاهر الصحيح غير ذلك،بل الظاهر منه أن الكراهة تسقط في حال الاضطرار،لا أن الشرطية تسقط،فإن صيغة النهي عن الفعل وإن وردت في كلام الإمام(ع)بقوله(فلا تفعله)إلا أن صدر الرواية المصرح بنفي البأس عن الطواف خارج المقام مع إبرازه(ع)عدم محبته لهذا الفعل الظاهر من سياقه التـرفع وأفضلية الاجتناب يمثل قرينة مساعدة على عدم إرادة الحرمة من النهي المذكور.

لكن التمسك بالصحيح،قد منع من قبل غير واحد من الأعلام:

منها:ما ذكره المقدس الأردبيلي(ره)،من المناقشة في سند الصحيح،لاشتماله على أبان،بعدما استظهر أن المراد منه،هو أبان بن عثمان،وقد ذهب إلى عدم الأخذ بمفرداته[28].

أقول:لعل توقف المقدس الأردبيلي،أو العلامة في المنـتهى،في قبول منفرداته،يعود لعدم إحراز وثاقته،حيث لا يوجد عندنا توثيق خاص له،نعم يمكن توثيقه من خلال الطرق العامة،وهي:

1-كونه أحد أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم،كما نص على ذلك الكشي(ره)في رجاله،وهذا أحد الطرق التي أعتمدها بعض الأعاظم(قده)في البناء على وثاقته[29].

والتحقيق أننا ذكرنا في الفوائد الرجالية،أنه لا ظهور لعبارة الكشي،في استفادة وثاقة المجمع على تصحيح ما يصح عنهم،مما يعني عدم تمامية الطريق.

2-ما ذكره بعض الأعاظم(قده)أيضاً من كونه وقع في أسناد تفسير علي بن إبراهيم،وقد شهد علي بن إبراهيم بوثاقة كل من وقع في أسناد كتابه،فيـبنى على وثاقته[30].

أقول:تقدم منا قبل قليل،أن هذا ناجم من الخلط بين المنهجين الرجالي والفهرستي،مع أن المستفاد من عبارة الديـباجة في التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم مع غض الطرف عن بقية الإشكالات الأخرى،هو المنهج الفهرستي،لا المنهج الرجالي.

3-وقوعه في أسناد كامل الزيارات،وقد شهد ابن قولويه(ره)بوثاقة كل من وقع في أسناد كتابه.

وهذا الوجه كسابقه،فيأتي فيه الكلام المتقدم فيه.

4-رواية الأجلاء عنه،وقد عرفت فيما تقدم تقريب الكبرى.

وقد تقدم منا في الحديث حول وثاقة ياسين الضرير،الخدشة في أصل الكبرى،فتنـتفي الصغرى.

5-كونه من الأشخاص كثيري الرواية،فيعول عليه.

وهذا وجه يظهر ضعفه بأدنى تأمل.

6-كونه ممن روى عنه ابن أبي عمير،وبناء على تمامية الدعوى المدعاة من قبل الشيخ(ره)في العدة من أنه وصاحبيه لا يروون ولا يرسلون،إلا عن ثقة،فتنقح عندنا كبرى كلية،تـثبت وثاقته،لكونه روى عنه ابن أبي عمير.

أقول:ذكرنا في الفوائد الرجالية،بأن الصحيح عندنا هو تمامية الكبرى المدعاة من قبل الشيخ(قده)واندفاع جميع الإيرادات المذكورة عليها،لكننا ذكرنا هناك شرطاً،مفاده لزوم تحقق الكثرة في الرواية من قبل أحد هؤلاء أو جميعهم،لتمامية الصغرى.

والأنصاف أن تحقق الصغرى في البين محرز،فلا مانع من تمامية هذا الوجه،فتـتم حينئذٍ وثاقة أبان بن عثمان.

نعم يمكن القول،أن منشأ توقف المقدس الأردبيلي(ره)في قبول خبره لفساد مذهبه،حيث رمي مرة بالناووسية،وأخرى بالفطحية،ولمّا لم يثبت كلا الأمرين،فلا وجه للتوقف فيه،على أنه لو ثبت أحدهما فإن ذلك لا يقدح في الوثاقة،وقبول الخبر،والله العالم.

ومنها:ما قد يتصور،من أن الصحيح مبتلى في التناقض الداخلي بين أجزائه،إذ كيف يمكن التوفيق بين نفي الحب الظاهر في الحرمة،وبين نفي البأس الظاهر في الجواز،خصوصاً مع ضم النهي الآخر أيضاً.

وهذه التوهم، يندفع بملاحظة التقريب الذي ذكرناه للصحيح،لأن الحب ليس ظاهراً في الحرمة،لا سيما بعد إسناده إلى شخص الإمام(ع)ولم يقل:إنه غير محبوب لله مثلاً،ومن الممكن أن يعبر عن الأمر المكروه بأنه غير محبوب،ولا أقل من أن صيغة كهذه تعدّ صيغة طبيعية لتأثير قرينة أخرى فيها.

وأما التنافي بين نفي البأس والنهي،فإن العرف يفهم منه عدم المرجوحية،لا سيما وأن دلالة النهي على الحرمة من حيث المبدأ،هي دلالة ظهورية،وأما صيغة نفي البأس فإنها تعد ذات دلالة نصية وصريحة،فتكون صالحة للقرينية على المراد من النهي.

وبالجملة لو ألقيت هذه العبارة على العرف،فإنه لا يجد فيها أي تناقض،بل هو من الاستعمالات العرفية المتداولة،بحيث يقال:أنا لا أحب هذا الأمر وإن كان لا بأس بفعله.

ومنها:إن نفي الحب الوارد في الصحيح،دال على الحرمة،أما نفي البأس فهو لا يتعرض للناحية التكليفية،وإنما غرضه الآثار والمتطلبات التي تنجم عن الفعل على تقديره من قبيل الكفارة ونحوها،خصوصاً وأن الحج مليء بذلك،وعليه تكون الصحيحة،من أدلة الشرطية،وليست معارضة لها.

والإنصاف،أن هذا الوجه في نفسه حسن،لكنه يفتقد إلى البرهنة،لكونه لا يعدو الاحتمال،فلا يرقى إلى حد الظهور،خصوصاً بعد عدم القرينة المؤيدة له.

ولا يكفي للقرينة على تأيـيد الاحتمال ورود التعبير بنفي البأس أحياناً للدلالة على ذلك،إذ مضافاً إلى كون وروده كذلك نادر،لا معنى له بعد انتفاء التناقض الداخلي في الصحيح.

فتحصل إلى هنا أن الإشكالات المتصورة في البين على معتبر الحلبي،منـتفية،فلا محيص عن ملاحظتها بالنسبة لمعتبر محمد بن مسلم.

ونـتيجة ذلك هي حصول المعارضة بين صحيح محمد بن مسلم،وصحيح الحلبي،فلابد من علاج التعارض.

نعم لو قيل بعدم تمامية سند الرواية الأولى،كما عنه بعض الأعاظم(قده)لضعف سندها،فلا ريب في أنه يحكم حينئذٍ صحيح الحلبي،فيلتـزم بعدم الشرطية.

لكن المحقق العراقي(قده)منع من تحقق المعارضة،لكونها فرع الحجية،وصحيح الحلبي،خارج عن دائرتها،فلا تـحقق المعارضة.

والوجه في خروجه منها،يعود لكون الصحيح معرض عنه من قبل المشهور،فهو خبر مطروح،ويظهر ذلك من أخذهم بخبر محمد بن مسلم،لاشتهاره،بينما لم يقل أحد بمضمون خبر الحلبي[31].

والتحقيق،أن يقال:إننا وإن ذكرنا في محله قبولنا للكبرى،لكن الكلام عندنا في الصغرى،توضيح ذلك:

ينبغي للفقيه،ملاحظة منشأ الإعراض،فمتى كان منشأه أمراً صناعياً،فإنه لا يوجب الخدشة في الرواية،إذ الإعراض المستلزم لسقوط الخبر عن الحجية،هو الإعراض الذي يكون كاشفاً عن وجود خلل في النقل أو المنقول.

ولهذا يمكن أن يكون منشأ إعراض الأصحاب هنا هو وجود المعارض الأقوى،وهو صحيح محمد بن مسلم،كما يمكن أن يكون منشأ الأعراض،مخالفة رواية الحلبي لمقتضى الاحتياط،كما يمكن أن يكون ترك العمل برواية الحلبي لموافقتها للعامة القائلين بجواز إيقاع الطواف في المسجد.

والحاصل،لا وجه للمنع من تحقق المعارضة،بين معتبر الحلبي،ومعتبر محمد بن مسلم.

وقد يجمع بينهما من خلال،حمل صحيح الحلبي على حال الضرورة،بينما يحمل صحيح محمد بن مسلم على غير الضرورة،بلحاظ أن الرواية صدرت من المعصوم،ورواها محمد بن مسلم،في وقت لم يكن في البين ازدحام،ثم لما ازدحم المكان بالحجيج،سئل الإمام مرة أخرى،فأشار للجواز حال الضرورة.

وقد يقرب بوجه آخر،إن الإمام تعرض للمسألة بنحوين مرة بنحو من الإيجاز،وأخرى بنحو من التفصيل،ففي معتبر محمد،أوجز الإمام(ع)،لكنه عاد وفصل ذلك في معتبر الحلبي،وليس هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة فلا تغفل.

لكن الإنصاف أن هذا من الجموع التبرعية،حيث أن الشواهد التاريخية غير واضحة على إثباته،فلم نحرز أنه حصل تزايد بشكل كبير جداً في عصر الإمام الصادق(ع)بحيث استدعى ذلك أن يجيز الإمام(ع)الطواف خلف المقام.

نعم لو تم هذا الجمع بحيث تمت الشواهد التاريخية عليه،كانت النـتيجة هي الالتزام بفتوى ابن الجنيد من التفصيل بين صورة الضرورة للازدحام الشديد وعدمه.

هذا وبعد عدم تمامية الجمع العرفي،لا محيص عن اللجوء للمرجحات على مختار المشهور،والتميـيز على المختار،وقد يقال:

بلزوم تقديم معتبر محمد بن مسلم،لكونه مخالفاً للعامة،كما عرفت بيان ذلك فيما تقدم،وترفع اليد عن معتبر الحلبي.

وهذا الوجه في نفسه وجيه،لكنه يستدعي اللجوء للمرجح أو المميز الثاني،بينما المرجح أو المميز الأول،مفاده تقديم معتبر الحلبي،لا معتبر محمد بن مسلم،كما هو مقتضى المميز أو المرجح الكتابي،وتوضيح ذلك:

إن مفاد الآيات القرآنية الدالة على لزوم الطواف حول البيت العتيق لم تأخذ قيد الشرطية،مع أنها في مقام البيان،ومقتضى إطلاقها أنه يجوز الطواف في أي موضع من المسجد،ما دام يصدق على المقام أنه طواف بالبيت.

بل قد يقدم معتبر الحلبي من خلال طريق آخر،وهو أن العمومات الدالة على الطواف،وتواترها غير بعيد،ولو من خلال حساب الاحتمالات الرياضي،تفيد عدم اعتبار الشرطية،فيكون المعتبر موافقاً لما هو قطعي الصدور،فيقدم،فتأمل.

ثم إنه إن لم يقبل الترجيح،بأي مما ذكرنا،فلا محيص عن التساقط حينـئذٍ والرجوع للعمومات الكتابية والأدلة العامة الواردة في الطواف،ومفادها عدم اعتبار الشرطية.

هذا كله بحسب الدليل،وأما مقتضى الأصل،فالصحيح أنه قاضٍ بعدم اعتباره الشرطية أيضاً،لما هو المعروف من أن الشك في الشرطية يساوق عدمها.

فتحصل أن الأظهر لو لم يكن أقوى،جواز الطواف خلف المقام،وإن كان الطواف قبله حسن،والله العالم بحقائق الأمور.

——————————————————————————–

[1] الحدائق الناضرة ج 16 ص 110.

[2] نسبه له في مفاتيح الشرائع ج 1 ص 369.

[3] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 132.

[4] منتهى المطلب ج 2 ص 491،تذكرة الفقهاء ج 8 ص 93.

[5] وسائل الشيعة ب 28 من أبواب الطواف.

[6] كفاية الأحكام ص 66.

[7] مستند الشيعة ج 12 ص 76.

[8] الخلاف ج 2 ص 324.

[9] المبسوط ج 2 ص 356-357.

[10] غنية النـزوع ج 1 ص 172.

[11] السرائر ج 1 ص 572.

[12] شرائع الإسلام ج 1 ص

[13] مسالك الأفهام ج 2 ص 333.

[14] مدارك الأحكام ج 8 ص 130.

[15] جواهر الكلام ج 7 ص 162.

[16] المصدر السابق.

[17] رياض المسائل ج 7 ص 18.

[18] مختلف الشيعة ج 4 ص 200.

[19] كشف اللثام ج 5 ص 420.

[20] إرشاد الأذهان ج 7 ص 85.

[21] وسائل الشيعة ب 28 من أبواب الطواف ح 1.

[22] المعتمد في شرح المناسك ج ص 46،تفصيل الشريعة ج ص

[23] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 48.

[24] الفهرست رقم 249،باب الواحد ص 118.

[25] ذكر ذلك صاحب الرياض ج 6 ص 536،وصاحب الجواهر،وذكره أيضاً في تفصيل الشريعة ج ص .

[26] المعتمد ف شرح المناسك ج ص 46.

[27] الوسائل ب 28 من أبواب الطواف ح 2.

[28] مجمع الفائدة والبرهان ج 7 ص 86-87.

[29] معجم رجال الحديث ج 1 ص 146.

[30] المصدر السابق.

[31] شرح تبصرة المتعلمين ج 4 ص 115.