25 أبريل,2024

حجية البينة (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]الرابع: ما أستدل به بعض الأعاظم(قده) في التنقيح وحاصله: أن نجري إلغاء خصوصية اعتبار شهادة العدلين في باب القضاء لأنها من مصاديق الحجة وما به البيان فيحرز أنهما حجة على الإطلاق[1].[/font]
وفيه: إن إلغاء الخصوصية لا يدل على حجيتها، بل يدل على عدم مدخلية القضاء في حجيتها، وأين هذا مما نحن فيه.

هذا وقد أوضح الدليل السابق بعض الأكابر(قده)، فقال: إن البينة في قوله(ص): إنما أقضي بينكم بالبينات، إذ حملت على معناها اللغوي العرفي كانت بمعنى ما يبيّن الشيء ويكون حجة عليه، وحيث أن هذا القول في نفسه في مقام انشاء الحجية القضائية للبينة، أي كونها حجة في مقام القضاء، فهناك حجتان في القول المذكور:

احداهما: مجعولة فيه، وهي جحية البينة في القضاء.

والأخرى: الحجية المأخوذة في موضوعه التي تدل عليها نفس كلمة البينة بمعناها اللغوي والعرفي.

ولابد أن تكون هذه الحجية غير الحجية المجعولة في نفس ذلك القول، فهي إذن الحجية في نفسها، وحيث أن النبي طبق الموضوع على شهادة عدلين، فيثبت أنها حجة في نفسها، وبذلك يتم المطلوب.

ويرد عليه، أولاً: لو سلم بما ذكر، فإنه لن يصلح في إثبات حجية البينة مطلقاً، وذلك لأن الدليل المذكور ليس في مقام البيان من هذه الجهة، حيث أنه كان في مقام بيان الحجية القضائية للبينة، لا حجية البينة الأخرى، التي فرض أخذها تامة مفروغاً عنها، وبالتالي لا يمكن إثبات حجية البينة مطلقاً بهذا البيان.

ثانياً: لابد من إحراز أن قوله(ص) في مقام بيان إنشاء الحجية القضائية، وليس في مقام دفع توهم ربما يخطر في الأذهان من أنه(ص) يعمد إلى استعمال علمه الغيـبي في القضاء بين الناس. وإنما يتم البيان المذكور لو قلنا بالمحتمل الأول، أما لو بينينا على أنه رفع لتوهم مقدر، فلن يكون في المقام نحوان من الحجية، بل هو نحو واحد فقط[2].

الخامس: سيرة العقلاء، فإنها منعقدة بين جميع الملل، من دون فرق بين كونهم أهل شرع ودين، أم لا، على أن شهادة شخصين صادقين في الحديث، مقبولين، طريق في إثبات أي موضوع يترتب عليه حكم من الأحكام العقلائية والعرفية.

ولا يخفى أن هذا الدليل وإن كان حسناً في نفسه، إلا أنه لا يصلح في إثبات المدعى، ضرورة أن المدعى يعتبر توفر العدالة في البينة، وهي غير معتبرة عند العقلاء، مما يعني أن المدعى عند الشارع أخص منه عند العقلاء، وبالتالي لا يصلح التمسك بالسيرة العقلائية في البين في إثبات المدعى.

بل ربما أدعى أيضاً أن التعدد غير معتبر عند العقلاء، إذ أن سيرتهم منعقدة على قبول خبر الواحد، وبالتالي تكون متلفة عما نحن بصدده، فلاحظ.

السادس: لا يخفى أن أكثر الموضوعات خفية على كثير من الناس، بمعنى عدم وجود القدرة عند كل صنف من الناس على معرفتها، نعم ربما كان بعض الناس لهم القدرة على المعرفة.

وعلى هذا لو قلنا بأن الأحكام الشرعية معلقة على العلم بالموضوعات، وقد عرفت حال العلم بها، لزم من ذلك تعطيل الأحكام غالباً، وهذا يستوجب وجود طريق آخر يتم من خلاله تطبيق الحكم الشرعي وإحراز موضوعه غير العلم.

والظاهر أن البينة تصلح لتأدية هذا الغرض، بما يتناسب وإثبات المطلوب[3].

ويلاحظ عليه: أنه مصادرة على المطلوب، لأن البحث في إمكانية الاعتماد على البينة، وإثبات الحجية من خلال حصر طريق الوصول للأحكام الشرعية وانطباقها على موضوعاتها بخصوص البينة بعد العلم، دعوى تحتاج إلى دليل، إذ يمكن أن يحرز ذلك من خلال خبر الواحد، أو من خلال غير ذلك من الطرق.

السابع: لا ريب في أن الأمور يدور في إثبات الموضوعات بين أحد طرق أحدها العلم، وكذا البينة، وبالتالي إما أن يكون إثبات الموضوعات متوقف على العلم، أو لا، فإن كان الثاني، فهو يقضي بإثبات البينة، لعدم القول بالفصل، لأنه لو لم يلتـزم بذلك لزم العسر والحرج الشديدان المنفيـين بالنص والإجماع[4].

أقول: الظاهر أنه لا فرق بين هذا الوجه وسابقه، وكلاهما يرجعان إلى التمسك بالوجه العقلي، فلاحظ.

الثامن: خبر عبد الله بن سليمان عن الصادق(ع) الوارد في الجبن: كل شيء حلال حتى يجئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة[5].

وتقريب دلالتها بملاحظة التالي:

لا يخفى أن محط الخبر هو الشبهة الموضوعية، وقد جعل(ع) أن المقام يثبت فيه الموضوع متى شهد بذلك شاهدان على تحققه، وإلا فلا تعويل على ما يكون مثبتاً له، فيثبت المطلوب.

وبعبارة أخرى: المستفاد من الخبر أن أحد الطرق الأساسية التي يعول عليها في ثبوت موضوعات الأحكام، كي يتم ترتيب الحكم الشرعي عليه، هو البينة، وهي عبارة عن شهادة عادلين.

نعم ربما منع من دلالتها كونها واردة في خصوص الجبن، وبالتالي يصعب التعدي منها إلى غيرها.

مع أن العرف على ما يـبدو لا يشاح في التعدي منه إلى بقية الموارد، إذ لا خصوصية له في البين، وإنما ذكر من باب كونه مورداً للشبهة والسؤال، فتدبر.

نعم المشكلة الأساسية في الاستناد للخبر المذكور ضعفه السندي، حيث أن عبد الله بن سليمان مجهول الحال، وهذا يمنع من الركون للحديث، فلاحظ.

التاسع: ما جاء في كلا المحقق الأصفهاني(قده) وغيره من الأعلام من إلغاء الخصوصية لما دل على حجيتها في موارد خاصة، بحيث يستفاد منها المفروغية عن حجيتها في نفسها[6]. ضرورة أنها مطلقة وغير مختصة بباب المرافعات والخصومات. ولا يخفى أن الموارد الواردة كثيرة جداً، نشير إلى جملة منها:

منها: قوله تعالى في الطلاق:- (وأشهدوا ذوي عدل منكم)[7].

ومنها: قوله تعالى في الوصية:- (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم)[8].

ومنها: قوله تعالى في الدين:- (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)[9].

فهذه الآية تشير إلى حجية قول الشاهدين، ضرورة أن الالتـزام بعدم ثبوت الحجية لهما يستلزم لغوية إشهادهما. كما أنه لا يوجد فيها ما يشير إلى كونها مختصة بحالة الترافع للحاكم من أجل حل الخصومات والمنـازعات، فلاحظ.

ومنها: صحيح منصور بن حازم عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته، وإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فأقضه[10].

ومنها: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر(ع) قال: إذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين يوماً أمر الإمام بإفطار ذلك اليوم[11].

ومنه: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع): إن علياً كان يقول: لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين[12].

ومنها: مرسلة يونس عمن رواه قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: …بشهادة رجلين عدلين[13].

ومنها: قول الإمام أبي عبد الله الصادق(ع): إذا شهد رجل على شهادة رجل فإن شهادته تقبل وهي نصف شهادة، وإن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد[14].

ومنها: صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع) قال: إنما جعلت البينات للنسب والمواريث[15].

ومنها: خبر علقمة عن الصادق(ع): فمن لم ترع بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً[16].

والحاصل، لا إشكال في أن ما ذكرناه من الموارد وغيرها كثير كاشف عن حجية البينة مطلقاً، وأنه لا اختصاص لها بهذه الموارد، كما أنه لا اختصاص لها بباب المنـازعات والخصومات.

نعم يستـنـثى من ذلك موارد دلّ الدليل فيها على عدم الاكتفاء بالبينة، بل لابد من شهادة شهود أربعة كما في الزنا، أو في غير ذلك من الموارد.

هذا وقد استدل المحقق النراقي(قده) على حجية البينة بقضية إسماعيل بن الإمام الصادق(ع)، حيث تضمنت قول الإمام(ع) لولده: فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم[17]. وتقريب دلالته على المدعى: إن الجمع المعرف واستغراقه أفرادي، لا جمعي، فالمعنى كل مؤمن شهد عندك فصدقه، خرج من ذلك المؤمن الواحد بالدليل فيبقى الباقي، وهو الشاهدان، فيثبت المطلوب.

والإنصاف بعدُ هذا التقريب، ضرورة أن الظاهر منه قبول شهادة الشاهد المؤمن من دون اعتبار لكونه متعدداً، فتأمل. وقد يشهد له أن البناء على القول بملاحظة العموم في البين منتفية جزماً، إذ يصعب شهادة جميع المؤمنين، بل يصعب شهادة جملة منهم.

——————————————————————————–

[1] المصدر السابق.

[2] بحوث في شرح العروة ج 2 ص 81-82.

[3] القواعد الفقهية للشيخ اللنكراني ص 472.

[4] المصدر السابق.

[5] الوسائل ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 2.

[6] صلاة المسافر ص 33.

[7] سورة الطلاق الآية رقم 2.

[8] سورة المائدة الآية رقم 106.

[9] سورة البقرة الآية رقم 282.

[10] وسائل الشيعة ب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ح 3.

[11] المصدر السابق ب 6 ح 1.

[12] وسائل الشيعة ب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان.

[13] وسائل الشيعة ب 7 من أبواب كيفية الحكم ح 4.

[14] وسائل الشيعة ب 44 من أبواب الشهادات ح 5.

[15] وسائل الشيعة ب 43 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ح 1.

[16] وسائل الشيعة ب 41 من أبواب الشهادات ح 13.

[17] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب الوديعة ح 1.