القضاء المحتوم في فعل المعصوم (ع)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
12
2

 

يتفق العقلاء على ضرورة حفظ النفس ودفع كل خطر وأذى عنها، بل إن العقل يحكم بدفع كل ضرر أو أذى محتمل يتصور وقوعه عليها.

وقد أوجب هذا الحكم العقلائي، بل العقلي بلزوم حفظ النفس وعدم إلقائها في التهلكة شبهة تثار حول إقدام المعصومين(ع) على ما يوجب شهادتهم، خصوصاً مع ما نعتقده من أنهم يعلمون علماً تفصيلياً بوقت شهادتهم، فكيف يخرج أمير المؤمنين(ع) إلى مسجد الكوفة وهو يعلم أنه سوف يقتل، أو كيف يقدم الإمام الحسن الزكي(ع) على تناول اللبن، وهو يعلم باشتماله على السم، وكذا كيف يخرج الإمام الحسين(ع) إلى أرض كربلاء وهو على علم تام بأنه سوف يستشهد، وهكذا يجري الأمر في بقية المعصومين(ع)، عند إقدامهم على فعل ما يوجب شهادتهم.

إن هذا الإقدام الصادر منهم(ع)، يوجب التشكيك في أحد أمرين:

الأول: الالتزام بعدم علمهم(ع) بالغيب، وأنهم(ع) لا يعلمون وقت شهادتهم، ولا أقل من الالتزام بأنهم وإن كانوا يعلمون الغيب إلا أنهم لا يعلمون بأمر شهادتهم(ع) علماً تفصيلياً، بل يكون علمهم بذلك على نحو الإجمال.

فإن مقتضى ما عندهم من علم تفصيلي يخولهم في عدم الخروج إلى الموضع الذي سوف يستشهدون فيه، فلا يخرج أمير المؤمنين(ع) مثلاً إلى مسجد الكوفة، ويقيم مكانه نائباً مثلاً، أو لا يتناول الإمام الحسن(ع) كأس اللبن، وهكذا.

الثاني: نفي العصمة عنهم، لأن مقتضى ثبوت العصمة الذي نعتقد بها فيهم(ع) يستوجب أن لا يأتي المعصوم بأي ذنب من الذنوب الصغيرة، فكيف يتصور فيهم أن يقدموا على ارتكاب كبيرة من الكبائر، وهي إلقاء النفس في التهلكة.

ويضاف إلى ذلك التساؤل، ما هو السبب في عدم دفعهم(ع) القتل عن أنفسهم من خلال قانون الإعجاز وإعمال الولاية التكوينية التي يملكونها، فقد كان يمكنهم إما التصرف في أحوال قاتليهم بصرفهم عما كانوا عازمين على فعله، أو الغاء تأثير السم أو السيف على أبدانهم.

وعلى الأقل، كان يمكنهم استخدام سلاح الدعاء وهم أصحاب الدعاء المستجاب، فإن يدفع الله تعالى ذلك عنهم.

فما هو المانع إذن من قيامهم بذلك دفعاً للقتل عن أنفسهم، وعدم وقوع الضرر عليهم.

وبالجملة، إن الشبهة المذكورة تدور حول مطالب ثلاثة:

الأول: البناء على علم المعصوم(ع) بوقت شهادته علماً تفصيلياً، وعليه لو بني على أن علمه بذلك يكون على نحو الإجمال كما هو مختار الشيخ المفيد مثلاً، لن ترد الشبهة المذكورة.

الثاني: البناء على أن العصمة شاملة لكافة الجوانب المرتبطة بالمعصوم(ع)، ولا تختص بتلقيه الوحي، أو حال تبليغه إياه، بل تشمل حتى التصرفات الشخصية المرتبطة بشؤونه الخاصة.

الثالث: امتلاكه الولاية التكوينية، وأنه شخص مستجاب الدعاء.

دفع الضرر حكم عقلي:

حتى يمكن الإجابة عن الشبهة المذكورة، يلزم تحديد أن حرمة الإلقاء في التهلكة، ولزوم دفع الضرر المحتمل عن النفس من الأحكام الشرعية، أو أنه من الأحكام العقلية، فإن لذلك مدخلية في علاجها كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

لا إشكال في ورود نهي من الباري سبحانه وتعالى عن إلقاء النفس في التهلكة، فقد قال عز من قائل:- (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)[1]، فتضمنت الآية الشريفة نهياً عن إقدام الفرد على ما يعلم فيه قتله مما يكون مصداقاً للإلقاء في التهلكة والهلاك، فيكون منهياً عنه بمقتضاها. ووفقاً لما تقرر في محله من أن الأصل في الأوامر والنواهي حملها على الأحكام التكليفية ما لم يكن هناك قرينة صارفة لها عن ذلك، فسوف يلتـزم بدلالة الآية الشريفة على حكم شرعي تكليفي يفيد حرمة الإلقاء في التهلكة، فلاحظ.

وهذا ما أختاره غواص بحار الأنوار، شيخنا المجلسي(ره)، مانعاً من أن يكون حكم العقل في مثل هذا المورد متبعاً، حيث قال(قده): وحكم العقل في ذلك غير متبع، مع أن حكم العقل بالوجوب في مثل ذلك غير مسلم[2].

ثم نقل كلام المحدث الأسترابادي(ره)، وحاصله، أن وجود النصوص المفسرة لما أقدم عليه المعصومون(ع) من فعل أدى إلى شهادتهم، تكشف عن عدم القبول بالمقدمة العقلية التي يتبناها المعتـزلة بوجوب حفظ النفس عقلاً[3].

وهو الظاهر أيضاً من صاحب الحدائق(ره)، فإنه قد جعل حرمة الإلقاء بالتهلكة مستفاد من الآية الشريفة، ليكون النهي نهياً شرعياً[4].

وما أفاده العلامة المجلسي(ره)، وجيه جداً، بالنظر إلى الآية الشريفة، إلا أنه قد ذكر في محله أنه إنما يبقى على مقتضى الأًصل في دلالة الأوامر أو النواهي، إذا لم تكن هناك قرينة ولو خارجية موجبة لصرف الظهور المستفاد من النص الشرعي عن حاله، ولا ريب أن وجود موضوع لحكم عقلي في المقام، موضوعه التهلكة والضرر المحتمل، فيحكم العقل بلزوم دفع كل ضرر محتمل أو أذى عن النفس، فضلاً عما إذا كان متيقناً، يشكل قرينة مانعة من بقاء دلالة الآية الشريفة على حالها، ويلزم حملها على الإرشاد لحكم العقل، فلا يكون المستفاد منها حكماً شرعياً تكليفياً، بل سوف يكون مدلولها الإرشاد لحكم العقل كما لا يخفى.

ثمرة تحديد الحكم:

ولا يتوهم أحد أن تحديد نوعية حكم دفع الضر المحتمل، وأنه حكم عقلي، أو حكم شرعي مجرد بحث علمي تخصصي لا ثمرة فيه، بل قد أشرنا قبل قليل بأن لذلك ثمرة في الإجابة عن الشبهة المثارة، فإنه لو كان الحكم الموجود عندنا شرعياً مستفاداً من الآية الشريفة مثلاً، فلن نحتاج مزيد عناء لدفع الشبهة المطروحة وعلاجها، إذ أن الأحكام الشرعية تقبل التخصيص، والعمومات أو الإطلاقات القرآنية تقبل التخصيص والتقييد بالسنة المباركة، ولا ريب في شمول عنوان السنة لفعل المعصوم(ع)، فسيكون إقدامه على الشهادة بتناول الطعام المسموم، أو الخروج لموضع شهادته في المسجد مثلاً مخصصاً لما دل على حرمة الإلقاء في التهلكة، فلاحظ.

أما لو كانت حرمة الإلقاء في التهلكة حكماً عقلياً، فإنه سوف يصعب الأمر عندها، لأن الأحكام العقلية لا تقبل التخصيص، وهذا يستوجب أن يكون الخروج من تحتها خروجاً تخصصياً، وليس تخصيصاً كما لا يخفى.

والإخراج التخصصي سوف يكون بالبناء على أحد أمور:

1-أن يلتـزم بعدم كون تناول المعصوم(ع) الطعام المشتمل على السم صغرى للإلقاء في التهلكة، بحيث يقرر أنه لا ينطبق عليه أنه إلقاء للنفس في التهلكة.

2-أن يلتـزم بالتشكيك في تحقق الإلقاء، على أساس أن هذا العنوان يؤخذ فيه العلم والمعرفة، وليس الأمر كذلك، بالنسبة للمعصوم(ع) حال تناوله للطعام المسموم.

3-أن يمنع صدق الهلاك والتهلكة التي هي بمعنى الضياع، لأن المفروض أنه لا يتحقق إلا لخصوص من كان قاصداً لذلك، كمن يقدم على الانتحار، وهذا غير متصور في شأن المعصوم(ع)، لأن له تكليفاً خاصاً مثلاً.

وبالجملة، إن مقتضى كون حرمة الإلقاء في التهلكة، ودفع الضرر المحتمل عن النفس، فضلاً عن المتيقن، من الأحكام العقلية، يلزم أن يخرج المورد أعني إقدام المعصوم(ع) على الاستشهاد، سواء بالخروج للمسجد، أو لكربلاء، أو بتناول السم من تحتها، بالتخصص.

وإن شئت، فقل، إننا بحاجة إلى نفي صدق عنوان الضرر على ما يقوم به المعصوم(ع) من فعل، كي ما يلتـزم بخروجه التخصصي من تحت حكم العقل، فلاحظ.

هذا وقد يقال أنه وإن كانت حرمة الإلقاء حرمة شرعية مستفادة من الآية المباركة، إلا أننا في غنى عن العمد إلى تقيـيد الإطلاق الثابت في الآية المباركة، ذلك أن التقيـيد فرع الشمول، ليكون خارجاً من تحته، وليس الأمر كذلك، لأن المعصوم(ع) ليس مشمولاً للآية المباركة، لأن له تكليفه الخاص الذي لا ينطبق عليه عنوان الإلقاء في التهلكة، وبالتالي يكون خروجه خروجاً تخصصياً أيضاً، فلاحظ.

عدم مانعية الآية:

هذا وقد يقرر عدم دلالة الآية الشريفة لتوجب الإشكال في الفعل الصادر من المعصوم(ع)، وذلك بأحد بيانين:

الأول: أن يلتـزم بكونها أجنبية عن المقام تماماً، من خلال إنكار دلالتها على الحرمة الشرعية التكليفية، بحمل التهلكة الواردة فيها على الهلاك المعنوي وهو الكفر، بقرينة التعاليم الأخرى التي تضمنتها الآية المباركة، فيكون النهي الوارد فيها تحذيراً عن ترك الطاعات والوقوع في المعاصي، ما يجعلها أجنبية عن حرمة الإلقاء في التهلكة، وعندها لن يكون في البين ما يوجب الإشكال في فعل المعصوم(ع)، فلاحظ.

الثاني: أن يلتـزم بدلالة الآية الشريفة على حكم شرعي تكليفي مفاده حرمة إلقاء النفس في التهلكة، ومن الواضح أن التهلكة من المعاني العرفية، إلا أن هذا المدلول القرآني يعرضه التخصيص، فلا يقبل به على سعته ليكون شاملاً لكل تهلكة عرفاً، بل إن هناك بعض موارد الهلاك التي لا يحكم بحرمتها شرعاً، كما لو كانت لغاية حسنة، أو كانت من أجل تحصيل مقابل وعوض، فلاحظ.

وما ذكر يتم لو لم يكن في المقام حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، فضلاً عن الضرر المتيقن كما عرفت.

علاج الشبهة والإشكال:

ثم إنه بعد الفراغ عن كون حرمة الإلقاء في التهلكة من الأحكام العقلية، التي لا تقبل التخصيص، وإنما يلزم أن يكون الخروج من تحتها خروجاً تخصصياً كما عرفت، فقد عمد الأعلام إلى ذكر إجابات تعد بمثابة الإخراج التخصصي، نشير إلي جملة منها:

انتفاء موضوع الحرمة:

منها: إننا نعلم أن الحكم يدور مدار موضوعه، فلا يكون الحكم ثابتاً إلا بعد أن يكون موضوعه موجوداً، لأن نسبته إليه نسبة المعلول إلى علته، فلا يكون التكليف منجزاً وواجباً على المكلف إلا إذا تحقق الموضوع خارجاً.

ونحن نعلم أن موضوع حكم العقل باللزوم، هو وجود الضرر، فما لم يحرز الضرر، لن يحكم العقل بلزوم دفعه.

ومجرد احتمال وجوده لا يكفي لحكم العقل بلزوم دفع الضرر، لأن مجرد وجود الاحتمال المذكور لا يكفي لترتيب الأثر، إذ سوف يجري الأصل المؤمن عن التكليف الملزم، وهو البراءة.

ووفقاً لما سبق، حتى يكون المعصوم(ع) ملزماً بدفع الضرر المتصور في حقه، لابد وأن يكون محرزاً لتحقق الضرر خارجاً، بأن يكون عالماً بأن الطعام الذي سوف يتناوله في هذه اللحظة مثلاً يشتمل على السم الذي يكون فيه شهادته. أما لو لم يكن حال تناوله ذلك الطعام عالماً باشتماله على السم، فلن يكون ملزماً بدفع الضرر، والمدعى أنه عندما يقدم على تناوله لذلك السم لا يكون عالماً يقيناً بتضمنه للسم، بل إنه يتناوله على أنه لا يشتمل على ذلك.

والحاصل، إن المعصوم(ع) عندما يقدم على تناول الطعام المسموم، أو عندما يخرج إلى المسجد، لا يكون عالماً بوجود السم في ذلك الطعام، أو لا يكون عالماً بأنه سوف يقتل، وهذا لا يعني أنه لا يعلم من أصل، بل نقصد أنه حال إقدامه على الأمر المراد إتيانه، لا يكون على علم ودراية بما سيقع عليه، فلا يكون موضوع الحرمة متوفراً ليكون التكليف منجزاً في حقه، فلاحظ.

وهذا هو ما أشارت إليه بعض النصوص، فقد تضمنت أنه(ع) يلقى عليه النسيان، أو يغيب عنه الملك المحدث، ففي صحيحة إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا(ع) قال: قلت: الإمام يعلم متى يموت؟ قال: نعم، قلت: حيث ما بعث إليه يحيى بن خالد برطب وريحان مسمومين علم به؟ قال: نعم، قلت: فأكله وهو يعلم فيكون معيناً على نفسه؟ فقال: لا، يعلم قبل ذلك، ليتقدم فيما يحتاج إليه، فإذا جاء الوقت ألقى الله على قلبه النسيان ليقضي فيه الحكم[5]. ودلالتها على ما قلنا واضحة، فقد تضمنت أن المعصوم(ع) يكون عالماً بوقت شهادته، وقد أوجب هذا إيجاد شبهة عند الراوي بأن لازم ذلك أن يكون معيناً على نفسه، فنفى(ع) ذلك ببيانه أنه يلقى عليه النسيان عند الإقدام على تناول الطعام المتضمن للسم، فلا يكون عالماً حال تناوله باشتماله على السم، وبالتالي لا يكون عالماً فلا يكون مشمولاً للزوم دفع الضرر المحتمل، لعدم توفر الموضوع للوجوب، وهو العلم باشتماله على السم، فلاحظ.

وفي رواية عبد الله بن طاووس، قال: قلت للرضا(ع): إن يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر صلوات الله عليهما؟ قال: نعم سمه في ثلاثين رطبة. قلت له: فما كان يعلم أنها مسمومة؟ قال: غاب عنه المحدِّث، قلت: ومن المحدِّث؟ قال: ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله(ص) وهو مه الأئمة(ع) وليس كلما طلب وجد، ثم قال: إنك ستعمر، فعاش مائة سنة[6].

واختلاف مضمون النصين بأن اشتمل الأول منهما على إلقاء النسيان، وجاء في الثاني غياب المحدث، لا يوجب الاختلاف بينهما ليمنع من الاستناد إليهما، لأنه يمكن التوفيق بأن يكون إلقاء النسيان فرع غياب المحدث، أو يلتـزم بأن لذلك غير طريق، فقد يكون بواسطة إلقاء النسيان، وقد يكون ذلك بغياب المحدث، والأمر سهل، فلاحظ.

لا يقال: إنه وإن سلمنا بانتفاء العلم عنه بوجود الضرر الموجب لحكم العقل بلزوم دفعه، إلا أن احتمال وجوده لا زال موجوداً، وهذا يكفي للبناء على لزوم دفعه عن نفسه بمقتضى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، كما هو واضح.

فإنه يقال: قد عرفت أنه لا موضوع لمثل هذا الاحتمال بعد جريان الأصل المؤمن، على أنه لو بني على لزوم مراعاة هذا الاحتمال بالاحتياط، فإنه يلزمه(ع) أن يجتنب تناول أي طعام يقدم إليه، لأن احتمال اشتماله على السم يكون وارداً، ولا ينبغي له أن يخرج من داره، لأن من المحتمل تعرضه لعملية الاغتيال في أي لحظة، كما لا يخفى[7].

مناقشة هذا الرأي:

وقد نوقش الجواب المذكور بجوابين:

الأول: قد قرر في محله أن حجية النص رهينة توفر أصالات ثلاث فيه، فما لم تكن متوفرة لن يدخل دائرة الحجية، وصحيح إبراهيم بن أبي محمود، وإن توفرت فيه أصالة الصدور، لعدم وجود ما يوجب الخدشة في سنده، كما أن أصالة الظهور فيه تامة، لوضوح دلالته على المدعى، إلا أنه يشكك، بل قد يمنع من توفر أصالة الجهة فيه، للتشكيك في جريان أصالة الجد في ما صدر عنه(ع) من الجواب، فيحتمل قوياً جداً أن يكون جوابه(ع) كان مجاراة لحال السائل، من باب: خاطبوا الناس على قدر عقولهم، لأن من المحتمل أن لا يتقبل عقل السائل تصويراً آخر لبيان الداعي في تناول المعصوم(ع) الطعام المسموم.

ويساعد على هذا الاحتمال، بل يشهد إليه، تساؤله، بأنه إذا كان يعلم باشتماله على السم، فسوف يكون معيناً على نفسه، الموجب لارتكابه للمعصية النافي لصفة العصمة عنه.

والحاصل، إن مجرد التشكيك في توفر أصالة الجد في النص المذكور، مانع من الاستناد إليه، وموجب لرفع اليد عنه، فلاحظ.

وأما رواية عبد الله بن طاووس، فلما كانت غير مستجمعة للأصالات الثلاثة، فلا حاجة لملاحظتها، على أنه لو تمت الأصالتان الأوليتان فيها، يكفي التشكيك في توفر الأًصالة الثالثة، فتدبر.

ثم إنه لو لم يقبل ما ذكر من الخدشة في جهتها، وألتـزم بتوفر أصالة الجد فيها، يمكن منع الاستناد إليها بمعارضتها للنصوص القطعية إجمالاً من أن المعصوم(ع) على علم ودراية مطلقة بما يؤول إليه مصيره، وأنه يقدم على تناول السم وهو عارف بذلك دون إلقاء نسيان، أو غياب المحدث، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: أي إمام لا يعلم ما يصيبه وإلى ما يصير فليس ذلك بحجة الله على خلقه.[8] ولا ريب أنه مع وجود القطعي الصدور، لن تصل النوبة للظني الذي هو الصحيح محل البحث، فلاحظ.

الثاني: لا ريب أن الموجب للقول بإلقاء النسيان على المعصوم(ع) عند إقدامه على ما يوجب شهادته، يكون لنكتة توجب ذلك، وهي لا تخلو عن أحد أمرين:

أحدهما: أن يكون منشأ ذلك خوفه من الإقدام على الموت واستيحاشه منه، ما يوجب التردد عندهم عندما يعلمون ترتب الموت على ما يتناولون، فيمتنعوا عن ذلك.

ثانيهما: إن علمهم بترتب الإقدام على الشهادة، يوقعهم في ارتكاب المعصية، لأنه سوف يكون من صغريات الإقدام على المحرم، وسوف يكون منافياً لمقام العصمة.

وكلاهما باطل، أما الأول، فإن المعصوم(ع) أولى الناس بالتسليم لقضاء الله تعالى في كافة شؤون الحياة، بما في ذلك إقدامهم على ما يوجب شهادته، بل هم يشتاقون إلى تلك اللحظات التي ينتقلون فيها إلى كرامة الله ورضوانه.

وأما الثاني، فهو يفيد قاعدة كلية مفادها: أن كل إقدام على الموت معصية وذنباً محرماً، وهذا غير تام، لأنه قد ثبت في الفقه موارد متعددة تشتمل الإقدام على الموت، إلا أنها لا تعدّ معصية، بل هي مقتضى التكليف المتوجه للمكلف الذي يكون ملزماً بفعله وإتيانه:

منها: إذا خير المكلف بأن يتبرأ من أمير المؤمنين(ع)، وبين أن يقتل فإن وظيفته متعينة في اختيار القتل، وليس له اختيار البراءة منه(ع).

ومنها: إذا دار الأمر بأن يقدم على فعل ما بدعوى التقية في الدماء أو أن يقتل، كما لو طلب منه أن يقتل نفساً محترماً، أو يقتل هو، فلا يسوغ له الإقدام على ذلك بدعوى التقية، لأنه لا تقية في الدماء.

ومنها: المشهور بين الفقهاء، أنه لا يجوز التقية في ترك زيارة الإمام الحسين(ع)، بحيث لو دار الأمر بين قتله، وبين الإتيان بالزيارة، فلا تقية في زيارته(ع)، فيقدم على القتل دون أن يترك الزيارة.

ومنها: ما ألتـزم بعض الفقهاء المعاصرين من مشروعية العمليات الاستشهادية التي تكون دفاعاً عن الوطن، فلاحظ.

عدم فعلية التكليف بالعلم الإلهامي:

ومنها: وهو ما أشار إليه العلامة المجلسي(ره)[9]، وحاصله: إن الشبهة المذكورة قامت على أساس أن المعصوم(ع) يملك علماً غيبياً، وظاهرها سعة دائرة هذا العلم، وأن المعصوم(ع) يطبق هذا العلم في كافة مجريات حياته، وما ذكر من حيث الثبوت تام، إلا أنه ليس كذلك إثباتاً، فإن المعصوم(ع) لا يعمل هذا العلم الإلهامي الغيبي في كافة مجالات حياته، بل يقتصر تفعيل ذلك في بعض الموارد دون أخرى، ويشهد لهذا النصوص التي تضمنت أن علمه(ع) إشائي، إن شاؤوا علموا، وإن لم يشاؤوا لم يعلموا. ولما كان المعصوم لا يعمل العلم الإلهامي في كافة مجالات حياته، فلن يكون مكلفاً بدفع الضرر المترتب عليه من تناول الطعام المسموم، فلاحظ[10].

وبكلمة أخرى، إن المعصوم(ع) ليس مكلفاً بدفع الضرر عن نفسه الناتج من حصول ما يوجب شهادته، لأن علمه(ع) بوجود السم في الطعام مثلاً، أو علمه بأنه سوف يقتل عند خروجه إلى المسجد، قد حصل له من خلال العلم الإلهامي، ولم يحصل إليه من خلال الطرق الطبيعية والمتعارفة والمألوفة، وهذا يعني أن العلم الموجود لديه ليس علماً ظاهرياً، بل هو علم إلهامي.

وحتى يكون المعصوم(ع) مطالباً بدفع الضرر المحتمل، بل المتيقن عن نفسه، لابد وأن يثبت تكليفه(ع) بترتيب الآثار على علمه بواسطة ذلك العلم، ولم يثبت ذلك، بل ربما كان الثابت عدمه، ومع الشك في ثبوت تكليفه بترتيب الأثر على العلم الإلهامي، لن يكون المعصوم(ع) ملزماً بدفع الضرر عن نفسه، لأن المجزوم بثبوت تكليفه به ولزوم ترتيب الأثر عليه هو ما يحصل له من خلال العلم الظاهري الحاصل من خلال الطرق المتعارفة والمألوفة.

وبالجملة، إنه لم يحرز كون المعصوم(ع) مطالباً بترتيب الأثر ما يحصل له من خلال العلم الإلهامي، فلاحظ.

وقد يساعد على هذا الأمر ما تضمنته عدد من النصوص من إخبارهم(ع) بقتلتهم، ولما طلب منهم القضاء عليهم، امتنعوا بأنه لم يصدر منهم ما يوجب ذلك، فقد جاء أنه دخل عبد الرحمن بن ملجم(لعنه الله)، على أمير المؤمنين(ع) في وفد مصر الذين أوفدهم محمد بن أبي بكر، ومعه كتاب الوفد، قال: فلما مرّ باسم عبد الرحمن بن ملجم(لعنه الله)، قال: أنت عبد الرحمن؟ لعن الله عبد الرحمن، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما والله إني لأحبك. قال: كذبت، والله ما تحبني-ثلاثاً- قال: يا أمير المؤمنين أحلف ثلاثة أيمان أني أحبك وتحلف ثلاثة أيمان أني لا أحبك؟ قال: ويلك إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فأسكنها الهواء، فما تعارف منها هنالك ائتلف في الدنيا، وما تناكر منها هناك اختلف في الدنيا، وإن روحي لا تعرف روحك. قال: فلما ولى قال: إذا سركم أن تنظروا إلى قاتلي فانظروا إلى هذا.

قال بعض القوم: أولا تقتله؟ فقال: ما أعجب من هذا تأمروني أن أقتل قاتلي لعنه الله[11].

ومثل ذلك ورد أن الإمام الحسن(ع) أخبر أهله أنه يموت بالسم كما مات رسول الله(ص)، قالوا: ومن يفعل ذلك؟ قال(ع): امرأتي جعدة بنت الأشعث بن قيس، فإن معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك.

قالوا: أخرجها من منزلك، وباعدها من نفسك.

قال(ع): كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئاً؟ ولو أخرجتها ما قتلني غيرها، وكان لها عذر عند الناس[12].

كما أن رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع) كانا يعرفان المنافقين ويعلمان سوء عقائدهم، ولم يكونا مكلفين بالاجتناب عنهم، وترك معاشرتهم، وعدم مناكحتهم، أو قتلهم وطردهم، مالم يظهر منهم شيء يوجب ذلك.

وكذا علم أمير المؤمنين(ع) بعدم الظفر بمعاوية وبقاء ملكه بعده لم يصر سبباً لأن يترك قتاله، بل كان يبذل غاية جهده إلى أن استشهد(ع)، مع أنه كان يخبر بشهادته واستيلاء معاوية بعده على شيعته[13].

مناقشة الجواب الثاني:

ولا يذهب عليك، أنه لا مجال للالتزام بالجواب المذكور، لأن مجرد كون المعصوم(ع) ليس ملزماً بترتيب آثار العلم على العلم الإلهامي، لا يكون مسوغاً إلى أن يترك دفع الضرر المحتمل عن نفسه، لما قد عرفت من أن دفع الضرر المحتمل من الأحكام العقلية التي لا تقبل التخصيص، فلاحظ.

وبكلمة أخرى، إنه لا فرق في لزوم دفع الضرر المحتمل بحكم العقل سواء كان منشأه علماً إلهامياً، أم كان منشأه علماً عادياً من خلال الطرق المعروفة والمألوفة.

وأما ما استشهد به العلامة المجلسي(ره) من شواهد لإثبات صحة هذا الجواب، فلا يتم منها شيء، ولا يسع هذا المختصر التعرض إليها، لكن يمكن للقارئ العزيز الرجوع لبعض المطولات، يجد اشتمال كلمات الأصحاب والباحثين على الخدشة في كلامه(قده).

التكليف الخاص بالمعصوم:

ومنها: إن للمعصوم(ع) تكليفاً خاصاً يختلف عن تكليفنا، فكما أن هناك بعض الأحكام الشرعية الفرعية ثابتة في حقه كما في وجوب صلاة الليل على النبي(ص)، وكذا مشروعية زواجه(ص) بأكثر من أربع، كذلك له تكليف خاص يرتبط بمدة حياته، وكيفية انتهائها، فإنه مكلف أن يتناول الطعام المسموم مثلاً، أو يخرج للموضع الذي سينال فيه الشهادة. إلا أن هذا التكليف الخاص لا يوجب الجبر بالنسبة إليه، بمعنى أن المعصوم(ع) يخير بين الإقدام على تناول الطعام المسموم، امتثالاً للتكليف الخاص الثابت عليه، وبين الامتناع وعدم اختيار ذلك. نعم إن المعصوم(ع) دائماً يختار لقاء الله تعالى، فقد روى عبد الملك بن أعين عن أبي جعفر(ع) قال: أنزل الله تعالى النصر على الحسين(ع) حتى كان ما بين السماء والأرض، ثم خير النصر أو لقاء الله، فأختار لقاء الله[14].

وقد حكى العلامة المجلسي(ره) هذا الرأي عن العلامة الحلي(قده)، وقد سئل من قبل السيد المهنا بن سنان الحسيني، عن كيفية تفسير خروج أمير المؤمنين(ع) إلى المسجد في الليلة التي استشهد فيها، وهو يعلم أنه سوف يستشهد، فأجاب العلامة(ره): بأنه يحتمل أن يكون(ع) أخبر بوقوع القتل في تلك الليلة، أو في أي مكان يقتل، وأن تكليفه(ع) مغاير لتكليفنا، فجاز أن يكون بذل مهجته الشريفة(ع)، في ذات الله تعالى كما يجب على المجاهد الثبات وإن كان ثباته يفضي إلى القتل[15].

والظاهر أنه مختار صاحب الحدائق(ره) أيضاً، لأنه قد قرر أن إقدامهم على ما يوجب خروجهم من عالم الدنيا يعود لرضاهم بما أختاره الله سبحانه وتعالى إليهم، فإنهم لما علموا أن هذا أمرم رمضي عنده تعالى، أقدموا عليه طلباً لرضا الله عز وجل وامتثال لأمره، مع كونهم مختارين في ما يقدمون عليه[16].

تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد:

ولا يذهب عليك أن القبول بهذا الوجه يستوجب الالتزام بأن قاعدة تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ليست على نحو الموجبة الكلية، وإنما هي على نحو الموجبة الجزئية، لأنه وفقاً إليه سوف تكون المصلحة في أن يقدم المعصوم على إضرار نفسه، وأن لا يجب عليه دفع ما يكون فيه مفسدة بالنسبة إليه، وهو الضرر المحتمل.

أو يلتـزم بوجود مصلحة مترتبة على هذا التكليف المخصوص، وبملاحظتها للضرر المحتمل، يجري بينهما كسراً وانكساراً يوجب تقديم المصلحة الناجمة من وجود التكليف الخاص، والتي يترتب عليها مشروعية الإقدام، دون وجود أي ضرر كما لا يخفى.

ولا يكتفى في وجود المصلحة بكونها أي مصلحة، بل لابد وأن تكون مصلحة وعلى قدر عالٍ جداً من الوضوح.

مضافاً إلى ما تضمنه القرآن الكريم من أن النبي(ص) قدوة للعالمين، وأن الأئمة(ع) من بعده كذلك، يمنع من القبول بثبوت تكليف خاص له(ص)، لأن المفروض أن هذا يتنافى وكونه مورد قدوة كما لا يخفى. نعم يخصص ذلك بما يكون موجباً لكماله(ص)، فتأمل[17].

القضاء المحتوم:

ومنها: إن المعصوم(ع) يعلم بأن ما يقع عليه من أمور توجب شهادته، من القضاء المحتوم الذي لا يمكن دفعه، ولا يمكن رفعه، وعليه يكون تكليفه بلزوم دفعه عن نفسه من التكليف بما لا يطاق، وقد ثبت في محله استحالة التكليف بذلك.

ولا يتوهم أحد أن هذا الجواب يتضمن تسليماً بكون المعصوم(ع) يقع في الضرر الذي يلزم بدفعه، إلا أنه لا يقوم بدفعه لعدم قدرته عليه. بل إن الجواب المذكور ينفي وجود الضرر أصلاً، فيكون مانعاً من تحققه بالنسبة إليه، وذلك لأن المفروض أن المعصوم(ع) كما يعلم بوقت شهادته تفصيلاً، يعلم أيضاً بأنه قد انقضى عمره وتصرم، ولم يقدر الله تعالى له الحياة بعد هذا الوقت. فلا يكون إقدامه على ما فيه شهادته كم ارتكاب الضرر الذي يمكنه دفعه، لأن المفروض أن الموت مما لا يمكن دفعه، قال تعالى:- (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة)[18].

والحاصل، إنما يكون الإنسان مطالباً بحفظ النفس عن الضرر ووقوعها فيه، إذا كان يمكنه دفع ذلك عنها، أو كان يحتمل قدرته على دفع ذلك عنها، أما لو كان يعلم بعدم قدرته على ذلك، يكون التحفظ منه حينئذٍ لغوياً.

وبهذا سوف يفترق هذا الجواب عن الجواب السابق، لأن المفروض أنه قد سلم في الجواب السابق بوجود الضرر، إلا أنه قد رفعت اليد عنه بوجود تكليف خاص، فيكون الخروج من تحت حكم العقل أقرب للخروج التخصصي، لأن مقتضى ثبوته منع صدق عنوان الإلقاء في التهلكة عليه، لأنه يتضمن امتثالاً لأمر الباري سبحانه وتعالى، ولا يتصور أن يحكم الباري عز وجل بما يكون مخالفاً لحكم العقلاء، لأنه سيد العقلاء، بل رئيسهم، بل لا يمكن أن يحكم بما يكون منافياً لحكم العقل، فتدبر.

وهذا بخلافه في هذا الجواب، فإنه ينفي صدق عنوان الضرر كما عرفت، لأن المفروض أن انقضاء الأجل وتصرم العمر، مدعاة لوقوع الموت، ولا يختلف اثنان في أنه ضرر، لكنه مما لا يلزم رفعه ولا دفعه، فكأنه بمثابة عدم وجوده أصلاً، لأنه مما لابد منه، فتأمل.

ثم إنه لو لم يقبل ما ذكرناه، من نفي وجود الضرر في المقام، فإنه يمكن أن يذكر أن الإقدام الصادر من المعصوم(ع) في مثل هذه الموارد، يعدّ مصلحة ونفعاً وليس ضررياً، لكونه يتضمن سعياً إلى تحصيل النفع الأبدي، وزيادة الدرجات الأخروية، فلاحظ[19].

وقد أشير لهذا الوجه في كلمات غواص بحار الأنوار(قده)، عند تعقيبه على نصوص الجواب الأول، وهو أن المعصوم(ع) يغيب عنه المحدث، أو يلقى عليه النسيان، قال(قده): ويمكن أن يقال مع قطع النظر عن الخبر، أن التحرز عن أمثال تلك الأمور إنما يكون فيمن لم يعلم جميع أسباب التقادير الحتمية، وإلا فيلزم أن لا يجري عليهم شيء من التقديرات المكروهة، وهذا مما لا يكون[20].

ومقتضى أن ما يقدم عليه المعصوم(ع) من القضاء المحتوم، يستوجب عدم جريان البداء فيه، فلاحظ.

الآثار المترتبة على شهادتهم:

هذا وقد يتخذ طريق آخر في علاج الشبهة المذكورة من خلال عرض الآثار المترتبة على الشهادة، ذلك أن المستشكل قد حصر الأمر في كيفية إقدام المعصوم(ع) على ما يوجب شهادته، وقد فاته أنه ربما تكون هناك مصالح مترتبة على إقدامه على ذلك، بحيث يكون لهذا الإقدام نتائج مهمة ومفيدة، وعندها فسوف يكون وجود هذه النتائج بمثابة الأمر الموجب لكون الإقدام على الضرر أهم من دفعه، ولا يختلف اثنان في أنه عند دوران الأمر بين تحمل الضرر لمصلحة عليا، وبين دفعه من دون أن تترتب تلك المصلحة، فإن العقل لا يحكم بأن القبول بتحمل الضرر قبيحاً، بل ولا يحكم بلزوم دفعه عن النفس، وهذا يعني أنه لن يعدّ ذلك من الإلقاء في التهلكة كما لا يخفى.

وهذا ما يلزم أن يلحظ، ببيان مجموعة من الآثار المترتبة على شهادة المعصوم(ع)، والنتائج المترتبة على ذلك[21]:

منها: إن استسلامهم(ع) للقتل يوجب معرفة فضلهم، ويعين على الاقتداء بهم، وذلك لكون الإنسان أسرع تصديقاً بالأمور المادية الملموسة منه بالأمور النظرية، فالواقعة الخارجية التي يراها أو يسمع بها تقطع عنده الشك في الموضوع بخلاف الأمور النظرية، فإن الثانية وإن بلغت درجات عالية من العلم واليقين، إلا أن منابت الخطور القلبي للاحتمالات المخالفة تبقى موجودة، فلاحظ.

ومنها: إن رضاهم بما يقع عليهم من ظلم وتسليمهم لأمر بارئهم عز وجل بذلك، يقوي محبتهم في قلوب الاتباع، ويثبت عزمهم على الوفاء للأئمة الأطهار(ع)، ولأجل ذلك ظلت شهادتهم(ع)مثيرة لعواطف الأجيال المتتابعة وإن باعدها الزمان، وباعثة للارتباط بهم(ع)، وبالمعتقد بدرجة أكبر. ويمكننا أن نلمس ذلك واضحاً في قضية الطف والنهضة الحسينية ومدى تأثير ذلك في البعد العاطفي والوجداني وارتباط الأمة بهذا الموضوع، ومن الطبيعي أن لعنصر الظلامة الذي وقع على الإمام(ع) والتسليم منه والرضا بما جرى أبلغ الأثر عند هؤلاء.

ومنها: إنه قد يكون في قتل الإمام السابق تخفيفاً على الإمام اللاحق، وقد يعدّ هذا مصلحة توجب انتقال الإمام السابق إلى عالم الخلود، فإن نار الغضب تخمد عادة عند الظالم بإقدامه على قتل الإمام(ع)، فيغفل أو يتغافل عن الإمام اللاحق بعده. وقد أشير لهذا في بعض النصوص، فعن صفوان، قال أخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد قال للطاغي-يعني هارون-: هذا علي ابنه قد قعد وادعى الأمر لنفسه، فقال: ما يكفينا ما صنعنا بأبيه؟ تريد أن نقتلهم جميعاً[22]. نعم ما لا ينكر أن هذا ليس بنحو الموجبة الكلية فيهم(ع) وإنما هو بنحو الموجبة الجزئية، فلاحظ.

ومنها: إن في وقوع القتل عليهم(ع) بواسطة الظالمين، إبقاء عنصر البشرية فيهم، وبالتالي يكون سبباً رئيساً في منع انتشار الغلو وادعاء ما لا يدعونه(ع) لأنفسهم من قبل الناس.

ومنها: إن في وقوع الموت عليهم راحة لهم(ع)، فإذا كانت الدنيا سجن المؤمن العادي، الذي يسعى دائماً للتخلص منه، فكيف هي بالنسبة للإمام المعصوم(ع)؟!

لا ريب في أنه(ع) يتمنى دائماً وأبداً أن يتخلص من ذلك بأن ينتقل إلى جوار ربه الكريم، خصوصاً وأنه لا يوجد عنده ما يوجب خوفه من الموت الذي يكون عند بقية العنصر البشري. ولعل من هذا ما روي عن الإمام علي بن الحسين(ع) من حالات خاصة كانت لأبي عبد الله(ع) يوم واقعة الطف، فكلما اشتد الأمر تغيرت ألوان من كان معه، وارتعدت فرائصهم ووجلت قلوبهم، بينما هو وبعض خاصته كانت تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم.

ولهذا لما أنزل الله تعالى عليه ملائكة النصر، وخيره بين أن ينصر أو يلاقي ربه، أختار(ع) لقاء الله تعالى[23].

[1] سورة البقرة الآية رقم 195.

[2] مرآة العقول ج 3 ص 123.

[3] المصدر السابق.

[4] الدرر النجفية ج 1 ص 410.

[5] بحار الأنوار ج 48 ب أحوال الإمام موسى بن جعفر(ع) ح 43 ص 236.

[6] بحار الأنوار ج 48 ب أحوال الإمام موسى بن جعفر(ع) ح 50 ص 242.

[7] قد يقال بعدم ورود هذا الإشكال، لأن المفروض أن هذا الاحتمال ينتفي بتحديد الموارد التي تقع في دائرة احتمال تعرض المعصوم(ع) للاغتيال بسم أو بقتل، فتأمل.

[8] أصول الكافي ج 1 ص 258.

[9] مرآة العقول ج 3 ص 124. بحار الأنوار ج 48 ص 236.

[10] أختار هذا الرأي أيضا المرجع الكبير الشيخ مكارم الشيرازي(حفظه الله) في الكشكول العقائدي ص 314 السؤال 85.

[11] بحار الأنوار ج 42 ص 196.

[12] بحار الأنوار ج 44

[13] مرآة العقول ج 3 ص 123.

[14] أصول الكافي ج 1 ص 260 ح 8.

[15] مرآة العقول ج 3 ص 126.

[16] الدرر النجفية ج 1 ص 410. نعم يحتمل أن يكون ما ذكره(ره) يعود للرأي الرابع الذي سيأتي ذكره، وإن كان الاحتمال الأقرب أن يكون مشيراً إلى رأي خامس، وحاصله: أن الإقدام على مثل ذلك نحو تسليم ورضا بقضاء الله تعالى وقدره، فتأمل جيداً.

[17] منشأ التأمل، أن يقال: إن الإقدام على مثل هذا الأمر من الأمور التي توجب الكمال للمعصوم(ع)، لأنه يبرز عدم ارتباطه بالدنيا خلافاً للجبابرة والطغاة، وأنه يحب لقاء الله تعالى، ولا يستوحش من الموت.

[18] سورة النساء الآية رقم 78.

[19] صراط الحق ج 3 ص 306.

[20] بحار الأنوار ج 49 ص 236.

[21] يستكشف هذاا لمعنى من الشيخ صاحب الحدائق(ره) في الدرر النجفية ج1 ص 410، فلاحظ.

[22] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 226.

[23] من المصادر التي اعتمدنا عليها في البحث، إقدام المعصوم على ما فيه قتله المعلوم، شبهة إلقاء المعصوم(ع) نفسه في التهلكة، مجلة تراثنا العدد 37.



 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة