25 أبريل,2024

فقه البنوك (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

نعتقد نحن المسلمين بأن النبي محمد(ص) هو خاتم الأنبياء والمرسلين، كما نعتقد أن شريعته هي خاتمة الشرائع السماوية، وأنها تلبي جميع الاحتياجات البشرية في كل زمان ومكان حتى تقوم الساعة، وقد أشير لهذا المعنى في جملة من النصوص الشريفة، مثل ما ورد: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.

ومع ورود ما ذكرنا، إلا أنه قد يعترض علينا بإشكال مفاده: من المعلوم أن الحياة البشرية مثلها مثل بقية الأمور المادية تخضع للتطور والتغيـير الخارجي، ومن الطبيعي أنها لما كانت كذلك فهذا يستلزم تغيـيراً في القوانين المرتبطة بها، خصوصاً مع التوجه إلى التقنينات الموضوعة غايتها البحث عن تأمين حياة سعيدة للعنصر البشري، فبقاء القوانين على نسق واحد دونما تغيـير مانع من الاستفادة منه بسبب التطورات الحاصلة في المجتمعات. ولنوضح ذلك أكثر، إن وسائل النقل المستخدمة بالأمس كانت عبارة عن الجمال والحمير مثلاً، بينما نجد اليوم تطوراً في وسائله وبصورة كبيرة جداً، فلا يمكن أن يبقى الإنسان مستخدماً تلك الوسائل البدائية حتى مع هذا التقدم العلمي والتطور الحضاري.

والتشريعات أيضاً كذلك، فلا يمكن لتشريعات موضوعة قبل أكثر من ألف سنة كانت تعالج مستوى ثقافي وفكري ما، أن تطبق اليوم مع هذا التقدم والتطور الحضاري والفكري، وهذا يعني أننا نحتاج إلى جعل قوانين جديدة مغايرة لما كانت موجودة في عصر الرسالة المحمدية.

وهذا الإشكال يمكن الجواب عنه بالالتفات إلى أن التشريع السماوي ينقسم إلى ثابت ومتغير، يمكننا توضيحهما إجمالاً، ويطلب تفصيله من البحوث العقدية، فنقول:

إن التشريعات السماوية تنقسم إلى قسمين:

الأول: ما كان منها متوافقاً والفطرة الإنسانية، كالتشريع الذي يدعو الإنسان للحفاظ على حياته، وبقاء نسله، وهو ما يعبر عنه بالتشريع الذي يهدف إلى تنظيم المجتمع على وفق مبنى العدالة، بحفظ حقوق الأفراد، بعيداً عن الظلم والجور، أو التشريع المرتبط بتنظيم العلاقات العائلية بين الأفراد، مثل علاقة الولد بالوالدين، وكذا التشريعات ذات الارتباط بالنظم والقوانين الأخلاقية، فهذه التشريعات غير قابلة للتغيـير والتبدل، ضرورة أنها صالحة لكل زمان ومكان، فلا يتصور أنه مهما بلغت الثقافة والتطور الفكري، والتقدم المدني، سوف يكون هناك تغيـير في علاقة الولد بأبويه، فيحكم بعدم الإحسان لهما، ومراعاتهما، وأداء حقوقهما، وكذا في النواحي القيمية والأخلاقية، فهما بلغت الحضارة البشرية، فلن تقبل بالقضايا الإباحية والانحلال الأخلاقي، وما شابه.

وهذا يعني أن هذا القسم من التشريعات ثابتة غير متغيرة مهما تقدم الزمان، وتقدمت الحضارة الإنسانية، وعادة ما يعبر عن هذا القسم بالقوانين.

القسم الثاني: وهو ما يكون متفرعاً عن القوانين الكلية الإسلامية، ومستخرجة منها، وهو عبارة عن كل تشريع لم يكن ماساً بالفطرة الإنسانية، وله صلة بالكون والطبيعة، ولا يكون مرتبطاً بالعلاقات الاجتماعية والشؤون البشرية، ولنوضح ذلك بمثال، وهي قضية المجد الشيرازي(ره) في تحريم الدخان، وحاصل الأمر أنه لا يختلف اثنان في أن المصلحة إذا اقتضت أن يبرم المسلمون اتفاقيات للتعاون والتبادل التجاري من الدول الكافرة، فإن ذلك أمر حسن، إلا أنه لو كانت تلك الاتفاقية تجحف بالأمة الإسلامية، وحقوقها، فإنه يمكن التدخل والالتـزام بحرمة تلك الاتفاقيات، وهذا هو الذي عمله المجدد الشيرازي، عندما أفتى بأن تناول الدخان في هذا العصر بمثابة محاربة صاحب الزمان(عج).

وكذا أيضاً المطلوب هو الدفاع عن بيضة الإسلام، وهو أصل مقرر لا خلاف فيه، لكن الوسيلة التي الاستناد والاعتماد عليها في عملية الدفاع عن بيضة الإسلام لم يتم إبرازها وإيضاحها في التشريع الإسلامي، وهذا يعني أنها تتغير من زمان لزمان، فتكون مواكبة للتطور والتقدم الحضاري والمدني، وهكذا.

وخلاصة ما تقدم أن التشريعات السماوية، لا تتبدل ولا تتغير إذا كانت من القسم الأول، وهو القوانين، وذلك لأنها منسجمة مع كل تقدم وتطور حضاري ومدني، أما لو كانت من القسم الثاني، وهي المقررات، فإن التطور فيها ممكن والتبدل والتغير حاصل.

ظهور مسائل جديدة:

ثم إنه وطبقاً لما قدمناه من حالة التطور والتغيـر التي تحصل في المجتمع الإسلامي، كحالة طبيعية، لما يقرره الفلاسفة من أن عالم المادة متغير دائماً، ومتحول باستمرار، واجه الفقه الإسلامي ظاهرتين:

الأولى: بروز موضوعات جديدة للأحكام الشرعية لم تكن من قبل، وفي مجالات حياتية متعددة لم تكن موجودة في عصر التشريع الإسلامي، فكيف يتم التعامل معها:

منها: المسائل المرتبطة بالشؤون الطبية، مثل استخدام وسائل منع الإنجاب كالتعقيم، أو اللولب، أو عملية التلقيح الصناعي، أو التشريح، أو الترقيع، أو زراعة الأعضاء، وما شابه ذلك.

ومها: المسائل المرتبطة بالشؤون المالية والاقتصادية، كالتعامل مع المصارف والبنوك، والتأمين على الحياة وغيرها من الأمور، وهل أن حق التقاعد معاملة، أو شرط في ضمن العقد، وهل يجوز بيع أوراق اليانصيب، وأمثال ذلك.

ومنها: مسائل مرتبطة بشؤون حياتية مختلفة، مثلاً هل يمكن إيقاع عقد النكاح عن طريق جهاز الهاتف أم لا، وهل يثبت خيار المجلس للمعاملة البيعية في جهاز الهاتف أم لا.

الثانية: تغير بعض الموضوعات التي كانت موجودة سابقاً في عصر التشريع، نتيجة طرو بعض التغيرات في القيود والشرائط والأحوال، كبعض الأعيان النجسة فإنها بالأمس كانت يمنع من إيقاع المعاوضة عليها، وذلك لعدم ثبوت مالية لها، أما اليوم فلا ريب في ثبوت المالية لها عند العقلاء، فالدم مثلاً لم يكن بالأمس يحمل أدنى قيمة مالية عند العرف والعقلاء خارجاً، وهذا بخلافه اليوم، إذ أنه يمكن أن يشترى بأغلى الأثمان، لأن عليه يتوقف حياة فرد وإنقاذه من الموت، وهكذا. ومثل ذلك أحد أعضاء الميت، فإنه بالأمس لا يجوز إيقاع المعاوضة على الميتة، لعدم ثبوت المالية لها، وهذا بخلافه اليوم، فإن المالية ثابتة لها عند العقلاء.

ومن الطبيعي أنه ومع تغير الموضوع فهذا يستدعي حصول تغير في الحكم الشرعي، لأنه قد ثبت في محله أن الأحكام تدور مدار الموضوعات وجوداً وعدماً، فوفقاً لما يكون الموضوع يكون الحكم الشرعي كما لا يخفى.

معنى المسائل المستحدثة:

ثم إنه وقد اتضح لنا وجود هذه الموضوعات الجديدة أو المتجددة في الحياة الإنسانية، وهي ما يمكن التعبير عنها بالمسائل المستحدثة، أو المستجدة، فينبغي أن نذكر تعريفاً للمسائل المستحدثة، حتى تكون الضابطة عندنا واضحة، فنقول:

المسائل المستحدثة عبارة عن: كل موضوع جديد يطلب له حكم شرعي، سواء لم يكن هذا الموضوع موجوداً في عصر التشريع، أم كان موجوداً لكنه طرأت عليه بعض التغيرات جعلته يختلف نوعاً ما عما كان عليه في عصر التشريع، وإن كان لا زال ينطبق عليه الاسم السابق.

وهنا نواجه تساؤلاً وهو :

هل أن فقه أهل البيت له القابلية والقدرة على معالجة هذه الأمور وأمثالها مما هو رهين التقدم الزمني أم لا؟

تختلف منهجية التعامل مع المستجدات من المسائل بين فقه أهل البيت وبين بقية المذاهب الإسلامية الأخرى ويتضح ذلك من خلال ملاحظة منهجية الاستنباط عند فقهاء المذهب الشيعي وأدلته وملاحظة ذلك عند فقهاء المذاهب الإسلامية الأخرى ، ولنركز على خصوص ما هو متعلق بمحل بحثنا فنقول:

إذا وجدنا مسألة جديدة في موضوعها بالبيان السابق فكيف يمكننا أن نعالجها من الناحية الفقهية ؟

أما المذاهب الإسلامية الأخرى فإنها تعتمد في الإفتاء في مثل هذه المسائل على مثل القياس والاستحسان وسد الذرائع، ويقصد بكل واحد مما ذكرنا:

القياس: وهو إثبات حكم في محل بعلة لثبوته في محل آخر بتلك العلة . والمحل الأول وهو المقيس يسمى نوعا ويسمى المحل الثاني وهو المقيس عليه أصلا وتسمى العلة المشتركة جامعا.
الاستحسان: وهو محل خلاف بينهم في تحديد معناه إذ عرف بأنه الأخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة ، وعرف أنه الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة ، وعرف أنه ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.

سد الذرائع: الذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء وسدها يحصل بهذا المعنى: أن الرب تعالى إذا حرم شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء النفوس به.

ثم إن منشأ اعتمادهم على مثل هذه الأمور يعود لمفهوم الاجتهاد عندهم إذ هو على ثلاثة أقسام:
الأول: الاجتهاد البياني وهو استنباط الحكم الشرعي من النصوص.

الثاني: الاجتهاد بمعنى تشريع الحكم وجعله فيما لا نص فيه فإن المجتهد في هكذا موارد يعمل رأيه الخاص وفهمه في تشخيص الحكم الشرعي إما على أساس القياس الظني أو على أساس مبدأ الاستحسان أو على أساس مبدأ المصالح المرسلة أو على أساس مبدأ سد الذرائع ويكون هذا الحكم المجعول من قبله بمنزلة حكم الله سبحانه وذلك بمقتضى قولهم بالتصويب. وهذا المعنى ممنوع لأن الظن لا يغني من الحق شيئا وإنما لجئوا إلى ذلك لقلة المصادر والنصوص المتوفرة لديهم وحيث حرموا أنفسهم الانتهال من أهل البيت وما صدر منهم ، وقعوا فيما وقعوا فيه.

الثالث: الاجتهاد في مقابل النص ومن أمثلته المعروفة تحريم عمر للمتعة وهذا كسابقه لا يقبله الشيعة الإمامية لأنه ليس من حق المجتهد التشريع وإنما عليه بذل وسعه للوصول إلى الحكم الواقعي المجعول من خلال ملاحظة الأدلة.

وأما الشيعة فإنهم يعالجون هذه المسائل من النصوص الخاصة والعامة إن وجدت وأيضا بالقواعد الكلية المستفادة من الأدلة المعتبرة ، فلا يتمسكوا بشيء من الظنون لأن الاجتهاد عندنا هو استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأدلة المعتبرة.

ثم إن الشيء الثابت بالأدلة أن لكل واقعة حكما في الشريعة الإسلامية ، علمنا به أم لم نعلم.
وهذه الأحكام الواقعية كانت مودعة عند رسول الله وبعده عند أوصيائه المعصومين فالحوادث الواقعة لا تخلو من حكم واقعي ، وإذا لم نظفر بالحكم الواقعي فإنه يمكننا التعبد حينئذ بحكم ظاهري قطعا ، لأنه قد ثبت عندنا أن الفقيه إما يعلم الحكم الواقعي أو يظن به ظنا معتبرا دلت على اعتباره الأدلة القطعية أو يشك.

وفي حالة الشك عليه أن يرجع إلى أحد الأصول العملية المعتبرة ، أعني البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، وهذه الأصول حاصرة لموارد الشك فلا يتخلف عنها شيء.
ونتيجة هذا أنه لا يوجد عندنا فراغ قانوني في الشريعة الإسلامية لا واقعا ولا ظاهرا ووظيفة المجتهد هي اكتشاف وتشخيص الحكم الموجود في الشريعة.

إلى هنا أظن أن الجواب عن السؤال المتقدم صار واضحا وأن فقه أهل البيت لا يقف عاجزا أمام مستجدات العصر ومتطلباته بل هو يواكب التقدم الحضاري ولديه العلاجات الفقهية الصحيحة لكل شيء جديد.

هذا ويمكننا أن نضيف لما تقدم أمورا ثلاثة يمكن من خلالها معالجة الأمور المستجدة مما يكون من متطلبات العصر:

الأول: معرفة القضية التي انصب الحكم عليها: لأن القضايا على نوعين: خارجية وحقيقية. فالقضايا الخارجية هي التي يكون الحكم فيها ثابتا على الأفراد الموجودة في الخارج .وأما الحقيقية فالحكم فيها تابع لموضوعاتها التي يقدر وجودها في الحال أو في الماضي أو في المستقبل ، وقد لا يكون لها مصداق فعلا في الخارج ، إلا أن الحكم صادق.
والظاهر أن أغلب الأحكام الشرعية الواردة بصورة القضايا سواء كانت بصورة الإخبار كقوله : المؤمنون عند شروطهم.أو الإنشاء كقوله تعالى:- (أوفوا بالعقود) واردة بنحو القضية الحقيقية فلا تنحصر في المصاديق التي كانت موجودة في عصر الأئمة بل تشمل جميع المصاديق التي توجد لها في كل زمان ومكان إلا إذا قام دليل على خروجها واستثنائها ، وبالخصوص الآيات القرآنية للتصريح بأنها لجميع العالمين إلى يوم القيامة.

من هنا نقول: إن قصر الصلاة للمسافر اليوم أمر لازم حتى وإن كان بالوسائل السريعة لعدم كون القضية الدالة على القصر خارجية لتختص بتلك الأسفار التي كانت في الأزمنة القديمة ، نعم لو قام دليل على الاختصاص بها رفعنا اليد عما قلناه لكنه لم يقم قطعا.
ولا يخفى أنه يمكن من خلال هذه الكبرى علاج كثير من المسائل المستحدثة والمستجدة التي يواجهها المكلف نتيجة تطور العصر ، ولا بأس أن نشير لبعض النماذج:

1-مسألة التأمين: لما كان التأمين عقدا من العقود يمكننا استفادة جوازه وحليته من خلال القاعدة العامة المستفادة من قوله تعالى:- (أوفوا بالعقود).

2-إجراء العقد بالهاتف فقد يقال بتصحيحه لنفس النكتة السابقة.

3-الإيداعات البنكية بجميع أقسامها حيث خرجها فقهاؤنا على القرض ورتبوا عليها أحكامه.
4-صناديق الاستثمار البنكي ويمكن علاجها على أنها مضاربة بعد تحقق الشروط المعتبرة فيها.
الثاني: إن إطلاقات الأدلة اللفظية تشمل كل مصاديق موضوع الحكم الشرعي ولا تنحصر في خصوص المصاديق التي كانت في فترة صدور النص أو ما يقاربها ، وعليه تكون الإطلاقات شاملة حتى المصاديق المستجدة في عصرنا ومن خلال هذه الكبرى يعلم حال كثير من مستجدات العصر ، وعلى سبيل المثال مسألتي الترقيع والتشريح.

الثالث: إن كثيرا من المسائل المستجدة تندرج تحت العناوين الثانوية فمثلا حرمة أكل لحم الميتة من الواضحات التي لا تشكيك فيها ، إلا أن هذه الحرمة ترتفع في حالة الاضطرار وهذا ما يعبر عنه بالحكم الثانوي مقابل الحكم الأولي وهو حرمة أكلها.