28 مارس,2024

التقية في زيارة الإمام الحسين (ع)

اطبع المقالة اطبع المقالة

تضافرت النصوص الشريفة على الحث على زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف وعدم تركها بسبب ذلك، ولا يبعد تواترها فلا يحتاج لملاحظتها سنداً، ولنشر لواحدة منها تيمناً وتبركاً فعن معاوية بن وهب، عن أبي عبد الله(ع) قال: قال لي: يا معاوية لا تدع زيارة قبر الحسين(ع) لخوف فإن من تركه رأى من الحسرة ما يتمنى أن قبره كان عنده، أما تحب أن يرى الله شخصك وسوادك فيمن يدعو له رسول الله(ص)، وعلي وفاطمة والأئمة(ع)[1].

ودلالة النص واضحة جداً على أنه لا ينبغي للمؤمن أن يترك زيارة الإمام الحسين(ع) بسب الخوف، ولم يحدد الإمام(ع) نوع الخوف الذي لا يمنع من الزيارة، مما يعني أنها لا تترك أياً ما كان ذلك الخوف، سواء كان خوفاً على النفس، أم كان خوفاً على العرض، أم كان خوفاً على المال.

وهذا يعني أن هذه النصوص المتضمنة لهذا المضمون تفيد عدم ترك الزيارة ولو كان ذلك يستلزم ضياعاً للمال وتلفاً للنفس، وما شابه ذلك.

منافاة النصوص للتقية:

ولقائل أن يقول إنه لا مجال للقبول بهذه النصوص، وبالتالي لا يمكن الاستناد إليها والعمل على طبقها، وذلك لأن مضمونها يتنافى وحكم العقل القاضي بحفظ النفس، ودفع كل ضرر محتمل عنها، ولذا نراه يحكم بلزوم المخالفة لبعض الواجبات والإتيان بها على خلاف ما قررته الشريعة السمحاء بحسب الجعل الأولي، لا لشيء إلا دفعاً للضرر المحتمل على النفس، واتقاء لها من ذلك. وقد وردت نصوص عديدة تتحدث عن أن التقية ديني ودين آبائي وأجدادي، وأنه لا دين لمن لا تقية له، وأضرابها من النصوص.

ولا يذهب عليك أن هذا ليس حديثاً عن حرمة إلقاء النفس في التهلكة، بل هو حكم عقلي بلزوم دفع الضرر المحتمل عن النفس، والفرق بينهما بيّن فلا تغفل.
ويمكننا عرض التصور المذكور بصورة أبسط وأكثر وضوح وسلاسة، فيقال: هل تجري التقية في زيارة الإمام الحسين(ع)، أم أنه لا جريان لها فيها؟

إن المعطيات والمؤشرات الخارجية كلها تنسجم مع القول بلزوم جريان التقية فيها، وأنه لا مجال للبناء على عدم جريانها، ضرورة أن حقيقة التقية والغرض من تشريعها يتوافقان وهذا المعنى.

وحتى يتضح أصل الاعتراض الداعي لرفض هذه النصوص والمنع من الاستناد إليها، نشير شيئاً ما لحقيقة التقية، وذلك ضمن ثلاثة أمور بصورة موجزة وسريعة بما يستدعيه المقام، لأنه ليس غرضنا هو الحديث عن التقية وما يتعلق بها، فلاحظ، وتلك الأمور هي::
الأول: حقيقة التقية، وممن يتقى.
الثاني: أقسام التقية.
الثالث: الغرض من تشريع التقية.

حقيقة التقية:

عرفت التقية بأنها التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق[2]. وقد نص على عدم اختصاصها بالكافر، بمعنى أنه كما يتقى من الكافر، فإنه يتقى أيضاً من المسلم، بل يتقى من المؤمن الموالي أيضاً، وبكلمة إن التقية من كل ظالم وجائر إذا خيف ضرره[3].

أقسام التقية:

وفقاً للتعريف السابق يمكن تقسيم التقية باعتبار مواردها إلى قسمين:
الأول: ما يحفظ النفس والعرض والمال من الخطر.
الثاني: ما يحفظ وحدة المسلمين فيما بينهم أو فيما بينهم وبين غيرهم، وجلب المحبة ودفع الأحقاد[4].
ولا يخفى أن ما هو المربوط بمقامنا هو القسم الأول، لأن الفرض أن الزيارة حال الخوف تتنافى وحفظ النفس والعرض والمال من الخطر.

الغرض من تشريع التقية:

إن الداعي والغرض لتشريعها قد يكون حفظ النفس، وقد يكون حفظ العرض، وقد يكون حفظ المال ونحوه، وحينئذٍ فلا يشرع بها هتك الأعراض، ونهب الأموال[5].
وقد تقرر من الأعلام، أنه متى تحقق موضوع التقية في زمان أو مكان ما، فإنه يكون مقدماً على أدلة الواجبات أو المحرمات، لحكومته على تلك الأدلة.

وإن شئت فقل، إن هناك نوعين من العناوين والأحكام:

الأول: العناوين والأحكام الأولية، فمن الواجبات مثلاً الصلاة مع السجود على ما يصح السجود عليه، مثلاً.
الثاني: العناوين الثانوية، وهو الإتيان بالواجب مفتقداً شيئاً مما يكون معتبراً فيه نتيجة ظرف طارئ يجبر المكلف على ذلك حفاظاً على نفسه مثلاً، كأن يصلي مع السجود على ما لا يصح السجود عليه حفاظاً على نفسه، وهكذا.

وكيف كان، ما يهمنا أن الغاية من تشريع التقية المستفادة من القرآن الكريم والنصوص الشريفة، وحكم العقل، هو حفظ النفس من التهلكة، وحفظ المال من النهب والسلب، والمحافظة على العرض، وصونه.

ثم إنه وبعد هذا البيان للتقية وما يرتبط بها، نعود لعرض الإشكال الوارد في بعض الأذهان، فيقال:
إن الذهاب لزيارة المولى أبي عبد الله الحسين(ع) في ظل هذه الظروف الأمنية المضطربة، والتي لا يأمن فيها الإنسان على نفسه، ولا على عرضه، ولا على أمواله، يتنافى وما دل على التقية، لما عرفنا من أن أدلة التقية تدعو للحفاظ على هذه الأمور، وهذا يعني أن زماننا اليوم في ظل هذه الظروف التي أشرنا لها، وهي معلومة عند كل أحد، ليس زمان زيارة، وإنما هو زمان تقية.

ووفقاً لما تقرر لابد وأن يتصرف في النصوص التي تضمنت الدعوة والحث على زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف بتأويلها بأحد التأويلات التي تقبل وترتضى، أو أن يعمد إلى اختصاصها بزمان خاص دون بقية الأزمنة، وإلا فلابد من طرحها وعدم العمل على طبقها، لمنافاتها لما عرفت من حكم العقل بدفع الضرر المحتمل الموجب للحكم بالتقية.

وبعبارة أخرى، إنه لا يختلف اثنان في أن الزيارة حال الخوف تتنافى وما شرعت التقية من أجله، فإنه لا يأمن في الزيارة حال على النفس من الهتك والهلاك، كما لا يأمن فيها على الأموال، فضلاً عن أنه لا يأمن أن يعرض العرض للانتهاك، وبالتالي تكون هذه النصوص المتضمنة للزيارة حال الخوف منافية للغرض من تشريع التقية، وتكون منافية لأدلتها، فلا مجال للركون إليها والاعتماد عليها، فتسقط عن الدليلية والحجية، إذا لم يكن لها محمل صحيح يمكن حملها عليه.

كلام العلامة المجلسي:

وكأنه لما يتبادر إلى الأذهان من إشكال حول النصوص الواردة في فضل الزيارة حال الخوف، وبأن زيارة الإمام الحسين(ع) حاله أفضل من زيارته حال الأمن والاستقرار، ومنافاتها لما دل على التقية، عمد شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار(قده) إلى محاولة الجمع والتوفيق بين الطائفتين من النصوص، وذلك من خلال تأويل نصوص الزيارة حال الخوف وحملها على بعض المحامل التي تجعلها منسجمة مع نصوص التقية، فذكر(ره) تأويلين للخوف الوارد في نصوص الزيارة حال الخوف، وهما:

الأول: أن يلتـزم بأن الخوف من الأمور المشككة، وأن له مراتب، وليس مرتبة واحدة، وبالتالي يقرر أن لكل مرتبة حكماً خاصاً بها تختلف فيه عن المرتبة الأخرى، فمثلاً الخوف على النفس أو على العرض أو على المال، يكون من الخوف الواقع في أعلى درجات الخوف ومراتبها، بينما الخوف على الصحة، من أن يصاب الإنسان مثلاً بمرض بسيط كالزكام، أو الحمى، أو أن يتعرض الإنسان لمزاحمة غير مؤذية، فإنه خوف من أدنى مراتب الخوف وأقلها مرتبة. وعليه يقال: بأن الخوف الوارد في نصوص الزيارة ليس من الخوف ذي المرتبة العليا والشديدة، وهو الخوف على النفس أو العرض، أو المال، وإنما هو من الخوف ذي المرتبة الضعيفة والقليلة جداً، فيكون خوفاً ضعيفاً، وليس خوفاً شديداً، فهو خوف مع ظن السلامة واحتمالها، وبالتالي لا يكون متنافياً أساساً مع نصوص التقية، وعدم جريان الزيارة حالها.

الثاني: إنه مع التسليم بكون الخوف الوارد في المقام من الخوف الشديد ذي المراتب العالية، إلا أننا نقرر بأنه وإن كان كذلك إلا أن هناك تفاوتاً في دواعي الخوف، إذ مرة يكون الإنسان خائفاً على عرضه، أو على ماله، أو على نفسه، وأخرى يكون خوف الإنسان على فوت شيء من مصالحه الخاصة التي لا تستوجب توقف الحياة بسببها مثلاً، كما لو كان خوف الإنسان من فوت العزة منه، لأنه سوف يكون في مكان لا يليق بشأنه، ولا مكانته الاجتماعية، وكذا لو كان خوفه خشية أن يفوت عليه جاه، أو تذهب منه صفقة مالية، أو ما شابه، فإن هذا الخوف ليس كالخوف على النفس، أو الخوف على العرض، أو الخوف على ضياع أصل المال وتلفه، لأن العقل لا يرى أن الأمثلة الأولى ضرر محتمل على النفس البشرية يلزم دفعه عنها، بعكسه في الأمثلة الثانية، فإنه يحكم بضرريتها، فيلزم دفعها، والظاهر أن الخوف الوارد في نصوص الزيارة إنما هو مثل الخوف في الأمثلة الأولى، فلن يكون مورداً لحكم العقل، كما لا يخفى. 

وطبقاً لما تقدم من تأويل، لن يكون هناك أدنى منافاة بين ما دل على التقية من جهة، وبين نصوص الزيارة حال الخوف من جهة أخرى، فلاحظ وتدبر.

التأمل في كلام صاحب البحار:

إلا أن التأويل الذي أفاده شيخنا المجلسي(قده)، ومحاولة الجمع العرفي بين النصوص لا مجال للمساعدة عليه، لأن الظاهر من نصوص الزيارة حال الخوف أنه خوف على النفس والعرض والمال، فلاحظ ما جاء في رواية ابن بكير عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: إني لأنزل الأرجان وقلبي ينازعني إلى قبر أبيك فإذا خرجت فقلبي مشفق وجل حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المسالح، فقال: يا ابن بكير أما تحب أن يراك الله فينا خائفاً، أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظله الله في ظل عرشه، وكان محدثه الحسين(ع) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته الملائكة، وسكّنت قلبه بالبشارة[6]. فإن تعبيره: فقلبي مشفق وجل حتى أرجع خوفاً من السلطان…الخ…، لا ينسجم وكون الخوف مرحلة ضعيفة، وليس خوفاً على النفس أو العرض أو المال، فضلاً عن كونه خوفاً على شيء من أمور الدنيا. ومثله في الدلالة على ذلك ما رواه محمد بن مسلم-في حديث طويل-قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي(ع): هل تأتي قبر الحسين(ع)؟ قلت: نعم على خوف ووجل؟ فقال له: ما كان من هذا أشدّ فالثواب فيه على قدر الخوف، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم يقوم الناس لرب العالمين، وانصرف بالمغفرة وسلمت عليه الملائكة، وزاره النبي(ص) ودعا له، وانقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء، واتبع رضوان الله[7].

وبالجملة، إن هذه التعبيرات الواردة في هذين النصين وأضرابهما لا تنسجم مع كون الخوف ضعيفاً، أو كون الخوف على الجاه أو العزة، أو على ذهاب المال.

كيفية علاج التساؤل:

والصحيح أن يجاب عن التساؤل المذكور من خلال أحد طريقين:
الأول: أن يبنى على التوفيق بين ما دل على التقية، وبين ما دل على استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف، وأنها حاله أفضل منها حال الأمن والاستقرار، بأحد صورتين:
الأولى: أن يلتـزم بتخصيص ما دل على التقية من أدلة، سواء كانت من القرآن الكريم أم كانت من النصوص المعصومية بالنصوص الواردة عن المعصومين(ع) في شأن زيارة الإمام الحسين(ع)، فيقال: بأن ما دل على التقية عام يخرج من تحته زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف، فلا تجري فيها التقية.

الثانية: أن يحكم بأن النصوص الواردة في استحباب زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف حاكمة على نصوص التقية، ومضيقة لموضوعها فلا تكون نصوص التقية شاملة للزيارة حال الخوف، مثل ما دل على أنه لا ربا بين الوالد وولده، فإنه حاكم ومضيق للنصوص التي دلت على حرمة الربا.

الثاني: لقد نص علمائنا على أن هناك أشياء قد استثنيت مما دل على التقية، بمعنى أنه لا تجري التقية فيها، وقد ذكروها في البحوث المخصصة للحديث عن التقية، مثل: لا تقية في فساد الدين، ولا تقية في توهين المذهب، ولا تقية في أصل من أصول الإسلام أو المذهب، أو ضروري من ضروريات الدين، كما لو أراد المنحرفون تغيـير أحكام الإرث أو الطلاق والصلاة والحج، وغيرها من أصول الأحكام، فضلاً عن أصول الدين أو المذهب، فإنه لا تجوز في مثلها التقية، كما لا تقية في الدماء[8].

والحاصل، لا خلاف بين أعلامنا في أصل الكبرى، وهي أن هناك أشياء قد استثنيت من تحت عموم ما دل على التقية، وأنه لا تجري فيها التقية، كما لا يخفى. وعندها يقرر بأن محل بحثنا وهو زيارة المولى أبي عبد الله(ع) يصلح أن يكون صغرى لهذه الكبرى، فيقرر أنه مما يستثنى من تحت ما دل على التقية، فيحكم بعدم جريان التقية فيه، ويمكننا تصوير استثنائه من تحت التقية بنحوين:

أحدهما: إن التقية في زيارة الإمام الحسين(ع) من التقية المحرمة، وذلك لأنها تتضمن فساداً للدين، ومحواً للشعائر وتقوية الكفر.
ثانيهما: أن يقرر أنها بنفسها مستثناة مما دل على التقية، فتكون قسيمة لما قدمنا ذكره، وليست مصداقاً من مصاديق هذه الكبرى، كما لا يخفى.

وبالجملة، فالذي يستفاد من خلال التأمل في النصوص، وجمع بعضها مع بعضها الآخر أن زيارة الإمام الحسين(ع) حال الخوف، وإن كان في ذلك ضرر محتمل على النفس، أو على المال، فليس المورد من صغريات التقية، ويشهد لهذا ما رواه يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: جعلت فداك زيارة قبر الحسين(ع) في حال التقية، قال: إذا أتيت الفرات فاغتسل ثم البس ثوبيك الطاهرين، ثم تمر بإزاء القبر، ثم قل: صلى الله عليك يا أبا عبد الله، ثلاثاً وقد تمت زيارتك[9]. فإن المستفاد منه أنه لم ينهه عن الزيارة مع أن المورد من موارد التقية، نعم أمره بأن يعمد لتغيـير منهجية الزيارة، إلا أن الكون في الحائر الشريف، أمر لابد منه، والله سبحانه وتعالى هو العالم العاصم.
 
 

[1] بحار الأنوار ج 98 ص 9 ح 31.
[2] رسائل فقهية للشيخ الأعظم الأنصاري ص 320.
[3] التنقيح في شرح العروة ج 4 ص 296.
[4] القواعد الأصولية والفقهية على مذهب الإمامية ج 3 ص 73، الرسائل للإمام الخميني ج 2 ص 174.
[5] راجع مصباح الفقاهة ج 1 ص 446، التنقيح في شرح العروة ج 4 ص 256.
[6] بحار الأنوار ج 98 ح 39 ص 10-11.
[7] المصدر السابق ص 11.
[8] الرسائل للإمام الخميني ج 2 ص 178.
[9] بحار الأنوار ج 98 ح 1 ص 284.