المنهج العلمي للإمام الصادق عليه السلام

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
231
0

مدخل:

عاش الإمام الصادق(ع) في فترة انتشرت فيها مدرستان في الأوساط الإسلامية، وهما مدرستا الرأي والحديث، وقد كان لكل واحدة من المدرستين منهجية مختلفة عن منهجية المدرسة الأخرى، كما أن لكل واحدة منهما مقوماتها التي تميزها عن الأخرى.

ولا يخفى أن وجود هاتين المدرستين يجعل التصور الأول لكل من يقرأ أو يسمع بذلك أن جميع المسلمين كانوا منطوين تحت إحداهما، بحيث لا يتصور وجود مسلم إلا ويكون منضماً لواحدة منهما، ومتبنياً للمنهج المقرر فيها، وعليه فهل كان الإمام الصادق(ع) منطوياً تحت واحدة من المدرستين، وبالتالي يكون متبنياً لرؤاها، أم أن الإمام الصادق(ع) كان له منهج علمي مختلف عن كلتا المدرستين، يتميز به(ع)، ومن خلاله يرد ويناقش ما تضمنته أطروحة كل واحدة من المدرستين الأخريـين.

حتى نتمكن من التعرف على ذلك، نحتاج الحديث ضمن جهات.

التعريف بمدرستي الرأي والحديث:

بداية لابد أن نعرف أن كل واحدة من مدرستي الرأي والحديث تنسب لرئيس من رؤساء المذاهب الأربعة، فمدرسة الرأي على رأسها من ينسب له المذهب الحنفي، وهو أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ومدرسة الحديث تنسب لرئيس المذهب المالكي، وهو مالك بن أنس، ولسنا الآن بصدد الحديث عن رئيسي المدرستين، وإنما نود التعريف بمنهج العلمي لكل واحدة منهما بما يتناسب والمقام، ومن ثمّ الإشارة للأسباب التي دعت إلى ظهورهما على الساحة العلمية الإسلامية.

مدرسة الرأي:

لقد كان ظهور مدرسة الرأي في العراق، وكان أول الداعين إليها هو أستاذ أبي حنيفة ويعرف بحماد، وقد كان الموجب لظهورها قلة الأحاديث الموجودة في العراق، فانفتح باب الرأي والقياس، ومن هنا سمي أهل الرأي بهذا الاسم حيث أنهم يعنون بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار.

وقد كان الموجب لهم في الالتـزام بما ذكر جعلهم المصالح التي شرعت الشريعة من أجل تحصيلها أصلاً من أصول الأدلة حال فقدان النص في الكتاب والسنة الصحيحة عندهم، وقد عرفت أن عددها قليل بسبب بعد العراق عن موطن الحديث.

والحاصل، لقد قرر أصحاب هذه المدرسة أن الشريعة معقولة المعنى، ولها أصول يرجع إليها، ونتيجة لاقتناعهم بمعقولية الشريعة وابتنائها على أصول محكمة فهمت من الكتاب والسنة، كانوا لا يمتنعون من الإفتاء برأيهم.

وقد كان أصحاب هذه المدرسة يحبون معرفة العلل والغايات التي من أجلها شرعت الأحكام.

وقد جعل لهم ميزاناً في التعامل مع النصوص، فربما ردوا أحاديث لمخالفتها لأصول الشريعة، ولا سيما إذا عارضها حديث آخر.

مدرسة الحديث:

وعلى العكس تماماً كانت مدرسة الحديث، فإنها لم تجعل للرأي والقياس في استنباط الأحكام هذا المحل، بل كان العمدة عندهم على الحديث، وأنه المرجع الذي يعول عليه في معرفة الأحكام الشرعية، ولا مجال للاستناد لشيء آخر سواه.

ومن هنا نشأت تسميتهم بأهل الحديث، بسبب عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على النصوص، دون الرجوع للقياس أو غيره.

ولهذا تعتمد الفتوى عند أصحاب هذه المدرسة على حدود النص فلا تتعداه.

هذا وقد نسب على رأس هذه المدرسة مالك بن أنس المنسوب له المذهب المالكي، لكن دراسة حياة مالك والتأمل في فقهه، سوف يطلع المتابع على أنه لا يختلف عن أبي حنيفة كثيراً، حيث أنه ممن يعتمد كثيراً على الرأي، فيلتـزم بالقياس والرأي والاستحسان، وغير ذلك.

منهج الإمام الصادق:

في خضم هاتين المدرستين كانت مدرسة الإمام الصادق(ع)، ومن الطبيعي أنه(ع) لم يكن متبنياً لأي واحدة من المدرستين، بل على العكس تماماً كانت له منهجية أخرى مختلفة تماماً عن كليهما، حيث نلمس أن له مواقف متعددة ضد أصحاب مدرسة الرأي وبالتحديد من خلال المناظرات التي كانت تحصل بينه وبين شيخ هذه المدرسة أبي حنيفة، فقد كان يشدد عليه الإنكار في القياس، وقد تعددت البيانات الصادرة منه(ع) لبطلان المنهج المتبع، فمما قال له(ع): بلغني إنك تقيس الدين برأيك، لا تفعل فإن أول من قاس إبليس.

وقال له مرة أخرى: يا نعمان حدثني أبي عن جدي، أن رسول الله(ص) قال: أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فمن قاس الدين برأيه قرنه الله يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس.

وجاء عنه(ع) مرة ثالثة قوله: إن السنة إذا قيست محق الدين.

وكما كان للإمام الصادق(ع) مواقف لرفض المنهج المتبع من قبل مدرسة الرأي أيضاً كانت له مواقف مماثلة مقابل مدرسة الحديث، وسوف نقصر الحديث في هذا البحث على واحد من الأسس الأساسية التي وضعها الإمام(ع) في التعامل مع الحديث، وهو ما يمكن تسميته بروايات العرض على الكتاب والسنة، أو ما يمكن التعبير عنه بمنهج نقد المتن في الحديث، حيث أنه قد يتصور البعض أن مجرد ورود الحديث عن النبي(ص) موجب للقبول عنه، وبالتالي العمل على طبقه، لكنه(ع) على علم أن هناك كذابة كانوا يكذبون سواء على رسول الله(ص)، أم على آبائه الطاهرين(ع)، وبالتالي لابد من تميـيز الحديث الصادر من الحديث المكذوب.

وقد تعددت الروايات الصادرة منه لبيان هذه المنهج، فقد وردعنه(ع) قوله: إن على كل حق حقيقة، وعلى كل صواب نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه.

وقال(ع): كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق الله فهو زخرف.

وقال(ع) أيضاً: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف.

منهج نقد المتن:

ولكي يتضح المنهج الذي كان يتبعه الإمام الصادق(ع) ويدعو أصحابه للعمل على وفقه، أن نتعرف على المقصود من منهج نقد المتن، وبيان المنهج المقابل الآخر المقابل له وهو منهج نقد السند، فنقول:

أما منهج نقد السند:

فهو المنهج الذي يقوم على أساس إحراز وثاقة الراوي الواقع في سلسلة سند الرواية المنقولة، حتى يتم من خلال ذلك إحراز صدور النص عن المعصوم(ع)، فمتى كان جميع الواقعين في سند الرواية ثقاة كان ذلك موجباً للبناء على صدورها عن المعصوم(ع).

وهذا المنهج منهج عقلائي في العمل بالخبر المنقول، مضافاً إلى أنه يمكن القول بكونه صادراً من قبل المعصوم(ع).

وأما منهج نقد المتن، فالمقصود منه: المنهج الذي يقوم على عرض متن الرواية على محكم الكتاب والسنة، وعلى ما هو متيقن من المعلومات.

ومن المعلوم أنه يترتب على ذلك علم بصدور النص عن المعصوم من عدمه.

وكما أن منهج نقد السند منهج عقلائي، فكذلك منهج نقد المتن منهج عقلائي أيضاً، ولكننا سوف نركز عليه من خلال ما كان يشير إليه الإمام الصادق(ع)، حيث وجدنا أن النصوص الصادرة عنه لمنهج نقد المتن، تشير إلى العرض على الكتاب، وتشير لرفض ما كان مخالفاً، فلنشر إلى المقصود من ذلك.

موافقة الكتاب ومخالفته:

وقد تضمن منهج نقد المتن والعرض على الكتاب جعل الميزان الأساس في القبول بالحديث المنقول موافقته للكتاب، والموجب لرفضه كونه مخالفاً له، فما هو المقصود من الموافقة، وما هو المقصود من المخالفة في البين؟…

قد يتصور البعض أن المقصود من الموافقة هي المطابقة التامة لمدلول الآيات الشريفة، فيكون بين النص المعصومي وبين النص القرآني مطابقة من حيث المدلول.

ولا يخفى ضعف هذا التصور، ذلك لأنه يستلزم إلغاء السنة المباركة، كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي، إذ من الواضح أنه مع تحقق المطابقة بين النص المعصومي وبين القرآن الكريم لن يكون المستفاد من السنة المباركة أكثر من التأكيد على ما جاء عليه القرآن الكريم.

على أن هذا المعنى لو كان مستفاداً من النصوص لكان مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم، حيث أنه سبحانه وتعالى أمر بالأخذ بما جاء عن النبي(ص)، قال تعالى:- (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)[1] .

وأما المقصود بالمخالفة للكتاب، فالمقصود منها المخالفة والمنافاة المستقرة للكتاب، فإذا عارض مدلول حديث مروي عن النبي(ص) مدلول آية قرآنية أو مدلول حديث عام معلوم الصدور، كان ذلك دليلاً على عدم صدور الحديث عنه(ص).

والسر في ذلك هو أن القرآن الكريم وحي إلهي وهو قطعي الصدور عنه سبحانه وتعالى، فكل ما نافاه يكون مردوداً، لأن السنة المباركة مصدرها هو عين مصدر القرآن وهو الوحي الإلهي فلا يمكن أن يكون بينهما تنافي، لأنه ينافي العلم والحكمة، فوجود التنافي يعني بطلان أحدهما، ولما كان القرآن قطعي الصدور فلا مجال لبطلانه، فيكون البطلان عندها لخبر الواحد المنسوب للنبي(ص).

هذا ونقصد من كون التنافي بين الخبر والمدلول القرآني بالمعارضة المستقرة، عدم شموله للتنافي البدوي الحاصل بينهما والذي يعالج بحمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص.

أمثلة لمنهج نقد المتن:

هذا ولكي يتضح المنهج الذي كان يعمد إليه الإمام الصادق(ع) في التعامل مع الروايات، نشير إلى بعض الأمثلة، التي توضحه أكثر:

الزهراء(ع) وقضية الميراث:

لقد عمدت سيدتنا الزهراء(ع) إلى تطبيق منهج نقد المتن، مع الخليفة أبي بكر في الرد عليه في قضية الميراث، وتوضيح ذلك:

لقد روى أبو بكر رواية نسبها للنبي(ص)، وهو قوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث[2].

وقد استدل أبو بكر بالحديث المذكور لإثبات صحة ما قام به من عمل في مصادرته فدكاً من تحت يدي مولاتنا الزهراء(ع)، فعمدت(ع) إلى معارضته، وأشارت إلى أن النص المذكور غير صادر منه(ص) ذلك أنه يخالف الكتاب وما دام مخالفاً للكتاب، فهو غير صحيح، قالت(ع): أعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول:- (وورث سليمان داوود)، وقال فيما اقتص من خير زكريا(ع):- (فهب لي من لدنك ولياً*يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً).

وما أرادت (ع) بيانه أن الحديث المنسوب للنبي(ص) لما كان مخالفاً للكتاب بنحو المنافاة والمعارضة المستقرة، فلا يكون صادراً عنه(ص).

وضوء عثمان:

المثال الثاني الذي نذكره لبيان هذا المنهج هو ما صدر من الخليفة الثالث عثمان، حيث ذكر أنه توضأ في خلافته فغسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: رأيت رسول الله توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال رسول الله: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قام فركع ركعتين، لا يحدّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه.

ومنافاة الحديث المذكور للكتاب الكريم لا تخفى، حيث أن المستفاد من القرآن الكريم أن المعتبر هو المسح على القدمين، سواء قرأنا بالفتح أم قرأنا بالجر.

ولنختم الحديث بروايات يكثر ذكرها على الألسن، وهي النصوص التي تتحدث عن النساء، وأنهن يشاورن ويخالفن، وأنهن ناقصات عقل ودين، وما شابه.

وهذه النصوص للتأمل في صدورها مجال واسع، ضرورة أن تطبيق منهج نقد المتن ينطبق عليها، لمنافاتها للقرآن الكريم، وبالتالي يتأمل في صدورها.

هذا ولو أردنا زيادة الحديث في هذا المجال يطول بنا المقام، حيث يمكن توسعة دائرة البحث لتشمل المنافاة لبعض الأمور البديهية، والأمور التاريخية الثابتة، وما شابه ذلك، لكننا نتركه لمجال آخر.

والحاصل، إن منهج نقد المتن، أو ما يسمى بروايات العرض على الكتاب، عمد من خلاله الإمام الصادق(ع) إلى إعطاء أسلوب ومنهج يمكن من خلاله تميـيز الرواية الصادرة عن المعصوم(ع)، من عدمه.

ومن الطبيعي أن السبب لذلك كما عرفنا يعود للوقوف أمام مدرسة الحديث التي فتحت الباب على مصراعيه، وبالتالي قطع الطريق على الكذابة الذين كانوا يكذبون على النبي(ص)، والأئمة(ع)، وجعل الحديث مصدراً يسترزقون من خلاله[3].

——————————————————————————–

[1] سورة الحشر الآية رقم 7

[2] صحيح البخاري كتاب الفرائض ج 8 ص 185

[3] من مصادر البحث: الكافي، مرآة العقول، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، منهج نقد المتن

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة