29 مارس,2024

المنهج التربوي للإمام السجاد عليه السلام

اطبع المقالة اطبع المقالة

من كلام للإمام زين العابدين(ع): ثلاث منجاة للمؤمن: كف لسانه عن الناس باغتيابهم، واشتغاله بنفسه بما ينفعه لآخرته ودنياه، وطول البكاء على خطيئـته.

مدخل:

تميز الإمام زين العابدين(ع) بتربية الأمة تربية روحية، من خلال إعطائه إياه جملة من الدروس الروحية، التي تضيء لها السبيل والطريق، فتكون بمثابة الضوء الذي يتبع في الحياة اليومية.

وتمثل الكلمة التي افتـتحنا بها المقام، واحدة من هذه العطاءات التي قدمها(ع)، للأمة، إذ نجد فيها الإشارة إلى بيان ثلاثة أمور تمثل السبيل الذي يمكن للمؤمن من خلاله النجاة في حياته الدنيا والآخرة.

ويمكننا تقسيم هذه الكلمة الشريفة إلى ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: الإشارة إلى الحقوق المعنوية.

النقطة الثانية: الموعظة بتذكير الإنسان بالآخرة.

النقطة الثالثة: التغذية الروحية من خلال البكاء على الخطيئة.

الحقوق المعنوية:

وقد أشار(ع) في المقطع الأول، إلى ما يميز النظرية الإسلامية في الحقوق عن النظريات الوضعية، ذلك أن النظريات الوضعية ركزت فقط على الجانب المادي، ولاحظت الحقوق من هذه الناحية فقط، دون ملاحظة منها للحقوق في الجانب المعنوي، وهذا بخلاف النظرية الإسلامية، فإنها كما لاحظت الجانب المادي للحقوق أيضاً، فقد لاحظت الجانب المعنوي، وهذا ما يشير إليه الإمام(ع)، من خلال قوله: كف لسانه عن الناس باغتيابهم، إذ أن صيانة كرامة الشخصية، يعدُ من أبرز الحقوق الإنسانية وأهمها بعد حق الحياة، وهذا يعني أن صيانة كرامة الأفراد وأعراضهم وحيثياتهم، وشرفهم في المجتمع وعدم الاعتداء عليهم من قبل الآخرين، من الحقوق التي ركز الإسلام عليها وأعتنى بها، فليس لأحد الحق على التعدي عليه، وانتهاكه.

وهذا المعنى قد عرض في النصوص الشريفة وبأساليب مختلفة، ويمكن جمعها جميعاً تحت عنوان كرامة المؤمن، وأنها أعظم حرمة عند الله من الكعبة، وأنه ليس لأحد أن يتعدى عليها أو يسعى لهتكها.

المنهج الإسلامي في الحفاظ على الحقوق المعنوية:

ولما لم يرض الإسلام بالتعدي على الحقوق المعنوية، أعتبر أن هتكها جريمة يستحق فاعلها العقوبة، وهو بهذا قد اختلف عن القوانين الوضعية، حيث أنها لا ترى انطباق عنوان الجريمة إلا على خصوص ما كان يتضمن تعدياً مادياً كالضرب أو القطع أو القتل، أما بالنسبة إلى التعدي على الكرامة أو الشخصية والحيثية، فإنها لا ترى ذلك جريمة يستحق فاعلها العقوبة، أما القانون الإسلامي، فإنه يحكم بكون ذلك جريمة يستحق فاعلها العقوبة والجزاء. ولذا وضع الإسلام منهجين لعلاج هذه المشكلة، أحدهما منهج علاجي، والآخر وقائي.

المنهج العلاجي للتعدي على الحقوق:

ونعني بالمنهج العلاجي ما يتضمن الإشارة إلى العقاب الذي يستحقه من تعدى على حقوق الآخرين المعنوية، حيث أننا نجد أن هناك تشريعات في الإسلام تضمنت النص على عقوبات منـتهكي الحقوق المعنوية، والمتعدين على كرامات الأفراد وشخصياتهم، فقد ذكرت في باب الحدود مجموعة من العقوبات تقام على هؤلاء، فعلى سبيل المثال، من اتهم شخصاً بالفساد دونما دليل على ذلك، فإن الإسلام يقيم عليه الحد الشرعي.

وكذا من اتهم شخصاً بالزنا من دون أن يقيم على ذلك بينة تامة تـثبت صحة مدعاه، فإنه يستحق إقامة الحد الشرعي عليه، وهكذا، وهذا كله يجمع في الفقه الشريف تحت عنوان القذف.

ومن الواضح أن الداعي لإقامة الحد أو العقاب على هؤلاء، مرده إلى أنهم قد عمدوا إلى انتهاك حرمة هذا لفرد، والتعدي على حيثيته.

ولا ينحصر الأمر في العقوبات الإسلامية للمتعدين على الحقوق المعنوية في خصوص ما كان متضمناً لحد شرعي، بل يشمل الأمر الموارد التي لم تـتضمن حداً معيناً، إذ أجاز الشارع المقدس للحاكم الشرعي أن يعين المقدار الذي يرتأيه بحسب المصلحة في العقوبة على ذلك الفرد، وهو ما يعبر عنه في الفقه بالتعزير.

الخطة الوقائية في العلاج:

ولم تنحصر معالجة الإسلام للمسألة في خصوص العقوبات الجزائية، بل تعدى إلى الأبعاد التربوية، بمعنى أن الإسلام قد تضمن الإشارة إلى ما يترتب على انتهاك كرامة الإنسان وعدم صونها، وهو ما يمكن تسميته بالخطة الوقائية، وذلك من خلال تركيز أمرين عند الأفراد:

الأول: الإشارة إلى الآثار السلبية التي تنجم عن انتهاك الحقوق المعنوية للأفراد، بالتعدي على كرامتهم، وعدم صونها واحترامها، ضرورة أنه لا يخفى على أحد ما لها من آثار سلبية، وتبعات غير مقبولة أصلاً، وهذه الآثار قد تكون تارة على نفس الأفراد المنـتهكين للحق المعنوي، من خلال كونها سبباً للنقص والكمال النفسي، فضلاً عن أنها تهدد السعادة في عالم الآخرة.

وهذا ما يسمى بعملية وعظ الإنسان وتخويفه من عمله الذي يقدم عليه بحيث أنه قبل أن يعمد إلى فعله يدرس الآثار السلبية المترتبة عليه، وما ينجم عن ذلك، إذ تضمنت النصوص الإسلامية أن المغتاب تعطى حسناته لمن اغتابه مثلاً، أو أن المتعدي على الآخرين، يأخذ من حسناته ويوضع في ميزان من تعدى عليه، وهكذا.

وهذا ما أشار له الإمام زين العابدين(ع) في مطلع كلمته الشريفة التي افتـتحنا بها المقام، إذ أن سبيل نجاة المؤمن ببقاء حسناته عنده، طريقه إلى ذلك تركه التعدي على كرامات الأفراد، وانتهاك شخصياتهم.

وتارة أخرى تـترك التعديات على الحقوق المعوية للآخرين، أثرها على المجتمع نفسه، وذلك بتفكك أفراده، وانقطاع علاقاتهم مع بعضهم البعض، إذ أن المجتمع كلما كانت علاقاتهم قائمة على الود والمحبة، كان ذلك سبيلاً لزيادة الأنس بينهم، مما يحقق أهداف الحياة الاجتماعية بشكل أفضل.

الثاني: من خلال دعوة الإنسان إلى التفكير في دواعيه للإقدام على ما أقدم عليه، ولماذا أقدم على الاعتداء على شخصيات الآخرين، وانتهك كرامتهم، وبعد التعرف على الدوافع، والدواعي يعمد إلى علاجها. فعلى سبيل المثال، لو أردنا أن ندرس الغيـبة وهي التي وردت في كلمة الإمام(ع)، لوجدنا أن هناك عدة دواعي تكون سبباً لإقدام الأفراد على الوقوع في هذا المرض، وبالتالي التعدي على حقوق الآخرين، وانتهاك حيثياتهم، إلا أننا لو تعمقنا كثيراً لوجدنا أن السبب الأساس في قضية الغيـبة يعود لمسألة نفسية، وبالتالي نحتاج إلى علاج هذه المسألة، واجتـثاثها من جذورها حتى يمكن للإنسان أن يـبتعد عن هذا المرض، ويخرج من دائرته.

الموعظة ودورها على الإنسان:

ولما كان الإمام زين العابدين(ع) يعلم أن الموعظة وسيلة من وسائل إحياء القلب، فلاحظ قوله تعالى:- (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)[1]، ويقول أمير المؤمنين(ع): المواعظ حياة القلوب[2]، نراه يقدم إلى المؤمن موعظة من خلاله دعوته إلى الاشتغال بما يكون مفيداً له في آخرته ودنياه. وهذا المعنى من الوضوح بمكان ذلك أن كل واحد منا على علم ومعرفة بأن هناك قيامة وهناك حساباً، وهناك جزاء وفقاً لما يقدمه الإنسان من عمل في كتاب أعماله، فإن كانت أعماله حسنة، كان ذلك سبباً للنجاة، أما لو كانت أعماله غير حسنة، أو رجحت سيئاته على حسناته، كان ذلك سبباً لاستحقاقه النار، واستقراره في العقوبة.

ومن الواضح أن الطريق للانتفاع يوم القيامة يتم بواسطة الاستفادة من عالم الدنيا، ذلك لأن الدنيا مزرعة الآخرة، فما لم يعمل الإنسان في الدنيا لن يكون ناجحاً في الآخرة، وكما ورد في كلمات جملة من العرفاء أن الإنسان في عالم الدنيا بمثابة التاجر، فكما أن التاجر يحتاج إلى الحفاظ على رأس ماله، فكذلك الإنسان بحاجة إلى الحفاظ على عمره، وعدم إفنائه فيما لا ينبغي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:- (إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)[3].

لكن هذا كله لا يعني أن يتحول الإنسان إلى شخص بعيد عن الانتفاع بالدنيا، بمعنى أن الاستعداد للآخرة لا ينسي الإنسان نصيـبه من الدنيا، بل للإنسان أن ينـتفع بما هو حلال منها، وقد أشير لذلك في قوله تعالى:- ( ولا تنسى نصيبك من الدنيا)، كما أن جميع الذموم التي وردت في ذم الدنيا، ناظرة إلى ما إذا صارت أكبر هم الإنسان بحيث شغلته عن ربه، وأنسته إياه.

التغذية الروحية:

وقد عمد الإمام(ع) إلى استخدام هذا الأسلوب، وذلك لأن الأمة لما تولى الإمام(ع) القيام بمسؤوليتها كانت تعيش حالة من الجفاف الروحي، بل غير بعيد أنها كانت تعيش حالة من النكوص الروحي، ويراد منه انحراف الحالة الروحية والمعنوية للأمة.

وهذا دعى الأمام(ع) إلى أن ينـتهج منهجاً يعمد من خلاله إلى علاج هذه الحالة التي تعيشها الأمة، وبالتالي يقوم بعملية إصلاح شأنها، وذلك من خلال تغذيتها روحياً، وهذا المعنى يراه المتابع لأدعيته(ع) إذ يجد فيها كيفية عمده إلى معالجتها روحياً، فيستفاد أنه ركز على أسباب تعد بمثابة الأساس الذي يمكن من خلاله بلوغ المرئ حالة الألق والاستنفار الروحي، وتجديد علاقته مع ربه، فذكر أن ذلك يتم من خلال علاج المشكلة، وكذا من خلال الإقرار بالذنب.

ومن الأسباب التي ركز عليها الإمام(ع) لعلاج هذه الحالة الروحية التي كانت تعيشها الأمة، مسألة البكاء على الذنب، بل إطالة البكاء عليه، وليس مجرد البكاء، فأشار(ع) في الكلمة المتقدمة إلى ذلك، إذ قال: وطول البكاء على خطيئـته.

البعد التربوي للبكاء:

هذا ويعتقد كثيرون أن عملية البكاء لا مبرر لها، ضرورة أنها لا تنسجم والناحية التي يحتلها الإنسان، إذ ربما كان شخصية مرموقة، ذات طابع مميز، يميزها على بقية الأفراد.

وربما كانت دواعي رفض البكاء، ليست النظرة السابقة، بل دوافعه أمر آخر وهي أنه ما هي الفائدة المرجوة من القيام بهذا العمل، وما هو الأمر المترتب على ذلك، إذ أن الإنسان قد أخطأ وارتكب المعصية، فلا معنى لأن يكرر البكاء، بل إن البكاء ربما كان يسبب حاجزاً مانعاً له من التوبة، لأنه سوف يـبقى يعيش حالة من العقد النفسية، التي تجعله يـيأس من قبول توبته من الله سبحانه وتعالى.

لكن هاتين النظرتين سطحيتان جداً، إذ أنهما تنظران من زاوية ضيقة، أما الإمام زين العابدين(ع)، فإن نظرته أعمق وأبعد، فهو يعمد إلى تربية الإنسان على أمر أساسي، وهو تذكير الإنسان بكونه شخصية ضعيفة أمام الشيطان والشهوات، وما دام كذلك، فلابد له من أن يسعى إلى تحصين نفسه أمام هذين العنصرين اللذان يدعوانه إلى الخطأ، وهو بهذا كأنه يريد أن يشير إليه بأنك ترتكب الخطأ فينبغي عليك أن تعمد إلى تحصين نفسك مقابله، بحيث تأمن الوقوع فيه مرة ثانية، لأن من الواضح أن من عرف الداء، سعى لتحصيل الدواء، وهذا ما أراده الإمام زين العابدين(ع)، فهو عندما يذكر الإنسان بضعفه أمام الشيطان والشهوات، كأنه قد شخص له الداء، فصار لازماً عليه أن يسعى للبحث عن الدواء.

——————————————————————————–

[1] سورة يونس الآية رقم 57.

[2] غرر الحكم رقم 321.

[3] سورة العصر الآيتان رقم 2-3.