29 مارس,2024

الفتح الحسيني

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدخل:

كان الإمام الحسين(ع) يعتقد في نهضته بأنه فاتح منصور، وذلك لما في شهادته من إحياء لدين الرسول الأكرم محمد(ص)، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأمة أنهم(ع) أحق بالخلافة من غيرهم.

وقد أشار(ع) إلى هذا المعنى في كتابه الذي بعثه لبني هاشم: من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام[o1] .

فإنه لم يرد بالفتح، إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال، وكسح أشواك الباطل، عن صراط الشريعة المطهرة، وإقامة أركان العدل، والتوحيد، وأن الواجب على الأمة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدين(ع) لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله لما قال له حين رجوعه إلى المدينة: من الغالب؟!!!

فقال الإمام زين العابدين(ع): إذا دخل وقت الصلاة، فأذن وأقم، تعرف الغالب.

الفتح عبارة عن المبادئ:

عندما نقف لنـتأمل في الفتح الذي عناه الإمام الحسين(ع) في نهضته الباركة، وفي رسالته الآنفة الذكر، فضلاً عن النصر الذي عناه إمامنا زين العابدين(ع) في المقطع السابق، فأي فتح هو الذي عناه(ع)، وأي نصره هو الذي أراده الإمام(ع)!!!

في الحقيقة إن الفتح المعني في كلمة الإمام الحسين(ع) والنصر المشار إليه بما ذكره الإمام السجاد(ع)،، هو انـتصار المبادئ والقيم التي خرج الإمام الحسين(ع) من أجل إحيائها، وقد تألقت الدنيا بتضحيته الكبرى، فأصبح اسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمة دون أمة، ولا لطائفة دون أخرى، وإنما هي ملك للإنسانية الفذة في كل زمان ومكان، فأي فتح أعظم من هذا الفتح، وأي نصر أسمى من هذا النصر.

عطاء الفتح الحسيني:

وعندما نود ملاحظة تلك الآثار والعطاءات التي نجمت عن الفتح الحسيني، نجدها متعددة الجوانب، بحيث يمكننا أن نلحظها من خلال المراحل الزمانية المتعددة.

يوم عاشوراء:

في يوم عاشوراء بدئاً من صباحه، مروراً بتلك المعركة الحامية بين الحق والباطل، وبين الإنسانية واللانسانية، بين الفضيلة، والرذيلة، بين القيم والمبادئ الخلاقية العالية، والانتهازية، نجد عدة عطاءات:

منها: الفصل بين الأموية والإسلام:

لا يخـتلف اثنان من المؤرخين على الآثار الوخيمة التي أصيـبت بها الأمة نتيجة وجود معاوية بن أبي سفيان على قيادتها، فضلاً عن الإضلال الذي واجهته الأمة أبان حكمه، وكل ذلك كان بعنوان الدين نفسه، فيكفينا أنه سعى إلى التعتيم على ذكر أهل البيت(ع) ومحو فضائلهم، مضافاً إلى وضع الأحاديث المكذوبة على لسان النبي(ص)، فضلاً عن قيامه بعملية تخدير الأمة المسلمة عن القيام والنهوض ضد الظلم، من خلال تأسيس فرق دينية تقدم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الأمويـين، وتبرر أعمالهم، كما في مذهب الجبر، ومذهب الإلجاء، وقد ساعده على ذلك الأسلوب الذي انتهجه في عملية تمزيق الأمة قبلياً وطبقياً، هذا كله فضلاً عن اضطهاد الشيعة اضطهاداً كبيراً جداً.

وبمرور الزمن، وتقادم الأيام، انخدع البسطاء من الأمة، حتى تصوروا أن حكم معاوية بن أبي سفيان وتسلطه على رقاب الأمة حكم شرعي، وأنه امتداد للخلافة الإسلامية بعد رسول الله(ص)، وأنه إمام هذه الأمة.

إن هذه النـتائج التي وصل إليها الحكم الأموي، جعلت معاوية حريصاً كل الحرص على الحفاظ على هذا الإطار الديني الذي تلبس به عن طريق الجهد الطويل في المكر والخداع.

وما كان من سبيل لتحطيم هذا الإطار الديني الزائف، إلا بنهضة مباركة يقوم بها شخصية فذة، ذات مركز ديني مسلّم به عند الأمة الإسلامية، بحيث لا يخـتلف عليه أحد منها،سواء في جانب فضله، وعمله وتقاه وورعه.

إذ أن ثورة هذا الرجل كفيلة بأن ترفع الغطاء الذي يرتديه الأمويـيون، وتفضح الزخرف الديني الذي يتظاهر به حكامهم، فتكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليته، وتبرز مدى بعده الكبير عن مفاهيم الإسلام.

ولم يكن ذلك الرجل إلا الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(ع)، فقد كان له في قلوب الأكثرية القاطعة من المسلمين، بل المسلمين الحقيقين كافة، رصيد كبير من الحب والإجلال والتعظيم، إما لقربه من رسول الله(ص)، أو لصفاته النفسانية التي ميزته بين كافة من عاصره، وقد رحل أخوه الحسن الزكي(ع)، أو لكلا الأمرين.

سياسة معاوية مع الحسين:

هذا ولعل التاريخ يشير لنا إلى أن معاوية بن أبي سفيان كان ملتفتاً إلى هذه الحقيقة، ولذا كان يتحاشى أية مواجهة علنية مع أبي عبد الله الحسين(ع)، بل كان يجتهد في الحيلولة دون قيام الإمام(ع) بالمراقبة الشديدة، والمداراة.

بل كان يبرز أنه لو حصل وقام الإمام الحسين(ع) ضده، وظفر به، فإنه سوف يصفح عنه كما تشير لذلك بعض النصوص، وما ذاك إلا إدراكاً من معاوية بأن سفك هذا الدم الطاهر المقدس، حماقة كبرى، كفيلة بتعرية الحكم الأموي عن كل الزيف الذي تلبس به.

يزيد يرتكب الحماقة:

لكن خلف معاوية لم يكن بمستواه في الدهاء والمكر والخديعة، ولذا وقع في المحذور الذي كان معاوية تحاشى الوقوع فيه، طيلة مدة من الزمن غير قصيرة، فأقدم يزيد على الحماقة، فسفك الدم الطاهر المقدس للإمام الحسين(ع) على أرض كربلاء الشهادة والشرف.

وقد كانت هناك أسباب عدة دعت يزيد للإقدام على مثل هذه الحماقة، لعل أهمها وأبرزها، ما أشرنا له من افتقاره إلى الدهاء والحنكة السياسية اللذين كان يتمتع بهما والده معاوية.

تعرية الأمويـين عن الإسلام:

وعندما نقرأ ملف عاشوراء، عندما تبدأ المعركة على أرض الطف، نجد كيف ينكشف الأمويـين على حقيقتهم، بعدما يقومون بنـزع أقنعتهم الزائفة، فيظهرون على واقعهم المخفي، بأنهم أناس بعيدين كل البعد، ليس عن المبادئ والقيم الإسلامية، وإنما بعيدين حتى عن أبسط مقومات الإنسانية، إذ لم يرض هؤلاء الأجلاف من الإمام الحسين(ع) وصحبه الأطهار، إلا بالقتل، وفي وضح النهار، لكن بعد سلسلة من الأعمال المنافية للإنسانية، إذ منعوا الحسين(ع) وأصحابه الكرام، وأهله ونسوته وأطفاله الماء، حتى مضوا عطاشى، حتى الطفل الرضيع.

وهل اكتفى هؤلاء بذلك، بل عمدوا إلى تلك الأجساد الطاهرة الزاكية، فرضوها بحوافر الخيل، ثم عمدوا إلى تلك الأخبية التي طالما عمرت بذكر الله تعالى، وكثر فيها الأنين خوفاً من النار، وطالما علت فيها رنات المناجاة، فأضرموا فيها النار على أهلها، ليحترق فيها الأطفال والنساء.

وليتهم اكتفوا بذلك، بل لما أن أصبح الصباح جاءوا بنياق عجف، بلا وطاء، وسبوا بنات الرسالة، بنات علي(ع)، وسبطات محمد(ص)، على الوجه المعروف، حاسرات بلا غطاء، وعمدوا إلى الرؤوس فقطعوها عن الأجساد ثم احتملوها على أسنة الرماح، وأهدوها لأجلاف بني أمية، وطافوا ببنات الرسالة سبايا على تلك الحالة، من بلد إلى بلد.

كل هذه الأعمال الوحشية، كفيلة بتجريد بني أمية من كل صبغة دينية، وإنسانية، بل هي كفيلة كما قلنا، على أن تظهرهم على حقيقتهم المضادة للدين والإنسانية.

لقد كانت الرؤوس والسبايا، وأحاديث الجنود العائدين جلائل حية، بليغة الأداء، قوضت كل ركيزة دينية موهومة للحكم الأموي في نفوس المسلمين.

الحسين يحرج بني أمية:

ولقد أحرج الإمام الحسين(ع) الأمويـين يوم عاشوراء، قبل أن تنكشف للأمة حقيقتهم، وكذبهم الزائف، بل زاد موقفهم حراجة، إذ لم يصر على القتال، ولم يـبدأهم به، وقد أعطاهم(ع) الفرصة ليتقوا بها ارتكاب قتله، وقتل آله وصحبه، ولكنهم أبوا إلا ارتكاب قتلهم، وأصروا على ذلك، فزادهم ذلك فضيحة وخزياً في المسلمين.

لقد عمي الجيش الأموي، يوم عاشوراء، وتمادى في حماقته الكبرى في كربلاء الإباء، فغفل عن أنه يقاتل شخص رسول الله(ص) في شخص الإمام الحسين(ع).

لقد كان غرض الإمام الحسين(ع) يوم عاشوراء هو فضح بني أمية، ولذلك استغل(ع) إصرارهم على قتله، وامتناعهم عن الاستجابة لاقتراحاته استغلالاً رائعاً في احتجاجاته في ذلك اليوم، لفضحهم، ولكشف عدائهم للإسلام نفسه، فأظهر(ع) لكل مشاهد من ذلك الملأ الكبير الحاضر على أرض كربلاء الشهادة والتحرير، حقيقة نفاق الأمويـين، ثم انتشرت بعد ذلك أنباء فجائع وقائع يوم عاشوراء الخالد في كل الأمة، ليتحقق بذلك هذا الأفق الكبير من عطاءات الفتح الحسيني، في فصل الأمويـين عن الإسلام.

ولا يخفى أنه لو لم تكن واقعة الطف الخالدة، لواصل بنو أمية حكمهم للأمة الإسلامية، باسم الدين، حتى يترسخ في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين، أنه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدث به الأمويون، ويؤخذ عنهم، وعندها فعلى الإسلام السلام.

وقد كان من بركات العطاء الحسيني، دفع ما كان يتوهم عند بعضهم أن زوال حكم بني أمية في يوم من الأيام يمثل زوال الإسلام، ذلك لما كان مترسخاً عند ضعاف النفوس من شرعية حكم الأمويـين كما عرفت.

ونهضة الحسين(ع) في عاشورا الشهادة، فتحت الباب لثورات أخرى تقوم منادية باسم الإسلام، ومشيرة إلى افتقاد السلطة الأموية للإسلام مبادئاً وقيماً وتعاليماً.

عاشوراء بداية نهاية حكم الأمويـين:

من الواضح أن واقعة كربلاء المقدسة، قد أثارت موجة رهيـبة من الاستنكار والرفض والقلق النفسي والشعور بالإثم، عند الأمة.

وقد سيطرت هذه الموجة على نفوس المسلمين، أفراداً وجماعات، فدفعتهم إلى العمل السياسي، والتكتل الاجتماعي للإطاحة بالحكم الأموي.

وقد حفل التاريخ منذ عاشوراء، إلى سقوط حكم الأمويـين، بالعديد من الانتفاضات والثورات، فردية، وجماعية، قامت ضد الحكم الأموي، وقد كان لثورة الحسين(ع) ونهضته الخالدة الأثر في كل منها.

ومنها: الإسلام حسيني البقاء:

إن نهضة الحسين(ع) وحركته الإصلاحية في الأمة، تمثل في هدفها وشعارها ورسائلها وبياناتها، وأخلاقياتها نهضة الإسلام المحمدي الأصيل للتحرر من كل رواسب الجاهلية التي علقت به، نتيجة السقيفة، التي مكنت حركة النفاق من التحكم في رقاب المسلمين.

ولأجل هذه الوحدة الوجودية بين الحقيقة الإسلامية، والحقيقة الحسينية، امتدت عاشوراء في الزمان والمكان، فكان: كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء.

ولهذا غدت كل نهضة إسلامية حقة بعد عاشوراء القداسة، تجد في ثورة الإمام الحسين(ع) نبراسها، وتجد نفسها امتداداً لتلك الثورة المقدسة.

وفي المقابل غدت كل ثورة تدعو إلى الضلال الأموي، تجد نفسها عدوة للإمام الحسين(ع)، وعدوة للإسلام المحمدي الخالص، والشواهد على هذه الحقيقة تمتلئ بها صفحات تاريخنا الماضي والحاضر.

ولعل هذه الوحدة الوجودية بين الإسلام المحمدي الأصيل، وبين الإمام الشهيد(ع)، تفسر لنا شيئاً من أسرار تركيز أئمتنا(ع) على عاشوراء، وتـثبـيت دعائمها، ونشر أفاقها ما وسعتهم الفرصة، وسنحت لهم الظروف، من خلال توجيه الأمة توجيهاً مركزاً وشدها شداً محكماً إلى سيد الشهداء(ع)، من خلال تأكيداتهم المتواصلة على عزاء الحسين، وعلى زيارته(ع).

سر تأكيد الأئمة على عزاء الحسين:

لا يمكننا أن نفسر تأكيدات الأئمة(ع) المتلاحقة على زيارة قبر الإمام أبي عبد الله(ع)، بخصوص المثوبات العظيمة التي وعد الله سبحانه وتعالى عاملها، كبقية الأعمال التعبدية فقط، وإن كان لسان جلّ هذه النصوص الواردة في هذه المسألة يقتصر على ذكر المثوبة فقط، بل لابد في تفسيرها من النظر أيضاً إلى الآثار الأخرى المتـرتبة على عزائه(ع)، وعلى زيارته.

ولعل إعراض المعصومين(ع) عند التعرض لمسألة الزيارة عن بيان الآثار الأخرى المقصودة من ورائها، يعود للظروف الخانقة التي كانوا يعيشون فيها، بحيث كانت تمنعهم عن مثل التصريح بمثل ذلك.

آثار الزيارة والعزاء:

وعلى أي حال، هناك عدة آثار لا يـبعد أن أئمتنا(ع) كانوا ينظرون لها في النصوص التي وردت في الحث على الزيارة للقبر المقدس للمولى أبي عبد الله(ع)، نشير لبعض منها:

الأول: الأثر التربوي:

المنشود من وراء العزاء والزيارة خاصة، ومن وراء الشعائر الحسينية الأخرى عامة، إذ أن صناعة الإنسان الحسيني المؤمن الحر الأبي البصير القاطع الصلب المتأسي بمناقبية الإمام الحسين(ع)، وأنصاره الكرام لا تكون إلا في ملحمة عاشوراء.

الثاني: التغير الفكري والروحي في الأمة:

الناشئ عن العزاء والزيارة خاصة، وعن الشعائر الحسينية الأخرى بشكل عام، خصوصاً في الفترة الزمنية السابقة من يوم وقوعه شهيداً على بوغاء كربلاء الشهادة إلى زمن الغيـبة الصغرى، حيث كانت الزيارة والعزاء في تلك الفترة الزمنية يمثلان رفض السلطة الحاكمة، وإعلان البراءة منها، والخروج عليها والتصدي لأنواع نكالها وبطشها.

ولعل هذا يفسر لنا الاعتداءات التي تعرض لها القبر الشريف، حيث تم الاعتداء عليه غير مرة، فقد كربه والي الكوفة في زمن هارون الرشيد، كما كربه المتوكل الخليفة العباسي، رغبة في انطماسه، وإندراسه.

هذا فضلاً عما تعرض له هذا المكان الطاهر من عمليات إجرامية من بعد تلك الفترة، وعلى أيدي أشخاص متعددين.

وبالجملة إن منشأ خوف الطغاة من هذا القبر، ورعبهم من صاحبه(ع) يؤكد ما ذكرناه من قبل من وجود وحدة وجودية بين الإسلام المحمدي الأصيل، وبين الفتح الحسيني، حيث صار بقاء الإسلام المحمدي رهيناً ببقاء عاشوراء الحسين(ع)، نبراساً وقدوة لكل حركة إسلامية، وانتفاضة حقة.

——————————————————————————–

[o1]كامل الزيارات باب 24 ح 15 ص 75.