الاختيار والانتخاب

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
86
0

مدخل:

هناك مقولة مشهورة تـتردد على الألسن دائماً، وقد وردت الإشارة إليها في جملة من النصوص القرآنية، وكذا النصوص المعصومية، إما بالتصريح، وإما بالتلويح، بمعنى أنها أشير لها من خلال ما يؤدي معناها.

وتلك المقولة التي تـتردد دائماً، هي أن الإنسان مختار، أو أن الإنسان مخير وليس مسيراً، وما شابه ذلك من المضامين التي تؤدي نفس هذا المضمون.

فما هو معنى الاختيار، وماذا يراد منه؟…

مفهوم الاختيار:

للاختيار معنيان، أحدهما في اللغة، وأحدهما في الاصطلاح.

أما معناه في اللغة، فقد جاء في كتاب لسان العرب لابن منظور وكذا في الصحاح أنه عبارة عن الاصطفاء[1].

وجاء في النهاية لابن الأثير أنه طلب خبر الامرين، أو الأمور[2].

وهو في الاصطلاح يستعمل في موارد متعددة، نشير إلى جملة منها:

منها: في مقابل الاضطرار:

حيث أن الفقهاء في الفقه يفتون بأنه لا يجوز للمكلف أن يأكل لحم الميتة، إلا أنهم يستـثنون ذلك في حالة الاضطرار، بمعنى أنه لو كان في عدم إقدامه على الأكل خطر على حياته، أو أوجب ترك أكلها ضرراً بليغاً عليه، فإنه يجوز له تناولها.

من هنا يقال: أن حرمة الأكل عليه في حال الاختيار، لأنه ساغ له ذلك في حال الاضطرار.

ومنها: في مقابل الإكراه:

إذا أقدم الإنسان على فعل من الأفعال، لكنه لم يكن راغباً فيه، أو أنه لم يكن مريداً له فلا إشكال في أنه لن يصدر الفعل منه باختيار منه، بل سوف يصدر منه بسبب الإلجاء والإجبار، كما لو أُلزم بأن يشرب المسكر، وأُنذر بأنه لو لم يقدم على شربه فسوف يتعرض لضرر شديد، فهنا يقال بأن هذا مكره، وليس مختاراً، حيث أن المختار هو من تصدر منه جميع المقدمات المؤدية إلى صدور الفعل لكن باختيار منه وإرادة.

ومنها: في مقابل الجبر:

لأن الإنسان قد يقوم بفعل عمل معين برغبته وإرادته من دون أن يتعرض لأي ضغط من الضغوط، وهذا يعني أن الفعل الصادر منه قد صدر منه عن قصد، لأنه قد صدر منه برضى ورغبة.

أما لو كان الفعل الصادر من الإنسان مفتقداً لشيء مما ذكرناه، فلا ريب في أنه سوف يكون مجبوراً عليه.

ومنها: الاختيار بمعنى الانتخاب:

وهو ما إذا كانت أمام الإنسان مجموعة من الخيارات، وليس له إلا الحق في أخذ جملة منها، وليس كلها، فمتى قام باختيار جملة منها سمي هذا بالانتخاب، لأنه اختار وانتخب تلك الجملة. كما لو رغب الشاب في الزوج، فقد جرت العادة أن تعرض عليه جملة من الفتيات المؤمنات، وهو يقوم بانتخاب واحدة منهن، وفق مجموعة من الأمور يرتأيها، وهكذا في غير ذلك من الأمور.

أهمية الاختيار في الإسلام:

ثم إن الإسلام يعدُّ الاختيار واحداً من العناصر الدخيلة في جملة من الأمور، كما أنه دخيل في جملة من الطروحات والقوانين الإسلامية.

الاختيار في الأحكام الشرعية:

فمن تلك الموارد، مدخلية الاختيار في جملة من الأحكام الشرعية، إذ أنها تـترتب عليه، ولا بأس بالإشارة إلى جملة منها.

الاختيار في التكليف:

من المعلوم أن التكاليف الإلهية تدور مدار اختيار الإنسان، وهو هنا ما يكون مقابلاً للجبر والإكراه.

أما الاختيار المقابل للجبر، فمن الواضح أن العقل يحكم بقبح التكليف بما لا يطاق، ولا ريب في أن المجبور على الإفطار في نهار شهر رمضان المبارك، يكون معذوراً، لأنه لا يطيق التكليف بالاجتناب بسبب إجباره.

وأما بالنسبة للاختيار مقابل الإكراه، فلأن النصوص قد وردت في أن كل فعل صدر من المكلف وقد أكره على فعله، فهو مرفوع عنه، بمعنى أنه لا يستحق عليه العقاب، قال(ص): رفع عن أمتي تسع: ما لا يعلمون-إلى أن قال-وما أُكرهوا عليه.

وعلى هذا فكل تكليف أُكره عليه الإنسان لا يترتب عليه أثر من الآثار التكليفية والوضعية، إلا في خصوص حالة واحدة وهي في قتل النفس المحترمة.

مدخلية الاختيار في امتثال التكليف:

وكما أن الاختيار شرط في التكليف، فكذلك هو مقوم للفعل الصادر من المكلف، بمعنى أن صحة أي فعل من المكلف أكان فعلاً عبادياً كالصلاة أو الصوم أو الحج، أم كان معاملاتياً، كالبيع أو النكاح أو الطلاق، يتوقف على كون الإنسان قاصداً ومريداً للفعل الصادر منه، فالقصد والإرادة أمران مقومان للفعل الصادر من المكلف، فلو لم يكن قاصداً، أو لو لم يكن مريداً، لن يكون للفعل الصادر منه أدنى قيمة، وهذا يعني أن نسبة الصلاة أو البيع إلى المكلف تـتوقف على كون صدور الفعل منه مقصوداً، فلو لم يكن كذلك، لن تصح نسبته إليه.

هذا كله بالنسبة للاختيار المقابل للجبر، ونتيجة ذلك أن الاختيار بهذا المعنى يكون مقوماً للفعل، أي أن الفعل لا يتحقق من دون وجوده.

أما بالنسبة للاختيار الذي يكون مقابلاً للإكراه، فإنه ليس شرطاً مقوماً للفعل الصادر، بل هو شرط صحة، أي أن الفعل يتحقق من دونه، ولا يتوقف وجوده عليه، نعم لا يحكم عليه بالصحة دونما وجوده، فلو لم يكن في هذه الحالة مختاراً لن يحكم بكون الفعل الصادر صحيحاً.

فلو كانت الفتاة مكرهة على القبول بهذا الزوج، فهذا يعني أنها غير مختارة وبالتالي تـتوقف صحة النكاح على قبولها، فإن قبلت كان النكاح صحيحاً، وإن لم تقبل كان النكاح باطلاً، وهكذا أيضاً لو أقدم شخص على تطليق زوجته مكرهاً، وكذا لو أقدم شخص على بيع داره مكرهاً.

الاختيار في باب النكاح:

هذا وهناك حكم ينصب أيضاً على الاختيار، لكنه يخـتص بباب النكاح، ويخـتص بخصوص الزوج، فلا مجال لتطبيقه على غيره، كما أنه ليس مطبقاً على كل زوج زوج، بل على بعض الأفراد من الأزواج، وهو من أسلم وكان متـزوجاً بأكثر من أربع زوجات، فإنه يخير بين أن يطلق ما زاد على الأربعة، ويـبقي على ذمته أربعاً منهن فقط.

وكذا أيضاً لو أسلم وكان متـزوجاً بعمة وأبنت أخيها، أو بخالة وأبنت أختها، فإنه يخير بين تسريح واحدة والإبقاء على الأخرى.

وكذا أيضاً لو أسلم وكان تحته أختين، فإنه يخير بين تسريح واحدة والإبقاء على الأخرى.

نعم يشترط في جريان هذا الحكم من الاختيار أن تكون النساء الأربع مسلمات، أو أن يكن كتابيات بناءاً على جواز نكاح الكتابية للمسلم، كما هو قول بعض الفقهاء.

اختيار الزوجة الصالحة:

وهناك أيضاً حديث عن الاختيار في انتخاب الزوجة الصالحة التي تكون مستجمعة لمجموعة من الشروط، والحث على ذلك من قبل الشارع المقدس.

وينبغي لشبابنا المؤمن أن يلتفت إلى ذلك عند إقدامه على الزوج، وأن يسعى إلى طلب المواصفات الإيمانية قبل السعي إلى المواصفات الجمالية، ولا أظن أنني بحاجة إلى الحديث في هذا المجال، إذ لا ريب في أنه قد أشبع الحديث عنه وفي مجالات متعددة.

الاختيار في التعبير والفكر:

إذ أن الإسلام يعطي للإنسان حرية التعبير عن مرأياته وفق ما يراه هو ووفق مجموعة من الأطر والشروط نأتي على ذكرها، فللإنسان حق التعبير عن ذلك بإحدى وسائل التعبير من اللسان، أو الكتابة، أو من خلال حركة معينة، بل بأي وسيلة يتسنى له أن يظهر من خلالها رأيه ويبرز للآخرين.

كما أن للإنسان الحق في أن يتبع الفكر والمنهج الذي يرتأيه، ويرى صلاحه في اتخاذه، مع مراعاة جملة من الشروط.

قيود الاختيار في التعبير:

نعم قلنا بأن الاختيار في التعبير بالرأي، لابد فيه من ملاحظة مجموعة من الشروط، نحصرها في ثلاثة:

الأول: مراعاة القيود الأخلاقية، وهي تلك القوانين التي تفرضها القوانين الأخلاقية المشرعة من قبل الدين، كعدم الحق لأحد أن يعمد إلى إهانة أحد، أو أنه لا يسوغ لأحد أن يقوم بإفشاء سر الغير، أو أنه لا يسمح بالترويج للسلوكيات المنحرفة، وما شابه ذلك.

الثاني: القيود العقائدية، فلا يجوز للمسلم أن يقوم بإظهار ما يخالف العقيدة الإسلامية، بإبراز أسس مخالف لأسسها.

الثالث: مراعاة القيود الاجتماعية، وهي ما يرى المجتمع لزوم وجوده في وسطه، من عادات وتقاليد، ما دامت تلك الأمور لا تـتنافى مع الشريعة الإسلامية.

نعم ينبغي التنبيه على أن الإطروحات التي نادى بها الحداثيون من القراءات المتعددة للدين، بأن للدين قراءات مختلفة، فلا يجوز لأحد أن يدعي أنه يملك الحقيقة.

ليست في الحقيقة من الاختيار في الفكر في شيء، بل هي بعيدة عن ذلك بعداً تاماً، ضرورة أنها منفية بحكم الدين نفسه، ولسنا بحاجة للحديث عن ذلك، إذ أن له مجالاً آخر.

الاختيار في مجال الفكر:

وكما ذكرنا بأن هناك اختيار في مجال الفكر، أو قل حرية فكرية، فينبغي أن نشير إلى مجالات في الأطروحة الإسلامية، كي ما يكون المدعى مبرهناً وصادقاً، فنقول:

هناك مجالات أشير لها جرت فيها الحرية الفكرية، أو الاختيار الفكري:

منها: الحرية في مجال العقائد:

لأن الإسلام طالب بالبحث العلمي والفكري، من خلال رفضه للتقليد في العقيدة.

ومنها: الحرية في المجال الفقهي:

فقد دعى الإسلام الإنسان إلى السعي للوصول لما مطلوب منه من قبل الله سبحانه وتعالى، من خلال بذل الجهد الفكري لإثبات ذلك.

ولا يخفى أن هذا حال عدم وجود المعصوم، كما في عصر الغيبة المظلمة اليوم.

ومنها: الحرية في الجانب العلمي التجريبي:

وهي ما تكون مرتبطة بالعلوم الطبيعية، وهي من الموارد التي تكون الحرية والاختيار فيها للعقل والعلم، إذ لم يتدخل الإسلام فيها إلا نادراً.

ولابد في هذا الاختيار من أن يكون غير مصطدم مع الدين، ولا مع القيود الأخلاقية والاجتماعية.

الاختيار في السياسة:

وهي ما يمكن أن يعبر عنها أيضاً بالحرية السياسية، ولا ريب في أنها عبارة عن أمر ممزوج بين الحرية الفكرية، والحرية السلوكية، ونعني بالحرية السلوكية حرية التعبير عن الرأي في المسائل المطروحة، أو اتخاذ وجهة نظر في أمر معين، أو انتخاب من يود انتخابه دون البقية، وهكذا.

وهذه الحرية قد تكون إيجابية، كالمشاركة في الانتخاب، أو أي نشاط يساهم في تطوير الواقع الحياتي للأمة من خلال عرض وجهات النظر وبيانها، في أي مجال منا لمجالات، سواء كان اجتماعياً، أم كان اقتصادياً، أم كان تعليمياً، وهكذا.

وقد تكون هذه الحرية سلبية، كالامتناع عن المشاركة، أو من خلال الإضراب، أو القيام بالمظاهرات، وما شابه ذلك.

ولا ريب في أن الحرية السياسية من الحقوق المشروعة، إذ أن لكل فرد من الأفراد حق التأثير وإبداء الرأي في أي موقع من المواقع التي تكون الأمة فيها بحاجة إلى التفويض.

مشروعية الاختيار في السياسة:

هذا ويدل على ثبوت حق الاختيار في السياسة مجموعة من النصوص الصادرة عن أهل بيت العصمة(ع)، فمن ذلك ما جاء عن أمير المؤمنين(ع)، أنه قال: فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب[3].

ومن الواضح أن تقديم المناصحة لا تكون إلا إذا توفرت حرية التعبير عن الرأي في المشروع السياسي، وكان هناك اختيار للصحيح منه من الخاطئ.

وجاء عنه(ع) قوله: ولا تـتحفظوا مني بما يتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استـثقالاً في حق قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي فإنه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يفرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل[4].

ومثل هذا المضمون ورد في عهد مالك الأشتر(رض)، وقد ذكرنا غير مرة أن هذا يعدّ دستوراً متكاملاً في منحى الحكم والدولة، وجميع ما يتعلق به.

الانتخابات البلدية:

هذا ومن المشاريع المطروحة على الساحة اليوم مشروع الانتخابات البلدية، وربما يحجم الكثير من الأخوة عن الإقدام على هذا الأمر، وربما كان منشأ الإحجام أمور:

منها: من ينظر إلى أن هذا العمل ربما كان يفتقر إلى المشروعية، ذلك لكونه نحو تعاون مع الظالم، وبالتالي هو ممنوع.

ومنها: الحالة التشاؤمية الموجودة عند الكثيرين من أن النـتائج هي النـتائج لن تـتغير ولن تـتبدل، ضرورة أن العمل لا يعدو كونه نحواً من الألعوبة السياسية في الواقع.

ومنها: من يعيش حالة عدم الاهتمام بمثل هذه الأمور، ذلك لكونه لا يفكر إلا في خصوص لقمة عيشه، ولا هم له سوى تحصيلها، فمتى تسنى له الحصول عليها، كان ذلك كافياً له للتدخل فيما سوى ذلك.

ولا يخفى أن هذه الأمور كلها غير صحيحة، ولا تعدّ موانع من الاشتراك في مثل هذا المشروع، لأن الإنسان ينبغي له أن ينطلق من الحديث الشريف: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، إذ أن هذا الحديث يلقى مسؤولية على كل فرد، ولا تنحصر هذه المسؤولية في خصوص بعض الأفراد، حيث أن مصلحة الأمة والمجتمع مسؤولية كل فرد منا، فيلقى على عاتقه القيام بهذه المهمة، خصوصاً وأن هناك احتمالاً عقلائياً يفيد احتمال كون هذا المشروع نحو تغيـير للأفضل، فلا مناص من الدخول فيه، لعل هناك ما يثبت ذلك، مضافاً إلى أن الجميع منا يسعى لتحصيل الأفضل، ولعل هذا أول الغيث بمعنى أنه يكون أول بوادر التغيـير والإصلاح.

على أن كثيراً من الأمور تعمد فيها حكومات العالم الثالث إلى قراءة الوعي الموجود عند شعوبها، سواء كان ذلك في المجال السياسي أم في المجال الاقتصادي، وليكن هذا من هذا القبيل، أي أن الحكومة تسعى لقراءة مدى الوعي السياسي الموجود عند الأفراد.

ولذا نحن ننصح الأخوة المؤمنين بالدخول في هذه الانتخابات، ولا أقل من السعي لأخذ حق الدخول، لأن الفرد بإمكانه أن يدخل في القيد من خلال التسجيل، ومن ثمّ ينظر إذا كان هناك صلاح في الدخول، أمكنه الدخول، وإن لم يكن هناك صلاح فإن له حق الامتناع، أما لو امتنع الآن، ثم أتضح بعد ذلك أن المصلحة تقتضي الدخول، فإنه لن يتسنى له حينها الدخول.

شرائط المنـتخب:

نعم ينبغي لنا أن نكون واعين للمسألة الانتخابية، بحيث نعمد إلى اختيار الشخصية الأصلح، ذات المواصفات التي تقدم الخدمة المرجوة للأمة، ولهذا نشير إلى بعض الأمور التي لابد من توفرها فيمن نود أن نقوم بانتخابه:

منها: عدم الغش.

ومنها: الكفاءة في ممارسة الحرية.

ومنها: عدم توهين المعتقدات.

ومنها: عدم الترويج للأعداء.

——————————————————————————–

[1] لسان العرب، الصحاح مادة(خير).

[2] النهاية مادة (خير).

[3] نهج البلاغة.

[4] المصدر السابق.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة