20 أبريل,2024

مع الصادقين (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى :- (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[1].

كنا قد تعرضنا في حديثنا عن المقطع الأول من هذه الآية عن عدة أمور، ترتبط بخصوص معنى الصادقين الذين وجه الله سبحانه وتعالى الأمر لعباده الذين آمنوا بمعيتهم، وبعدما تعرفنا على الصادقين المعنيـين في الآية الشريفة، الذين طلب الله من المؤمنين معيتهم، نحتاج التعرف على معنى المعية المطلوبة.

معية الصادقين :

بعد ما عرفنا من هم الصادقون في الآية ، يتبادر إلى الأذهان سؤال عن ما هو المراد من المعية في الآية.

وبعبارة أخرى : ما هو المراد من الكون مع الصادقين ؟…

قد يتصور البعض أن المراد من الكون معهم ، لتحقيق المعية المقصودة في الآية الشريفة هو أن يكون الإنسان مجالساً ومعاشراً لهم.

ومن الواضح ، أن هذا ليس مقصوداً ، إذ يكفي لرفضه أنه يستلزم اختـصاص الآية الشريفة بعصر النبي (ص) والأئمة (ع) وزمان الظهور للمولى (عجل الله فرجه الشريف) ولا تكون شاملة لعصر الظلام الذي تعيشه الأمة نتيجة الغيبة الكبرى.

والصحيح أن المعية للصادقين ، تـتحقق من خلال أمور ثلاثة :

1-الانتماء للصادقين.

2-العمل والإتباع.

3-الحضور في ساحة الصادقين.

وفيما يلي نوضح هذه الأمور :

الانتماء :

ونقصد به الانتماء الحضاري والحركي والسياسي ، وهو ما يسميه القرآن بـ(الولاء) ، يقول تعالى :- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون)[2] . ويقول سبحانه :- (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض)[3]. فهم لا علاقة نسبية بينهم ولا اتفاق في لغة أو عرق ، بل هم ينتمون إلى ولاء واحد ونسيج حضاري وسياسي وحركي لا اختلاف بين أجزائه.

ومما يشير إلى أهمية الانتماء والتأكيد عليه قصة نوح (ع) مع ولده ، قال تعالى :- (إنه ليس من أهلك)[4]. حيث نفى الله سبحانه العلاقة بين الوالد والولد ، مع أنه ابنه من لحمه ودمه.

بينما أضاف النبي (ص) الصحابي الجليل سلمان (رض) إلى أهل بيته ، فقال (ص) : (سلمان منا أهل البيت) ، مع أنه فارسي مجوسي ، جاء من بلاد فارس يطلب الحق ، ومن الواضح أن النفي بين نوح وابنه ، والنسبة بين أهل البيت وسلمان في الانتماء والولاء ليس من النسب في العرق والدم.

هذا ويشطر الانتماء والولاء الناس إلى قسمين :

1-شطر الولاء والانتماء.

2-شطر البراء والمقاطعة.

ولا يوجد قسم ثالث ، وهذا يعني أن الإنسان إذا لم يكن مع الله ورسوله والمؤمنين ، فلا محالة أنه من أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المؤمنين ، ويدل على هذا قول الله تعالى على لسان نبيه الصالح نوح (ع) :- (يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين)[5].

فمن لم يكن مع نوح (ع) كان من الكافرين لا محالة .

العمل والاتباع :

فلا معنى لمعية الصادقين من غير الاتباع والعمل ، وقد اشتق القرآن الكريم هذا المعنى من المعنى السابق ، قال تعالى :- (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا)[6].

فالإسلام هو الانتماء لله تعالى :- (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله) ولكن بشرط أن يتبع ملة إبراهيم ، فلا يسلم الإنسان وجهه لله حتى يتبع ملة إبراهيم حنيفا.

بل يمكننا أن نستفيد من قصة نوح أن الإتباع والعمل محقق للانتماء الذي يحقق عنوان الأهل ، فلاحظ قوله تعالى :- (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) فالأهل هو العمل ، وأهل نوح عمل صالح ، وبالعكس فإن الذي ليس من أهله عمل غير صالح ، والمعية تستبطن معنى الأهل.

الإتباع الواعي :

والإتباع المطلوب هنا ليس مجرد الاتباع ، بل المطلوب هو الاتباع الواعي ، عن وعي وبصيرة ، وليس التبعية ، الموروثة وغير الواعية ، كاتباع الآباء والحكام من غير بصيرة ومعرفة ، إذ من المعلوم أن هكذا اتباع من الخوض مع الخائضين في الباطل ، قال تعالى :- (وكنا نخوض مع الخائضين)[7] .

وقد أدان الله أقواماً اتبعوا سادتهم وكبرائهم وآبائهم من غير وعي ولا بصيرة ، قال سبحانه :- (وقالوا ربنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا)[8] .

ولا ريب في أن هذه التبعية مرفوضة في الإسلام ، لأن الاتباع والعمل اللذان يدعو إليهما الله سبحانه وتعالى هما الاتباع عن بصيرة والعمل على نهج الصادقين.

الحضور في جمهور الصادقين :

وهذا المعنى الثالث للمعية ، فإن الله سبحانه وتعالى يحب لعباده أن يكونوا مع الصالحين ويحضروا ساحتهم ، ويحشروا أنفسهم في جمهورهم ، فليس ينحصر حب الله تعالى للقنوت والركوع والسجود ، وإنما يجب القنوت مع القانتين والركوع مع الصادقين ، والسجود مع الساجدين ، قال عز من قائل :- (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)[9] .

وعندما يخاطب سبحانه العذراء مريم ، يقول :- (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)[10] .

نعم لا نعلم السر في الدعوة لهذه المعية بالكون في جمهور الصادقين ، وإن كان من المحتمل أن لذلك تأثيراً على الفرد في صلاحه وشدة ارتباطه بربه.

الانتماء لخط أهل البيت:

ثم بعد ما ذكرنا، نحتاج أن نـتعرف حقيقة الكثيرين الذين يدّعون المعية والانتماء للصادقين، من خلال معرفة حقيقة هذا الانتماء، وما مدى صدق دعوى مدعيه؟…

هناك خطان للانتماء:

الأول:الانتماء السطحي، وهو الذي يكون انتماءاً حرفياً، بحيث ينحصر فهمه في الانتماء على أداء بعض الطقوس العبادية، فمن يدعي الانتماء للإسلام، يعتقد أن الإسلام ينحصر تطبيقه في خصوص النطق بالشهادتين، وأن يقوم بأداء العبادات، وأن يحب الرسول(ص) ويحب الأئمة الطاهرين(ع)، وتنتهي المسألة عند هذا الحد ليكون الإنسان مسلماً.

وكذا يعتقد من يدعي الانتماء لأهل البيت(ع)بأن الانتماء يتحقق بمجرد دعوى أنه موالٍ لهم، بعد كونه محباً، وأنه يلتـزم بتلك الطقوس التي يلتـزم بها كل الشيعة في كافة أرجاء الأرض.

الثاني:الانتماء العميق، بحيث ينفذ إلى طريقة الإنسان في وعي الإسلام، ووعي نفسه فيما تختـزنه من فكر أهل البيت(ع) ومنهجهم، ومن قيمهم وأخلاقياتهم.

فليس الارتباط بأهل البيت(ع) مجرد كلمة تقولها، فتقول أنا شيعي، أو جعفري، كما أنها ليست مجرد طقوس تمارسها من خلال إقامة المآتم أو البكاء أو لطم الصدر، بل هو النهج الذي أراد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن ينهجه في فهمه لنفسه وتركيزه على معالجة نقاط الضعف فيها ليعيش إنسانيته في معنى تشيعه.

نفي الانتماء لأهل البيت:

ومن خلال ما قدمنا، يمكننا أن ننفي الانتماء لأهل البيت(ع)في معناه العميق عن بعض الشيعة الذين ليس لهم من التشيع إلا شكله، فهم يكتفون في تحقيق انتمائهم لمدرسة أهل البيت(ع)بتطبيق تلك الشكاليات البعيدة كل البعد عن المدى العميق الذي يحقق الانتماء لتلك المدرسة الطاهرة.

حقيقة الانتماء:

فليس الدين هو العقيدة فقط، لكنه عقيدة وشريعة ومنهج وحركة وأسلوب وهدف، وهو أن تكون مسلماً بالإسلام كله، وأن تلتـزم أهل البيت(ع) في خطط الإسلام من خلال المنهج الذي نهجوه والفكر الذي أعطوه.

المفهوم في أحاديث الأئمة:

وقد أراد أئمتـنا(ع)تصحيح الفهم الخاطئ للانتماء المتصور عند بعضهم، فنجد منهم إيضاحاً لحقيقته، ورداً على هؤلاء الذين يفهمون التشيع محبة ساذجة، فأرادوا أن يبينوا لهم أن التشيع الذي يمثل الانتماء إلى أهل البيت(ع) لابد فيه من أن يكون انتماء إلى منهج الإسلام في أخلاقياته، ولابد أن يكون معايشاً لواقع المجتمع، إنساناً يعيش إنسانيته في إنسانية الآخر، غير منغلق عنهم، ولا انعزالي أو أناني.

ففي الحديث عن أبي جعفر الباقر(ع):لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتـنا إلا من أطاع الله عز وجل[11].

أي لا ترتكبوا المعاصي اتكالاً على دعوى التشيع والمحبة والولاية من غير حقيقة، فإنه ليس من شيعتهم إلا من شايعهم في الأقوال والأفعال، لا من ادعى التشيع باللسان فقط.

وقال(ع) لجابر: يا جابر أيكتفي من ينـتحل التشيع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتـنا إلا من أتقى الله وأطاعه وما كانوا يعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشع والأمانة وكثرة ذكر الله والصوم والصلاة والبر بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكف اللسان عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء.

قال جابر: فقلت يا ابن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة.

فقال: يا جابر لا تذهبن بك المذاهب حسب الرجل أن يقول: احب علياً وأتولاه ثم لا يكون مع ذلك فعالاً، فلو قال: إنني احب رسول الله فرسول الله(ص) خير من علي(ع) ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنته ما نفعه حبه إياه شيئاً، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحب العباد إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه، أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر والله ما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة وما معنا براءة من النار ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا ولي ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع[12].

شروط الانتماء:

هذا وعندما نتأمل النصوص الصادرة عن أئمتـنا(ع)نجد أنهم يركّزون على أن المنـتمين إليهم، لابد أن يكونوا متصفين بمجموعة من الصفات، لكي يتحقق منهم الانتماء العميق، لأهل البيت، ومن لم يكن ممتلكاً لتكل الصفات، فإنه ينفى عنه الانتماء لهم(ع).

ومن الواضح أن نفي الانتماء هنا لا يعني نفي التشيع عنه، وإنما هو نفي للانتماء العميق الذي أشرنا إليه،ويمكننا أن نعبر عن هذه الصفات، بشروط الانتماء.

الانتماء محاسبة:

فهذا أمير المؤمنين(ع)يقول: ليس منا من لم يحاسب نفسه كل يوم[13]. فهو يدعو الإنسان أن يكون شخصاً ناقداً لنفسه ومحاسباً لها وحاكماً عليها بما هو الحق، من خلال دخوله في مقارنة بين ما قاله وما فعله، وبين ما أمر به الله سبحانه وتعالى.

الانتماء ضبط النفس عند الغضب:

وهذا إمامنا الصادق(ع) يشير إلى شرط آخر لابد من توفره لكي يتحقق الانتماء العميق لأهل البيت(ع)، إذ يقول:أعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب.

لأن الشخص الانفعالي يبتعد عن خط الاستقامة في الحق وخط العدالة مع الناس، فلا يكون من مدرسة أهل البيت(ع)وغير منتمٍ إليها.

الانتماء حسن الصحبة:

وعنه(ع):ومن لم يحسن صحبة من صحبه. فهو أيضاً لا يكون منتمياً انتماءاً عميقاً لأهل البيت(ع)، وهذا يعني أن للصاحب عليك حقاً، فعليك أن تحسن صحبته بأن ترعاه، متى كان بحاجة إلى رعاية، وتسعى لكشف غمه وهمه وكربه إذا كان بحاجة إلى ذلك.

وهذا أمير المؤمنين(ع) وهو خير من يقتدى به، يقدم لنا نموذجاً حياً في حسن الصحبة، فقد سار يوماً(ع)مع يهودي في طريق ووصلا إلى مفترق الطريق وقد كان اليهودي يعلم أن طريق علي(ع)في السير تختلف عن طريقه منذ البداية، وحانت نته إلتفاتة فإذا بعلي(ع)يسير في الطريق التي يسير فيها اليهودي، فوقف اليهودي وقال لعلي(ع):يا أبا الحسن إن طريقك من هنا، فقال(ع):صحيح ما تقول، ولكن رسول الله(ص) علمنا أننا إذا صحبنا شخصاً في الطريق كان له علينا حق الصحبة فلابد لنا أن نشيعه خطوات في اتجاهه تدليلاً على احترامنا لهذه الصحبة، فقال اليهودي:هل هو كلام رسولكم؟…فقال علي(ع):بلى، فقال: مدّ يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

الانتماء أخلاق:

وعن الإمام الصادق(ع) أيضاً: ومخالقة من خالقه.بمعنى أن من يكون ممتلكاً للأخلاق، فعلى المنـتمي لهم(ع) أن يمارس معه أخلاقية الإسلام.

الانتماء مرافقة وجوار:

وعنه(ع) أيضاً:ومرافقة من رافقه.فتحسن رفقة من رافقك، فلا تسيء إليه، ولا تعنف معه، بل تتعامل معه بكل ما تملك من إنسانية.

وقال أيضا:ومجاورة من جاوره.بأن تكون ممن يحسن الجوار مع جاره.

الانتماء مسؤولية اجتماعية:

فكل مسلم مسؤول عن بقية أفراد المسلمين،قال النبي محمد(ص) :من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.

وها نحن اليوم نشاهد المعاناة التي يعانيها المسلمون ويا لها من معاناة، في أرض فلسطين في مواجهة الصهاينة المغتصبين.

ونجد بعض الناس من يقول بأنه لا علاقة لنا بذلك، لأن الفلسطينين سنة، ونحن شيعة، وهذا الحديث الذي يصرح من خلاله النبي الكرم(ص) أن الانتماء للإسلام ولخطه الحقيقي، يعطي حقاً للإحساس بالإنسانية، والشعور بالمعاناة التي يشعرها كل المسلمين، يجعلنا نرفض هذه المقولة، لكونها بعيدة كل البعد عن الانتماء الحقيقي للإسلام الذي يتمثل في مذهب أهل البيت(ع)، فكل من كان منـتمياً وموالياً ومحباً لهم (ع)، فعليه أن يعيش الأحاسيس والمشاعر التي يحس بها هؤلاء وهم يرضخون تحت نزحة الحصار وآلام الاستعمار.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفرج عنهم، بحق محمد وآله الطاهرين.

——————————————————————————–

[1] سورة التوبة الآية رقم 119.

[2] سورة المائدة الآية رقم 55.

[3] سورة التوبة الآية رقم 71.

[4] سورة هود الآية رقم 46.

[5] سورة هود الآية رقم 42.

[6] سورة النساء الآية رقم 125.

[7] سورة المدثر الآية رقم 45.

[8] سورة الأحزاب الآية رقم 67.

[9] سورة البقرة الآية رقم 23.

[10] سورة آل عمران الآية رقم 43.

[11] أصول الكافي ج 2 باب الطاعة والتقوى ح 1.

[12] المصدر السابق ح 3.

[13] أصول الكافي ج 2 ص 43 ح 2.