الاجتهاد النبوي(7)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
161
0

الاجتهاد النبوي(8)

 

ومنها: ما تضمن تحريم مكة المكرمة، وهي نصوص وردت في مصادر الفريقين، ولنقتصر على ما تضمنته مصادرنا، وهو ما رواه حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله(ع) قال: لما قدم رسول الله(ص) مكة يوم افتتحها، فتح الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست، فأخذ بعضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون وماذا تظنون؟ قالوا: نظن خيراً أو نقول خيراً، أخ كريم، وقد قدرت؟ قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها، إلا لمنشد، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه للقبر والبيوت؟ فقال رسول الله(ص): إلا الإذخر[1].

 

وقد ورد هذا النص في كتاب الكافي لشيخنا الكليني(ره) مسنداً، وورد في كتاب الفقيه لشيخنا الصدوق، وفي كتاب الغوالي لشيخنا ابن أبي جمهور الأحسائي(ره)، مرسلاً. وقد ورد هذا الخبر في مصادر الجمهور أيضاً، فقد رواه البخاري ومسلم في صحيحهما، عن أبي هريرة، وعن ابن عباس. وتقريب دلالته على المدعى بلحاظ ما تضمنه من تحريم النبي الأكرم محمد(ص) جميع شجر مكة، فلا يقطع شيء منه، ولا يستثنى من هذا التحريم شيء من أشجارها، لكنه عاد واستثنى من ذلك الأذخر لما نبهه على ذلك عمه العباس بسبب الحاجة إليه، فعاد رسول الله(ص) واستدرك الأذخر من شجر مكة، وأنه يجوز قطعه بسبب الحاجة إليه، وهذا يكشف عن أن التحريم الصادر من رسول الله(ص) لم يكن وحياً من الله سبحانه وتعالى، لأنه لو كان كذلك لما كان رسول الله(ص) يترك شيئاً مما قد أمر به وهو جواز قطع الأذخر.

 

وإن شئت فقل، إنه لو كان التحريم الصادر منه(ص) لمكة وحياً سماوياً ما كان رسول الله(ص) ليغير شيئاً قد أمره الله تعالى به وهو حرمة قطع الأذخر.

ولما كان التحريم المذكور صادراً منه(ص) ساغ له تغيـير ما يرى تغيـيره وفق المصالح التي يراها، ولأن ما ذكره العباس بن عبد المطلب أمراً حسناً، قام(ص) بالتغيـير باستثناء الأذخر من حرمة قطع شجر مكة المكرمة.

وبالجملة، لا تدل الرواية محل البحث على إمكان الاجتهاد النبوي، بل تدل على تحققه ووقوعه، وليس ذلك في الموضوعات الخارجية، بل في الأحكام والمسائل الفقهية المرتبطة بأمور الدين والشريعة.

 

ملاحظة السند:

وقد يتوهم اعتبار الخبر المذكور في الكافي سنداً، لعدم وقوع من لم تثبت وثاقته، وهو تام حسب النظر البدوي، إلا أن مقتضى التأمل والتدقيق يمنع ذلك، والبناء على عدم اعتبار السند، لما حكاه النجاشي عن يونس بن عبد الرحمن أن حريزاً لم يرو عن أبي عبد الله(ص) إلا روايتين، وهذا يوجد شبهة الإرسال في مروياته عن الإمام الصادق(ع)، لأن مقتضى الشهادة المذكورة أن تكون مروياته عن الإمام الصادق(ع) بواسطة، ومع فقدها يكون النص مرسلاً، والخبر محل البحث كذلك، فإن عدم وجود الواسطة بين حريز وبين أبي عبد الله(ع) يجعله مرسلاً، فلا يصلح للاستناد والاستدلال.

 

ومع رفع اليد عن المناقشة السندية، فقد تمنع دلالته على المدعى بما ذكره السيد المرتضى(ره) بما حاصله: إنه حتى يلتـزم بدلالة الخبر المذكور على المطلوب، لابد من إحراز أن رسول الله(ص) قد أتم كلامه وانتهى، واستدرك عليه عمه العباس، وهذا ليس واضحاً، فإن من المحتمل جداً أن رسول الله(ص) بعدُ لم يتم كلامه وتطاول العباس وذكر الأذخر الذي كان رسول الله(ص) بصدد ذكره، وقد ذكره رسول الله(ص) بعد ذلك، وهذا يمنع من صدور الاجتهاد من النبي(ص)، لما عرفت أنه(ص) بصدد ذكره، لولا الاستعجال الذي قد حصل من عمه العباس وسبقه إلى ذكره فأجابه(ص) بما كان سوف يقوله.

 

ويساعد على ذلك ما احتمله الشيخ البهائي(ره)، من أن كلام العباس لم يكن شيئاً من عند نفسه، وإنما هو لكلام قد سمعه من رسول الله(ص) سابقاً يستثني فيه الأذخر، فرفع صوته بذلك.

واستبعاد بعضهم التوجيه المذكور للخبر، لكون العباس قد علل ذلك باستفادة أهل مكة منه في القبور وغيرها، ولم يعلل ذلك بأمر سماعه ذلك من رسول الله(ص)، في غير محله، لأنه لم ينف أن يكون قد سمعه منه(ص)، لأن التعليل باستفادة أهل مكة لا يمنع أن يكون قد سمع العباس ذلك من رسول الله(ص).

 

واحتمل بعضهم أن لا يكون الصادر من العباس بن عبد المطلب استدراكاً على رسول الله(ص)، وإنما هو تأكيد لما قد صدر عنه(ص)، بذكر مصداق خارجي له، توضيح ذلك:

لقد تضمن التحريم الصادر منه(ص) المنع عن قطع شجر مكة المكرمة ونباتها الرقيق، وهو المعبر عنه بالخلا، ومن المعلوم أن الأذخر ليس شجراً وليس من الخلا، فلا يكون مشمولاً للمنع.

بل قد يقال بأن الصادر من العباس هو استفهام وسؤال، فكأنه قال: حتى الأذخر يا رسول الله، يجوز قطعه؟ وقد كان جواب رسول الله(ص) على سؤاله بالإيجاب، وذكر نعم أنه يجوز قطعه.

والمتحصل مما تقدم، مع رفع اليد عن المناقشة السندية للخبر المذكور، فإن دلالته على المطلوب غير واضحة، ولا أقل من وجود محتملات فيها، يمنع من ترتيب الأثر عليه.

 

ومنها: حديث حج النبي الأكرم محمد(ص)، وقد جاء فيه أنه(ص) قال: إن هذا جبرئيل-وأومأ بيده إلى خلفه-يأمرني أن آمر من لم يسق هدياً أن يحلّ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت مثل ما أمرتكم، ولكني سقت الهدي، ولا ينبغي لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله[2]. وهو مروي في مصادر الفريقين، وطريقه معتبر عندنا، إذ ليس في سنده من لم تثبت وثاقته. وتقريب دلالته من خلال التعبير بقوله(ص) لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأنه تعبير كنائي عن تغير الرأي وتبدله بعد انكشاف خلافه، فيكون مدلول الخبر أنه لو تبين لي الأمر من قبل كما تبين لي الآن ما كنت لأسوق الهدي وكنت ألتـزم بما أخبرتكم به، وهذا يدل على أن ما صدر منه(ص) منذ البداية كان اجتهاداً منه(ص)، فيكون دالاً على وقوع الاجتهاد منه(ص)، وليس مجرد إمكانه.

 

وقد أجيب عن دلالته:

أولاً: بما أفاده الشيخ البهائي(ره)، من أن مدلول الحديث هو الإشارة إلى تخيـير الحاج بين نوعي الحج والقران والتمتع، والتعبير النبوي الصادر يشير إلى أفضلية التمتع على القران، فليس في البيين اجتهاد أصلاً.

ثانياً: ما جاء في بعض مصادر الجمهور من أن الكلام الصادر منه النبي الأكرم محمد(ص)، كان بغرض تطيـيب الخواطر، وتهدئة نفوس المسلمين، توضيح ذلك:

 

لقد تحرج المسلمون عندما طلب منهم رسول الله(ص) الإحلال من العمرة، وبعد ذلك يحرموا بالحج، لأنهم وجدوا رسول الله(ص) باقياً على إحرامه بسبب سوقه الهدي لذا أرادوا أن يفعلوا مثله، ولما رأى رسول الله(ص) ذلك أراد تطيـيب خواطرهم وتهدئة نفوسهم، فقال لهم(ص) هذا الكلام، بأنني لو كنت أعلم أنكم سوف تتحرجون لما أقدمت على فعل هذا العمل، والذي هو مستحب، بل أحرمت مثلكم وتحللت.

ووفقاً لما تقدم لن يكون التعبير المذكور كاشفاً عن تبدل رأيه وتغيره ليفيد وقوع الاجتهاد. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن الأثير في النهاية، قال: أي لو عنّ لي هذا الذي رأيته آخراً وأمرتكم به في أول أمري، لما سقت الهدي معي، وقلدته، وأشعرته، فإنه إذا فُعل ذلك لا يحل حتى ينحر، ولا ينحر إلا يوم النحر، فلا يصح له فسخ الحج بعمرة، ومن لم يكن معه هدي، فلا يلتـزم هذا ويجوز له فسخ الحج، وإنما أراد بهذا القول تطيـيب قلوب أصحابه، لأنه كان يشق عليهم أن يحلوا وهو محرم، فقال لهم ذلك لئلا يجدوا في أنفسهم، وليعلموا أن الأفضل لهم قبول ما دعاهم إليه، وأنه لولا الهدي لفعله.

 

ويستفاد من كلام الفيض الكاشاني(ره)، أن كل ما صدر عنه(ص) من الله تعالى، فقد عقب على الكلمة محل البحث بقوله: يعني لو جاءني جبرئيل بحج التمتع وإدخال العمرة في الحج قبل سياقي الهدي كما جاءني بعدما سقت الهدي، لصنعت مثل ما أمرتكم، يعني لتمتعت بالعمرة إلى الحج، وما سقت الهدي.

 

ومنها: خبر أم سلمة، قالت: جاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال النبي(ص): إني إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينـزل عليّ فيه.

وجاء في نقل آخر إضافة: فمن قضيت له بشيء بحجة أراها فاقتطع بها من مال أخيه ظلماً أتى بها أسطاماً في عنقه يوم القيامة. ودلالته على إمكان الاجتهاد النبوي واضحة وصريحة، فقد عبر(ص) عما يصدر عنه في باب القضاء مما لم ينـزل عليه فيه وحي من الله تعالى برأيه ونظره، بل يظهر من الخبر الثاني أن رأيه(ص) ونظره ليس مصيباً للواقع دائماً، بل قد يخطئ، فلاحظ قوله(ص): فاقتطع بها من مال أخيه ظلماً. نعم موضوعه القضاء فلو تم سنداً، فسوف يكون مختصاً به، اللهم إلا أن يدعى العرف عدم الخصوصية له فيتعدى لبقية الموارد، وهو بعيد.

 

وعلى أي حال، يمنع ضعف الخبر سنداً من الاستناد إليه، فقد اشتمل سنده على أسامة بن زيد أسلم، وقد اختلف رجاليو الجمهور فيه، فبين من بنى على وثاقته، وبين من غمز فيه.

على أنه يعارض نقلاً آخر تضمنت ذكره(ص) للقضاء بين الآخرين دون إشارة منه إلى إعمال رأيه ونظره في القضاء، فقد ورد في مصادرنا أنه(ص)، قال: إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، فأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنما قطعت له به قطعة من النار.

 

وقريب من ذلك جاء في مصادر الجمهور، فعن ابن عمر، قال: اختصم رجلان إلى النبي(ص)، فقال: إنما أنا بشر، إنما أقضي بينكم بما أسمع منكم، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار.

 

والحاصل، إن هذين النصين الواردين في مصادر الفريقين وموضوعهما باب القضاء خاليان تماماً عن الإشارة إلى إعمال النظر والرأي والفكر في مسألة القضاء فيعارضان الخبر محل البحث، ويمنعان من الاستناد إليه.

 

ومنها: الاستناد إلى الخبر المشهور في كتب الفريقين: العلماء ورثة الأنبياء، فلو لم يكن رسول الله(ص) مجتهداً لم يرثه العلماء، ومقتضى وراثة العلماء له، ثبوت كونه مجتهداً.

والاستدلال بالحديث المذكور للمدعى كما ترى، فإن أقصى ما يستفاد منه هو حصول وراثة من العلماء للأنبياء، إلا أنها لم تحدد، بل حتى لو بني على ثبوت الوراثة المطلقة لهم من الأنبياء، إلا أن ذلك لا يثبت أن رسول الله(ص) مجتهد، أو يمكن أن يجتهد لمجرد أن الفقهاء مجتهدون.

 

 

 

 

[1] الكافي ج 4 باب أن الله عز وجل حرم مكة حين خلق السماوات والأرض ح 3 ص 225.

[2] الكافي ج 8 باب حج النبي ح 4 ص 162.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة