19 أبريل,2024

تجسم القرآن

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

يجد المتتبع للنصوص اشتمالها على تجسم القرآن الكريم يوم القيامة، بل بعضها صريح في ذلك وأنه يتكلم، وقد تعددت ألسن النصوص في بيان ذلك، فجاء في بعضها أنه يمثل يوم القيامة برجل، وفي بعضها يأتي يوم القيامة في صورة الشاحب المنافر، وفي ثالث أنه يكون كالرجل الشاحب ويسأل صاحبه هل تعرفني، وهكذا.

كما أن بعض النصوص قد تضمنت أن التجسيم يكون لسورة واحدة من سوره، فقد ورد أن سورة الرحمن تأتي في صورة آدمي في أحسن صورة وأطيب ريح حتى تقف من الله موقفاً لا يكون أحد أقرب إلى الله منها.

وكيف ما كان، فما هو المقصود من هذا التجسم، وكيف تفسر هذه النصوص التي تضمنت ذلك؟

طوائف النصوص:

تختلف دلالة النصوص التي تضمنت الحديث عن تجسم القرآن الكريم، سواء في عالم البرزخ، أم في يوم القيامة من حيث الدلالة، فإن بعضها يدل على ذلك بالمدلول المطابقي، وبعضها يدل عليه بالمدلول الإلتـزامي، ولا تنحصر النصوص الدالة على ذلك في خصوص مصادرنا، بل هي موجودة أيضاً في مصادر الجمهور.

وعلى أي  حال، يمكن تقسيم النصوص المذكورة إلى طوائف أربع:

الأولى: شفاعة القرآن لقارئه:

فقد وردت نصوص تضمنت أن شفاعة للقرآن لقارئه في موضعين، في قبره، وفي عرصة يوم القيامة، وأنه يتمثل في صورة رجل لكل من ضيع فرائضه ولم يقمها، وتعدى حدوده، ويقذف بحججه عليه. كما أنه يمثل لمن أطاع وعمل بما فيه من فرائض، وألتزم بما تضمنه من حدود، ليقف معه، ويدعمه بالحجج والبراهين المعينة له، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: يمثل القرآن يوم القيامة يرجل، ويؤتى بالرجل قد كان يضيع فرائضه، ويتعدى حدوده، ويخالف طاعته، ويركب معصيته، قال فيستنيل له خصماً، فيقول: أي رب حملت إياي شر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وترك طاعتي، وركب معصيتي، فما زال يقذف بالحجج، حتى يقال: فشأنك واياه، فيأخذ بيده ولا يفارقه حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل قد كان يحفظ حدوده، ويعمل بفرائضه، ويأخذ بطاعته، ويجتنب معاصيه، فيستنيل حباً له، فيقول: أي رب حملت إياي خير حامل، اتقى حدودي، وعمل بفرائضي، واتبع طاعتي، وترك معصيتي، فما زال يقذف له بالحجج، حتى يقال: فشأنك وإياه، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكسوه حلة الاستبرق، ويعقد على رأسه تاج الملك، ويسقيه بكأس الخلد[1].

وقد دل الخبر على أمرين أساسيـين:

الأول: أن القرآن يتجسم يوم القيامة ويتصور في صورة رجل، له دوران:

أحدهما: المخاصمة، وذلك عندما يخاصم كل انسان قرأه ولم يعمل بما تضمنه من فرائض، وتعدى ما تضمنه من حدود.

ثانيهما: الدفاع والحماية، عندما يتصدى لمعونة كل من ألتـزم بما تضمنه من فرائض وأداها، ورعاها، وقام بحفظ الحدود التي جاءت فيه، وألتـزم بها، فلم يتعد شيئاً منها.

الثاني: إعطائه منصب المجازاة يوم القيامة، فيحاسب كل واحد من العبيد، سواء من كان قارئاً للقرآن وعاملاً بما جاء فيه من فرائض، ومراعياً لما تضمنه من حدود، أم كان مخالفاً لذلك، ومتعدياً لحدوده، كل ذلك بتخويل من الله سبحانه وتعالى له في ذلك.

ويساعد على ما ذكرناه، من دلالة النص على وجود منصب مجعول للقرآن الكريم يوم القيامة يمارسه، النصوص التي تضمنت أن السورة التي يقرأها الإنسان ويحفظها تدافع عنه يوم القيامة، فعن أبي جعفر(ع) قال: سورة الملك هي المانعة تمنع من عذاب القبر ووهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلته فقد أكثر وأطاب ولم يكتب بها من الغافلين، وإني لأركع بها بعد عشاء الآخرة وأنا جالس، وإن والدي(ع) كان يقرؤها في يومه وليلته ومن قرأها إذا دخل عليه في قبره ناكر ونكير من قبل رجليه، قالت رجلاه لهما ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقوم عليّ فيقرأ سورة الملك في كل يوم وليلة وإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد أوعاني سورة الملك، وإذا اتياه من قبل لسانه، قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل قد كان هذا العبد يقرأ بي في كل يوم وليلة سورة الملك[2].

وكما يكون لسورة الملك، دور في المدافعة عن قارئها في عرصة القيامة، يستفاد من نصوص أخرى أن لها دوراً في ذلك في عالم البرزخ أيضاً، فتقوم بدور المدافعة والممانعة عن قارئها هنا، فقد روي أنه قد توفي رجل فأتي من قبل رجليه، فقالت رجله: إنه ليس لكم سبيل عليّ، إنه كان يقرأ سورة الملك، فأتي من قبل بطنه، فقالت بطنه: لا سبيل لكم عليّ إنه كان وعاء لسورة الملك، فأتي من قبل رأسه، فقال لسانه: لا سبيل لكم عليّ إنه كان يقرأ سورة الملك، فمنعته بإذن الله من عذاب القبر.

ومع ما لسورة الملك من خصوصية في الممانعة والدفاع، إلا أن هذا الدور ثابت لسور أخرى من سور القرآن الكريم نص عليها في الروايات، كسورة الرحمن، فقد ورد أنها تصور بصورة آدمي في أحسن صورة، وأطيب ريح، وغيرها من النصوص يجدها المتابع، نعرض عن ذكرها حذراً من الإطالة.

وبالجملة، إن المستفاد مما تقدم، أن القرآن يتجسم سواء بلحاظ بعض سوره، أم بلحاظ كلها، في صورة رجل يتولى عملية الدفاع عن القارئ له، والاحتجاج عمن ترك العمل به، وهذا يثبت ما قلناه من وجود التجسيم، ومن الواضح جداً أن دلالة النصوص المذكورة على المطلوب بالدلالة المطابقية، كما لا يخفى.

الثانية: ما تضمن أن للقرآن لساناً:

وهذا يعني أن له شهادة نظير الشهادة التي تكون ثابتة لأعضاء الإنسان كما نص على ذلك القرآن الكريم، فقد قال تعالى:- (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)[3]، وقوله تعالى:- (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون)[4].

فكما تشهد أعضائه في ذلك الموقف، يكون للقرآن الكريم شهادة، وكما أنها تنطق في تلك اللحظات، يكون للقرآن الكريم أيضاً نطق، فعن منهال القصاب، عن أبي عبد الله(ع)، قال: من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه وجعله الله عز وجل مع السفرة الكرام البررة وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة، يقول: يا رب، إن كل عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي فبلّغ به أكرم عطاياك، قال: فيكسوه الله العزيز الجبار حلتين من حلل الجنة ويوضع على رأسه تاج الكرامة ثم يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا رب، قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا فيعطى الأمن بيمينه والخلد بيساره، ثم يدخل الجنة، فيقال له: اقرأ واصعد درجة، ثم يقال له: هل بلغنا به وأرضيناك فيقول: نعم. قال: ومن قرأه كثيراً وتعاهده بمشقة من شدة حفظه وأعطاه الله عز وجل أجر هذا مرتين.

وغيره من النصوص، كما ورد مثلاً في شأن آية الكرسي، أنه(ص) قال: والذي نفس محمد بيده، إن لهذه الآية لساناً شفتين، يقدس الملك عند ساق العرش.

الثالثة: ما تضمنت تمثل القرآن في أحسن صورة:

منها: ما رواه جابر عن أبي جعفر(ع) قال: يجيء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة فيمر بالمسلمين فيقولون: هذا الرجل منا فيجاوزهم إلى النبيـين فيقولون: هو منا فيجاوزوهم إلى الملائكة المقربين، فيقولون: هو منا حتى ينتهي إلى رب العزة عز وجل، فيقول: يا رب فلان بن فلان أظمأت هواجره، وأسهرت ليله في دار الدنيا، وفلان بن فلان لم أظمأ هواجره ولم أسهر ليله، فيقول تبارك وتعالى: أدخلهم الجنة على منازلهم فيقوم فيتبعونه، فيقول للمؤمن: اقرأ وارقه، قال: فيقرأ ويرقى حتى يبلغ كل رجل منهم منزلته التي هي له فينـزلها[5].

ومنها: ما رواه يونس بن عمار قال: قال أبو عبد الله(ع): إن الدواوين يوم القيامة ثلاثة: ديوان فيه النعم، وديوان فيه الحسنات وديوان فيه السيئات، فيقابل بين ديوان النعم وديوان الحسنات فتستغرق النعم عامة الحسنات ويبقى ديوان السيئات فيدعى بابن آدم المؤمن للحساب فيتقدم القرآن أمامه في أحسن صورة فيقول: يا رب، أنا القرآن وهذا عبدك المؤمن قد كان يتعب نفسه بتلاوتي ويطيل ليله بترتيلي وتفيض عيناه إذا تهجد فأرضه كما أرضاني، قال: فيقول: العزيز الجبار: عبدي أبسط يمينك فيملأها من رضوان الله العزي الجبار ويملأ شماله من رحمة الله، ثم يقال: هذه الجنة مباحة لك فاقرأ واصعد فإذا قرأ آية صعد درجة[6].

والمقصود بالنعم الواردة في النص ما أفاضه الله سبحانه وتعالى على عبده من نعم ظاهرة وباطنة، وهذا ينسجم تماماً سواء على القول بأن الثواب بنحو الاستحقاق، أم بنحو التفضل، بل هو على الثاني أوضح، فإنه لو بني على أنه بنحو الاستحقاق، فمن الواضح أنه لا يكون العبد مستحقاً لأجر إلا بعد أن يؤدي ما عليه لخالقه، والنعم التي أفاض عليها لا يوفيها ما قام به من عمل، لأنه في الحقيقة أداء لما عنده من نعم.

الرابعة: النصوص التي تضمنت وصف القرآن بالرجل الشاحب:

منها: فعن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص): تعلموا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شاب جمل شاحب اللون فيقول له القرآن: أنا الذي كنت أسهرت ليلك وأظمأت هواجرك وأجففت ريقك وأسلت دمعتك أؤول معك حيثما اُلت وكل تاجر من وراء تجارته، وأنا اليوم لك من وراء تجارة كل تاجر وسيأتيك كرامة من الله عز وجل فأبشر، فيؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويعطى الأمان بيمينه والخلد في الجنان بيساره ويكسى حلتين ثم يقال له اقرء وارقه فكلما قرء آية صعد درجة ويكسى أبواه حلتين إن كانا مؤمنين، ثم يقال لهما: هذا لما علمتماه القرآن[7].

وقد تضمن النص المذكور مطلبان:

الأول: مجيء القرآن يوم القيامة لقارئه بصورة شاب جميل حسن الصورة والمظهر إلا أنه شاحب اللون.

الثاني: ما تضمنه القرآن من أجر يلقاه الأبوان لقيامهما بتعليم ولدهما القرآن الكريم.

ومنها: ما رواه سعد الخفاف-في حديث طويل-عن أبي جعفر(ع) أنه قال: يا سعد تعلموا القرآن فإن القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق والناس صفوف عشرون ومائة ألف صف، ثمانون ألف صف أمة محمد وأربعون ألف صف من سائر الأمم، فيأتي على صف المسلمين في صورة رجل فيسلم فينظرون إليه-إلى أن قال- حتى ينتهي إلى رب العزة تبارك وتعالى فيخر تحت العرش فيناديه تبارك وتعالى يا حجتي في الأرض وكلامي الصادق الناطق ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيقول تبارك وتعالى: كيف رأيت عبادي؟ فيقول: يا رب منهم من صانني وحافظ علي ولم يضيع شيئاً، ومنهم من ضيعني واستخف بحقي وكذب بي وأنا حجتك على جميع خلقك، فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لأثيبن عليك اليوم أحسن الثواب ولأعاقبن عليك اليوم أليم العقاب، قال: فيرجع القرآن رأسه في صورة اخرى، قال: فقلت: يا أبا جعفر في أي صورة يرجع؟ قال: في صورة رجل شاحب متغير يبصره أهل الجمع فيأتي الرجل من شيعتنا الذي كان يعرفه ويجادل به أهل الخلاف فيقوم بين يديه فيقول: ما تعرفني؟ فينظر إليه الرجل فيقول: ما أعرفك يا عبد الله، قال: فيرجع في صورته التي كانت في الخلق الأول ويقول: ما تعرفني؟ فيقول: نعم، فيقول القرآن: أنا الذي أسهرت ليلك وأنصبت عيشك سمعت الأذى ورجمت بالقول فيّ، ألا وإن كل تاجر قد استوفى تجارته وأنا وراءك اليوم، قال: فينطلق به إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقول: يا رب يا رب عبدك وأنت أعلم به قد كان نصباً بي، مواظباً عليّ، يعادى بسببي ويحبُ فيّ ويبغض، فيقول الله عز وجل: أدخلوا عبدي جنتي واكسوه حلة من حلل الجنة وتوجوه بتاج، فإذا فعل به ذلك عرض على القرآن فيقال له: هل رضيت بما صنع بوليك؟ فيقول: يا رب إني أستقل هذا له فزده مزيد الخير كله، فيقول: وعزتي وجلالي وعلوي وارتفاع مكاني لأنحلن له اليوم خمسة أشياء مع المزيد له ولمن كان بمنـزلته، إلا أنهم شباب لا يهرمون وأصحاء لا يسقمون وأغنياء لا يفتقرون وفرحون لا يحزنون وأحياء لا يموتون، ثم تلا هذه الآية:- (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى)، قال: قلت: جعلت فداك يا أبا جعفر، وهل يتكلم القرآن فتبسم ثم قال: رحم الله الضعفاء من شيعتنا إنهم أهل تسليم، ثم قال: نعم يا سعد والصلاة تتكلم، ولها صورة وخلق تأمر وتنهى، قال سعد: فتغير لذلك لوني، وقلت هذا شيء لا أستطيع أنا أتكلم به في الناس، فقال أبو جعفر: وهل الناس إلا شيعتنا فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقنا، ثم قال: يا سعد اسمعك كلام القرآن؟ قال سعد، فقلت: بلى صلى الله عليك، فقال:- (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر)، فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال، ونحن ذكر الله، ونحن أكبر[8].

وربما يمنع البعض من القبول بالخبر المذكور، إذ كيف يتصور أن يكون القرآن الكريم وهو كلام الله سبحانه وتعالى شاحباً، وأنه يأتي بهذه الصورة.

وقد أجاب عن ذلك المحقق المازندراني(ره) بذكر سببين لمجيئه بهذه الصورة في ذلك:

الأول: أن السبب الذي أدى إلى مجيء القرآن الكريم في ذلك الموقف بهذا الصورة يعود إلى ما وقع عليه من أفعال البشر، إذ أن مس أيدي العصاة إياه أدت به إلى ذلك، فإنها قد أثرت فيه.

الثاني: أن يعود ذلك لسماعه الوعيد الشديد، وبما أنه مخلوق من المخلوقات، فإنه يصيبه ما يصيب بقية المخلوقات، فكما أنها تتأثر بذلك، فإنه أيضاً يكون كذلك[9].

ولا يخفى مدى الفرق بين السببين، فإن الأول منهما يشير إلى وجود أثر خارجي عن حيز القرآن هو الذي أوجب اصابته بما قد أصيب به، وهذا بخلافه في السبب الثاني، فإنه أمر مرتبط بذات القرآن، وأنه مخلوق كبقية المخلوقات الإلهية التي تتأثر بعمة الباري سبحانه، وتقر بملكه ومالكيته وقاهريته.

النظريات المحتملة في تجسم القرآن الكريم:

ثم إنه بعد استعراض النصوص التي يظهر منها تجسم القرآن الكريم، سواء كان ذلك في القبر، وعالم البرزخ، أم كان ذلك في عرصة القيامة وفي المحشر، يلزم الوقوف على المقصود من التجسم الذي تتحدث عنه هذه النصوص، وهل أنه كتجسم الأعضاء يوم القيامة، وتجسم الأعمال الصادرة من المكلف في عرصتها، أو أن هناك معنى آخر متصور في المقام؟

في المقام نظريات يظهر من بعضها وجود اختلاف بين العنوانين، فإن التجسم الحاصل سواء لأعضاء الإنسان في عرصة القيامة، أم للأعمال الصادرة عنه، يختلف عن التجسم المقصود في هذه النصوص، ويقابلها نظريات أخرى تشير إلى خلاف.

وكيف ما كان، فإن المذكور في كلمات الباحثين بياناً لنظريات التجسم القرآني يؤول في الحقيقة إلى نظريتين أساسيتين:

الأولى: البناء على منع وجود التجسم الحقيقي للقرآن الكريم، وعليه لابد من التصرف في ظهور هذه النصوص المتضمنة للحديث عن جمسانيته وتجسمه في غير عالم الدنيا، بتأولها وحملها ولو على خلاف ظاهرها. وقد عرضت النظرية المذكورة بتصويرات ثلاثة.

الثانية: ابقاء النصوص على ظاهرها دونما تصرف فيها بشيء من قريب أو بعيد، خصوصاً وأنه لا يوجد مانع من ذلك، فيلتـزم بثبوت التجسم للقرآن الكريم في غير عالم الدنيا.

نظرية المجازية والتجوز:

وقد عرفت أنها قد عرضت ببيانات وتصوريات ثلاثة:

التصور والتخيلات:

أما البيان الأول، الذي عرضت من خلاله نظرية التجوز والمجازية، فهو ما تضمنت أن التجسم الموجود في هذه النصوص ليس تجسماً حقيقياً حتى يكون مشابهاً للتجسم الحاصل لأعضاء المكلف، ولأعماله، بل هو لا يعدو كونه مجرد تصور وخيال في ذهن الإنسان، بيان ذلك:

من المعلوم أن الإنسان يعيش في القبر بجملة من التصورات والخيالات، ويختلف حال هذه الصور المتخيلة من قبل الإنسان فيه، فإنها نوعان:

1-صور خيالية مفرحة، توجب حصول السرور له، ودخوله على قلبه.

2-صور خالية محزنة، وموجبة للغم والكآبة.

وهذه الصور التي يتخيلها الإنسان، سواء كانت من النوع الأول، أم كانت من النوع الثاني، هي السبب في ما يحصل للروح، سواء كان فرحاً وسعادة، فتكون الروح في نعيم، أم ألماً وحزناً وكمداً، فتعذب بذلك.

فالإنسان في الحقيقة لم ير شيئاً، ولم يلحظ شيئاً، بل إن الأمر مجرد تصور وتخيل قد حصل له حال وجوده في القبر، أو في عرصة القيامة.

ويعتبر التقريب المذكور أضعف التقريبات المذكورة في تحليل النصوص التي تضمنت تجسم القرآن الكريم، وبيان المقصود من هذا التجسم. لأنه يعتمد على إثبات عدم وجود حقائق يعيشها الإنسان في القبر، ولا في عرصة القيامة، لأنها تقوم كما عرفت على أن جميع ما يراه لا يخرج عن كونه خيالاً وتصوراً، وهذا يستوجب الإثبات، فإن تم الدليل على ذلك، وإلا لم يخرج الكلام عن كونه مجرد دعوى عهدتها على مدعيها.

وعند الرجوع لملاحظة الأدلة الشرعية، نجد أنها تؤكد وتدل على أن الإنسان يعيش في القبر، وكذا في عرصة القيامة، حقائق، لا أنه يعيش مجرد تصورات وتخيلات.

التجسيم المجازي:

وأما البيان الثاني للنظرية المذكورة، فهو الذي يسلم بوجود تجسم حقيقي في الخارج، وأن الأمر ليس مجرد تصور وتخيل كما في النظرية الأولى، إلا أنها تقرر أن التجسم الحاصل ليس تجسماً للقرآن الكريم، وإنما هو تجسم لشيء آخر، وجعل التجسم الحاصل تجسماً للقرآن لا يخلو عن ضرب من المسامحة والتجوز، وذلك لوجود جهة مشابهة دعت إلى ذلك.

والذي يتجسم في ذلك الموقف، هو نفس الإنسان الذي كان يقرأ القرآن في عالم الدنيا، فيأتي وقد أضيف إليه هالة نورانية وصفة كمالية عالية ظهر فيها، فيستغرب من هذه الهيأة التي يكون عليها، فيعمد إلى السؤال عن منشأ ما هو فيه، ومن أين حصل له ما هو عليه، وكيف أتت له هذه الهالة، فيكون الجواب على ذلك كله بشيء واحد، وهو إنه القرآن.

ومقتضى التقريب المذكور أن التجسيم هو نحو من أنحاء المثوبة التي يحظى بها قارئ القرآن الكريم وحافظه، ذلك أن قراءة الإنسان له وحفظه تعطيه حظوة خاصة تتمثل في أمور منها ما يناله من صفة البياض الجمال.

والمانع من القبول بهذا التقريب مخالفته لظاهر النصوص التي قد سمعت، والبناء عليها يوجب حمل اللفظ على خلاف ظاهره، وهذا إنما يصار إليه حال تعذر حمل اللفظ على ظاهره، أو حال وجود قرينة مساعدة على ذلك، كلاهما مفقودان في المقام.

انكشاف الحقيقة:

ولا يختلف المقصود من التجسيم في التقريب الثالث عنه في التقريب الثاني، في كونه يوجب حمل اللفظ على خلاف ظاهره في بيانه لحقيقة التجسيم التي تضمنتها النصوص محل البحث، فقد قال القائلون به أن المقصود من التجسيم الوارد فيها ليس معناه الحقيقي، وإنما يقصد به انكشاف الحقيقة الثابتة للقرآن الكريم، ذلك أن للقرآن الكريم صورتين: صورة مرتبطة بعالم المادة والدنيا، وهي الصورة التي هو عليها اليوم بيننا، وصورة أخرى وهي صورته الحقيقية الموجودة في عالم الملكوت.

ولا تختلف صورة القرآن الموجودة في عالم الملكوت عن صورته الموجودة في عالم الدنيا، فليس الموجود شيئين، بل الموجود شيء واحد، إلا أن الإنسان لما لم يكن يرى الصورة الحقيقية التي للقرآن بسبب العوالق المرتبطة بعالم الدنيا، فإنه يرى ذلك في عالم البرزخ، وكذا في عالم القيامة، لأن المفروض أن الموانع والحجب التي كانت تحول دون تحقق الغرض برؤية القرآن كما هو على صورته الحقيقية قد زالت، لما عرفت من أن ذلك مرتبط بعالم الدنيا، ولا يجري في غيره من العوالم. فيرى الإنسان عندها القرآن على صورته الحقيقة.

وبالجملة، إن مفاد هذه التقريب أنه لا يوجد شيء آخر يغاير الوجود الفعلي للقرآن الكريم بحيث يتجسم القرآن ليكون في صورة مغايرة للصورة التي كان عليها، وإنما هي عين حقيقة القرآن تكون باقية على ما هي عليه دون تغيـير، عمدة ما كان، أن رؤية هذه الصورة الحقيقة كان يحول بينها موانع، ومع زوالها، ترى على حقيقتها.

نظرية التجسيم حقيقة:

وقد ألتزم بذلك على ما يبدو الشيخ المازندراني(ره) كما يظهر ذلك من شرحه على أصول الكافي[10]، وقد بنى مختاره على وجود الإمكان لحصول التجسيم بالصورة المذكورة في العوالم الأخرى، وفقدان المانع من ذلك، وجعل دليل ذلك ثبوت القدرة لله سبحانه وتعالى على ذلك، وأن قدرته سبحانه وتعالى واسعة، فكما أن القدرة الإلهية تحول أفعال الإنسان كالصلاة والصوم والزكاة إلى صور متجسمة، تدافع عن صاحبها وتشفع له في القبر والقيامة، كذلك تتعلق القدرة الإلهية بتجسم القرآن الكريم، فيظهر في صورة متجسمة، تشفع وتدافع عن قارئه وحافظه، فيمكن أن يظهر بصورة جسم أو بصورة رجل يدافع عن صاحبه في عالم البرزخ، وعالم القيامة[11].

وقد ذكر مانع من حمل التجسيم الوارد في النصوص المذكورة على ظاهرها، وذلك لأن التجسيم لا يصدق إلا على الأعمال والتي تمثل حقائق عرضية في عالم الملك، وأمرها وجوداً وعدماً بيد الإنسان، وإرادته، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم الذي هو حقيقة نورية في علم الباري سبحانه وتعالى، وأمره وجوداً وعدماً بيد الله عز وجل، نعم ما لا ينكر أنه يصدق التجسيم على قراءة القرآن الكريم، وتلاوته، كما يصدق على تعلمه وتعليمه، لكنه أجنبي عن موضع البحث كما لا يخفى.

وكيف ما كان، فإذا صلح المانع المذكور للمنع من حمل نصوص التجسيم على ظاهرها، تعين البناء على التقريب الثالث من النظرية الأولى، وإلا فلا موجب لرفع اليد عن ظواهر النصوص.

 

[1] مستدرك الوسائل ج 4 ب 7 من أبواب كتاب الصلاة ح 14 ص 253.

[2] الكافي ج 2 كتاب فضل القرآن باب النوادر ح 26 ص 633.

[3] سورة يس الآية رقم 65.

[4] سورة فصلت الآية رقم 20.

[5] الكافي ج 2 كتاب فضل القرآن ح 11 ص 601.

[6] المصدر السابق ح 12 ص 602.

[7] الكافي ج 2 كتاب فضل القرآن ح 3 ص 603.

[8] الكافي ج 2 كتاب فضل القرآن ح 1 ص 596.

[9] شرح أصول الكافي ج ص

[10] شرح أصول الكافي ج 11 ص 5.

[11] مجلة المصباح العدد 8 ص 211-227(بتصرف).