29 مارس,2024

عيد رأس السنة

اطبع المقالة اطبع المقالة

عيد رأس السنة

 

مع قرب حلول رأس السنة الميلادية، وقيام بعض أتباع الديانة المسيحية بالاحتفال بميلاد المسيح(ع)، يدور الحديث حول مشروعية هذا الاحتفال وعدمه، وهل يسوغ للمسلمين مشاركتهم احتفالاتهم، أو لا؟

وحديثنا ليس مع الذين يمنعون من الاحتفال بمطلق المناسبات الشريفة، كمولد النبي الأكرم محمد(ص)، وذكرى البعثة الشريفة، وحادثة الإسراء والمعراج، لأنها بدعة، لأن من الواضح أنهم سوف يمنعون من هذا الأمر بطريق أولى. وإنما حديثنا مع المسلمين الذين لا يمانعون في احياء تلك المناسبات، وحديثهم في مشروعية الاحتفال في هذه الأمور.

 

وقد ألتـزم بعض المسلمين بعدم مشروعية الاحتفال المذكور، كما لا يشرع للمسلمين المشاركة فيه، ولعل منشأ ذلك أمران:

 

الأول: إن احياء هذه المناسبة، فيه تشبه بغير المسلمين، وقد ورد النهي عن أن يتشبه المسلمون بغيرهم ولو كانوا من الديانات السماوية الأخرى. وتصوير التشبه المذكور يتضح من خلال القيام بإحياء هذه المناسبة، أعني عيد رأس السنة، أو الاحتفاء بذكرى ولادة السيد المسيح(ع)، لأن هاتين المناسبتين لم تردا في الشرع الشريف، ولم تتضمنهما رسالة النبي(ص)، فيكون الاحياء لهما تشبهاً بغير المسلمين في أفعالهم، كما أنه سوف يتضمن تشبهاً لهم في الأقوال أيضاً.

 

ومن الواضح، أن الوجه المذكور سيال، فإنه يقتضي عدم مشروعية كل مشابهة من المسلمين لغيرهم من الديانات السماوية الأخرى، وهذا يقتضي البناء على حرمة العديد من الأمور إلا مما دل دليل على عدم الممانعة فيها وإن كانت متضمنة لمشابهة لأصحاب الديانات السماوية الأخرى.

 

ويدفع هذا الأمر: بأن مجرد المشابهة في عمل ما أو قول معين لا تستلزم الحرمة، لأن المشابهة في نفسها ليست من العناوين المحرمة، وإنما تحرم حال طرؤ شيء ما عليها يوجب الحرمة. فالمشابهة في الشكل الخارجي والمظهر مثلاً، ليست محرمة، وإن كانت تتضمن محاكاة للعمل الصادر من الكفار، أو من أصحاب الديانات السماوية الأخرى، بل حتى ما ورد من لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، أو العكس، ليس المقصود منه مجرد المحاكاة والمشابهة في الفعل، أو في المظهر الخارجي، بأن يلبس الرجل لباس المرأة، أو تلبس المرأة لباس الرجل، فلا يحرم لبس الرجل لباس المرأة، كما لا يحرم لبس المرأة لباس الرجل، نعم قد يلتـزم فيهما بالحرمة بالعناوين الثانوية، كما لو كان ذلك موجباً لهتك حرمة أحدهما، أو جعله في معرض الغيبة، والإهانة والانتقاص، وغير ذلك.

 

وإنما المقصود منه أن يتأنث الرجل، فيتلبس بكل صفات الأنثى، وتعيش المرأة صفات الرجل، فتبرزها على نفسها شكلاً ومظهراً وقولاً وفعلاً.

 

والحاصل، إن مجرد المحاكاة والمشابهة في نفسها ليست محرمة، بل إن التحريم ينتج عن عنوان طارئ عليه، وهذا يعني أن حرمة التشبه بالنصارى لو كانت مستلزمة لترويج معتقداتهم، ورفعة شأنهم وإعلاء كلمتهم، والاعتناء بمقدساتهم كالصليب، وإهانة الإسلام والنيل منه، والحط من تشريعاته وقدره مثلاً، كان ذلك محرماً، وإلا فلا.

 

الثاني: التمسك بقوله تعالى:- (ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم)[1]، ومن المعلوم أن سبيل المؤمنين، هو سبيل الهداية، وسبيل غيرهم خلافه، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن من يتبع سبيل غيرهم، يجعله الله سبحانه وتعالى على ما تولاه من الضلالة والغواية التي اختارها[2].

 

وتقريب دلالتها على المدعى من خلال تشكيل قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه: كل سبيل غير سبيل المؤمنين، فهو ممنوع، يستحق سالكه العقاب يوم القيامة.

وأما الصغرى، إن الاحتفال بعيد رأس السنة، وبعيد السيد المسيح(ع)، سلوك لسبيل غير المؤمنين.

 

وعليه، تكون النتيجة، استحقاق من يفعل ذلك العقاب يوم القيامة.

ولا يخفى أن منع إحدى المقدمتين، موجب لمنع تمامية الدليل المذكور، والحق أن الكبرى منهما تامة، إلا أن الصغرى ممنوعة، فإنه لا يسلم أن الاحتفال بعيد رأس السنة يمثل سلوكاً لسبيل غير المؤمنين، حتى يستحق فاعله العقاب، لأنه ليس أمراً مخالفاً للشرع الشريف، كما أنه لا يمثل أمراً مرتبطاً به سبحانه وتعالى. نعم لو كان القيام بهذه الأمور يوجب تقوية شوكة النصاري والمسيح مثلاً، ويبرز عظمة الكفار، ويستلزم إهانة الاسلام، وإذلال المسلمين، كان ذلك منافياً لسبيل المؤمنين.

 

استثمار المناسبة:

 

ثم إنه بعد الفراغ عن مشروعية إقامة مثل هذه الاحتفالات، ومشروعية مشاركة المسلمين فيها ما دامت لا تشتمل على شيء محرم، وينافي الشريعة الإسلامية في كافة تعاليمها، يقع الحديث في كيفية الاستفادة من هذه المناسبة واستثمارها. ذلك إن من العقل أن يستثمر المسلمون هذه المناسبة، خصوصاً في ظل هذه الهجمات المحمومة على الإسلام والمسلمين، والتي ترسمه بصورة مشوهة، وأنه دين ينشر البغض والكراهية بين الشعوب، وهو دين دموي، كما أنه دين يهين الإنسانية، ولا يحترمها، فهو يحقر المرأة، ويمتهن كرامتها، وغير ذلك.

 

والمطلوب من المسلمين القيام بتقديم الصورة الحقيقية للإسلام، ومحو ما ألصق به من تهمة، وتشويه.

ولو لم يستثمر المسلمون هذه الفرصة المواتية، ويستغلوها استغلالاً حسناً، فإنهم يكونوا عرضة لملامة العقلاء وذمهم.

 

ويحصل الاستثمار المطلوب من المسلمين تحصيله في ناحتين:

 

الأولى: في تقديم الصورة المشرقة للإسلام في رؤيته تجاه الديانات السماوية الأخرى، ويكون هذا من خلال عرض الصورة المشرقة التي يقدمها القرآن الكريم حول السيدة مريم العذراء، حيث يقول سبحانه وتعالى:- (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين* يا مريم اقـنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)[3]، فإن هذا التعبير القرآني وحديثه عن السيدة مريم العذراء(ع) بكل تجلة واحترام، ونسبة التطهير والاصطفاء إليها، موجب أن يقف المسيحيون أمامه بكل احترام وتقدير ويكنون كل مودة وحب لمن يطرح مثل هكذا رؤية.

 

ويقول عز من قائل:- (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربها وكانت من القانتين)[4]، وتعرض هذه الآية مجموعة من الصفات التي تميز السيدة مريم العذراء(ع)، وهي:

 

1-أنها محصنة، وهذا التعبير يبرئ السيدة العذراء(ع) من أي تهمة تنافي القيم الأخلاقية والآداب العامة المعروفة.

2-أنها صديقة، وكما هو معلوم يوجد فرق بين الصادق والصديق، فإن الثاني يتضمن زيادة ومبالغة في الصدق، وليس مجرد الصدق لمرة واحدة.

3-أنها من القانتين، وهذي يشير لشيء من علاقتها الخاصة بالله سبحانه وتعالى.

4-أنها موضع رحمة الله سبحانه وتعالى، حيث جعلها وعاء لكلمته المسيح عيسى(ع)، عندما نفخ فيها.

 

وأيضاً النظرة القرآنية حول السيد المسيح(ع)، وأنه أحد أنبياء الله تعالى، وأحد أولي العزم الخمسة، وأنه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء(ع)، يقول تعالى:- (قال إني عبد الله آتني الكتاب وجعلني نبياَ*وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً* وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً* وسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً)[5]. وقد تضمنت الآيات الشريفة أموراً:

 

1-عرض بعض الصفات المرتبطة بشخصيته الشريفة، وقد تمثل ذلك في أمور ثلاثة:

أ-عبوديته لله سبحانه وتعالى.

ب-نبوته من قبل الله تعالى.

ج-أنه قد أوتي الكتاب من الباري عز وجل.

 

2-بيان ثلاث قيم لرسالته ودعوته:

أ-البركة.

ب-الصلاة.

ج-الزكاة.

 

3-ثلاث سمات لسلوكه وأخلاقه:

أ-البر بوالدته.

ب-عدم التجبر.

ج-عدم الشقاء.

 

ومن الطبيعي أن يكون لهذه الامتيازات التي حظي بها(ع)، نتائج، لذا كانت نتائج ذلك:

أ-السلام عليه يوم ولادته.

ب-السلام عليه يوم الموت.

ج-السلام عليه يوم القيامة[6].

 

وأنه النبي الذي بشر بالنبي الأكرم محمد(ص)، قال تعالى:- (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)[7]، ما يشير إلى وجود ارتباط بين رسالة المسيح عيسى بن مريم(ع)، ورسالة النبي محمد(ص)، وأن رسالة الثاني مكملة لرسالة الأول.

 

والحاصل، إن هذه التعابير الواردة في القرآن الكريم عن شخصية المسيح عيسى(ع) تجعل الطرف الآخر يقف على مدى ما لهذه الشخصية من مكانة مرموقة ومميزة عند الإسلام وأهله، وكيف أنهم يكنون له كل الاحترام والتقدير، وليس كما يوهم البعض أنهم يعادونه، وينظرون له نظرة دونية، وما شابه ذلك.

 

ويمكن الاستفادة أيضاً من علاقته بالإمام المهدي(عج)، والمصلح الغيبي الذي سوف يظهر في آخر الزمان، عندما ينـزل المسيح عيسى((ع)، ليكون واحداً من أنصاره، وأحد الذين يصلون خلفه، ويجعله الباري سبحانه وتعالى مؤيداً له، تكريماً وتعظيماً لمقام المسيح عيسى(ع)، حيث أعطاه هذا الفضل، ولم يعطه أحداً غيره من الأنبياء. فقد ورد عن النبي(ص) نه قال: منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه[8].

 

وفي حديث آخر، قال(ص): فينـزل عيسى عند صلاة الفجر، فيقول له أمير الناس: تقدم يا روح الله فصل بنا، فيقول: إنكم معشر هذه الأمة أمراء بعضكم على بعض، تقدم أنت فصل بنا، فيتقدم فيصلي بهم فإذا انصرف أخذ عيسى حربته نحو الدجال، فإذا رآه ذاب كما يذوب الرصاص، فتقع حربته بين ثندوته فيقتله، ثم ينهزم أصحابه، فليس شيء يومئذ يجنّ أحداً منهم، حتى إن الحجر قول: يا مؤمن! هذا كافر فاقتله، والشجر يقول: يا مؤمنّ هذا كافر فاقتله[9].

 

ومن الجميل جداً أن يستفاد في البين من قضية سيدنا ومولانا جعفر بن أبي طالب(ع)، في حواره المعروف مع النجاشي، عندما أرسلت قريش رسلها لاستعادة المهاجرين من الحبشة، ولما فشلت محاولات عمرو بن العاص، أراد أن يشي بجعفر(ع)، فقال للنجاشي سله عما يقول في مريم العذراء، وفي عيسى المسيح، وكان النجاشي رجلاً يدين بالمسيحية، فسأله النجاشي عما يقولون في ذلك، فقال له جعفر(ع) نقول فيه بالذي جاء به نبينا(ص)، هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول[10].

 

وقرأ عليه جعفر(ع) شيئاً من القرآن الكريم، من سورة مريم، فلما بلغ إلى قوله تعالى:- (وهزي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقرّي عيناً). فلما سمع النجاشي بهذا بكى بكاء شديداً وقال: هذا والله هو الحق.

الثانية: عرض الصورة الحقيقة للإسلام، الذي جاء به النبي الأكرم محمد(ص)، فإن الصورة المقدمة لهؤلاء غالباً صورة مشوهة، نتجت مما يعرض عليهم، أو من خلال ما يروونه اليوم في الإعلام المرئي والمقروء. ولذا تقع المسئولية على المسلمين اليوم في بيان الصورة الناصعة للإسلام بقيم الأخلاقية والإنسانية، من خلال عرض مفاهيم الحب والسلام، والتسامح والألفة، والتعاون، وحسن الجوار، وحسن الصحبة، وطريقة التعامل مع الآخر، وحفظ الحقوق، واحترام المرأة، والمساواة بينها وبني الرجل في كافة الحقوق والمجالات، وغير ذلك، لتزول تلك الغشاوة التي وضعت لتشويه الإسلام وتزيـيف صورته.

 

[1] سورة النساء الآية رقم 115.

[2] مواهب الرحمن في تفسير القرآن ج 9 ص 275.

[3] سورة الآية آل عمران الآية رقم 42-43.

[4] سورة التحريم الآية رقم 22.

[5] سورة مريم الآيات رقم 30-33.

[6] من هدى القرآن ج ص 37-400(بتصرف)

[7] سورة الصف الآية رقم 6.

[8] كنـز العمال ج 14 ب 266 ح 38673.

[9] الدر المنثور ج 2 ص 243.

[10] سيرة ابن هشام ج 1 ص 357-362.