الصديقة البتول

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
212
0

 

اشتملت النصوص الشريفة على أن للسيدة الزهراء(ع) عدة أسماء، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: لفاطمة تسعة أسماء عند االله عز وجل: فاطمة والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، المحدثة، والزهراء. ثم قال: أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي. قال: فطمت من الشر، ثم قال: لولا أن أمير المؤمنين(ع) تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه[1].

وكل واحد من الأسماء المذكورة جدير أن يوقف عنده، ويعمد إلى دراسته، خصوصاً عندما نجد النصوص تتضمن تفسيرات متعددة للاسم الواحد، كاسم فاطمة على سبيل المثال، فإن المتابع للنصوص يجد تعدداً في التفسير، وهذا قد يوحي أن هناك تعارضاً، إلا أن يحمل على تعدد المعاني، فضلاً عن وجود بعض الإشكالات المثارة على بعض الأسماء، من حيث الاشتقاق، كما يثيره البعض في أسم فاطمة أيضاً.

وكيف ما كان، سوف نسلط الضوء على اسمين من هذه الأسماء، وهما الصديقة، والبتول، خصوصاً وأن الأول منهما قد نسب إلى غير السيدة الزهراء(ع)، كما أن الثاني تعددت الآراء فيه.

 

الصديقة:

لا يخفى أن الصديقة مؤنث الصديق، والصديق فعيل، والصديقة فعيلة، وللصديق في كلمات أهل اللغة تعاريف:

منها: أنه يأتي للدلالة على كثرة اتصاف الموصوف بالصفة، وهي الصدق، والمبالغة في الصدق والتصديق. وهذا التعريف أقرب للقبول من التعاريف الأخرى، مثل قولهم أن الصديق يطلق على من لم يكذب قط. أو قولهم أن الصديق يطلق على الكامل في الصدق، الذي يصدّق قوله عمله.

 

وقد ورد هذا الوصف في القرآن الكريم غالباً للأنبياء، فوصف الله سبحانه وتعالى به مجموعة منهم، مثل إبراهيم(ع)، فقال تعالى:- (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً)[2]، ووصف به يوسف أيضاً، فقال تعالى:- (يوسف أيها الصديق)[3]، وكذلك وصفه به النبي إدريس(ع)، فقال سبحانه:- (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً)[4].

وقد أطلق الوصف المذكور أيضاً على السيدة مريم(ع)، فقال عز من قائل:- (وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام)[5].

 

وكما أطلق القرآن الكريم الوصف المذكور، أعني وصف الصديقية على المعصومين، فقد أطلقه أيضاً على الصالحين الكمل من العباد، وهم الذين آمنوا بالله سبحانه ورسوله، إيمان قلب وعقيدة، لا إيمان لسان ومصالح، قال تعالى: -(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون)[6]، فنجد أنه سبحانه وتعالى، قد أطلق الوصف المذكور على مجموعة من العباد، ومن الواضح، أنه ليس المقصود بالذين آمنوا في الآية المباركة الأنبياء، ولا الأوصياء، فإن مقتضى الحديث عن المؤمنين، يكشف عن إرادته لأفراد آخرين، وهو يثبت ما ذكرناه، من أن الموصوف بهذه الصفة هم خصوص الكمل من العباد الصالحين.

 

وهذا يشير إلى عدم اختصاص الصفة المذكورة بالمعصومين(ع)، بل يمكن إطلاقه على غيرهم متى ما كان متصفاً بالوصف المشار إليه في الآية المباركة بالبيان الذي ذكرناه.

اللهم إلا أن يدعى منع عمومية الآية الشريفة، والبناء على حصر دلالتها في فئة خاصة من الناس، وهم أهل البيت(ع)، على أساس أن التخصيص بعد البيان يشير إلى أن الكاذبين الذين آمنوا بعد تكذيبهم وكفرهم، لا يمكن أن يكونوا صديقين، فتكون الآية الشريفة قاصدة أفراداً بعينهم، وهم آل البيت(ع).

 

وطبقاً لما ذكر، سوف تكون الصفة مخصوصة بالمعصومين، ولا يمكن إطلاقها على غيرهم إلا بنحو من أنحاء التنـزيل والاعتبار، كالمجازية، وما شابه[7].

ومنه يتضح أن هذه الصفة منـزلة ربانية يعطيها الباري سبحانه وتعالى لخصوص من ينتخبه ويجتبيه من العباد، ويوفقه للهداية الخاصة.

 

أقسام الصديق:

وما ذكرناه من ظهور الآية الشريفة في العباد الصالحين الكمل، غير أهل البيت(ع)، يستفاد من كلام ابن البطريق، حيث قسم الصديق إلى ثلاثة أقسام:

الأول: صديق نبي، ويشير إليه قوله تعالى:- (واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً)[8]، وقوله تعالى:- (يوسف أيها الصديق)[9].

الثاني: صديق إمام، ويشير إليه قوله تعالى:- (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيـين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)[10]، فإن عطف الصديقين على النبيـين يشير إلى مغايرتهما، وهذا يعني أنهم ليسوا أنبياء، وهم الأوصياء. ويساعد عليه ما تضمنته النصوص، من أن الصديقين ثلاثة: حبيب وحزقيل، وعلي، وهو أفضلهم. ولا خلاف في أن أمير المؤمنين(ع) من الأوصياء، فيثبت أن الصديقية صفة للوصي أيضاً كما أنها صفة للنبي كذلك.

الثالث: صديق عبد صالح، ليس نبياً ولا إماماً[11].

ثم إن مقتضى وصف الباري سبحانه تعالى أنبيائه ورسله في القرآن يشير إلى كونها واحدة من الصفات التي توجب الاصطفاء، فتكون للمرسلين، ثم للأوصياء، وأخيراً للصالحين الكمل، كما سمعت.

وقد ورد استعمال الوصف المذكور، وهو الصديق والصديقة في كلمات المصطفى النبي الأكرم محمد(ص) أيضاً، فقد أطلقه على بعض الأفراد، كالسيدة خديجة(ع)، وعلى السيدة الزهراء(ع)، وقد كان إطلاقه في كلماته(ص) لنفس النكتة والملاك التي أطلقت في القرآن الكريم. فقد ورد عنه(ص) أنه قال لأمير المؤمنين علي(ع): أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا: أوتيت صهراً مثلك ولم أوت أنا مثلي، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي، ولم أوت مثلها زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، لكنكم مني وأنا منكم. ويدل الحديث المذكور على أمرين: صديقيتها، ومقدار فضلها(ع).

 

معايـير الصديقية:

ومع أننا قد أشرنا إلى بيان حقيقة الصديق والصديقة لغة، ومن خلال الاستعمال القرآني والنبوي، تتضح حقيقتهما عند المتشرعة، وأنها لا تختلف عما تضمنته كلمات اللغويـين، خصوصاً وأنك قد سمعت إطلاقها في القرآن والسنة على أفراد مخصوصين بعينهم، إلا أنه تبق الحاجة إلى ملاحظة المعايـير والضوابط التي توجب اتصاف الشخص بهذه الصفة، وتعطيه الأهلية كيما يوسم بهذا اللقب، فيقال بأنه صديق، خصوصاً عندما نتوجه إلى أن النبي(ص) فضلاً عن القرآن الكريم، لا يمكن أن يصدر منهما إطلاق لوصف على فرد جزافاً، بل لابد وأن يكون لذلك الإطلاق سبب نتج من امتلاك الشخص لهذه الصفة، وأن اطلاقها على فرد من الأفراد ليست غايته التشجيع والحث للاستمرار على فعل معين، بل لوجود المؤهلات والمقومات التي جعلته مستحقاً لذلك. مضافاً إلى أن تحديد معايير الوصف المذكور، يساعد كثيراً على بيان حقانية الموصوف بهذه الصفة، وأنه فعلاً قد صدر الوصف له من قبل النبي(ص)، أم أن إعطائه للقب كان كذباً وافتراء عليه(ص).

 

والضوابط التي تذكر، قد يستفاد بعضها من نفس الحقيقة المذكورة للمفهوم، كما في ضابطة الصدق، كما أن بعضها يستفاد من الموصوف، كضابطة العلم، والعصمة، فإن وجود الصفة عند الأنبياء والأوصياء مثلاً، يقتضي أن يكونوا مزودين بهذين الوصفين.

وكيف ما كان، إن الضوابط التي يمكن ذكرها في البين لبيان معايير الصديقية، هي:

 

الأول: الصدق:

ويقصد منه أن يكون الشخص صادقاً في أقواله وأفعاله، ومواقفه. خصوصاً وقد عدّ الكذب ظلماً للنفس، قال تعالى:- (ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً أو كذب بآياته)[12].

وقد ذكر أن سبب إطلاق هذا اللقب على يوسف(ع) يعود إلى صدقه في تعبير رؤيا عزيز مصر الذي رأى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف، وقد جاء تعبيره للرؤيا وتفسيره لها مطابقاً للواقع.

الثاني: العصمة:

فإن صفة الصديقية تعني أن الشخص قد بلغ مرتبة الكمال والعصمة، لأنه قد اختير وانتخب من قبل الله سبحانه وتعالى، ومن الطبيعي أن الذي يجتبى من العباد ويصطفى لابد وأن يكون مسدداً في قوله وفعله.

ولم يدع أحد من المسلمين العصمة لغير من تدعيه الشيعة إليهم، وهم محمد وآله الطاهرون(ع)، فعلي والزهراء(ع) معصومان بنص آية التطهير، وغيرها من الأدلة الدالة على ذلك.

الثالث: أن يكون مطهراً:

والمقصود من الطهارة في المقام الطهارة المادية والمعنوية، وهذا الأمر وإن كان داخلاً في العصمة، بحيث يستوجب ذكرها الاستغناء عن ذكره، إلا أن تأكيد النصوص على ذكر هذه الصفة بالخصوص، يشير إلى أنها صفة لا تعطى إلا لخصوص الأنبياء والأوصياء، ويشهد على ذلك حديث سدّ الأبواب الذي قام به النبي(ص)

الرابع: أن يكون على الحنفية:

ولذلك لما سمعت من أن الصديقية منـزلة ربانية يعطيها الله سبحانه وتعالى لمن ينتخبه ويجتبيه من عباده الطاهرين.

ولا يخفى أن الموصوف بهذه الصفة، إما أن يكون موجوداً قبل بعثة النبي الأكرم محمد(ص)، أو يكون وجوده بعد البعثة المباركة.

فإن كان موجوداً قبلها، فيلزم أن يكون ممن كان يعبد الله تعالى على الحنيفية السمحاء ملة خليل الرحمن إبراهيم(ع)، فلم يسجد لصنم قط، ولم يعبد وثناً، ولا غير ذلك، بل كان موحداً لله تعالى، لم يشرك به أحداً.

أما لو كان وجوده بعد البعثة المباركة، فلابد أن يكون مسلماً من أول الأمر فلا يكون إسلامه مسبوقاً بكفر، ولا بشرك.

ولقد تضمنت المصادر التاريخية المعتبرة، وكلمات المِؤرخين المعول عليهم[13]، أن ولادة الطاهرة الصديقة فاطمة(ع) كانت بعد البعثة المحمدية بخمس سنين، وأنها بأبي وأمي، لم تشرك بالله سبحانه وتعالى طرفة عين أبداً.

الخامس: العلم:

ويعدّ من المقومات الأساسية والضرورية للقب الصديقة، فلا يمكن لمن لا يعلم أن يكون صديقاً في الحديث والمواقف كلها، وهذا يعني أن الصديقية ترتبط بالقيمة المعرفية للفرد، فكلما ازداد علمه وإيمانه ازداد تصديقه لرب العالمين.

السادس: لزوم السنخية بينها وبين النبوة:

ويستفاد اعتبار هذا الأمر من خلال قوله تعالى:- (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيـين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)[14].

ولا ريب في وضوح السنخية بين النبي الأكرم محمد(ص) وبين السيدة الزهراء(ع)، ويساعد على ذلك ما ورد على لسانه(ص) في شأنها من نصوص، مثل قوله(ص): فاطمة روحي التي بين جنبي. وقوله(ص): فاطمة بضعة مني، وغير ذلك.

السابع: الثبات على القيم والتفاني فيها:

إن من أهم صفات العبودية لله سبحانه وتعالى، صفة التفاني في ذات الله تعالى، وتحقيق كمال الطاعة للرسول محمد(ص)، والسعي لنشر الدعوة بالمال والنفس، فالمصدّق هو الذي يصدق بما آمن به عملاً ويجسمه في الخارج[15].

 

عائشة والصديقية:

وقد أعطى بعض علماء الجمهور لقب الصديقة لبعض نساء النبي(ص)، فأطلقوه على عائشة، وقد عرفت أن هناك معايير لابد من توفرها فيمن يوصف بهذا الوصف، ويعطى هذا اللقب، ما لم تكن متوفرة فيه، لا يصلح تلقيبه به. وهذا يعني أن فقدان أي منها مانع من إطلاق الوصف المذكور عليه.

 

وعندما نتأمل في تلك الضوابط، ونعمد لتطبيقها على سيرة زوج النبي(ص) عائشة، لا نجدها متوفرة، لأنه يعتبر في الصديقة أن تكون:

1-مصدقة برسالة النبي الكريم محمد(ص)، وغير شاكة في نبوته، وأنه(ص) مبعوث من قبل الله تعالى. بل يلزم أن تكون مصدقة بالرسالة بكل وجودها ومؤمنة بها إيمان قلب وعقيدة، فلا تكون مشككة فيها.

والمنقول تاريخياً في سيرة عائشة، أنها كانت تشكك في عدالة رسول الله(ص)، ونبوته، فقد ورد أنها قالت له(ص) يوماً: ألست تزعم أنك رسول الله. فلطمها أبوها في وجهها[16].

وقالت له يوماً أيضا: أتق ولا تقل إلا حقاً. فرفع أبو بكر يده فرشم أنفها، وقال: أنت لا أم لك يا ابنة أم رومان، تقولين الحق أنت وأبوك، ولا يقولها رسول الله(ص)[17].

 

2-أن لا تكذب مطلقاً حتى لو كان ذلك على ضرتها، وهذا مخالف لما نقله ابن عبد البر في كتابه الاستيعاب، وما نقله ابن حجر في كتابه الإصابة، فقد جاء فيهما، أن رسول الله(ص) تزوج أسماء بنت النعمان، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت، وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت إحداهما لأسماء: إن النبي يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك[18].

فلما دخل رسول الله عليها وأرخى الستر مدّ يده إليها، فقالت: أعوذ بالله منك، فتلّ بكمه على وجهه واستتر، وقال: عُذت معاذاً، ثلاث مرات، ثم ألحقها بأهلها.

 

3-أن لا تتآمر ولا تتظاهر على الآخرين حتى لو كان الآخر هو زوجها، وهذا خلاف ما ورد من أن قوله تعالى:- (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه واعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير* أن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهر عليه فإن الله هو مولاه وجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ظهير)[19]. وقد سأل ابن عباس عمر بن الخطاب بقوله: من المرأتان المتظاهرتان على رسول الله؟ فما قضى كلامه حتى قال: عائشة وحفصة[20].

ومن المعروف أن عائشة هي التي ألزمت رسول الله(ص) أن يحرم على نفسه ما قد أحله الله تعالى إليه.

 

4-عدم فعل شيء من المحرمات الأخلاقية، كالتنابز بالألقاب، والغيبة للمؤمنات، والحسد، والهوى، وعدم غلبة غيرة النساء عليها، فتخبر بغير الصدق، وهذا ما تفتقر إليه شخصية عائشة، لأن المنقول عنها في المصادر التفسيرية والحديثية والتاريخية، على خلاف ذلك تماماً، فقد ذكر الشيخ الطبرسي(ره) في تفسير قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن)[21]، أنها نزلت في نساء النبي(ص) يسخرن من أم سلمة، عن أنس وابن عباس: أن أم سلمة ربطت حقويها بسبنية وسدلت طرفها، وكانت تجرّ، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجر خلفها، كأنه لسان كلب[22]. وقيل: إنها عيرتها بالقصر، وأشارت بيدها أنها قصيرة.

وجاء في سنن الترمذي، عن عائشة أنها قالت: ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة، وما تزوجني رسول الله إلا بعد ما ماتت، وذلك أن الله بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب[23].

 

وقد بعثها رسول الله(ص) يوماً لتنظر إلى امرأة أراد أن يخطبها، فذهبت ثم رجعت، فقال(ص) ما رأيت؟ قالت: ما رأيت طائلاً. قال لها رسول الله(ص): لقد رأيت خالاً بخدها اقشعرت منه ذؤابتك. فقالت: ما دونك سر، ومن يستطيع أن يكتمك[24].

وقد كانت تتهم رسول الله(ص) باتباع الهوى، أو أن الله سبحانه يسارع للنبي(ص) في هواه، وتقول متهكمة لرسول الله: والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك[25]. وكلامها هذا واضح في ازدرائها بالرسالة وصاحبها(ص).

وجاء في سنن الترمذي، عن عائشة أنها قالت: ما غرت على أحد من أزواج النبي ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله لها وإن كان ليذبح الشاة فيتتبع لها صدايق خديجة فيهديها لهن[26].

ولو رفعنا اليد عن كل ما تقدم، أفهل يعقل أن يصف رسول الله(ص) الصديقة بأنها من صويحبات يوسف[27]، وكلنا يعلم من هن صويحباته؟![28].

 

البتول:

وهو من الأسماء التي سميت به مولاتنا الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، وقد وقع الخلاف في تحديد المقصود منه، فذكرت فيه عدة تفسيرات، والذي استقربه هو عود الاسم المذكور إلى معنى واحد، وهو الانقطاع، الذي يشير إلى التميـيز والانفراد عن الآخرين، بحيث لا يكون مشاركاً فيه من قبل أحد. وهذا يتوافق أيضاً مع المعنى اللغوي، والتباني العرفي. نعم وقع الخلاف بين الباحثين في تحديد موجب الانقطاع والتميز الذي يميزها بأبي وأمي عن بقية النساء، بحيث تكون منقطعة متبتلة عنهم، وهنا ذكرت التفسيرات، وهذا يعني أن الخلاف ليس في أصل المفهوم، بل إن المتابع لكلماتهم يجد أن حقيقته واضحة، وإنما خلافهم في المصداق.

 

وعلى أي حال، فلنشر إلى المصاديق التي ذكرت في تفسير البتول، والتي تعود إلى حقيقة الانقطاع:

 

منها: أنها المنقطعة عن نساء أهل زمانها، ونساء الأمة عفافاً وفضلاً وديناً وحسباً.

ومنها: أنها المنقطعة عن الدنيا إلى الله سبحانه وتعالى.

ومنها: أنها المنقطعة عن الرجال، لعدم وجود رغبة منها فيهم، وبه سميت مريم بنت عمران، كما سميت به السيدة الزهراء(ع).

ومنها: انقطاعها عما هو معتاد العورات في كل شهر، فلا ترى حمرة دم من حيض ولا غيره، ولأنها ترجع كل ليلة بكراً.

ومنها: انقطاعها وطهارتها من كل دنس، وكل رفث.

ومنها: أن المقصود بالبتول، هي المرأة الحسنة الخلقة، فلا يقصر شيء عن شيء، فلا تكون حسنة العين، سمجة الأنف، ولا حسنة الأنف سمجة العين، ولكن تكون تامة. وبهذا تكون منقطعة عن بقية النساء كما لا يخفى.

ووفقاً لما تقدم، يمكن البناء على الالتزام بجميع المصاديق المذكورة، ولا ضير في ذلك، خصوصاً بعد عدم وجود ما يمنع من البناء عليها جميعاً، وقد عرفت أنها تعود إلى معنى واحد، وهو الانقطاع.

 

دفع وهم:

وقد يستشكل في القبول بتفسير البتول بالتي لا ترى الدم، لأن ذلك أمراً مخالفاً لما عليه قوانين الطبيعة، ونحن نعلم أن الأمور تخضع للأسباب والمسببات. والحيض من لوازم الخلقة، فيكون خلو المرأة منه نقصاً وليس كمالاً.

وقد أجاب عن ذلك صدر المتألهين(ره)، وأوضحه العلامة الشعراني(ره)، وخلاصة ما ذكر في ذلك:

أنه لا مجال لإنكار قاعدة العلة والمعلول، والسببية والمسببية، وأنها قاعدة مطردة في جميع الممكنات، إلا أنها لا تمنع من أن يتصرف موجد الكون وخالقه فيه بنحو آخر، لأن هذه القاعدة العامة خاضعة لإرادته تعالى، ومشيئته، وساعد على ذلك ما تضمنه القرآن الكريم من قصص جرت على خلاف القانون المذكور، وكذا معاجز الأنبياء فإنها وإن كانت خاضعة للقاعدة العامة أعني قانون العلية والمعلولية، إلا أنها تضمنت ما يشير إلى تصرف هذا الموجد للكون في الكون، بإيجاده أشياء خارقة للعادة.

وعليه، يقال: إنه سبحانه وتعالى قد تفضل على سيدة نساء العالمين، وبنت سيد النبيـين، فاطمة الطاهرة(ع)، بعدم رؤية هذه القذارة، وهذه فضيلة سامية لها، وتطهير زائد في ذاتها(ع)، ولا يعتبر الخروج عن الأمور الطبيعية نقصاً، بل قد يكون ذلك كرامة، كما هو واضح في حق سيدة النساء(ع)[29].

 

[1] بحار الأنوار ج 43 ص 10.

[2] سورة مريم الآية رقم 41.

[3] سورة يوسف الآية رقم 46.

[4] سورة مريم الآية رقم 56.

[5] سورة المائدة الآية رقم 75.

[6] سورة الحديد الآية رقم 19.

[7] بناء على هذا الاحتمال، سوف يكون وصف الصديقية المطلق على سيدتي السيدة خديجة(ع) أحد الأدلة على عصمتها الذاتية.

[8] سورة مريم الآية رقم 56.

[9] سورة يوسف الآية رقم 46.

[10] سورة النساء الآية رقم 69.

[11] العمدة ص 223.

[12] سورة الأنعام الآية رقم 21.

[13] لابن الجوزي كلام يشكك فيه أن ولادة الصديقة فاطمة(ع) كانت بعد البعثة، ويصر على أن ولادتها كانت قبل البعثة الشريفة، ويعدّ حديث ولادتها بعد البعثة من الموضوعات، وقد تعرضت لكلامه والإجابة عنه مفصلاً في بحث مضى، فليلاحظ.

[14] سورة النساء الآية رقم 69.

[15]  من هو الصديق ومن هي الصديقة ص 69-110(بتصرف).

[16] مجمع الزائد ج 4 ص 322.

[17] سبل الهدى والرشاد ج 11 ص 173، عن ابن عساكر بسنده عن عائشة.

[18] الاستيعاب ج 4 ص 1785 ت 3232، الإصابة ج 8 ص 20 ت 10815.

[19] سورة التحريم الآيتان رقم 3-4.

[20] تفسير الطبري ج 27 ص 207 ح 26678.

[21] سورة الحجرات الآية رقم 11.

[22] تفسير الكشاف ج 4 ص 373، تفسير القرطبي ج 16 ص 326.

[23] سنن الترمذي ج 5 ص 366 ح 3979 فضل خديجة.

[24] تاريخ بغداد ج 1 ص 317.

[25] صحيح مسلم ج 5 ص 174 كتاب الرضاع باب جواز هبتها نوبتها لضرتها.

[26] سنن الترمذي ج 3 ص 249 ح 2086.

[27] إحياء العلوم ج 4 ص 47.

[28] من هو الصديق زمن هي الصديقة ص 29-33(بتصرف).

[29] فاطمة بهجة المصطفى ج 1 ص 159-161(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة