الشرك الثقافي
إن وجود الفكر المستنير في مجتمع ما، يكشف عن وجود مثقفين ووجود ثقافة بين أفراده، وهذا يشير إلى قدرتهم على إدراك المعقولات الكلية، وتميـيز الخير من الشر، ومعرفتهم بالحسن والقبيح الواقعيـين، كما أنه يدل على وجود حالة من انشراح الصدر عندهم، لأن وجوده يكون سبباً مباشراً في حصول المعرفة والثقافة، قال تعالى:- (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجاً)[1].
وقد اعتبر القرآن الكريم كل من لا يملك المعرفة ميتاً، فقال سبحانه:- (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات)[2].
ولا ريب في حاجة الإنسان إلى تقويم ما يملكه من المعارف والمعلومات حتى يتسنى له تميـيز الصحيح من السقيم منها، وهذا يوجب عليه عدم الانغلاق على نفسه فكرياً، لبنائه على حقانية كل ما تعلمه سابقاً وأنه من اليقينيات التي لا تقبل الخطأ. ويكون ذلك من خلال تنوير الفكر، وتحصيل الثقافة ليكون الإنسان مثقفاً.
ويظهر من التأمل في مدلول الكثير من الآيات الشريفة عدّ المثقف هدفاً للرسالات السماوية، وأنه كان مقصداً للمرسلين، فلاحظ الآيات الشريفة التي كانت تدعو للتفكر والنظر، وتخاطب العقول، وتحرك المكامن المدفونة فيها.
نعم يبقى الكلام في تحديد ماهية الثقافة التي يحتاجها الإنسان وينبغي عليه تحصيلها كي ما يكون صاحب فكر مستنير، ويكون مقوماً لأفكاره صحيحها وسقيمها، كما يحتاج تحديد هوية المثقف الذي ينبغي أن يكون مصداقاً له. خصوصاً عند الالتفات إلى أن وجود ثقافة مذمومة ومثقف كذلك.
وهذا يستدعي تحديد ماهية الثقافة كي ما نتمكن من تحديد الثقافة المحمودة من المذمومة، وبالتبع لابد من تحديد هوية المثقف.
حقيقة الثقافة والمثقف:
يستفاد من كلمات أهل اللغة في بيان حقيقة المثقف أنه الذي يكون حاذقاً خفيفاً في إدراك الأشياء، وهذا يعني أن الثقافة هي الحذاقة في الأمور، وهي تعني التمكن منها، وعليه تعرف الثقافة لغة بأنها: التمكن من العلوم والفنون والآداب.
وأما في الاصطلاح، فكثيراً ما يخلط بين مفهومها ومفهوم العلم والفكر، بحيث يتصور اتحاد بينها أو تقارب في المعنى. ويشهد لذلك استعمالاتها إعلامياً.
وعلى أي حال، فقد ذكرت لها عدة تعاريف، نشير لإثنين منها:
أحدها: إنها الحركة الحيوية للحياة والحركة المشخصة والمعاشة.
ومقتضى التعريف المذكور أنه يعتبر في الثقافة أن تكون محيطة بالواقع الحياتي للفرد، ومواكبة لتطورات العصر والزمن، فضلاً عن المكان.
ثانيها: أنها مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها. وتنشأ منها عقلية بتلك الأمة تمتاز عمن سواها.
وهذا التعريف يختلف تماماً عن التعريف السابق، لأن التعريف السابق يقرر أن الثقافة عبارة عن كل مستجد وحادث، وهذا يعني أنه ليس للموروث دخالة في حقيقتها، وعلى العكس تماماً، هذا التعريف، فإنه يجعل الموروث مقوماً لحقيقتها، كما أن للعادات مدخلية فيها، وعليه تكون حقيقتها وفقاً لهذا التعريف مستمدة مما يملك المجتمع من موروث وعادات ليكون ثقافته.
ولن يسلم التعريفان السابقان من المناقشة وفقاً للمنهج المنطقي الذي يعتبر في التعريف أن يكون جامعاً لجميع الأفراد، ومانعاً من دخول الأغيار. لأنهما ليسا جامعين لجميع الأفراد، كما أنهما ليسا مانعين من دخول الأغيار.
فالأول منهما، يشمل الحركة الطبيعية والكونية للحياة، مع أن ذلك ليس من الثقافة في شيء. كما أنه لا يشمل الإنسان فلا يكون جامعاً لجميع الأفراد.
وأما الثاني، فمقتضاه تخصيص موضوع الثقافة بخصوص الناحية الأخلاقية دون غيرها من الموضوعات، وهذا يعني خروج بقية الموارد الأخرى من المفهوم، فلن يكون جامعاً، كما أنه قد حصر مصدرها في خصوص الموروث، فليس للجديد أثر في حقيقتها وتحديد مفهومها، وهذا أيضاً يمنع الشمولية والعموم لجميع الأفراد.
على أنه لو رفعنا اليد عن هذا الإشكال، وهو عدم الجامعية والمانعية، فيرد على أول التعريفين، أنه تعريف بالأخفى، لأنه لا يفيد حقيقة جلية واضحة، ولا يعطي معنى بيناً.
وكيف ما كان، فإنه ومع تعدد التعريفات المذكورة في بيان حقيقتها، إلا أنه لن يجد المتابع تعريفاً لها يخلو عن الإشكال، بل إن جميع ما يجده القارئ في كلمات الباحثين حول حقيقتها لن يخلو إما من إشكال عدم الجامعية، أو إشكال عدم المانعية، فضلاً عن إشكالات أخرى سوف يقف عليها، وهكذا.
نعم يمكن البناء على وجود تعريف تقريبي لها، لا أنه حد أو رسم تام، وإنما هو أقرب ما يكون للتعريف اللفظي الذي يسعى من خلاله إلى توضيح حقيقتها ولو في الجملة، فيقال في بيان ذلك بأن الثقافة هي: ما يخلف في فكر الإنسان وعياً ليعيش مع الحياة بالتفات إلى ما يكمن وراءها من قيمة أو هدف سلبي، أو إيجابي، فهو يحلل الظاهرة الاجتماعية، ويفسر الخبر السياسي، ويقيم المواقف، وهكذا. فهو يشعر ويحس بما حوله وينظر ما هو آتٍ[3].
ووفقاً للتعريف المذكور لحقيقتها يتضح مغايرتها للعلم تماماً، لأن حقيقته تختلف عن هذا المعنى كما لا يخفى.
الشرك الثقافي:
ثم نه بعد الفراغ عن تحديد ماهية الثقافة وهوية المثقف، يلزم تحديد الثقافة التي ينبغي أن يمتلكها الإنسان، كي ما ينطبق عليه عنوان المثقف الذي يحتاج المجتمع وجوده، ويعدّه ركيزة أساسية في مكوناته.
وليس الحديث عن مطلق عنوان المثقف ومفهومه، وإنما المقصود بالعنوان هو من يعيش في ما يسمى بالعالم الثالث، وهذا يجعل الحديث أقرب للموضوع الخارجي منه عن الموضوع الحقيقي، فتأمل.
وهذا يستدعي الإحاطة بهوية المثقف في هذا مجتمعات، وهل أنه يمثل وجوداً مستقلاً في مقابل المثقفين في الأماكن الأخرى، بحيث تكون له رؤى ونهج، بل وحضارة فكرية، أم أنه مجرد صورة مستنسخة عن الواقع الآخر؟
الصحيح، هو فقدان المثقف في العالم الثالث للهوية المستقلة في وجوده الثقافي، فهو مجرد صورة مستنسخة عن المثقفين في المجتمعات الغربية، ولهذا نجدهم يفتقدون للرؤى التي يمتلكها هؤلاء، ويشهد لما قلناه، أننا نجد أن المثقف في مجتمعاتنا يأخذ موقفاً سلبياً من العديد من الأفكار والعادات، لا لشيء إلا لأن المثقف الغربي يقف من هذه الأفكار والعادات موقف السلب منها، كما أن وقوف المثقف الغربي مقابل الدين، وعدم قبوله به، جعل المثقف في مجتمعاتنا اليوم والتي هي مجرد صورة مستنسخة عن هؤلاء المثقفين يقفون موقفاً سلبياً منه أيضاً من دون تأمل منهم أو تدبر في ما يتبنون. مع أن الأمر مختلف تماماً، فالمثقف الغربي مثلاً ينظر لجملة من التشريعات التي أنطوى عليها الدين بأنها مجرد خرافة لا يمكنه الإيمان بها، ولا قبولها، فرمي الجمرات على سبيل المثال، لما لم يكن واعياً لمضمونه، وبعده الواقعي، اعتبره مجرد عبث وخرافة، وكذا ينظر للطواف بالبيت الحرام، أنه مجرد تضييع للوقت وعملية دوران حول بناء قديم لا يترجى منه شيئاً، وهكذا. بينما الأمر مختلف تماماً عندنا، فإن العملين الذين ذكرت يعتبران عنصر أساس في الحج الذي يمثل واحداً من الأسس التي بني الإسلام عليها، والتي لا يمكن للإنسان أن يكون مسلماً ما لم يعتقد به وبما تضمنه من أعمال.
وهذا النوع من التبعية الثقافية الموجودة عند هؤلاء، هي التي عبر القرآن الكريم عنها بالشرك الثقافي، وأشار إليه سبحانه وتعالى في قوله:- (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون* قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون* وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون)[4]، وليس المقصود من الشرك في الآية الشريفة الشرك الاصطلاحي، بل المقصود به هو الشرك الثقافي[5]، وذلك لأن الناس قد اتبعوا مجموعة من الآراء والعقائد من دون أن يتبينوا أو يكون لهم حجة أو برهان من عند الله سبحانه وتعالى، فلم يتبع هؤلاء، لا عقولهم، ولم يتبعوا برهانهم. ويظهر هذا بملاحظة قوله تعالى:- (كما غوينا) فالغواية هي الضلال المتعمد، والمثال الواضح لهؤلاء هم علماء السوء وكذا الصحفيون المأجورون والمفكرون المنحرفون، فإنهم يَضلون ويُضلون[6].
ولا تنحصر الإشارة القرآنية للشرك الثقافي في الآية التي ذكرنا، بل هناك غيرها من الآيات الشريفة، فيشير إليه سبحانه في قوله تعالى:- (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)[7]، فإنها تشير للشركاء والأرباب الفكريـين الذين يأخذون منهم علومهم وثقافتهم، من دون الله سبحانه وتعالى.
ومثل ذلك قوله تعالى:- (اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)[8]، فقد ورد في تفسيرها أنهم لم يتخذوهم للعبادة، وإنما اتبعوهم في الثقافة والآراء والمعتقدات الفاسدة. فقد ورد في تفسيرها، أنه قال(ع): والله ما صلوا لهم ولا صاموا، ولكن أطاعوهم في معصية الله.
وتشير لهذا المعنى نصوص عدة أيضاً:
منها: ما رواه ابن أبي نصر، عن أبي الحسن(ع) في قول الله عز وجل:- (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)، قال: يعني من اتخذ دينه رأيه، بغير إمام من أئمة الهدى[9]. فإن المستفاد منها أمران:
الأول: أن اتباع الأشخاص المبعدين للعبد عن ربه، سبيل لضلاله.
الثاني: أن الذي ينبغي أن يتبع هو كل ما يكون موصلاً لله تعالى، وليس أوضح في ذلك من أهل البيت(ع)، والعلماء الصالحين.
ومنها: ماراه محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبة وجائية يومها فلما جنها الليل بصرت بقطيع مع غير راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فباتت معها في ربضتها فلما ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها، فحنت إليها واغترت بها، فصاح بها الراعي الحقي براعيك وقطيعك، فإنك تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيرة نادة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله جل وعز ظاهراً عادلاً أصبح ضالاً تائهاً وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر نفاق، واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله، قد ضلوا وأضلوا، فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد[10].
ولا يختلف حال هذا النص عن سابقه في الإشارة إلى من يتبع من ينحى به منحى بعيداً عن التعاليم الإسلامية الأصيلة المستقاة من أهل بيت العصمة والطهارة، ليكون بها بعيداً عن تعاليم السماء، فهو ضال تائه ضائع لا يعرف الطريق ولا يبصر المسلك.
ومنها: ما جاء في الحديث الشريف: من استمع إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق ينطق عن ابليس، فقد عبد إبليس. ومن الواضح أن المقصود من العبادة هنا الاتباع والتأثر بما يطرح من أراء ومعتقدات، فيكون موجباً لحصول الشرك الثقافي عنده.
ومنها: ما جاء أيضاً: من دان الله بغير سماع من عالم صادق ألزمه الله التيه إلى الفناء، ومن ادعى سماعاً من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك، وذلك الباب هو الأمين المأمون على سر الله المكنون.
والحاصل، إن المستفاد من الآيات الشريفة، والنصوص المباركة شيء واحد، مفاده أن من أقسام الشرك بالله سبحانه وتعالى، اتباع الإنسان شخصاً اتباعاً مطلقاً من دون أن يعمل عقله لينتفع من وجوده عنده. وهذا يوجب ضرراً عليه في الحياة، ويضر به في عالم الآخرة، ومن المعلوم أن من أهم أضرار الشرك بالإنسان اضلاله في الحياة الدنيا[11].
ومن هنا نخرج لنتيجة مهمة، وهي أن الشرك لا ينحصر في ادعاء شركاء لله سبحانه وتعالى في العبادة فقط، بل إن من أقسامه المتابعة في الأفكار والآراء المنحرفة والفاسدة، وهذا يفسر لنا العديد من الآيات الشريفة التي تضمنت ذم التقليد، وتبعية الآباء والأجداد، ومن الواضح أن ذلك لم يكن إلا بسبب أن هذه التبعية تمثل نحواً من أنحاء الشرك الثقافي، والذي يؤول إلى الشرك في العبادة، وعدم التوحيد.
وهذا الشرك كما يشمل الأفكار والرؤى، فإنه يشمل المنهج المتبع عند الشاب والشابة، فعندما يقلد الشاب تلك التقليعات المستوردة من الغرب، والتي لا تمت للقيم ولا العادات فضلاً عن الدين بصلة، فإنه من أنحاء الشرك الثقافي، وكذا أيضاً مطالبة الفتاة بحرية مطلقة تبعاً لما عليه المرأة في الغرب البعيدة كل البعد عن قيم وعادات وتقاليد المجتمعات الدينية المؤمنة، وعدّها غير ذلك ظلماً للمرأة وعبودية لها، وأمثال هذه التعبيرات، فإنه يدخل أيضاً في الشرك الثقافي الذي نهت الآيات المباركة والنصوص المعصومية عنه.
انحراف الأمة عن خط الرسالة:
ومن الشرك الثقافي ما قامت به الأمة بعد رحلة النبي الأكرم محمد(ص) من انقلاب على قانون السماء، وارتداد على الأعقاب، بمنعها بيعة أمير المؤمنين(ع)، وأولاده المعصمين، وظلامتها لسيدتي الصديقة الزهراء(ع)، ولأمير المؤمنين(ع)، وما جرى عليهما، من أذى، وتقديم غيره عليه. فإن ذلك مصداق قوله تعالى:- (أمن لا يهدي إلا أن يهدى)[12]، وكلنا يعلم أن الله تعالى جعل محمداً وآله(ع) أئمة هداة يهدون بأمر الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:- (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)[13]. فالأصل في الاتباع هو اتباع المهتدي الهادي إلى الحق، وللحق دون:- (أمن لا يهدي إلا أن يهدى)، وهو في الكتب القرآن العظيم، وفي سائر الدعاة المعصومون الرساليون رسلاً وخلفاء لهم معصومون، ثم في زمن غياب العصمة الظاهرة هو القرآن بمن يتبناه ويفتي به من الربانيين[14].
التقليد في أصول الدين:
ووفقاً لما تقدم من المنع من التبعية العمياء التي لا تكون مستندة إلى حجة أو برهان، ولا تتضمن إعمالاً للعقل والنظر، يتضح ما يقرره علماء الكلام، من عدم جواز التقليد في أصول الدين، وأنه لابد وأن يكون المكلف مستنداً فيها إلى حجة ودليل وبرهان.
ومن الواضح، أنه ليس المقصود من الاجتهاد في أصول الدين الاجتهاد الاصطلاحي، فإن ذلك يتعذر، بل يعسر على الكثيرين، إلا ما نذر، وإنما يقصد به أن يكون المكلف كما قلنا لديه حجة وبرهان قد استند إليها في ما يعتقده من أمر، وهذا يظهر من قصة ذلك الأعرابي، الذي سألوه كيف عرفت ربك، فقال: البعرة تدل على البعير، وأثر السير يدل على المسير….ألخ….
وكذا تلك العجوز التي سألوها عن دليلها على وجود خالق لهذا الكون، وقد كانت تحرك مغزلاً في يده فأوقفت يدها فتوقف المغزل، وقالت بهذا عرفت أن لهذا الكون خالقاً، وهي تشير إلى أن يدها التي تحرك المغزل لما توقفت عن الحركة توقف المغزل، فما دام هذا الكون يتحرك فإن له محركاً، ومحركه هو الذي أوجده.
الثقافة الحقيقة:
ومن خلال ما تقدم، يتضح أن الثقافة الحقيقية التي ينبغي أن يمتلكها الإنسان، كي ما يوسم بأنه مثقف، والتي كانت هدفاً من أهداف بعثة الأنبياء، ويعدّ مالكها هدفاً لهم(ع)، هي الثقافة التي يكون مصدرها القرآن الكريم، والسنة المباركة، وكل ما يحكم العقل بحسنه، ويقبل به العقلاء، ويحسنونه، ويظهر هذا من خلال التدبر والتأمل في الآيات المباركة، والنصوص الشريفة، فلاحظ قوله تعالى:- (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)[15]، فقد تضمنت حرفي جر، وهما: اللام، وإلى، ومن الواضح أن كل واحد منهما يشير إلى معنى يغاير المعنى الذي يشير إليه الآخر، فإن اللام، في المقام تشير إلى الغاية، فقوله تعالى:- (للحق)، يشير إلى الغاية.
أما إلى، فإنها تشير إلى النهاية، فقوله تعالى:- (إلى الحق)، تشير إلى النهاية، وهذا يفسر لنا الفرق بينهما في الآية الشريفة، فإن التأمل في الآية يفيد أنه سبحانه قد عبر مرة بحرف اللام، مع كلمة الحق، وأخرى عبر بحرف إلى معها أيضاً، وليس هذا لمجرد التنويع في التعبير، والتـزيين في الكلام، بل إن ذلك يعدّ لوجود نكتة مقصودة أرادها سبحانه وتعالى، تظهر بملاحظة المعنى المقصود لكل واحد من الحرفين كما ذكرنا. فوجود اللام يشير إلى اختصاص الهداية به سبحانه وتعالى، فليس لأحد فيها طريق من قريب أو بعيد، بل هو مصدرها يهبها لمن يشاء من عباده، وهذا بخلاف وجود إلى، فإنها هداية تشمل غيره، كما أنه تعالى مصدر لها، فكما أنه سبحانه يكن مصدراً للدلالة إلى الطريق القويم الذي يوصل إليه، فهناك الرسل والأنبياء، والأئمة والصالحين يقومون بذلك أيضاً.
وكيف ما كان، وفقاً لما تقدم، يقرر بأن الله سبحانه وتعالى، يوصل إلى الحق، فله هدايتان:
الأولى: الهداية إلى الحق، وذلك من خلال بيناته سبحانه، وهي الدلالة إليه.
الثانية: إيصال من هو مهتد إليه، وهو المشار إليه في قوله تعالى:- (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)[16]، فالأصل في الاتباع إذاً هو اتباع المهتدي إلى الحق، وهذا يتحقق بمتابعته، والسير معه[17].
[1] سورة الأنعام الآية رقم 125.
[2] سورة الأنعام الآية رقم 122.
[3] لا يذهب عليك أن كثرة القيود الاحترازية المأخوذة في بيان حقيقة الثقافة شاهد صدق على ما قلناه من أنه تعريف لفظي تقريبي، لأن هذه الكثرة من القيود أريد بها الاحتراز عن الإيرادات الواردة على التعريفات الأخرى، وهذا لا يجعل التعريف مبيناً للحقيقة وموضحاً لها، وإنما يجعله مقرباً للمعنى، فلاحظ.
[4] سورة القصص الآيات رقم 62-64.
[5] ما لا ينكر أن الشرك الثقافي قد يؤول لباً إلى الشرك الاصطلاحي ويكون موجباً لتحققه في بعض الموارد.
[6] من هدى القرآن ج 9 ص 355(بتصرف).
[7] سورة نس الآية رقم 35.
[8] سورة التوبة الآية رقم 31.
[9] أصول الكافي ج 1 ب فيمن دان الله عز وجل بغير امام من الله جل جلاله ح 1 ص 374.
[10] المصدر السابق ح 2 ص 374-375.
[11] من هدى القرآن ج 4 ص 379-381(بتصرف).
[12] سورة يونس الآية رقم 35.
[13] سورة الأنبياء الآية رقم 73.
[14] الفرقان في تفسير القرآن ج 13 ص 338.
[15] سورة نس الآية رقم 35.
[16] سورة القصص الآية رقم 56.
[17] الفرقان في تفسير القرآن ج 13 ص 336(بتصرف).