نشأة الكون

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
12
0

قال تعالى:- (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)[1].

الآية الشريفة واحدة من الآيات القرآنية التي تتضمن الحديث حول الآيات الكونية، والظواهر المصاحبة لها.

وهذا النوع من الحديث يستدعي وجود سؤال حاصله: هل أن القرآن الكريم كتاب علمي مثله مثل بقية الكتب العلمية الأخرى، فهل هو كتاب فيزياء، أو علم الكيمياء، أو يتحدث في علم النبات، أو أنه يتحدث في علم الحيوان، أو في طبقات الأرض، أو في علم الفلك؟…

الصحيح أن القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً من هذه الناحية، وإنما هو كتاب لتربية الإنسان وصياغته، فقد أنزل من أجل أن يوصل الإنسان إلى طريق تكامله الحقيقي، فيبلغه مرتبة القرب من الله سبحانه وتعالى.

ووفقاً لما ذكرناه من نفي كون القرآن الكريم كتاباً علمياً، يجدر التوجه لأمرين، وهما:

الأول: إن البحوث المرتبطة بالعالم والطبيعة، وكذا ما يتعلق بالإنسان، جاء ذكره في القرآن الكريم بصورة استطرادية، فلا تجد في القرآن الكريم آية مستقلة ومباشرة تتعرض لبيان كيفية خلق العالم، وكيفية وجود السماوات الأرض.

غرض التعرض للأمور الطبيعية في القرآن:

نعم يتناول القرآن الكريم هذه الموضوعات لجملة من الأهداف والأغراض، نشير إلى بعضها:

منها: أن تكون الغاية من الحديث عن ذلك هي إيقاف الإنسان على العظمة الإلهية، وبيان ما أودع الله سبحانه في المخلوقات من حكم وأسرار.

ومنها: أن تكون الغاية من ذلك إيجاد دافع الشكر ومعرفة الحق سبحانه، ذلك لأن التعرض بالتفصيل لنعم الله سبحانه في السماء والأرض من الطبيعي أن يكون موجباً لحصول ذلك.

ومنها: العمد إلى تربية الإنسان بحيث ينظر إلى العالم من جهة كونه مخلوقاً لله، وتحت تدبيره، فيستدعي ذلك تفتح معرفته النظرية وعلمه، فيقوى ويشتد.

وبالجملة، إن الهدف إذن من التعرض لهذه البحوث في القرآن المجيد هو الوصول بالإنسان إلى معرفة الله سبحانه بحيث يصبح قلبه متعلقاً بالله تعالى.

ومن خلال ما قدمنا يتضح لنا بصورة جلية واضحة فساد ما يتبناه البعض من أنه يمكن استخراج كل شيء من القرآن الكريم، وأن العلوم الغربية التي وصل إليها الغربيون كلها مستفادة من القرآن.

وأضعف من ذلك اعتقاد بعضهم أن القرآن الكريم يدعو الناس إلى معرفة الطبيعة والحرص على العلوم الطبيعية، كي ما يظفر المجتمع الإنساني بالرقي والتكامل العلمي والصناعي.

والحاصل، إن جميع من أشرنا إليه، ومن لم نشر، قد امتلأت أذهانهم بمفاهيم الثقافة الغربية قبل تعرفهم على القرآن بشكل حقيقي، مما أثر عليهم فانساقوا وراء ذلك.

الثاني: ينبغي لمن يود التعرض لتفسير القرآن الكريم أن يستند إلى الأسلوب الذي يدعو إليه القرآن الكريم نفسه، وهذا يعني أنه لابد قبل العمد إلى تفسير أي آية من آيات الكتاب أن تفهم فهماً حقيقياً، لا أن يكون همُّ المفسر هو تطبيق الآية الشريفة على ما يريده هو، أياً ما كان ذلك الأمر المقصود بالنسبة إليه، سواءً أكان أمراً فلسفياً أم علمياً أم غير ذلك.

نعم نحن لا نمانع أنه في حال وجود آية قرآنية تنطبق حسب قواعد المحاورة على نظرية ما من النظريات فلسفية كانت أم غير ذلك، فإنها تطبق عليها، وإلا فلا.

وهذا يعني أنه ليس من الضروري أن يكون القرآن الكريم قد قدم نظرية معينة بالنسبة لمسألة علمية، ذلك لأن القرآن لا يهدف لحل المسائل العلمية، لكن كل ما يقوله القرآن فهو حق.

ولنشر إلى مثال على ما ذكرنا، ففي عصر من العصور كان الإيمان بنظرية بطليموس الفلكية في علم الهيئة القديم حيث كانت الأرض تعتبر مركز العالم وهم قائلون بأن هناك أفلاكاً تسعة تحيط بالأرض، القمر، وعطارد، والزهرة، والشمس، والمريخ، والمشتري، وزحل، وفلك البروج، وفلك الأطلس.

ولما كانت هذه النظرية معرفة ومقبولة تعرف عليها المسلمون، فاندفع بعض المفسرين متأثرين بالأجواء العلمية السائدة في عصرهم، لاعتبار السماوات السبع الواردة في القرآن هي تلك الأفلاك، لكنهم لاحظو أن عددها لا ينطبق على عدد الأفلاك التسعة، فلجأوا إلى التأويل، فقالوا: لقد تحدث القرآن الكريم أيضاً عن العرش والكرسي، وعلى هذا فالكرسي فلك وراء تلك الأفلاك السبعة وهو فلك البروج، أما العرش الذي هو أرفع من الجميع فيعتبر فلك الأطلس.

وبعد مضي حقبة من الزمن، تبين للباحثين أنه لا أساس للأفلاك التسعة، وأن الأرض ليست مركزاً للعالم، وأنه لا وجود للفلك بالمعنى الذي يقول به القدماء، وأن السيارات ليست هي بعدد ما كان يظنه هؤلاء، وأن الشمس ليست من السيارات، وبالتالي سقطت النظرية عن الاعتبار.

فهذا الذي ذكرناه، وأمثاله كثير يؤكد ما نحن بصدد التنبيه عليه من الاستعجال من قبل بعض المفسرين، وأنه لابد من تفسير القرآن وفق ما جاء في القرآن، وما يريد القرآن التفسير به.

نشأة الكون:

ثم إنه بعد ما تقدم، نعود للحديث حول الآية الشريفة، وقد تضمنت الحديث حول موضوعين، نشير إليهما بما يتناسب والمقام:

الموضوع الأول: الحديث حول نشأة الكون والعالم.

الثاني: حول مدخلية الماء في حياة كل الموجودات.

أما الحديث حول الموضوع الأول، وهو نشأة الكون والعالم، فهناك عدة نظريات علمية تناول الحديث حول هذه النقطة، مثل نظرية الحالة المستقرة، ومثل نظرية الانفجار الكبير، ونظرية الأوتار الفائقة، وغير ذلك من النظريات، لكننا بنحو مختصر نشير إلى نظريتين:

الأولى: نظرية دي ديفون.

الثانية: نظرية كانت.

أما النظرية الأولى، وهي نظرية دي ديفون:

فمنشأ تسميتها نسبتها إلى العالم الفلكي دي ديفون، وحاصل هذه النظرية: أن الكون كان مؤلفاً في الأساس من مجموعة من الكواكب، ثم تعددت هذه الكواكب بسبب انفجار بعضها حينما مر بالقرب منها كوكب ضخم آخر، ويكون هذا الانفجار لاهباً فتنفصل من الكوكب المنفجر قطعاً لاهبة تبرد فيما بعد مع مرور الوقت بعد ملايـين السنين، وإذا بردت تكون حولها طبقة غازية تشكل المحيط أو الغلاف الجوي لذلك الكوكب.

ووفقاً لهذه النظرية فسر بعضهم نشوء كواكب المجموعة الشمسية على أنها كتل لاهبة قد انفصلت عن الشمس نتيجة انفجاراتها، ثم بعد ذلك بردت فكونت الكواكب التي تدور حولها، والتي اجتذبت حولها كميات من الغاز مكونة بذلك الغلاف الجوي الخاص بها.

ثم بعد ذلك تكونت التوابع لهذه الكواكب بالطريقة عينها، حتى إنهم يفسرون نشوء منطقة المحيط الهادي بأنه المكان الذي انفصلت منه الكتلة التي كونت فيما بعد القمر الذي يدور حول الأرض، ومع أن القمر قد انفصل عن الأرض إلا أن خصائصه تختلف عن خصائصها، وأن جاذبية الأرض أكبر من جاذبية القمر بست مرات.

وهذا هو السبب في أن للأرض غلافاً جوياً وليس للقمر غلاف جوي. ونعني الغلاف الجوي للأرض هو طبقة هوائية سمكها ما يقارب الخمسمائة ميل هي عبارة عن مجموعة من الغازات التي تنـتشر في الفضاء الأرضي بعضها على شكل حر وبعضها على شكل مركبات، وبهذا كانت الأرض صالحة للحياة دون القمر.

وهذا التفسير لنشأة الكون يمكن أن نجد فيه شيئاً من الانسجام مع الآية الشريفة التي جعلناها مفتتح حديثنا كما سيأتي عند بيان تفسيرها، ذلك أن الأرض والقمر كانا رتقاً ثم فقتهما الله سبحانه.

النظرية الثانية، وهي نظرية كانت:

فتقرر أن الكون كان كتلة من الغازي السديمي الملتهب ثم لسبب أو لآخر أخذ هذا الغاز بالتكثف والانجماد، ثم راحت ذراته وجزئياته تكوّن كتلاً كبيرة، ثم بعد ذلك عندما أخذ هذا الغاز يدور على نفسه متكتلاً إلى هذه الكتل الكبيرة راحت تنفصل منه كتل أصغر منها إلى الخارج بفعل قوة الطرد المركزي، ومن هذه الكتل المقذوفة إلى الخارج تشكلت الكواكب، ومن تلك الكتل الرئيسية الكبيرة تشكلت النجوم والمجرات.

وكما ذكرنا في النظرية السابقة يمكننا القول هنا أيضاً، فنقرر أنه من الممكن انطباق هذه النظرية على الآية الشريفة، ذلك لأن جميع موجودات الكون كانت عبارة عن كتلة غازية ملتحمة، أي كانت رتقاً، ثم بعد ذلك انفصلت وتفككت، أو انفتقت وفقاً للتعبير القرآني.

نعم ما ينبغي التركيز عليه أنه لا يمكن الجزم بأن هاتين النظريتين هما المصداق الوحيد للآية الشريفة، إذ من الممكن أن تأتي نظرية أخرى وتقضهما، فلاحظ.

ووفقاً للنظريات التي تحدثت عن نشأة الكون عمد الباحثون إلى تقدير عمر الأرض، وقد استندوا في ذلك إلى جملة من النظريات، فاستند بعضهم إلى قياس ملوحة البحار، وآخرون استندوا إلى نظرية التفاعل الجيولوجي للصخور.

تفسير الآية الشريفة:

هذا واستكمالاً للبحث نحتاج أن نتعرف على معنى الآية المباركة التي استهلينا بها البحث، فنقول:

ذكر المفسرون أقوالاً عديدة في بيان حقيقة الرتق والفتق، المذكورين في شأن السماوات والأرض، وأقربها ثلاثة:

الأول: إن المقصود من رتق المساء والأرض هو الإشارة إلى بداية الخلقة، إذ يرى بعض العلماء أن كل هذه العالم كان كتلة واحدة عظيمة من البخار المحترق، وتجزأ تدريجياً بسبب الانفجارات الداخلية والحركة، فتولدت الكواكب والنجوم، وكان من جملتها المنظومة الشمسية والكرة الأرضية. هذا ولا يزال العالم في توسع دائب ودائم.

الثاني: إن المراد من الرتق كون مواد العالم متحدة، بحيث تداخلت فيما بينها، وكانت تبدو وكأنها مادة واحدة، إلا أنها انفصلت عن بعضها بمرور الزمان، فأوجدت تركيـبات جديدة، وظهرت أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات والموجودات الأخرى في السماء والأرض، لكل واحد من هذه الموجودات نظامه الخاص، وآثاره وخواصه.

الثالث: إن المراد من رتق السماء هو أنها لم تكن تمطر في البداية، والمراد من رتق الأرض أنها لم تكن تنبت النبات في ذلك الزمان، إلا أن الله سبحانه فتق الاثنين، فأنزل من السماء المطر، وأخرج من الأرض أنواع النباتات.

وهذا المعنى وردت به نصوص متعددة عن أئمتنا(ع)، كما أن نصوصاً أخرى عنهم(ع) جاء بالمعنى الأول.

هذا والإنصاف، أن المعاني الثلاثة التي ذكرت يمكن أن تكون كلها مجتمعة في بيان المراد، ذلك لأنه لا يوجد أدنى تنافي بين أي واحد منها والبقية.

وقد عرفت إمكانية تصور النظريتين السابقتين لتفسير الآية الشريفة، وأنه ينسجم معهما، فلاحظ.

حياة الموجودات من الماء:

وأما الموضوع الثاني، وهو المرتبط بإيجاد جميع الكائنات الحية بالماء، وقد ذكرت في ذلك عدة تفسيرات، نشير إلى بعض منها:

الأول: إن حياة كل الكائنات الحية، سواء أكانت النباتات أم الحيوانات، مرتبطة بالماء.

لكن ما هو المقصود من هذا الماء، هل هو الماء الذي نزل من السماء، أعني ماء المطر، أم غيره، مع أن هناك كلاماً لبعض الفقهاء(رض)، أن أصل جميع المياه الموجودة على الأرض هو ماء المطر، وتفصيل ميع ذلك يحتاج إلى مجال أوسع، لسنا بصدد الحديث عنه الآن.

الثاني: أن المقصود من الماء في الآية الشريفة ليس الماء الطبيعي المكون من هيدروجين وأوكسجين، بل المقصود منه النطفة التي تكون مبتدأ حياة الجنس الحيواني.

هذا وقد يشكل بأن تفسير الماء في الآية بأنه النطفة، من باب استعمال اللفظ في غير معناه، وهو تفسير مجازي يحتاج إلى قرينة تساعد عليه، وإلا لن يكون مقبولاً.

لكن يمكن دفع ذلك بملاحظة أن لكل علم من العلوم مصطلحاته الخاصة به، والتي تفهم من خلال المراجعة إليه في مقام الاستعمال، والقرآن الكريم أيضاً كذلك، فإن المتابع لآياته المباركة يرى وبوضوح أنه يستعمل لفظة الماء ويكون المقصود منها النطفة، وليس هذا من الاستعمال المجازي، فلاحظ قوله تعالى:- (ألم نخلقكم من ماء مهين)[2]، وقوله تعالى:- (خلق من ماء دافق)[3].

وعلى أي حال، فهناك أبحاث كثيرة يمكن للإنسان أن يتوصل إليها من خلال التأمل في الآية الشريفة ويتوسع فيها أكثر مما ذكرناه، لكننا نعرض عنها خيفة الإطالة، ويمكن للقارئ التوسع أكثر.

——————————————————————————–

[1] سورة الأنبياء الآية رقم 30.

[2] سورة المرسلات آية رقم 20.

[3] سورة الطارق آية رقم 6.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة