كلمة الجمعة
دور العقل في الشريعة
يرفض جملة من الحداثيين والمثقفين مجموعة من عناوين الشريعة بحجة عدم موافقتها لعقولهم، فيرفضون بعض المفردات المرتبطة بالبعد العقائدي كعالم الأنوار مثلاً، بحجة أن عقولهم لا يمكنها التصديق بها، ولا قبولها، كما أنهم يرفضون جملة من الأحكام الشرعية، كنجاسة الكافر، أو الحكم بقتل المرتد، لأن الأول ينافي قانون الكرامة الإنسانية، والثاني مما لا يقبله العقل، لأن العقل يكفل لكل فرد حرية ما يتبنى ويعتقد، وهكذا.
بل قد يتوسع بعضهم أكثر في رؤيته، فيقرر الاستغناء التام عن كل أحد، ويجعل الميزان فقط للعقل، فيحكمه ليجعله الميزان الذي يعتمد عليه في القبول بعقيدة ما، أو بحكم شرعي، وهكذا.
ومع تصاعد هذه الدعاوى وكثرتها من هؤلاء، يستدعي الأمر النظر في دور العقل في الشريعة، ومدى فاعليته في الأحكام الدينية والتكاليف الإلهية، سواء ما كان مرتبطاً بالأمور العقدية، أم ما كان منها مرتبطاً بالأمور الفرعية الشرعية.
وقبل البدء عن الحديث حول دور العقل في الشريعة الإلهية، نشير إلى أن الشريعة السمحاء تتركب من معالم ثلاثة:
الأول: العنصر العقائدي، وهو ما يكون مرتبطاً بشؤن العقيدة والمعارف، وهي تمثل الرؤيا الكونية التي ينبغي للمسلم الاعتقاد والإذعان بها، بحيث ينتفي عنه عنوان الإنسان عادة مع فقدان شيء منها، كما سيأتي بيانه.
الثاني: العنصر القيمي والأخلاقي، وهو الذي يكون مرتبطاً بالشؤون النفسية، ويطلق عليه علم الأخلاق.
الثالث: العنصر الشرعي، وهو ما يتعلق بشؤون الأفعال، ويقصد به الأحكام الفرعية الشرعية، وهي برامج عملية يسار على وفقها.
ويستكشف من التأمل في الآيات الشريفة التي تضمنت الدعوة للتأمل والتفكر مزيد عناية من الشارع المقدس بعنصر العقل. نعم يقع الكلام في أنه هل يستكشف من ذلك وجود دور له في الشريعة، بحيث يتدخل في إثبات عقيدة ما أو نفيها، أو يثبت من خلاله حكم شرعي، أو يحكم بنفيه، أو ليس له دور في ذلك أصلاً.
ومن الطبيعي أن البناء على مدخلية العقل في الشريعة كي ما يقرر وجود دور له، أو نفي ذلك رهين الإحاطة بالرؤى الموجودة حول العقل.
العقل النظري والعملي:
ولقد قسم العقل بلحاظ ما يدركه إلى قسمين:
الأول: العقل النظري: وهو ما ينبغي أن يعلم، ويراد به الأمور التي لها حقيقة واقعية يدركها العقل، ويتوصل إليها. وبهذا الاعتبار سمي عقلاً نظرياً، لأن العاقل يعمل نظره ويمعن في تأمله والوصول إليه، من قبيل:
1-إدراك العقل لوجود الخالق، وصفاته وأفعاله.
2-إدراكه إلى عصمة الأنبياء(ع).
3-إدراكه إلى حقائق الأحكام الشرعية.
الثاني: العقل العملي: وهو ما ينبغي أن يعمل، والمراد به الأمور التي يقضي العقل بلزوم فعلها، وعدم جواز تركها، كالعدل، أو لزوم تركها، وعدم جواز فعلها، كالظلم، وذلك بسبب إدراكه حسن الأول، وقبح الثاني. وقد سمي هذا القسم بالعقل العملي، لأن المدرك يتعلق بالعمل.
وقد اتضح من خلال التقسيم دوران الأمر على معيار الحسن والقبح، فيكون الشيء مقبولاً لدى العقل متى كان حسناً، بينما لا يقبله متى كان قبيحاً.
ويرتب على هذا المعيار والضابط الحاجة إلى الإحاطة بالمقصود بالحسن والقبح، وتحديد معناهما.
معنى الحسن والقبح:
يختلف المقصود من الحسن والقبح، وفق العلم الذي يذكران فيه، ويبحث عنهما فيه، فلو كان البحث عنهما في علم الكلام، سيكون لهما معنى يختلف عما لو كان البحث عنهما في علم الأخلاق، وهكذا، وحتى نستطيع تحديد دور العقل في الشريعة السمحاء، لابد من استعراض المعاني المتصورة إليهما في كافة العلوم الدخيلة في ذلك، كي ما يقرر ما هو موضع النـزاع المتصور فيهما حينئذٍ، فنقول، هناك عدة معاني للحسن والقبح:
منها: الحسن والقبح الكلاميـين: وهو الذي يكون مورد البحث عنهما في علم الكلام، فيحدد الحسن فيه بأنه: كل ما يكون موافقاً للحكمة والغرض. وأما القبيح، فهو ما كان مخالفاً للغرض والحكمة. فالوجود حسن، لأنه يوافق غرض الخالق، ويدل على كمال صفاته في الإيجاد والخلق. ووجود الدودة الشريطية والدودة الزائدة قبيح، لمنافاته للغرض والحكمة[1].
ومنها: الحسن والقبح الأخلاقيـين: وهما ما يكون محور البحث فيهما علم الأخلاق، ويطلق الحسن هناك على كل كمال أخلاقي، كالفضائل، كما أن القبيح يطلق على كل نقص، كالرذائل، فعدّ الفضائل حسن، لأنها كمالات، بينما عدت الرذائل قبيحة، لأنها نقص، وهكذا.
ومنها: الحسن والقبح الطبعيـين: وهما الذي يكون محور بحثهما الشأن الطبيعي للإنسانية، فالحسن في الطبيعة البشرية، هو كل ما يتلاءم مع الطبع، بينما القبيح، هو كل ما يتنافر معه. وقد يعمد إلى توسعته وتعميمه، ليشمل الحسن كل ما فيه لذة، ويكون القبيح كل ما فيه ألم.
ومنها: الحسن والقبح العقليـين: وهذا الذي يكون منشأ وصف الفعل الصادر من الشخص بأنه حسن، إذا كان الفعل مورداً للمدح، بحيث يكون فاعله مستحقاً للمدح على ما فعل، أما لو كان الفعل الصادر من الإنسان مورداً لاستحقاقه للذم، فإنه يكون موصوفاً بكونه قبيحاً.
وعلى هذا فالحسن في المورد، ما كان يستحق فاعله عليه المدح، والقبيح ما كان يستحق فاعله عليه الذم.
الرؤى حول العقل:
ولا خلاف بين العلماء في المعاني الثلاثة الأول للحسن والقبح، إلا أنه وقع الخلاف بينهم في المعنى الرابع، وهو المرتبط بحكم العقل، والذي قد عرفت فيه أن العقل هو الذي يقرر استحقاق المدح، ويقرر استحقاق الذم، فيحكم على فعل من الأفعال بأنه حسن، فيكون صاحبه مستحقاً للمدح، بينما يحكم على فعل آخر بأنه قبيح، فيكون صاحبه مورداً للذم، وهنا يأتي السؤال التالي: هل يمكن للعقل أن يتدخل في هكذا أمور، كي ما يقرر حسن شيء أو قبحه، وبالتالي وصف شخص بالمدح، أو ذمه، أو لا.
وهذا عين ما نحن بصدده، لأنه يؤول إلى وجود الدور للعقل، فيقرر أنه له مدخلية في ثبوت عقيدة، أو نفيها، أو له دور في ثبوت حكم شرعي أو نفيه.
وفي الإجابة، يقال: بأن هناك نظريات ثلاث حول فاعلية العقل ودوره في الشريعة الإسلامية:
الأولى: النظرية الإلغائية:
وهي التي ينكر أصحابها دور العقل أساساً، ويجعلون المدار لخصوص الشرع، فما حكم به الشرع حكم بثبوته، وما حسنه الشرع ألتـزم به، وما نفاه ومنع عنه امتنع عنه، وهكذا.
وهذه النظرية هي مختار الأشاعرة، كما أنها اليوم مختار بعض المفكرين الغربيـين المنكرين لحكم العقل ودوره.
والحاصل، إن مفاد النظرية المذكورة، هو أن ما حسنه الشارع المقدس، والقبيح ما قبحه الشارع المقدس.
ويتضح بطلان النظرية المذكورة من خلال الرجوع للآيات الشريفة، إذ يلحظ المتأمل فيها تسليماً بوجود دور للعقل، وعدم إلغائه، ويظهر ذلك من خلال ذم القرآن الكريم لكل من لم يستثمر وجود العقل عنده، وقام بتعطيله وإلغائه، فلاحظ قوله تعالى:- (صم بكم عمي فهم لا يعقلون)[2]، وغيرها من الآيات الشريفة. وأوضح منها في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى:- (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)[3]، فقد تضمنت ذماً صريحاً لهؤلاء الذين عمدوا إلى تعطيل عقولهم التي زودهم الله تعالى بها، وقاموا بتبعية آباءهم مع ما كان عليهم أباؤهم من خطأ.
وفي المقابل، نجد أن القرآن الكريم قد عمد إلى مدح كل من استفاد من نعمة القعل، واستثمرها، كما يظهر ذلك من العديد من الآيات الشريفة.
الثانية: النظرية الإطلاقية:
وهي التي تجعل الحاكمية المطلقة للعقل في جميع القضايا، وعلى جميعها أيضاً، سواء منها القضايا العقدية، أم القضايا الشرعية الفرعية من دون فرق بينهما. حتى يصل الأمر إلى درجة القناعة بعدم الحاجة أن يبعث الله سبحانه رسولاً، أو ينـزل رسالة، وكتاباً، لأن العقل قدير على الوصول إلى جميع ما سوف يحققه وجود الرسول والرسالة.
ومن الواضح جداً، مباينة النظرية الثانية للنظرية الأولى، فإنها وإياها على طرف نقيض تماماً.
وقد اندثر المعتـزلة القائلون بهذه النظرية، إلا أنها قد عادت اليوم في وجود بعض المفكرين الغربيـين، وعدة من الحداثيـين والمثقفين. فإنهم يعتقدون بالحاكمية المطلقة للعقل، ويعتقدون أنهم يستطيعون الإحاطة بكل شيء والوصول إليه من خلال عقولهم، كما يملكون من خلاله القدرة على الحكم على كل شيء.
ولقد أشار القرآن الكريم إلى بطلان هذه النظرية من خلال نصه على بعث الأنبياء وإرسال الرسل، وإنزال الكتب السماوية، فإن ذلك يكشف عن عدم قدرة العقل بصورة مطلقة على الوصول إلى كل شيء والحكم على كل شيء، وإلا كان إرسال هؤلاء، وإنزال الكتب السماوية عبثاً، وحاشى أن يصدر من الحكيم سبحانه وتعالى العبث، لأنه ينافي الحكمة المطلقة. قال تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[4]، وغير ذلك من الآيات الشريفة.
وقد أكد سبحانه وتعالى عجز العقل البشري على إدراك كافة الأمور وقيامه بها من دون حاجة إلى عنصر آخر من خلال قوله تعالى: – (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، فلو كان العقل البشري قادراً على القيام بالقسط لم تكن هناك حاجة إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب، بينما يدل إرسالها ونزولها الصادر عن الحكيم العالم المطلع على العالم بعجز العقل عن ذلك، ولهذا احتاج إلى وجود ما يساعد ليحصل الغرض وهو قيام الناس بالقسط، ولا يكون ذلك إلا بعد إرسال الأنبياء، وإنزال الكتب.
الثالثة: النظرية الوسطية:
وعبرنا عنها بالوسطية، لعدم رفضها لدور العقل مطلقاً كالنظرية الأولى، وعدم تسليمها للعقل بقول مطلق كالنظرية الثانية، بل هي وسط بينهما، لأنها لا تنفي دور العقل مطلقاً، كما أنها لا تثبت دوره مطلقاً، وإنما تعتقد أن للعقل دوراً إلا أنه محدود بحدود معينة، وضوابط مقررة.
دور العقل في العقيدة:
ثم إنه بعد الفراغ عن وجود دور للعقل وفق ضوابط وحدود معينة، يقع البحث في تحديد دائرة مدخليته، وجوانب تصرفه، وأن ذلك مطلقاً، فيمكنه الدخول في كافة الأمور والأشياء على حد سواء، فيدخل في العقيدة، فيمكن القبول بعقيدة نتيجة قبول العقل بها، كما أنه ترفض عقيدة ما، لعدم قبول العقل بها، وهكذا. مثلاً، فلو رفض العقل دخول ابن الزنا النار، لأنه لا ذنب له، وإنما الذنب لأبويه، رفض القول بدخوله النار، وهكذا.
والصحيح هو البناء على التفصيل، بمعنى أن هناك بعض العقائد ينحصر طريق إثباتها في خصوص الدليل العقلي، ولا مجال في ذلك للاستناد للدليل النقلي الشرعي، بينما هناك أمور عقدية أخرى يمكن اثباتها بالطريق النقلي، كما يمكن إثباتها بالطريق العقلي، وهناك أمور عقدية ينحصر طريق إثباتها في خصوص الدليل النقلي، ولا مسرح فيها للعقل أبداً.
فهنا أقسام ثلاثة:
القسم الأول:
أما القسم الأول، وهو الذي ينحصر طريق إثباته في خصوص الطريق العقلي، ولا مجرى للطريق النقلي الشرعي فيه، كأصول المعارف العقدية، أعني التوحيد والنبوة، فإن الطريق لإثبات وجود الذات المقدسة، ووحدانيته منحصر في خصوص الدليل العقلي، لأن الاستناد في إثباته للدليل النقلي يستلزم الدور الباطل، لأنه لو كان الدليل على وجود الذات المقدسة هو الآيات القرآنية، لكانت حجيتها متوقفة على وجود الذات المقدسة، لأنه سبحانه وتعالى مصدرها، فإنها نازلة منه، ووجوده سبحانه متوقف على حجية الآيات، فيكون الشيء متوقفاً على نفسه، وهذا من الدور الباطل. وعليه سوف تكون الأدلة النقلية إرشاداً إلى حكم العقل.
والنبوة أيضاً، يمكن أن يجعل الطريق لإثباتها منحصراً في الدليل العقلي أيضاً، بلحاظ قانون عدم نقض الغرض، لأنه سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان لغرض ما وهو الكمال، فلابد أن يقوم الباري سبحانه وتعالى بإرشاده إليه، وإلا كان ناقضاً لغرضه، ومن الواضح أن الطريق لإرشاده إلى ذلك لا يكون إلا ببعث الأنبياء وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فيحكم العقل بلزوم بعث الرسل، حذراً من نقض الغرض الذي من أجله قد خلق الإنسان.
القسم الثاني:
وهو ما يمكن إثباته بالطريق النقلي، ولا يكون طريق ثبوته منحصراً في خصوص الدليل العقل، ومن أمثلته المعاد، فإنه لا ينحصر طريق إثباته في الدليل العقلي، بل يمكن الاستدلال عليه بالدليل النقلي، نعم لا يمنع ذلك من الاستدلال له بالدليل العقلي.
وكذلك العصمة، فإنه كما يمكن الاستدلال عليها بالدليل العقلي، يمكن الاستدلال لها بالدليل النقلي أيضاً.
القسم الثالث:
وهو الذي لا يكون للعقل مسرح في إثباته، بحيث يكون طريق الإثبات له منحصراً في خصوص الدليل النقلي الشرعي، ولهذا القسم مصاديق متعددة، مثل علم المعصوم(ع) بالغيب، ومثل الرجعة، ومثل البداء، ومثل الجنة، والنار، والبرزخ، والصراط، وغير ذلك.
ومن الواضح جداً، أن العقل يقف عاجزاً دون الإحاطة والاطلاع على هذه الأمور، ما يجعله لا يمكن القدرة على الحكم فيها بشيء سلباً، ولا إيجاباً.
دور العقل في الأحكام الفرعية:
وكما كان الحديث حول دور العقل في الأمور العقدية ثبوتاً ونفياً، فإن ذلك يجري أيضاً في الأحكام الفرعية الشرعية، فهل يمكن الركون للعقل في إثبات حكم شرعي، والالتزام به، أو يمكن البناء على نفي حكم شرعي لمجرد أن العقل لم يقبل بثبوته، فلو قرر العقل عدم القبول بنجاسة الكافر مثلاً، لكون ذلك ينافي ميزان الإنسانية، ويوجب امتهان الكرامة، فهل يمكن البناء على هذا الحكم العقل والالتزام بعدم ثبوته.
وكذا لو حكم العقل بعدم القبول بقتل المرتد، لأن ذلك ينافي حرية الرأي مثلاً، فهل يبنى على عدم جواز قتل المرتد، وهكذا.
لا يختلف الحال في الأحكام الفرعية الشرعية، عنه في الأحكام العقدية، فكما أنه تم التفصيل هناك، فإن ذلك يجري في المورد أيضاً، وعليه فإنه يمكن تقسيم الأحكام الشرعية أيضاً إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الأقسام الشرعية المحضة:
ونقصد بها الأحكام الشرعية التي يكون طريق اثباتها منحصراً في خصوص الدليل الشرعي النقلي، ولا مسرح في مورد إثباتها لدليل العقل من قريب أو بعيد. وطريق معرفة العقل بها يكون عن طريق الدليل النقلي، فلولا وجوده لم يكن العقل قادراً على الوصول إليها، وهذا مثل فريضة الصلاة، وفريضة، الصوم، والحج، والخمس، والزكاة، وما شابه ذلك.
الثاني: الأحكام العقلية المحضة:
وهي التي يدركها العقل بمفرده، سواء كان هناك شرع أم لم يكن، ويعبر عنها بالمستقلات العقلية، ويقصد بها الأمور التي يستقل العقل بإدراك حسنها، أو إدراك قبحها، من دون أن يتدخل الشارع في ذلك، كالعدل والظلم.
وقد ترتب على ذلك قاعدة معروفة عندهم، وهي قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع، فقالوا بأن كل ما حكم به العقل حكم به الشرع. نعم بين الأعلام خلاف في ثبوت القاعدة المذكورة.
الثالث: الأحكام العقلية المشتركة:
ويقصد بها الأحكام التي يدركها العقل، إلا أن إدراكه إياها لا يكون مستقلاً له وبمفرده، بل يكون الشرع معه في عملية الإدراك، وهذا يعني أن كل واحد منهما يمثل جزء علة في تحصيل الحكم، فلا يحصل لو كان أحدهما دون الآخر. وهذا ما يعبر عنه بالملازمات العقلية، وهي التي تكون كبرياتها قضايا عقلية، فإذا ضمت إلى صغرياتها يتوصل إلى الحكم الشرعي، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.
ومن خلال العرض السابق يتضح دور العقل في الأحكام الشرعية الفرعية في الجملة، وليس بالجملة، ومنه يتضح أن ما يتكرر في ألسنة بعض الحداثيـين والمثقفين من رفض لبعض الأحكام الشرعية بحجة أن عقولهم تأبى القبول بها، ليست كما ينبغي، لأنك قد عرفت الموارد التي تكون مسرحاً لحكم العقل، ومتى لا يكون مجال للاستناد إليه.
ومما تقدم يتضح أيضاً عدم دقة الخلاف الموجود بين المدرستين العلميتين المدرسة الإخبارية والمدرسة الأصولية، لأن أحد موجبات الاختلاف المذكور بينهما، كون المدرسة الأولى لا ترى مدخلية للعقل في الأحكام الشرعية، بخلافه في المدرسة الثانية، فإنها ترى للعقل دوراً في ذلك.
وقد اتضح مما تقدم، عدم تمامية ذلك، لأن المدرستين تلتزمان بالقبول بالقسم الثاني والقسم الثالث، حتى لو أن المدرسة الإخبارية أرجعت القسم الثالث حال التطبيق لحكم الشرع، إلا أنها لا تنكر ما للعقل من دور في ذلك. ويساعد على ذلك أن أبناء المدرسة الأصولية أنفسهم غير متفقين على دور العقل بصورة مطلقة في الأحكام الشرعية.
دائرة دور العقل في الأحكام الشرعية:
ولا يخفى أن مرجع الخلاف بين الجميع يعود إلى تحديد دائرة دور العقل في المقام، فإن هناك احتمالين:
أحدهما: البناء على كون العقل حاكماً، فإذا أدرك حسن الأشياء فإنه يلزم العقل بوجوب العمل على طبق ذلك، كما يلزم العبد بوجوب الاجتناب متى أدرك قبح الأشياء.
ثانيهما: الالتزام بعدم حاكمية العقل، وإنما دوره الإدراك للأشياء لا الحكم بها، فهو يدرك حسن الأشياء كما يدرك قبحها، إلا أنه لا يملك القدرة على أمر العبد بالفعل، ولا بالترك، فهو أشبه ما يكون بالآلة التي تعكس حقائق الأشياء وتوضحها في الأذهان، وتوضح الصورة فيها.
وعلى الاحتمال الثاني الكثير من أعيان المدرسة الأصولية، وأركانها، ولا يتوهم أحد أن واحداً من هؤلاء من أبناء المدرسة الإخبارية.
وقفة مع الحداثيـين:
ومع أنه قد اتضح من خلال ما تقدم الجواب عن الشبهة التي يثيرها الحداثيون والمثقفون من المرجعية المطلقة للعقل في الأحكام الشرعية، ورفضهم بعضاً من أحكام الله تعالى بدعوى عدم قبول عقولهم إياها، إلا أننا نزيد ذلك بياناً، بالإشارة إلى عجز العقل عن القيام بعملية التشريع للأحكام مستقلاً عن الشرع الشريف، وذلك بالنظر للأمور التالية:
1-إن مقتضى كون الأحكام الشرعية توقيفية، يستلزم أن يكون مصدرها الذي تؤخذ منه هو الباري سبحانه وتعالى، ويكون الوصول إليها من خلال المصادر الكاشفة عنه، وهي القرآن الكريم والسنة المباركة. وعليه، فلا يكون العقل مصدراً في تحصيل وتقنينها وجعلها تشريعها.
2-من المعلوم أن الأحكام الشرعية ليست قضايا أولية يمكن الوصول إليها من خلال العقل فقط، كقضية عدم اجتماع النقيضين مثلاً، بل هي قضايا شرعية يتوقف وجودها على مقدمات تستند إلى الشرع.
3-لما كانت الأحكام الشرعية أموراً اعتبارية، وليست أموراً مادية تدرك بالحواس وتعرف من خلال التجربة، فلابد من أن يكون مصدرها هو الشرع.
4-إن جعل الأحكام الشرعية يقوم على وجود مصالح ومفاسد دعت إلى وجودها أو نفيها، وهذه المصالح ليست أموراً حسية تدرك بالحواس الخمس، ولا قضايا مادية يوصل إليها من خلال التجربة، بل هي قضايا اعتبارية، جعلها المعتبر لتلك الأحكام الشرعية، فيكون طريق معرفتها منحصراً بجاعلها الذي اعتبرها، وليس للعقل مسرح في الوصول إليها.