وراثة سليمان (ع)
المعروف من مسلك الجمهور بناءهم على أن وراثة نبي الله سليمان(ع) الواردة في القرآن الكريم وراثة معنوية بمعنى وراثة النبوة والعلم والحكمة، خلافاً لما عليه علماء الطائفة المحقة من أنها وراثة مادية، بمعنى أن ما كان موجوداً تحت يد نبي الله داود(ع) قد انتقل لنبي الله سليمان(ع)، كما ينتقل ما يكون تحت يدي أي انسان بعد موته إلى ورثته من أقربائه. ووفقاً لما أختاروه قالوا بأن الصديقة الطاهرة فاطمة(ع) جاءت تطالب بميراثها المادي من أبيها رسول الله(ص).
إلا أن بعض الكتاب(وفقه الله)، أشار إلى أن هناك وراثة أخرى تسمى بالوراثة الاصطفائية، هي التي كانت مقصودة للصديقة الطاهرة فاطمة(ع) من خلال مطالبتها بفدك، وميراثها من رسول الله(ص)، ولم تكن غايتها الناحية المادية البحتة، وحاصل ما جاء في كلامه بتوضيح منا:
لقد أوجب فرار الجمهور من البناء على كون الوراثة في الآية الشريفة وهي قوله تعالى:- (وورث سليمان داود)[1] هي الوراثة المادية، وإصرارهم على الوراثة المعنوية قاصدين بذلك نفي قاعدة الإرث بين الأنبياء(ع) وذويهم، من جهة شخصياتهم الحقيقية في أموالهم الشخصية، إثبات التوارث بينهم وبين أشخاص خاصين وفق شخصياتهم الحقوقية والاعتبارية، كمنصب النبوة وما يرتبط به، لا من الجهة العامة البشرية. لما عرفت من أن الأمر في دلالة الآية لن يخرج عن محتملين، إما أن تكون الوراثة حقيقية مادية، فيثبت ميراث الصديقة الزهراء(ع)، وإما أن تكون الوراثة معنوية، فيثبت ما ذكرناه، ولا يمكن الفرار من كلا الأمرين إلا بدعوى نسخ الآية الشريفة، وهذا غير ثابت جزماً.
وهذا يعني أنهم قد أثبتوا من خلال ما أرادوا الفرار منه أمراً أعظم شأناً، وأقروا بأمر أكبر قدراً، وأخطر على معتقدهم مما قد نفوه، لأنهم قد أثبتوا التوارث في شخصيات المعصومين الحقوقية والاعتبارية، كمنصب النبوة، وهذه الوراثة لا تكون لكل وارث، وإنما تختص بمن يكون مستجمعاً للشروط التي تخوله لنيل هذا المقام والمنصب.
وقد فات هؤلاء الإحاطة بحقيقة مطالبة الصديقة الطاهرة فاطمة(ع)، فقد تصوروا أنها جاءت تطالب الجانب الشخصي الحقيقي والبشري العادي في النبي(ص)، وهو ميراثها المادي الذي يكون لها كأية فتاة قد توفي والدها. ولم يعلموا أنها كانت تطالب بمقام ولاية النبي(ص) على الأموال الذي لها شأن في ولايته ومنصبه النبوي، وهو أحد مقامات المنصب الثابتة له(ص)[2].
والعجيب منهم، أنه لما استدل الشيعة على اثبات الخلافة بقاعدة الوراثة كما روي في احتجاج أمير المؤمنين(ع) على أصحاب السقيفة، اعترضوا عليه، بأن هذه سنة القياصرة، ومذهب الهرقلية، مع أنهم يثبتونها فيلتـزمون بوراثة الابن من أبيه.
وعلى أي حال، فإن منشأ وهم هؤلاء يعود إلى ما اعتقدوه من أنها(ع) جاءت تطالب بالمال، وتريد إرثه، ولم يلتفتوا إلى أنها جاءت تطالب إرث الاصطفاء، مع أن إرادتها للثاني أوضح من إرادتها للأول.
ولعل منشأ خلو المصادر المتعرضة للحديث عن القضية الفاطمية، من أنها جاءت تطالب إرث الاصطفاء، وما كانت المطالبة بالميراث المادي إلا طريقاً أرادت أن تصل من خلاله إلى ذلك، مجاراة أعلامنا للجمهور في المسألة، ما أوجب تضيـيق دائرة البحث، وحصره في ذلك.
وبالجملة، إن المفروغ عنه، أن أحد الأهداف العالية التي أرادت الصديقة الزهراء(ع) الوصول اليها من خلال المطالبة بالميراث، وإيصال ذلك للأمة، هو التعريف بالوراثة الاصطفائية.
وراثة الأنبياء:
ومنه يتضح الخطأ الذي يقع فيه كثيرون عندما يعتقدون أن ميراث الأنبياء(ع) منحصر في خصوص الجانب المادي الموجود عندهم، والذي يتمثل في متروكاتهم المادية، من الأموال والعقار، والحيوانات والأثاث وما شابه ذلك، ولا يشمل ما كان لهم من جوانب ومناصب معنوية.
وقد أوجب هذا كما سمعت أن يقصر البحث في وراثة الصديقة فاطمة(ع) على خصوص الوراثة المادية باعتبارها أقرب أقرباء النبي(ص)، أو لأنها(ع) الوارث الوحيد له مع زوجاته، مع أن الأهم في بحث الوراثة هو وراثة الجانب المعنوي والحقوقي لشخص النبي(ص)، فترث مناصبه ومقاماته(ص) المعنوية.
إن قلت: إن ما ذكرتموه من رغبتها في الحصول على الجوانب والمناصب المعنوية للنبي(ص)، ليس واضحاً من سيرتها(ع)، فإنها جاء تطالب بفدك على أنها مال ثابت.
قلت: إننا لا نمانع أنها قد جاءت تطالب فدكاً على أنها مال ثابت، إلا أن الكلام في كيفية مطالبتها بها، فهل جاءت تطالب بها بلحاظ الجانب الشخصي المجرد للنبي محمد(ص)، وعنصره البشري فقط، أم أنها كانت تطالب بها بلحاظ أنها من أموال الولاية المختصة بالنبي(ص)، وليست على نحو الملك المعتاد للأشياء، فكانت تطالب بها بلحاظ أنها ملك منصب، وقد كان التخاصم معهم في ذلك تخاصم في الولاية المختصة بأهل البيت(ع)، وملاحظة الشخصية الحقوقية للنبي(ص) التي تختص بهم(ع).
لا ريب في ثبوت الثاني، أعني أن مطالبتها بفدك كان بلحاظ أنها ملك لمنصب الولاية الثابت للنبي(ص)، ومن بعده لأمير المؤمنين(ع)، وهذا يؤكد ما ذكرناه من أن الوراثة التي جاء تطالب بها تتضمن المطالبة بالوراثة الاصطفائية.
الفرق بين الوراثتين الاصطفائية والمادية:
ولا يخفى أن هناك فروقاً بين الوراثة الاصطفائية والوراثة المادية، ما يوجب فرقاً بين الوراث الاصطفائي والوارث المادي:
أحدها: إن الشرائط اللازم توفرها في الوارث الاصطفائي تزيد على الشرائط اللازم توفرها في الوارث المادي.
ثانيها: إن فعلية الوراثة الاصطفائية غير متوقفة على موت المورث، فتتحقق بمجرد وجود الوارث سواء كان ذلك في حياة المورث أم بعد وفاته، كما هو الحال في هارون(ع)، حيث كان وصياً وخليفة ووزيراً لموسى(ع)، وتوفي قبله، وكذلك هابيل حيث كان وصياً لآدم(ع)، لكنه قتل قبل وفاته. بخلاف الوراثة المادية فإنها لا تكون فعلية إلا بموت المورث، فلو مات الوارث قبل مورثه فيها لم تتحقق الوراثة.
ثالثها: إن الوراثة الاصطفائية وراثة تكوينية، ووراثة تنسيل، أي تنتقل الصفات الوراثية الروحية التكوينية من المورث إلى الوراث، نظير الصفات الجسدية، ويشهد لهذا الحديث المروي في كتب الفريقين، من أن فاطمة بنت رسول الله(ص) أتت بابنيها الحسن والحسين(ع) في شكواه التي توفي فيها، فقالت: يا رسول الله، هذان ابناك فورثهما شيئاً.
قال رسول الله(ص): أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فإن له جرأتي وجودي[3].
رابعها: إن موضوع الوراثة الاصطفائية يختلف عن موضوع الوراثة المادية، فإن موضوع الأولى هو الشؤون العامة في الشخصية الحقوقية، والمقامات الملكوتية اللدنية، وموضوع الثانية الأموال والملكية الخاصة.
خامسها: إن مصدر الوراثة المادية هو ما يتركه المورث للوراث نتيجة ما كسبه، أما الوراثة الاصطفائية فهي مواهب لدنية إلهية.
سادسها: إن الوراثة الاصطفائية حكم عقائدي، لأنها ترتبط بالاصطفاء الإلهي لفئة خاصة من البشر بحسب المناصب الإلهية، وأما الوراثة المادية فإنها حكم فقهي تشريعي.
أدلة القاعدة الاصطفائية:
ويدل على هذه القاعدة، كسنة إلهية في بيوت الأصفياء من وراثة ذريتهم لمقاماتهم الغيبية ومناصبهم الولائية، طوائف من الآيات الشريفة، والروايات المباركة.
فمن الآيات الشريفة، قوله تعالى:- (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً)[4]. وتقريب دلالتها على المطلوب ببيان منا:
لقد تضمن صدر الآية الشريفة بيان ولاية النبي الأكرم(ص) العامة على المؤمنين، وهي ولاية نافذة حتى في الشؤون الشخصية، كما يظهر ذلك في قصة زينب بنت جحش، وتزويجها زيداً، قال تعالى:- (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً)[5].
ويشير قوله تعالى:- (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) ما تضمنته الآية المباركة إلى أن الرحم يلي رحمه فيرثه، ومقتضى العموم المستفاد منه أن تكون الوراثة منه إليه في كل ما كان له، فيكون الأقرب رحماً للنبي(ص) وارثاً لما كان ثابتاً له(ص) من مقامات ومناصب معنوية، كمنصب الولاية العامة له على المؤمنين.
وعليه، يكون المستفاد من الآية الشريفة هو وراثة الأرحام لبعض البعض وراثة عامة شاملة للجانب المعنوي، والتركة المعنوية من المناصب والصلاحيات العامة والسياسية والدينية، فتثبت الوراثة الاصطفائية.
ومنها: قوله تعالى:- (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين* وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين)[6]. وقد بنى جل علماء الجمهور على أن الوراثة الحاصلة لسليمان(ع) من داود هي وراثة نبوته وعلمه وحكمته، وهي شؤون ومناصب معنوية وليست مادية. حاصل قولهم: إن قوله تعالى:- (وورث سليمان داود)، إنما يعني بذلك الملك والنبوة، أي جعلناه قائماً بعده، فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة، كذلك قد جمع له من بعده. ويساعد على ذلك استعمال لفظة الإرث في وراثة العلم في جملة من الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:- (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)، وقوله سبحانه:- (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب).
وكما استند علماء الجمهور إلى قرائن تساعد على أن المقصود من الوراثة في الآية الشريفة هيا لوراثة المعنوية، فقد تمسك علماء الشيعة بقرائن تثبت أن المقصود من الوراثة فيها هي الوراثة المادية، نظير: أن النبوة لا تقبل الوراثة، لعدم قبولها الانتقال، كما أن العلم الذي يكون عند الأنبياء والرسل، ليس علماً كسبياً، بل هو علم موهوبي لا يكتسب بالفكر ولا بالتعلم. فالنبوة والعلم ليسا بالإرث، وإنما هما من الله سبحانه وتعالى. كما أن المتبادر من لفظة الميراث عند إطلاقها هو الوراثة المادية وانتقال الأموال من الميت إلى ورثته.
والصحيح دلالة الآية الشريفة على كلا الأمرين، فكما أنها تفيد الوراثة المادية، تفيد أيضاً الوراثة المعنوية الاصطفائية، فكما ورث سليمان(ع) من داود أمواله وما كان تحت يده، ورث منه أيضاً مناصبه المعنوية مقاماته، التي عبرنا عنها بالوارثة الاصطفائية. ويدلنا على ذلك أن نفس مادة ورث تشمل كلاً من الوراثة التكوينية والوارثة الاعتبارية، فتشمل الوارثة في المقامات التكوينية، كالعلم والنبوة والامامة، ووراثة المال والحقوق. بل إن الوراثة الاعتبارية في نفسها ليست مختصة بالمال، بل هي شاملة للمناصب والصلاحيات الاعتبارية في الشؤون العامة.
ومنها: قوله تعالى:- (قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً* وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً* يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[7]. ولم تختلف هذه الآية عن سابقتها من حيث الدلالة، فاختلف المسلمون حيالها، فقال الجمهور بدلالتها على الوراثة المعنوية، وأن ما كان يطلبه نبي الله زكريا(ع) هي الوراثة الاصطفائية. كما أشار إلى ذلك ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح البخاري، حيث ذكر حمل أهل إياها
على العلم والحكمة بالتأويل[8]. وقال علماء الشيعة بدلالتها على الوراثة المادية.
وقد استند الفريقان لجملة من القرائن المثبتة لمختارهما، فتمسك الجمهور لمختارهم بالوراثة المعنوية بجملة من القرائن مثل أن يحيى(ع) قد قتل في حياة أبيه(ع)، وهذا يعني أن المطلوب ليس الوراثة المادية، بل الوراثة المعنوية. كما أن المقصود من آل يعقوب في الآية هم أبناء الأنبياء، وليس خصوص زكريا، ومن الواضح أن الوارث لكل ذلك لن يكون المال فقط، بل الوراثة في العلم والدين، فيكون معنى خوفه من الموالي من أن يضيّعوا العلم والدين.
وأما علماء الشيعة، فجعلوا مستندهم في ذلك، أن زكريا(ع) كان خائفاً من بني عمه، ولذلك طلب وارثاً لأجل خوفه، ولا يليق خوفه إلا بالمال دون العلم والنبوة، لأنه(ع) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبياً ليس أهلاً للنبوة، أو أن يورث علمه وحكمه من ليس أهلاً لهما، بخلاف المال فإنه يرثه الصالح والطالح. كما أنه لا يصح أن يكون المراد إرث العلم، وذلك لأن الغرض من علم الشرائع وعلم الدين هو النشر والبث في سائر الناس حتى الأشرار منهم، وبنو عم زكريا(ع) من جملة الأمة، الذين بُعث لاطلاعهم على ذلك، فكيف يخاف من وصوله إليهم؟
وأما العلم المخصوص الذي لا يتعلق بالشريعة، ولا يجب إطلاع جميع الأمة عليه، كعلم العواقب، وما يجري في المستقبل من الأوقات، وما جرى مجرى ذلك، فلا يتصور خوفه من انتشاره، لأنه إنما يستفاد وينتشر من جهته، ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه فإذا خاف من إلقائه كتمه.
ومنها: قوله تعالى:- (وأنذر عشيرتك الأقربين)[9]، فإنها بصدد بيان الوراثة الاصطفائية لمقامات النبي(ص)، وأن الذي يستحق هذه الوراثة هم الأقربون من قرابته تحت شرائط خاصة بهذا النوع من الوراثة، وقد بيّن النبي(ص) تلك الشروط المعتبرة في وارثه بالوراثة الاصطفائية في حديث الدار المروي عند الفريقين، ومفاد الحديث أن الوراث لمقامات النبي(ص) بالوراثة الاصطفائية من قرباته القريبة، لابد أن يتوفر على شروط خاصة، وهي: مؤازرة الوارث للمورّث في أمر السماء، وصيرورته وزيراً له، يشركه في أعباء ما حُمّل من أمانة الدين والرسالة، وإبلاغها وإقامتها، وأن يضمن عن المورّث عداته المترتبة على مقاماته، ومناصبه الدينية، كسفير من السماء إلى البشر، فيكون ضامناً له في كل عهوده وعقوده السياسية، التي أبرمها مع الجماعات، والملل والنحل والدول، وغيرها من الشرائط التي تختلف فيها وراثة الاصطفاء عن الوراثة المالية العادية[10].
وقفة مع الكاتب المذكور:
وقد تضمن كلامه(وفقه الله) مجموعة من الدعاوى، نعقب عليها بصورة مختصرة وسريعة، ويحال التعقيب على ذلك مفصلاً للبحوث التخصصية، وقبل ذلك نطرح ملاحظة عامة مفادها:
إن حاصل الفكرة التي طرحها الكاتب(حفظه الله)، أن المقامات المعنوية والمناصب الخاصة الثابتة للأنبياء(ع) مثلاً، تنتقل لورثتهم، وهذا يعني أن ما كان لرسول الله(ص) سوف ينتقل للسيدة الزهراء(ع)، شرط توفر أمور وشروط خاصة عندها، ولا ينتقل إليها اتفاقاً، وكذا ما كان له(ص) سوف ينتقل إلى أمير المؤمنين(ع)، شريطة توفر مقومات خاصة عنده(ع)، وإلا لم ينتقل إليه، وهذا الذي ذكره، لن يخرج عن كونه جعلاً من الله سبحانه وتعالى واصطفاء للوصي، أو للمعصوم(ع)، وليس وراثة منتقلة حتى يدعي ما قال، فإنه يمكن أن تكون هذه الوراثة المدعاة أيضاً لغير الرحم، كما ذلك في وصي موسى(ع)، أو غيره. وهذا كافٍ لرد أصل الدعوى. لأن أقصى ما يتصور أنه عمد(زيد في علاه) إلى التعبير عن الاصطفاء الإلهي بالوراثة، وإن ذكر أنها نظير الوراثة للصفات الروحية والمعنوية، وهو المعبر عنه بملكات الأخلاق، والتي هي موضع بحث بين المختصين، في الوراث يرث الصفات النفسية والأخلاقية من مورثه أو لا.
وبعبارة ثانية، هل يوجد فرق بين الوراثة الاصطفائية، وبين منصب الجعل والاصطفاء الإلهي، فهل يمكن أن نتصور وجود وارث وراثة اصطفائية، لا يكون منتخباً ومصطفى ومجعولاً من قبل الله تعالى، لتكون النسبة بينهما مثلاً التباين، أو أن الوارث وراثة اصطفائية أعم من المنتخب والمجعول من قبل الله تعالى والمصطفى منه، أو أنه أخص منه؟
من الواضح، أنه لا يتصور أن يكون هناك وارث وراثة اصطفائية، ولا يكون منتخباً ومصطفى ومجعولاً له الحجية من قبل الله تعالى، الكاشف عن أن النسبة بينهما هي التساوي، وهذا يعني تداخل الوراثة الاصطفائية مع الجعل والاصطفاء، بل هي عينها كما هو ظاهر.
وبالجملة، إن ما ذكره(حفظه الله)، لا يخرج عن أحد أمرين إما مجرد دعوى غير مبرهنة، أو تغيـير في التعبير عن الخلافة الإلهية، وصوناً لكلامه من اللغوية، نحمله على الثاني، ويتضح ما ذكرناه بملاحظة الفوارق التي ذكرها بين الوراثتين، فإنها جلية واضحة في أن المسألة ترتبط بالاصطفاء الإلهي، وأنه قد خلط بين الموردين، فتأمل جيداً.
وكيف ما كان، فإن القارئ يجد في كلامه، جملة من الوقفات:
الأولى: إنه لا يمانع أحد في أصل الفكرة التي يدور الكاتب حولها فيما عرضه من أن أحد الأهداف السامية التي جاءت السيدة الزهراء(ع) تطالب بها هو منصب الإمامة الثابت لأمير المؤمنين(ع)، وما كانت المطالبة بالميراث المادي إلا طريقا لذلك، وإلا فشخص الزهراء(ع)، أبعد أن يعنى بالدنيا وما فيها.
الثانية: إن الاستدلال للقاعدة المذكورة، من خلال آية النبي أولى بالمؤمنين، يمنعه، أن البناء على الشمولية بكون الموروث شاملاً لجميع الجوانب يحتاج قرينة واضحة، وليس في البين ما يساعد على ذلك، خصوصاً وأن المتبادر إلى الذهن من الوراثة المتحدث عنها في الآية الوراثة التي كانت معروفة ومتداولة، وهي تعني وراثة المال والمتاع، وليس أثر من ذلك. ويساعد على ما ذكرنا ملاحظة سبب نزولها، فإن المذكور أن المسلمين كانوا يتوارثون بالأخوة التي عقدها النبي(ص) بينهم، وجاءت الآية لتصحيح الأمر.
على أن مراجعة تاريخ التوارث البشري، يشير إلى أن هناك أمراً معلوماً ومعهوداً عند المسلمين الذين نزلت الآية الشريفة بينهم، وهو التوارث المادي، ولا يشمل التوارث المعنوي[11].
الثالثة: إن القول بكون مفهوم الوراثة الوارد ذكره في القرآن الكريم شاملاً للمعنيـين التكويني ليكون شاملاً لوراثة الأمور والمناصب المعنوية والاعتباري ليشمل الحقوق والأموال، مخالف لظاهر الاستعمال، لأنه يستدعي أن يكون لفظ الإرث من الألفاظ المشتركة التي تستعمل في أكثر من معنى، ويكون استعمالها في كل مورد بحاجة إلى قرينة معينة، أو البناء على أن له معنى احداً، لكنه يستعمل في غيره بنحو المجاز.
ودعوى عدم التباين بين الأمرين، وأنه لا مانع من دلالة لفظة(ورث)على كليهما كما ترى. ودعوى وجود الجامع غير مبرهنة. وأما الاستشهاد لذلك ببعض الآيات القرآنية من أن المقصود مما ورد فيها الأعم من التكوين والاعتبار، لو لم يكن مصادرة بينة، فهو أشبه بها.
كما أن هناك موانع تمنع من البناء على شموله، من خلال القرائن الموجودة في كلمات أعلامنا من التبادر من لفظ الميراث، ومن أن سليمان(ع) كان نبياً في حياة أبيه(ع)، ومن أن منصب النبوة بالجعل، وليس بالوراثة، وما شابه ذلك.
والغريب منه (زيد في توفيقه) تسليمه بالشواهد التي ورد ذكرها في كلمات الجمهور، واعتبارها شواهد قوية يصح الاستناد إليها، وذكره لإجابات واهية عنها، يمكن للقارئ ملاحظتها[12]، مع أنك قد عرفت منا في بحث سابق ضعف هذه الشواهد وعدم صلوحها للإثبات، فراجع[13].
الرابعة: إن ما ذكره من ظهور آية الإنذار في الوراثة الاصطفائية ليس واضحاً، فإن المستفاد منها توجيه الخطاب للنبي(ص) بالقيام بعملية الإنذار والإبلاغ لقومه بالنبوة والرسالة. نعم من خلال الحديث المروي، فإنه(ص) قد طلب منهم من يقوم بمؤازرته على ذلك، وهذا في الحقيقة ليس وراثة كما تصور، وإنما هو إرشاد إلى خليفته من بعده، وهو نص وجعل من الله سبحانه وتعالى، وليس أمراً منتقلاً، بل انتخاب منذ عالم الذر لأمير المؤمنين(ع)، كما انتخب محمداً(ص)، وتشير إلى ذلك نصوص النور.
[1] سورة النمل الآية رقم 16.
[2] من المسلمات أن الصديقة الطاهرة(ع) لم تكن تقصد الجنبة المادية البحتة في المطالبة بميراثها من النبي(ص)، وإنما كان طلبها ذلك طريقاً لاسترجاع حق أمير المؤمنين(ع) والأمة في الخلافة المسلوب، وقد جعلت(روحي فداها) فدكاً سواء كنحلة، أم كميراث، طريقاً للوصول إلى ذلك، ولعل القوم فطنوا إلى ذلك بداية ونهاية فمنعوه ذلك.
[3] الخصال باب الاثنين ح 122-124.
[4] سورة الأحزاب الآية رقم 6.
[5] سرة الأحزاب الآية رقم 36.
[6] سورة النمل الآيتان رقم 15-16.
[7] سورة مريم الآيات رقم 1-4.
[8] فتح الباري في شرح البخاري ج 12 ص 112.
[9] سورة الشعراء الآية رقم 214.
[10] الوراثة الاصطفائية لفاطمة الزهراء(ع) ص 51-124(بتصرف)
[11] يمكن ملاحظة ما ذكره السي العلامة الطباطبائي صاحب الميزان(قده)، فقد ذكر دراسة ضافية حول الموضوع.
[12] الوراثة الاصطفائية لفاطمة الزهراء(ع) ص 90-91.
[13] تعرضنا لذلك في مقال بعنوان وراثة سليمان.