الوراثة الاصطفائية(1)
مثلت وراثة السيدة الزهراء(ع) من أبيها رسول الله(ص) قضية مفصلية في التأريخ الإسلامي، فقد انقسم المسلمون حيالها إلى فريقين، فقال جمهور المسلمين بعدم استحقاقها شيئاً من الميراث، مستندين في ذلك إلى حديث رواه الرجل الأول على لسان النبي الأكرم محمد(ص)، أنه قال: نحن الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.
وخالف في ذلك الشيعة، فقالوا بثبوت التوارث بينها وبين أبيها(ص)، كما أن نسوته(ص) يرثنه أيضاً، واستندوا في ذلك إلى القرآن الكريم، فقد تضمنت آياته ما يدل على ذلك، وهو جزء مما احتجت به الصديقة الطاهرة(ع) في خطبتها في المسجد، مثل قوله تعالى:- (وورث سليمان داود)[1].
وقد وقعت هذه الآية الشريفة مورداً للبحث، فمثلت معضلة لعلماء الجمهور، في كيفية التوفيق بين ظهورها ودلالتها على ثبوت التوارث بين الأنبياء(ع) وورثتهم، وبين ما يروونه عن الرجل الأول، كما سمعت، من نفي التوارث.
وقد أوجب هذا حملهم الآية الشريفة على معنى آخر، فذكروا بأن المقصود فيها هي الوراثة المعنوية، وليست الوارثة المادية، فما ورثه سليمان(ع) من داوود(ع) يتمثل في النبوة والعلم والحكمة، وليست الوارثة الحاصلة له منه وراثة مادية، بأن انتقل إليه منه أموال وعقار وما شابه ذلك.
ومن الواضح، أن البناء على ما ذكر رهن ملاحظة دلالة الآية الشريفة، والوقوف على أن الميراث الوارد فيها له ظهور عرفي في معنى من المعاني ينسجم مع هذا التأويل والحمل الوارد في كلمات القوم، أو أنه استعمال مجازي يساعد عليه وجود قرينة داخلية أو خارجية.
مدلول الآية الشريفة:
لا كلام في أن الظاهر من الآية الشريفة هو خصوص المعنى الحقيقي للميراث، والذي هو عبارة عن انتقال مال الميت إلى أقربائه بعد موته. ولو أريد منه معنى آخر غيره احتاج ذلك إلى وجود قرينة، لأن حمل اللفظ على غير معناه الحقيقي حمل للفظ على غير ما وضع له، وهو الذي يعبر عنه بالمجاز، وهو خلاف الأصل، لأن الاصل استعمال كل لفظ في ما وضع له، وهو معناه الحقيقي.
دعوى مجازية الاستعمال:
ولما كان الأصل في الاستعمال يقضي أن يكون اللفظ مستعملاً في معناه الحقيقي، إلا إذا وجدت قرينة دلت على كونه مستعملاً في معنى مجازي، دعا هذا علماء الجمهور إلى دعوى وجود قرائن تفيد أن الاستعمال في الآية الشريفة ليس استعمالاً حقيقياً، بل هو استعمال مجازي، وأن المقصود من الميراث في الآية الشريفة ما سمعت ذكره من النبوة، والعلم والحكمة. وليس المقصود منه معناه الحقيقي الذي هو انتقال المال من الميت إلى ورثته من أقربائه.
القرائن المدعاة:
وقد قسموا القرائن المدعاة في كلماتهم إلى قسمين: قرائن خارجية، وقرائن داخلية:
ويقصد بالقرائن الخارجية، هي القرائن التي لا تكون مستفادة من خلال سياق الآية القرآنية بل مستفادة من أمور أخرى غيرها.
وأما القرائن الداخلية، فهي التي تكون مستفادة من سياق الآية الشريفة نفسها.
القرائن الخارجية:
وقد ذكروا قرائن خارجية ثلاث لإثبات الدعوى المذكورة:
الأولى: التمسك بالحديث المروي عن أبي بكر:
من القرائن الخارجية التي استند لها الجمهور في نفي كون الوراثة في الآية الشريفة وراثة حقيقية، ما رواه أبو بكر على لسان النبي(ص) أنه قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة[2]. على أساس أن المستفاد منه عموم يشمل كافة الأنبياء(ع) من دون خصوصية لأحد منهم، وأنهم جميعاً مشتركون في هذا الحكم.
ومن الواضح أن الوارثة التي ينفيها(ص) هي الوارثة المادية، والتي تعني انتقال ما تحت يد النبي بعد وفاته إلى أقربائه، ومع منع الوراثة المادية بين الأنبياء، لزم أن يكون المقصود من التوارث الحاصل بين داود وسليمان(ع) شيئاً آخر غير الوراثة المادية، فيثبت أنها الوراثة المعنوية.
والحاصل، إن الحديث المذكور يشكل قرينة موجبة للتصرف في دلالة الآية الشريفة بحمل ظهورها على غير المعني الحقيقي، وهو المعنى المجازي.
ويجاب عن القرينة المذكورة:
أولاً: إن الاحتجاج بحديث فرع ثبوته عند المحتج به عليه، فما لم يكن ثابتاً عنده، لن يكون للاحتجاج به أي قيمة، وهذا ما يقرر في البين، فإن الحديث المذكور لم يرد في شيء من مصادرنا الحديثية، وهذا يعني عدم ثبوته عند أعلام الطائفة(رض)، فلا يصح الاحتجاج به علينا. بل إن الثابت عندنا هو تكذيب الصديقة الزهراء(ع)، والأئمة الأطهار(ع) إياه، ووصفوه بالوضع[3]، وهذا يجعله في أدنى مراتب السقوط والوهن والضعف.
ويؤيد كونه موضوعاً ما تضمنته المصادر الحديثية والتاريخية، من مطالبة نساء النبي(ص) بميراثهن، فقد ورد أنهن أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، أو أردن إرساله إليه، يسأله ميراثهن من رسول الله(ص)[4].
ثانياً: إن المستبعد أن يخفى حكم مثل هذا على أمير المؤمنين(ع)، والسيدة الزهراء(ع)، بل وعلى نسوة النبي(ص)، بحيث لم يطلع عليه أحد سوى عائشة فقط دون غيرها من النسوة، مع أن الجميع منهم مورد ابتلاء بالمسألة. خصوصاً وأن السكوت عن بيانها وهي موضع ابتلاء لهم يوقعهم في حرج شديد بين المسلمين، عندما يعمدون للمطالبة بتطبيق قواعد التوارث المذكورة في القرآن الكريم، والسنة الشريفة.
ومن المستبعد جداً أن يكونوا على علم ودراية بذلك، إلا أنهم أرادوا الاستحواذ على ما ليس لهم، وأخذ ما لا يستحقون.
وأضعف من ذلك أن يكون جميع هؤلاء، أعني أمير المؤمنين، والسيدة الزهراء(ع)، ونساء النبي(ص)، قد أخبرهم النبي(ص)، بذلك إلا أنه أصابهم النسيان، لأنه ليس في المقام ما يستدعي ذلك.
الثانية: تعدد أبناء النبي داود(ع):
إن الثابت تاريخياً وروائياً أن لنبي الله داود(ع) أولاداً كثيرين، وهذا يمنع انحصار ميراثه في خصوص نبي الله سليمان، والمستفاد من الآية الشريفة حصر وراثته في خصوص نبي الله سليمان(ع) وهو خلاف الشرع، بأن يرث البعض دون البقية، ومع وجود الأولاد، لابد من التصرف في ظاهر الآية الشريفة بحملها على خلاف ظاهرها، وهذا يوجب حملها على الميراث المجازي، وهو إرث النبوة والعلم والحكمة.
ومن النصوص الدالة على تعدد أبناء نبي الله داود(ع)، ما رواه معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله(ع)، قال: إن الإمامة عهد من الله عز وجل معهود لرجال مسمين، ليس للإمام أن يزويها عن الذي يكون من بعده، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود(ع) أن اتخذ وصياً من أهلك فإنه قد سبق في علمي أن لا أبعث نبياً إلا وله وصي من أهله وكان لداود أولاد عدة، وفيهم غلام كانت أمه عند داود ولها محبة، فدخل داود(ع) حين أتاه الوحي فقال لها: إن الله عز وجل أوحى إليّ يأمرني أن أتخذ وصياً من أهلي، فقالت له امرأته: فليكن ابني؟ قال: ذلك اريد وكان السابق في علم الله المحتوم عنده أنه سليمان، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: أن لا تعجل دون أن يأتيك أمري فلم يلبث داود(ع) أن ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم فأوحى الله عز وجل إلى داود أن اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيك من بعدك، فجمع داود(ع) ولده، فلما أن قص الخصمان، قال سليمان(ع): يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرجل كرمك؟ قال: دخلته ليلاً، قال: قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافهم في عامك هذا، ثم قال له داود: فكيف لم تقض برقاب الغنم، وقد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل، وكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟ فقال سليمان: إن الكرم لم يجتث من أصله، وإنما اكل حمله وهو عائد في قابل، فأوحى الله عز وجل إلى داود: أن القضاء في هذه القضية ما قضى سليمان به، يا داود أردت أمراً وأردنا أمراً غيره، فدخل داود على امرأته، فقال: أردنا أمراً وأراد الله عز وجل أمراً غيره، ولم يكن إلا ما أراد الله عز وجل، فقد رضينا بأمر الله عز وجل وسلمنا، وكذلك الأوصياء(ع)، ليس لهم أن يتعدوا بهذا الأمر فيجاوزون صاحبه إلى غيره[5]. وقد تضمن الخبر الإشارة إلى تعدد أبناء داود(ع) في مواضع:
أولها عند قوله(ع): وكان لداود(ع) أولاد عدة.
ثانيها: عند قوله(ع): فأوحى الله عز وجل إلى داود أن اجمع ولدك.
ثالثها: عند قوله(ع): فجمع داود(ع) ولده.
والمواضع الثلاثة المذكورة صريحة في تعدد أبناء داود(ع)، وعدم انحصار ذلك في خصوص النبي سليمان(ع).
ويلاحظ عليه، أولاً: بضعف الخبر المذكور، فقد اشتمل سنده على المعلى بن محمد البصري، وهو لم يوثق في المصادر الرجالية، ومجرد وقوعه في أسناد كتاب كامل الزيارات، لا يجدي نفعاً للتوثيق كما فصل في محله. كما أنه يشتمل على بكر بن صالح، المنصوص على ضعف من قبل ابن الغضائري، والنجاشي. وأيضاً وقع في السند عيثم بن أسلم، وهو ليس أحسن حالاً من سابقيه.
ولو كان النظر للخبر الوارد في مصادر الجمهور، والمروي عن طريق الكلبي وقتادة[6]، لم يصلح أيضاً للاستدلال، لأنه مرسل من قبلهما، فضلاً عنه أنه لم ينسب للنبي الأكرم محمد(ص).
ثانياً: إنه بعد التسليم بتمامية الخبر المذكور، فإنه لا يوجد أدنى منافاة بينه وبين الآية الشريفة، لأنها لم تنص على حصر الوارثة المادية في خصوص سليمان(ع) دون بقية أبناء داود(ع)، حتى يقرر وجود المنافاة بينهما، بل إن أقصى ما يظهر منها تحقق التوارث بينهما، وإثبات شيء لا ينفي ما عداه.
الثالثة: الحديث النبوي الدال على وراثة العلماء للأنبياء:
وأما القرينة الخارجية الثالثة التي تمسك بهها علماء الجمهور، فهي الحديث المروي عن النبي الأكرم محمد(ص)، حيث قال: العلماء ورثة الأنبياء[7]. ومن الواضح جداً أن وراثتهم إياهم لن تكون وراثة مادية تشتمل الأموال والعقار، لأن الموجب للتوارث بينهم وهو القرابة أو السبب، كالزوجية أو غيرها ليس متوفراً دائماً، فيكون المقصود من التوارث المذكور في الحديث هو التوارث المعنوي، وهو إرث العلم والحكمة، وما شابه ذلك.
ومقتضى هذا التقريب، أن الأنبياء(ع) لا يورثون أموراً مادية، وإنما يكون توريثهم لخصوص الأمور المعنوية.
ويعتبر الاستدلال المذكور من أعجب الاستدلالات، وذلك لوجود القرينة الموجبة لحمل التوارث المذكور في الحديث على خلاف معناه، وهو الإرث المعنوي، لما سمعت منا في تقريب الحديث من عدم توفر موجبات التوارث من القرابة أو السبب، وهذا يكفي لحمله على خلاف ظاهره، لأنه يشكل قرينة موجبة لذلك.
مع أن القائلين بكون المقصود من الإرث في الآية الشريفة إرثاً مادياً لم ينفوا وجود استعمال لهذه المفردة في المعنى المجازي حال توفر القرينة الموجبة لذلك، نعم هم ينفون أن يكون مستعملاً في الآية في ذلك، لعدم القرينة الدالة عليه.
القرائن الداخلية:
وقد انحصرت القرينة الداخلية في قرينة واحدة، وهي مسألة السياق الذي وقعت فيه الآية الشريفة، فإنها قد وقعت في سياق بيان ما أمتن الله تعالى به على داود وسليمان، وما اختصا به من فضل، وهذا يجعل الحمل للميراث على المعنى المادي مستهجناً لعدم انسجامه مع النعم المذكورة. قال تعالى:- (ولقد ءاتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين* وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين* وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون)[8]. فإن المستفاد من الآية السابقة على الآية محل البحث، أنه سبحانه وتعالى قد آتى داود وسليمان علماً، ثم أشارت إلى تفضيلهما على كثير من عباده المؤمنين.
وبالجملة، إن الوراثة التي تضمنتها الآية الشريفة قد وقعت في سياق تعداد النعم الإلهية التي لم تعط لكثير من العباد، وإنما أختص الله تعالى بها داود وسليمان(ع)، وهذا يناسب أن يكون ما ورثه سليمان من داود(ع) أيضاً مما أختص به دون بقية الناس، فتكون الوراثة وراثة معنوية وليست مادية ليحصل الاختصاص، لأن الوراثة المادية حاصلة لكل أحد، فيثبت أن الموروث هو خصوص النبوة والعلم والحكمة، ليكون شيئاً ذا شأن واختصاص لنبي الله سليمان(ع) دون غيره. كما أن حمل الأمر على الوراثة المادية مستهجن، لأنه متى ما قيس ذلك إلى بقية النعم المذكورة لم يكن مستحسناً ولا مقبولاً.
والحاصل، إن مقتضى سياق الآية الشريفة يستلزم أن يكون الإرث فيها أمراً منسجماً مع ما وقعت في سياقه، ولما كان السياق متضمناً نعماً مختصاً بالمنعم عليهما بها، فلابد أن يكون الإرث كذلك.
ومن المعلوم أن الإرث المادي لا يعطي اختصاصاً للوارث، لأنه يحصل لكل أحد، فلابد وأن يكون المقصود منه شيئاً يفيد الاختصاص، وما ذلك إلا الإرث المعنوي، وهو النبوة والعلم والحكمة. ولن يكون الإرث المعني أمراً مستهجناً حال وقوعه في سياق هذه النعم، كالوراثة المادية.
ويجاب عن القرينة المذكورة بجوابين، أحدهما نقضي، والآخر حلي:
أما الجواب النقضي، فقد عرفت أن القرينة المذكورة تقوم على أن حمل الوراثة على المعنى المادي يعد أمراً مستهجناً، لأنه ليس من المستحسن وقوع نعمة عادية في سياق مجموعة من النعم العظيمة.
وهذا المعنى يخالفه القرآن الكريم، فقد تضمنت بعض آياته تعداد بعض النعم العظيمة، وجاء في سياقها نعماً عادية، فمن ذلك قوله تعالى:- (ولقد آتينا بني اسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين* وآتيناهم بينات من الأمر)[9]، فقد تضمنت الآية الشريفة تعداداً لمجموعة من النعم الخاصة التي أفاضها الله تعالى على بني اسرائيل، مثل: الكتاب، والظاهر أنه التوراة، وقد تعددت صفاته في القرآن الكريم، والحكم الذي استطاعوا من خلاله التخلص من عدوهم فرعون وبطشه ورجاله، والنبوة، فكانت فيهم منذ أن بعث الله تعالى يعقوب(ع) إلى المسيح عيسى(ع). والبينات، وهي المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم(ع) ليعرفوا من خلالها طريق الحق ويتبعوه. وفي سياق تعداد هذه النعم الخاصة والعظيمة، جاء إخباره تعالى عن إنعامه عليهم بالطيبات، والمقصود منه الطعام، وهذا الإطعام إذا ما قيس إلى بقية النعم الأخرى لن يكون شيئاً ذا شأن لأنه لا يختص بهم، فكان المناسب عدم التعرض لذكره في سياق ذكره سبحانه لتلك النعم العظيمة، ما يثبت بطلان الجانب الذي استند إليه أصحاب القرينة الداخلية.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:- (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين)[10]، وقصة السيدة مريم وولدها المسيح عيسى(ع) ليست خافية على أحد، وهو ما أشارت إليه الآية القرآنية، بأنهما جعلا آية، وهذا نوع من الامتنان الالهي عليهما، واختصاصهما بما لم يكن ثابتاً لأحد قبلهما ولا بعدهما، وفي سياق هذا الامتنان الإلهي، ذكر الله سبحانه أنه آواهما إلى ربوة، وهي الموضع الذي استقرا فيه وسكنا، ولا يهم الاختلاف الحاصل بين المفسرين في تحديد هذا المكان، وإنما المهم أنه تعالى قد أنعم عليهما بنعمة عادية مشتركة بينهما(ع) وبين بقية الناس، وقد جاء ذكر هذه النعمة في سياق بيان شيء عظيم مختص، ولم يقل أحد بأن هذا مستهجن، ولا مستقبح، ما يعني أن حمل الوراثة في الآية على المادية لا يعد أمراً مستهجناً ومستقبحاً اتكاءً على السياق.
وأما الجواب الحلي، فإن الآية الشريفة ليست ظاهرة في تعداد ما أنعم به الله تعالى على داود وسليمان(ع)، بل هي بصدد الحديث عن بعض أحوالهما. نعم مآل البيان لأحوالهما(ع) هو الوقوف على ما أنعم الله سبحانه به عليهما، لكن هذا شأن آخر. والقرينة على ذلك أن الآيات بدأت بالإخبار عن أن الله تعالى قد آتاهما علماً ثم أخبرت عن أنهما حمدا الله تعالى كثيراً على هذه النعمة.
مؤيدات المعنى الحقيقي:
على أن هناك مجموعة من المؤيدات المساعدة لكون المقصود من الوراثة في الآية الشريفة هي الوراثة الحقيقة، وليست الوارثة المجازية:
منها: عدم استعمال لفظة التوريث في شيء من آيات القرآن الكريم في المعنى المجازي، فمضافاً للآية محل البحث، ورد ذلك أيضاً على لسان نبي الله زكريا(ع)، حيث قال تعالى:- (فهب لي من لدنك ولياً* يرثني ويرث من آل يعقوب)[11]، ولم يرد في شيء من آياته التعبير عن إعطاء النبوة بالتوريث، وإنما الوارد التعبير عن ذلك بالجعل، قال تعالى:- (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)[12].
ومنها: إن الثابت أن نبي الله سليمان(ع) كان نبياً في حياة أبيه نبي الله داود(ع)، فلا معنى لأن يرث منه النبوة الموجودة عنده. وهذا يظهر من قوله تعالى:- (ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً)[13]، لأنه تعالى قد اسند تفهيم سليمان(ع) إلى نفسه في قضية الغنم المعروفة، ولا يصح لسليمان(ع) أن يحكم بحكم مخالف لحكم نبي الله داود(ع) إلا إذا كان وحياً من الله تعالى.
ومنها: ما صدر من نبي الله زكريا(ع) طلباً للولد، وتقيـيد ذلك بكونه رضياً، قال تعالى:- (فهب لي من لدنك ولياً* يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[14]، فلو كان الوارث نبياً لم يحتج إلى تقيـيد السؤال بكونه رضياً، لأن النبي لا يكون إلا معصوماً، وعليه يحتمل في الرضي أمران، إما أن يكون مرضياً عند الله تعالى، أو مرضياً عند زكريا، وقد يكون بمعنى الراضي بأمر الله، وغير ذلك، وكل ما يتصور من احتمالات في هذه المفردة، يدل على أنه لم يكن يطلب وارثاً للنبوة، وإنما كان يطلب وارثاً مادياً[15].
[1] سورة
[2] مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 463. السنن الكبرى ج 4 ص 64.
[3] لاحظ بحار الأنوار ج 29 ص 215، دعائم الاسلام للقاضي النعمان المصري ج 3 ص 33، دلائل الإمامة للطبري ص 117، وغيرها.
[4] لاحظ لذلك صحيح البخاري ج 8 ص 5، صحيح ابن حبان ج 14 ص 581، مسند أحمد ج 6 ص 262.
[5] الكافي ج 1 كتاب الحجة ح 3 ص 278.
[6] تفسير السمعاني ج 4 ص 81.
[7] الكافي ج 1 ص 32.
[8] سورة النمل الآيات رقم 15-17.
[9] سورة الجاثية الآية رقم 17.
[10] سورة المؤمنون الآية رقم 50.
[11] سورة مريم الآيتان رقم 5- 6.
[12] سورة مريم الآية رقم 54.
[13] سورة الأنبياء الآية رقم 79.
[14] سورة مريم آية رقم 15-16.
[15] شؤون قرآنية ج 1 ص 224-252(بتصرف).