16 أبريل,2024

طاعة الوالدين(4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

حرمة العقوق:

ثم إنه بعدما لم يتم شيء من الآيات الشريفة للدلالة على وجوب طاعتهما، وعمدة ما يمكن استفادة ذلك منه هو خبر محمد بن مروان، وقد عرفت حاله، ينبغي التعرض إلى حرمة عقوقهما، وهذا هو المستفاد من خلال الآيات الشريفة والنصوص المباركة، حيث نجد أن الإمام الجواد(ع) في صحيح عبد العظيم الحسني(رض)، قد استشهد بقوله تعالى:- (وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً) على حرمة العقوق.

وقد تضمنت النصوص أيضاً غير الإشارة إلى حرمة العقوق، بيان الآثار المترتبة على ذلك، فعن الإمام رئيس المذهب أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: من نظر إلى أبويه ماقت وهما ظالمان لم يقبل الله له صلاة. ومثل ذلك ما جاء عن الإمام الباقر(ع) حيث قال: قال رسول الله(ص)-في كلام له-: إياكم وعقوق الوالدين فإن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم.

وعلى أي حال، لا كلام في حرمة العقوق، وأنه كبيرة من الكبائر التي توعد الله سبحانه وتعالى فاعله النار، فقد ورد عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: أدنى العقوق أفٍ، ولو علم الله عز وجل شيئاً أهون منه لنهى عنه.

تحديد العقوق:

وقد فسر العقوق في القاموس المحيط بأنه الشق، وجاء في المنجد: عق الولد والده عصاه.
وأما في الاصطلاح الفقهي، فقد أختلف الفقهاء في تحديد العقوق الموجب للحرمة على ثلاثة أقوال:

الأول: ما أختاره السيد صاحب العروة(قده)، وهو البناء على ثبوت سببين يحققان العقوق:

1-العمد إلى إيذاء الأبوين، أو إيذاء أحدهما.
2-عصيان الأمر الصادر من كليهما، أو الصادر من أحدهما، سواء كان عصيان أمرهما موجباً لحصول الإيذاء لهما أم لا.

ولا يخفى مقدار الفرق بين السببين الموجبين لتحقق العقوق خارجاً، فإنه كما أشرنا قد يكون مخالفة للأمر الصادر عنهما، من دون أن يستوجب ذلك إدخال الأذى عليهما، كما أن أدخال الأّذى عليهما لا يستلزم أن يكون ناجماً من مخالفة منه لأمرهما، وهذا يعني أن أدخال الأذى أخص من مخالفة الأمر، ولنقرب ذلك بمثال، لو أن الأب أمر ولده بالذهاب إلى صلاة الجماعة، ولم يمتثل الولد أمر أبيه، فإن هذا ينطبق عليه عنوان العقوق لكونه مخالفة لأمره، مع أنه قد لا يكون مستوجباً لحصول الأذى للأب، كما هو واضح.

ولو أن الولد تقدم على أبيه في المرافق العامة، أو رفع صوته عليه، و لم يبدِ له ما ينبغي من الاحترام، فتأذى الأب من فعل ولده، فإنه ينطبق عنوان العقوق، مع أنه قد لا يكون الأب قدم أمراً لولده يتضمن أمره بعدم رفع صوته عليه، أو عدم التقدم عليه في الأماكن وما شابه.

الثاني: ما ألتـزمه غير واحد من الأعلام المعلقين على كتاب العروة الوثقى، وحاصله أنه ليس للعقوق إلا سبب وموجب واحد فقط، وهو عبارة عن إدخال الإيذاء على الوالدين أو على أحدهما، ومتى تحقق ذلك فإنه يحكم بصدق عنوان العقوق وإلا فلا، حتى وإن كانت هناك مخالفة للأوامر الصادرة من الأبوين أو من كليهما، كما لا يخفى. ولنقرب ذلك بمثال: لو أن الولد اتخذ قراراً بالسفر، وكان سفره هذا يوجب الإيذاء للأب، أو للأبوين مثلاً، فلا إشكال في انطباق عنوان العقوق متى ما أقدم الولد على السفر، كما لا يخفى. أما لو أراد الولد السفر، وقد أمره الأب ألا يسافر مثلاً، إلا أنه أقدم على السفر، ولم يكن سفره موجباً لإيذائه، وإنما تضمن مخالفة لأمره ليس إلا، فلا ينطبق عنوان العقوق حينئذٍ.

وبالجملة، إن المعيار في انطباق عنوان العقوق يدور مدار تحقق الإيذاء وصدقه خارجاً، فمتى صدق العنوان المذكور وانطبق أن الفعل الصادر من الولد تجاه أبويه أو أحدهما أنه إيذاء، كان ذلك محققاً لعنوان العقوق، كما لا يخفى.

الثالث: ما بنى عليه بعض أساطين العصر(أطال الله في بقائه)، وحاصله الالتزام بأن الموجب لصدق عنوان العقوق هو تحقق الإيذاء للأبوين أو لأحدهما، إلا أنه ليس مطلق الإيذاء، وإنما يلتـزم بالتفصيل في موجب حصول الإيذاء، بين ما إذا  كان سببه الأبوان نفسيهما، وبين ما إذا  كان الشفقة على الولد، توضيح ذلك:

إن الإيذاء الداخل على الوالدين أو على أحدهما له موجبان:    
                          
الأول: أن يكون منشأ حصول الإيذاء عندهما كراهة الوالدين أو أحدهما المصلحة للولد، سواء كانت المصلحة المكروهة مصلحة دنيوية، أم كانت مصلحة أخروية، مثلاً لو كان الولد متـزوجاً أو مقدماً على الزواج بفتاة على مستوى من الإيمان والخلق الحسن، إلا أن والدته لم تكن راغبة فيها، لأنها لا ترغب أن تكون هذه الزوجة زوجة لولده لكراهتها المصلحة له، وبالتالي كانت تبدي أن زواجه منها يوجب إيذاء إليها، فلا يبنى والحال هذه على صدق عنوان العقوق حينئذٍ، لأنه إيذاء ناتج من كراهة الأم الخير والمصلحة لولدها.

وقد يكون الولد من المسارعين في الأعمال الخيرية، والمشاركين فيها، فيتبرع في كل عمل خيري، كما يساهم في أعمال أخرى بمجهوده البدني، ولم يكن الأب راغباً أن يكون ولده منتهجاً هذا المنهج، لأنه يكره له أن يكون ذا ثواب وأجر في الآخرة، لدى أبدى له التأذي من قيامه بمثل هذه الأعمال، إلا أنه لا يحكم في مثل هذه الحالة لو استمر الولد على ما عليه من عمل بصدق عنوان العقوق، ومن ثم حرمته، لأن التأذي الحاصل للأب منشأه كراهته الخير الأخروي والمصلحة للولد، فلا يكون محققاً لعنوان العقوق المحرم.

الثاني: أن يكون الإيذاء الداخل عليهما أو على أحدهما ناجماً من الشفقة منهما عليه، بمعنى أنهما تأذيا شفقة منهما عليه، ولأجله، كما لو كان الولد عازماً على السفر إلى بلد ما، إلا أن ذلك البلد يعيش حالة من القلاقل والصراعات الأمنية، فأبرزا له تأذيهما من سفره لشفقتهما عليه، فلو أقدم على السفر وخالف، كان عاقاً لهما حينئذٍ.
فإن كان الإيذاء الحاصل لهما، أو لأحدهما من الموجب الأول، لم يكن ذلك محققاً لعنوان العقوق، أما لو كان المحقق لعنوان الإيذاء هو الموجب الثاني، فإنه ينطبق عنوان العقوق المحرم.