28 مارس,2024

طاعة الوالدين(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

طاعة الوالدين(1)

لا خلاف بين أصحابنا في حرمة عقوق الوالدين، بل يعدّ ذلك وفقاً للعديد من النصوص من الكبائر التي توعد الله سبحانه فاعلها النار، إنما الكلام في وجوب طاعتهما، فهل تجب طاعة الوالدين فيما يأمران به، وهذا يعني الالتزام بتنفيذ جميع ما يأمران به ما لم يكن متضمناً معصية لله سبحانه وتعالى، كما لو أمر الأب مثلاً ولده بحضور صلاة الجماعة، كان الحضور واجباً عليه، فلو لم يحضر كان مرتكباً لمحرم، وكذا لو أمرت الأم ولدها ألا يتـزوج امرأة ثانية على زوجته مثلاً، وجب عليه امتثال أمرها مثلاً، فلم يجز له الزواج بزوجة ثانية، وكما لو منعا الولد من سفر ما، لم يجز له السفر، بل لو سافر كان سفره من مصاديق سفر المعصية التي لا يسوغ فيه الترخص والتقصير والإفطار، أو لو صدر منهما معاً أو من أحدهما نهي عن الإتيان بصيام مستحب، حكم عندها بحرمة ذلك الصوم بالنسبة إليه، وهكذا. أم لا يجب ذلك، وإنما يحرم عقوقهما، فيقتصر التكليف الموجه للمكلف في تجنب كل ما يوجب تحقق عنوان العقوق، سواء ألتـزم بسعة دائرته، أم بني على ضيقها، وفقاً للخلاف الحاصل بين الأصحاب، كما سوف نشير إلى ذلك في ما يأتي.

المستفاد من فتاوى السيد اليزدي(قده) هو البناء على وجوب طاعة الوالدين، وحرمة مخالفة أوامرهما، فألتـزم بأنه لا يبعد البناء على وجوب صلاة الجماعة في حق الولد الذي أمر من قبل والديه أو أحدهما بحضورها،  كما أعتبر نهي أحد الوالدين عن السفر مانعاً من الترخص حال مخالفة الولد بإيقاعه خارجاً، ومثل ذلك الكلام في الصوم المنهي عنه من قبلهما، أو من قبل أحدهما.

وبنى غير واحد من الأعلام المعلقين على العروة الوثقى على خلاف ذلك، فالتزموا بعدم وجوب طاعتهما، وإنما يحرم عقوقهما.

وفصل بعض أعلامنا(قده) في الأوامر الصادرة عن الأبوين، فألتزم بعدم وجوب طاعتهما لو كانت تلك الأوامر الصادرة عنهما مجرد أوامر اقتراحية محضة لا تتضمن غرضاً شرعياً، أو عقلائياً. أما إذا كان الأمر الصادر عنهما أو عن أحدهما متضمناً لغرض شرعي صحيح، أو لغرض عقلائي، فلا ريب في وجوب طاعة الأمر عندها، ويتأكد وجوب الطاعة لو كان تركه موجباً لحصول الإيذاء لهما[1].

ومن الطبيعي أن البناء على وجوب الطاعة، أو الاقتصار على خصوص حرمة العقوق رهين دلالة الأدلة على ذلك، وهذا يستوجب دراسة الآيات الشريفة، وكذا النصوص المباركة، وملاحظة مقدار دلالتها، وأنها تدل على وجوب الطاعة، أم أنها تدل على حرمة العقوق، خصوصاً وأن ليس في المقام إجماع يمكن الركون إليه، والاستناد إليه في المقام، ذلك أن المسألة لم تعنون في كلمات الأصحاب، لا قدماء، ولا متأخرين. مضافاً إلى أن الاستناد لحكم العقل في البين لا يصلح، إذ الظاهر أن دلالته على ذلك سوف تكون من باب إدراك حسن الإحسان إليهما، فلا يتم الاستدلال به إلا بناءً على تمامية قاعدة الملازمة بين ما حكم به العقل، وحكم به الشرع.

الآيات الكريمة:

وعلى أي حال، فقد تضمن القرآن الكريم مجموعة من الآيات التي تحدثت عن الوالدين، وأشارت إلى حقهما، وسوف نبدأ باستعراض تلك الآيات الشريفة التي تضمنت ذلك، لنرى هل يستفاد منها وجوب طاعتهما، أم أنى أقصى ما تدل عليه التوجيه لحسن الصحبة، وبالتالي تدل ولو بالدلالة الالتـزامية على حرمة العقوق.

فمن الآيات المباركة، قوله تعالى:- (وإذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً)[2].
ولا يخفى أن الآية تضمنت الإخبار بالجملة الخبرية، وهي في مقام الإنشاء، وقد قرر في محله أن استخدام الجملة الخبرية في مقام الإنشاء أبلغ في الطلب وآكد في تحققه. وعليه سوف يكون معنى الآية المباركة: وإذ أخذنا ميثاق بني اسرائيل، أن اعبدوا الله، وأحسنوا للوالدين، وأحسنوا إلى القرابة، ولليتامى، وللمساكين وأخيراً أحسنوا معاشرة الناس.

هذا ولم يتعرض سبحانه وتعالى لبيان كيفية الإحسان إلى الوالدين، ولعل منشأ ذلك أنه من الموضوعات التي تتغير وتختلف باختلاف الأزمنة والأماكن، فقد لا يصدق عنوان الإحسان إليهما في مكان مع صدقه في مكان آخر، وكذا قد ينطبق عنوان الإحسان إليهما في زمان، إلا أنه لا يحقق ذلك في زمان آخر.
وبالجملة، وفقاً لكون الأماكن والأزمنة مختلفة ومتغيرة، فقد استدعى ذلك عدم تحديد دائرة الإحسان، وإحالة ذلك إلى العرف، فلاحظ.

وطبقاً لما تقدم، سوف تكون الأفعال الصادرة من الولد منحصرة في أحد عنوانين ثلاثة:

الأول: أن يكون الفعل الصادر منه تجاهما، أو تجاه أحدهما مصداقاً للإحسان إليهما.
الثاني: أن يكون الفعل الصادر منه مصداقاً للإساءة إليهما.
الثالث: أن يكون الفعل الصادر منه مورداً للشك والتردد في انطباق عنوان الإحسان إليهما، أو انطباق عنوان الإساءة إليهما.
ولا ريب في لزوم الأول، كما أن الثاني ممنوع، وأما الثالث، فسوف يبنى فيه بالتفصيل، فلو كان مصداقاً للإحسان لزم البناء على وجوبه، ومتى صدق عليه عنوان الإساءة فلا إشكال في المنع عنه وحرمته، فلاحظ[3].

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة:

هذا وتقرب دلالة الآية المباركة على وجوب طاعة الوالدين، من خلال مقدمتين:
الأولى: الاستناد إلى دلالتها على: الأمر بالإحسان إلى الوالدين، وقد تقرر في الأصول أن الأمر ظاهر في الوجوب، فيثبت المطلوب. توضيح ذلك:

قد عرفت منا في ما تقدم أن قوله تعالى (وبالوالدين إحساناً) في تقدير أحسنوا إلى الوالدين، وهذا يعني أن قوله سبحانه(وبالوالدين) متعلق بفعل محذوف، والتقدير وأحسنوا إلى الوالدين إحساناً، ومن الواضح أن الفعل أحسنوا فعل أمر، والأمر دال على الوجوب، فيلزم القول بوجوب الإحسان إلى الأبوين.
الثانية: إن لفظة الإحسان تتضمن لزوم طاعة الوالدين.

هذا وتتوقف تمامية الاستدلال المذكور على أمرين:

الأول: تحديد المقصود من الإحسان، بحيث يكون مشتملاً على لزوم إطاعة أوامرهما، فلو ثبت أن لزوم الطاعة  داخل في معناه، صح الاستدلال بالآية الشريفة على المدعى، أما لو لم يكن الإحسان بحسب معناه شاملاً لذلك، فلا يكون الاستدلال تاماً.
الثاني: أن لا تكون الآية المباركة مختصة ببني إسرائيل، بل لابد وأن تكون شاملة للأمة المرحومة أيضاً، ولو من خلال الاستناد إلى استصحاب عدم نسخ الشرائع السابقة.

حقيقة الاحسان:

أما الأمر الأول، فينبغي أن تلحظ حقيقة الإحسان تارة بحسب المعنى اللغوي. وأخرى يكون لحاظها وفقاً لما تضمنته النصوص الشريفة في بيان حقيقته.

أما بحسب معناه في اللغة، فالمذكور في كلمات اللغويـــيـن، أن الإحسان مقابل الإساءة[4]، ومن الطبيعي أن معرفة حقيقة الإساءة تحدد لنا حقيقة الإحسان، ووفقاً للتعريف المذكور لن يكون الإحسان شاملاً لطاعة الأوامر الصادرة عنهما، أو عن أحدهما، فلا يحكم على من خالف أمرهما أنه قد أساء إليهما، بل إن الإساءة على ما يبدو نحو من أنحاء الإضرار، سواء كانت إضراراً معنوياً أم كانت إضراراً مادياً.

نعم لو قيل أن الإساءة تعني مطلق الأذى، بحيث أن مجرد الإيذاء ولو لم يكن من صغريات الإضرار، ينطبق عليه عنوان الإساءة، أمكن القول بشمول الطاعة لتحقق الإحسان، فتكون الطاعة لأوامرهما من صغريات حقيقته، فلاحظ. 

وأما بحسب ما تضمنته النصوص الشريفة في تفسير الإحسان وبيان حقيقته، فقد ورد في كتاب الكافي بسند صحيح عن أبي ولاد الحناط قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن قول الله عز وجل:- (وبالوالدين إحساناً) ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيـين، أليس يقول الله عز وجل:- (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)[5].

 وقد تضمن الصحيح تحديد المقصود من الإحسان في الآية الشريفة، فقد حدده(ع) في أمرين:
الأول: إحسان الصحبة، وهو يتحقق بالملاطفة، وحسن البشر، وطلاقة الوجه، والتواضع والترحم، وأمثال ذلك مما يوجب سرورهما.

الثاني: القيام بشأنهما وإن كانا قادرين على ذلك، فلا ينتظر الولد منهما أن يسألاه شيئاً، بل حتى مع قدرتهما على إيجاد ذلك الشيء، يسعى إلى تحقيقه إليهما، فالحصول على الماء لشربه وإن كان مقدوراً للأب، لكن يحسن بالولد أن يعمد هو إلى إحضاره إلى أبيه، وكذلك النفقة، فإنه وإن كان الأب قادراً على الإنفاق على نفسه، لكنه يحسن بالولد أن يعمد إلى إعطاء أبيه ما يحتاجه من نفقة، ولا أقل أن يقوم بالمساهمة معه في نقته، وهكذا[6].

ووفقاً لما تقدم في بيان حقيقة الإحسان، بحسب الاستعمال اللغوي، والتعريف في النصوص ينكشف عدم اشتماله على لزوم الطاعة، فلا يدخل في تحقق عنوانه خارجاً الطاعة، وهذا يعني أن الإحسان يصدق في الخارج كموضوع وإن كانت هناك مخالفة لأوامر المحسن إليه، وعدم تلبية طلباته، وتطبيقها. إذ أنه يتحقق من خلال المداراة إلى الوالدين، في الأقوال والأفعال واتخاذ السلوك الجميل معهما، ويساعد على ذلك ما سيأتي في بعض الآيات المتحدثة عن حدود العلاقة معما، وهي قوله تعالى:- (وصاحبهما في الدنيا معروفاً)، وكذا صراحة صحيحة أبي ولاد الحناط في ذلك.

ثم إنه لو قيل بأن الإحسان شامل للطاعة، لكون المقصود من الإساءة مطلق الأذى، فيكون الإحسان خلافه.

إلا أن ذلك لن يكون موجباً لدلالة الآية الشريفة على وجوب طاعة الأبوين، لما عرفت من أنه لابد من توفر الأمر الثاني فيها حتى تصلح لذلك، وهو شمولها للأمة المرحومة، وعدم اختصاصها بمن تحدثت عنهم ونزلت في شأنهم، وهو المجتمع الاسرائيلي.

ولا يذهب عليك أن هذا يجرنا إلى استعراض معنى نسخ الشريعة المحمدية للشرائع السماوية السابقة، فإن في ذلك محتملين، أشرنا إليهما في بحوث سابقة، وهما:

الأول: أن يبنى على أن المقصود من نسخها لما سبقها من الشرائع، هو الإلغاء لكل ما كان موجوداً في تلك الشرائع من الأحكام والعمد إلى تأسيس جديد، فحرمة الخمر وإن كانت موجودة في الشرائع السماوية السابقة، إلا أن ناسخية الشريعة المحمدية لما تضمنته تلك الشرائع تستدعي البناء على ارتفاع الحرمة المذكورة، وتأسيس حرمة جديدة له، وهكذا.
ووفقاً لهذا المعنى، فإنه سوف نحتاج وجود دليل قرآني مثلاً يدل على لزوم الإحسان للوالدين المشتمل على عنوان الطاعة حتى يحكم بلزوم طاعتهما، وما لم يكن ذلك الدليل القرآني متوفراً فلن يصح الاستناد للقرآن الكريم في الحكم بوجوب الطاعة للأبوين، كما لا يخفى.

الثاني: أن الناسخية ليست بمعنى إلغاء جميع ما كان موجوداً في تلك الشرائع من الأحكام والتشريعات، بل إن هناك تشريعات بمثابة القوانين العامة الثابتة في كل الشرائع السماوية، وإنما المقصود من الناسخية هو إلغاء التعبد بتلك الشرائع السماوية، فلا يكون التعبد بشيء إلا بخصوص شريعة الإسلام، وهذه الشريعة تتضمن تغيـيراً في الجملة لبعض المقررات والقوانين التشريعية التي تضمنتها تلك الشرائع حسب متطلبات الواقع الخارجي المعاش.

والمحتمل الثاني تساعد عليه نصوص أشرنا إليها في محله. وطبقاً لهذا المحتمل سوف يكون الأًصل الأولي هو شمولية ما جاء في الشرائع السابقة للأمة المرحومة إلا إذا دل الدليل على ناسخية هذا الحكم الموجود فيها، وعدم شموله لهذه الأمة.

هذا ومع الشك في كون الحكم الوارد في شأن الأمم السابقة، وفي شرائعها شاملاً للأمة المرحومة، يتمسك باستصحاب عدم النسخ للشرائع السابقة.
والظاهر أن الحكم المذكور في الآية الشريفة خاص ببني اسرائيل لوجود قرينة تساعد على ذلك، وهي كون الحديث أساساً عن الميثاق المأخوذ عليهم، وهذا نحو من نحوين في الإخبارات الغيبية التي تضمنها القرآن الكريم، إذ أن إخبارات القرآن الغيبية، قد تكون عن حوادث وقعت، وقد تكون عن أمور سوف تقع.

والمتحصل من جميع ما تقدم، أن أقصى ما تفيده الآية الشريفة هو لزوم الإحسان للأبوين، ولا يتضمن ذلك لزوم طاعتهما، بعد التسليم بشمولية الآية الشريفة للأمة المرحومة.

طريق آخر لنفي الوجوب:

هذا وقد يسلك طريق آخر لمنع دلالة الآية الشريفة على وجوب طاعة الأبوين، وذلك من خلال الاستناد إلى وحدة السياق، فيقال: بأن الآية الشريفة قد اشتملت على مجموعة من الموضوعات، إذ ذكرت الحديث عن لزوم عبادة الله تعالى، ولزوم الإحسان إلى الوالدين، ولزوم الإحسان إلى القرابة، ولزوم الإحسان إلى اليتامى، ولزوم الإحسان إلى المساكين. ولا يختلف أثنان في عدم وجوب الإحسان للقرابة، ولليتامى وللمساكين، بل إن هذا من الأمور المحبوبة، وليس من الأمور اللازمة، فيكون ذلك قرينة على أن الأمر بالإحسان للوالدين من الأمور المحبوبة وليس من الأمور اللازمة، لأنه وقع في سياق ما هو محبوب فيكون كذلك.

والتقريب المذكور وإن كان في نفسه حسناً، إلا أنه يجري على بعض المباني الأصولية الجارية في دلالة الأمر على الوجوب، فلو أخذنا مثلاً مختار عدة من أعلامنا، في أن دلالة الأمر على الوجوب من خلال حكم العقل، فلن يكون وجود الأمر في سياق مجموعة من المستحبات مانعاً من ظهوره في ذلك، فلاحظ.

الآية الثانية:
ومنها: قوله تعالى:- (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى)[7].
ولا يختلف الحديث في الآية المذكورة عنه في الآية السابقة، فيجري فيها جميع ما تقدم ذكره في تلك الآية. نعم ليست الآية محل البحث من الآيات القرآنية المرتبطة بالحديث عن بني إسرائيل، بل الظاهر أنها حديث للأمة المرحومة كما لا يخفى.

[1] مهذب الأحكام ج 9 ص 173.
[2] سورة البقرة الآية رقم 83.
[3] مواهب الرحمن ج 1 ص 431-432. (بتصرف)
[4] لاحظ على سبيل المثال القاموس المحيط ج 2 ص 1564.
[5] أصول الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب البر بالوالدين ح 1.
[6] مرآة العقول ج 8 ص 388(بتصرف)
[7] سورة النساء الآية رقم 36.