29 مارس,2024

خَلق القرآن

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال أبو هاشم الجعفري: خطر ببالي أن القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟…فقال أبو محمد(ع): يا أبا هاشم: إن الله خالق كل شيء، وما سواه مخلوق.

مدخل:

من المسؤوليات التي تناط بالمعصوم في عصره المحافظة على الثقافة الإسلامية في الوسط الإسلامي، وذلك من خلال التصدي للشبه التي توجد في ذلك العصر، إما بالرد عليها، أو إبراز خلافها، فنجد أن أمير المؤمنين(ع)، مع أن القوم عمدوا إلى غصبه حقه الذي جعله الله سبحانه وتعالى له، واستيلائهم على منصبه الذي نصبه الله فيه، إلا أنه كان يسعى لعلاج كل ما يرد على الإسلام من شبه وإشكالات، كانت تثار سواء من اليهود، أم من النصارى، أم من غيرهم، حتى قال قائل القوم: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن(ع).

وكذا أيضاً في عصر بني أمية لما ثارت الخلافات بين الدولة الأموية وبين ملك الروم، حتى صار يهدد المسلمين، لجأ الخليفة الأموي للإمام الباقر(ع) ليوجد له حلاً وعلاجاً يخرجه من المأزق الذي وقع فيه، فكان له ما أراد على يد الإمام(ع)، ونتيجة ذلك ضربت النقود الإسلامية، وهكذا.

ولم يختلف منهج إمامنا العسكري(ع) عن منهج آبائه وأجداده الطاهرين(ع)، فسار على نفس ما كانوا ينهجون من الأسلوب والطريقة، ولذا لما اشتدت الخلافات العقائدية في عصره(ع) كان له دور بارز جداً في التصدي لها وإيجاد الحلول والعلاجات، فعندما كتب الفيلسوف الكندي كتابه تناقضات القران الكريم، تصدى له أبو محمد(ع)، فبعث له واحداً من تلامذته يـبين له الخلل الذي وقع فيه، وقد كان للإمام(ع) ما أراد إذ تراجع الفيلسوف الكندي عن معتقده، وأتلف ما كتب.

ومع أن تلك الخلافات العقدية ربما تطورت فتحولت إلى فتن ومشاكل اجتماعية، وسياسية، إلا أن ذلك لم يمنعه(ع) من التصدي لها وإيجاد الحلول المناسبة لعلاجها.

فتنة خَلق القرآن:

ومن أبرز الشبه العقائدية، بل الفتن السياسية التي كانت في عصره(ع) كانت فتنة خَلق القرآن الكريم، وهي التي كانت تتمحور حول أن القرآن الكريم هل هو مخلوق، فيكون حادثاً في وجوده بعد الباري سبحانه وتعالى، لأن الله قد خلقه بعدما لم يكن موجوداً أصلاً، فيكون مسبوقاً بعدم قبل الوجود، أم أنه قديم بقدم الذات المقدسة؟…

وقد تعددت الآراء العلمية في ذلك، واختلفت المذاهب الكلامية، فكان هناك جوابان للعلماء والكلاميـين، وتعددت المذاهب، وصاروا فيها إلى جوابين متناقضين، ففريق قال بأنه مخلوق، وآخر قال بأنه قديم.

وعندما نعود لما صدر عن أئمتنا(ع)، سواء قبل عصر الإمام العسكري(ع)، أم ما صدر عنه(ع)، لا نجد التعبير عن القرآن الكريم بلفظة أنه مخلوق، وإنما كان التأكيد على ما يؤدي الغرض في هذا الجانب، حيث كان الصادر منهم التأكيد على عدم قدم القرآن، من خلال التأكيد على كونه حادثاً بأنه كلام الله سبحانه وتعالى. نعم ما صدر عنهم(ع) بالتعبير بكونه مخلوقاً كان يصدر في عدّه واحداً من مخلوقات الله سبحانه.

تأريخ بدأ فتنة خلق القرآن:

هذا وما ينبغي الإشارة له هو أن فتنة خلق القرآن وما صاحبها من أحداث، لم تكن وليدة عصر الإمام العسكري(ع)، بل إن لها جذوراً قديمة منذ العصر الأموي، والظاهر أن أول من أثار فتنة خلق القرآن الكريم وقدمه، هو يوحنا الدمشقي، وهو من النصارى الذين كانوا في حاشية الخلافة الأموية، وقد أخذ يشكك المسلمين في عقيدتهم ودينهم، فأتخذ شبهة كلام الله سبحانه وسيلة لتحقيق أغراضه وأهدافه، من خلال ما جاء في القرآن الكريم من أن المسيح عيسى بن مريم(ع) كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء(ع)، فصار يطرح هل أن كلام الله سبحانه قديم أم حادث، فإن قالوا أن كلامه قديم، قال ثبتت على هذا دعوى النصارى، بأن عيسى المسيح قديم، وإن قالوا أنه ليس قديماً، قال: زعمتم أنه مخلوق.

فلما رأت المعتـزلة ذلك، قالوا أن القرآن الكريم حادث، مخلوق، وليس قديماً، حسماً منهم لمادة النـزاع والخلاف.

وفي مقابل المعتـزلة القائلين بخلق القرآن الكريم كان في القرن الثاني الجعد بن درهم من أهل الحديث يقول بأن كلام الله سبحانه، ليس مخلوقاً.

ولما آلت الخلافة إلى الدولة العباسية، وبالتحديد إلى المأمون العباسي، لاقت نظرية المعتـزلة مقبولية عنده، لأنه كان يؤيد حركة المعتـزلة ونظرياتها، فاستفاد المعتـزلة من هذا التأيـيد الذي أصبح بمثابة الغطاء الذي ينطوون تحته لتمرير نظريتهم، وإجبار الناس عليها. فعمدوا إلى امتحان علماء الأمصار واختبارهم فمن أجاب بمثل ما كانوا يقولون، لاقى مقبولية وتقريـباً عندهم، وإلا تعرض لأبشع أنواع الأذى والابتلاء. ويشه لذلك ما ذكره المؤرخون أنه وفي عصر المأمون العباسي، كتب أحمد بن أبي داؤد إلى الولاة في العواصم الإسلامية أن يمتحنوا الفقهاء والمحدثين في مسألة خلق القرآن، فمن قال بمقالة أهل الاعتزال، وأن القرآن مخلوق سلم، ومن قال بخلاف ذلك، تعرض لأقسى ألوان العذاب، إذ أن أحمد قد ألزمهم أن يعاقبوا كل من قال بأنه غير مخلوق، ولم يرَ رأي المعتـزلة.

وطبقاً لهذا أتخذ علماء الأمصار الإجابة وفقاً لما كان يعتقده المعتـزلة حذراً من التعرض لنكال السلطة، وخالف في ذلك نفر قليل، كان على رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي أخذ يروج لفكرة عدم خلق القرآن، أو قدمه، ويدافع عنها بحماس منقطع النظير، وتحمل في سبيل ذلك الكثير من الآلام والمشاق، فسجن وعذب وجلد بالسياط، وقد بقي في هذا الوضع مدة ثمانية عشر شهراً، إلا أن ذلك كله لم يردعه عن المضي قدماً في رأيه ومتبناه.

والغريب في الأمر أن الإمام أحمد خالف في هذا الرأي الذي ألتـزمه من القول بقدم القرآن الكريم، وعدم خلقه مدرسة الحديث التي ينتمي إليها، لأن المعروف من منهج مدرسة أهل الحديث هو الالتزام بعدم الخوض في أي شيء لم يرد فيه نص عن رسول الله(ص)، أو عهد من الصحابة. وهذا الموضوع لا يوجد فيه من هذين المصدرين ما يحدد أي المتبنين في المقام.

وعلى أي حال، لقد كان للموقف الذي سجله الإمام أحمد من حيث المجاهرة بمسألة قدم القرآن الكريم، من جهة وما لاقاه من محنة واضطهاد، سبب رئيس في اشتهاره وذياع صيته بين الناس، وعلى رؤوس الأشهاد.

نعم بعد زمان الواثق بالله، وبالتحديد في زمان المتوكل، وهو الذي قرب الأشاعرة، ومدرسة الحديث أنعكست المسألة تماماً، فبعد ما كان أحمد يتعرض للاضطهاد والتنكيل من قبل السلطة، صار الأمر بيده، وتغيرت الأمور كلها لعكس ما كانت عليه سابقاً.

والحاصل، يتضح من خلال الاستعراض المتقدم، الدور الذي كانت تلعبه السلطة الحاكمة في إثراء النار لهذه الفتنة وتعميق جوانبها، وإبقائها مشتعلة بأكبر قدر ممكن، ولأطول مدة متصورة.

وهذا يكشف عن أن هذا الجدل لم يكن حقيقياً، ولا يمت للإسلام، أو لأطروحة القرآن من قريب أو بعيد بصلة، بل سيتضح من خلال ما يأتي الأغراض والأهداف التي كانت وراء ذلك.

أسباب حصول الفتنة:

هذا ومن الطبيعي أن لكل حادث أو قضية جديدة على الساحة الاجتماعية جملة من الأسباب والدواعي التي تؤدي إلى حصولها وانتشارها في الأوساط، وفتنة خلق القرآن الكريم لا تختلف عن تلك القضايا، وهذا يعني أن انتشارها وظهورها على السطح في الوسط الإسلامي رهين وجود أسباب أدت إلى ذلك، فنحتاج إلى التعرف على تلك الأسباب المؤدية لظهور هذه الفتنة.

عندما نتأمل في هذه القضية، يمكننا حصر أسباب ظهور هذه الفتنة في خصوص أمرين أساسيـين:

الأول: الفتوحات الإسلامية:

فإن اتساع رقعة الدولة الإسلامية نتيجة الفتوحات أدى إلى تعدد المسلمين المنتمين إلى الإسلام، ومن الطبيعي أن كل واحد جاء بثقافة سابقة موجودة عنده، فضلاً عن هذا الانتشار كان سبباً في دخول ثقافات جديدة للدولة الإسلامية، إما من خلال انطواء بعض الأفراد غير المسلمين تحت لواء الدولة الإسلامية، أو لحيازة المسلمين بعض الكتب الثقافية والتي تمثل موروثات بعض الثقافات الأخرى لأفراد آخرين غير المسلمين، كل هذا أدى إلى أن يتعاطى المسلمون مع هذه القضايا، ومع غياب القيادة السماوية لتغيـيب السلطة الحاكمة أئمة أهل البيت(ع) عن الدور الأساسي المراد لها، فلا ريب في ظهور جملة من الشبه، وظهور جملة من التساؤلات التي لا يتسنى لكل أحد القدرة على الإجابة عليها، وكانت واحدة منها فتنة خلق القرآن الكريم، كما عرفت.

الثاني: السلطة الحاكمة:

فإن للخلفاء كما عرفت دوراً رئيسياً وبارزاً في هذا المجال، إذ كانوا يتولون عملية الترويج لمثل هذه الأمور، وليس هذا حباً في الناس ورغبة في رفع المستوى الفكري والثقافي عند الشعب، بل الغاية تكمن في صرف المجتمع عن القضايا الأساسية التي تثير الشعوب عليهم، وذلك لأن الشعب متى لاحظ الانحراف الموجود لدى السلطة، في الأفعال والأمور الأخرى، ومقدار الانحلال القيمي والأخلاقي الموجود لدى أجهزة الدولة، فسوف يتخذ ذلك ذريعة للثورة والخروج عليها، بينما إذا اشتعل الشعب بقضية أخرى، غفل عن التوجه لما يدور حوله، ولم يلتفت لما يجري في قصور السلطة الحاكمة.

وهذا الأمر لم يكن مقصوراً على عصر من العصور، بل يمكن القول أنه أشبه بالسنة التاريخية، بمعنى أن ديدن الحكام والطغاة في كل عصر وزمان العمد لمثل هذا الأسلوب، واتخاذه وسيلة لإشغال الشعوب بمثل هذه الأمور عوضاً عن الالتفات لما يجري عندهم.

أدلة خلق القرآن:

ثم إنه وقد تعرفنا على شيء من هذه الفتنة، ينبغي أن نتعرف على ما هو الدليل الذي يمكن الاستناد إليه في كون القرآن الكريم مخلوقاً، وليس قديماً، وقد ذكر القائلون بأن القرآن الكريم ليس قديماً، وإنما هو حادث عدة أمور تثبت ذلك:

منها: قوله تعالى:- (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون)[1]، فإن المراد من الذكر في الآية الشريفة هو القرآن الكريم، لقوله سبحانه:- (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[2]، والمقصود من المحدث الجديد، وهو وصف للذكر، وهذا يعني أن القرآن الكريم جديد، لأنه أتاهم بعد الإنجيل، كما أن الإنجيل جديد أتاهم بعد التوراة.

وطبقاً لهذا المعنى يسري الأمر حتى بالنسبة للسور القرآنية، لأن كل سورة نزلت بعد التي سبقتها تعدّ جديدة لها، وكذا الآيات، فكل آية جاء متعقبة آية أخرى تكون الآية المتأخرة جديدة بالإضافة إلى الآية السابقة، وهكذا.

هذا وقد يتصور أن المقصود من كونه محدثاً، يعني نزوله، لكنه من التوهم الفاسد، إذ المقصود من كونه محدثاً ليس نزوله، وإنما أنه محدث بذاته، ويشهد لهذا الأمر أن محدث، وصف لذكر، وهذا يثبت أن الذكر بذاته محدث، لا بنـزوله، فلاحظ.

ومنها: قوله تعالى:- (ولو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً)[3].

وهي من حيث الدلالة على المدعى أوضح من الآية السابقة، إذ أنها تتحدث عن إمكانية إعدام الذي أوحي للنبي(ص)، والذي أوحي إليه(ص)، هو القرآن الكريم، فهذا يثبت أنه يمكن إعدامه، ومن المعلوم أن القديم لا يصح أن يوصف بالإذهاب، والإعدام، فما دام قد وصف القرآن الكريم بالإعدام، والإذهاب، فذلك ينفي عنه صفة القدم، فلاحظ.

موقف الإمام العسكري:

وفقاً لما تقدم اتضح لنا أن التشدد الذي كان بين المدرستين، مدرسة الاعتزال، ومدرسة الأشاعرة، لم يكن خالياً من الصراع الدنيوي، لأنه كان للسلطة الحاكمة فيه دور كبير جداً، وهذا يفسر لنا عدم دخول أهل البيت(ع) ومنذ القديم في هذا الصراع، بل تضمنت جملة من النصوص منعهم(ع) شيعتهم من الخوض في هذه المسألة، رغبة في الحفاظ عليهم، وعدم انجرارهم لصراع السياسي بصورة النـزاع الفكري.

ولعل هذا يفسر لنا الأسلوب الذي استخدمه الإمام العسكري(ع) في جواب ما كان يختلج في صدر أبي هاشم الجعفري، إذ نرى أنه(ع) لم يـبين له الأمر بصورة جلية واضحة، فيقول له بأن القرآن الكريم مخلوق، بل عمد إلى إعطاء ضابطة عامة، مفادها أن كل ما عدا الله سبحانه فهو مخلوق، وما هذا المنهج إلا لأن الحديث في أصل المسألة، وهي أن القرآن مخلوق، أم قديم ليس أمراً يخدم الإسلام أو يصب في مصلحته، بل قد عرفت ما لاقى المسلون من ورائه، وكيف أنه أُشغل المسلمون من خلاله بما لم لا ينبغي لهم الاشتغال به، عوضاً عن الاشتغال بما يلزم الاشتغال به[4].

——————————————————————————–

[1] سورة الأنبياء الآية رقم 2.

[2] سورة الحجر الآية رقم 9.

[3] سورة الإسراء الآية رقم 86.

[4] من مصادر البحث كتاب الإلهيات ج 1، كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة.