من كلام لإمامنا زين العابدين(ع)قال:
فأما حق الله الأكبر، فإنك تعبده ولا تشرك به شيئاً فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ويحفظ لك ما تحب.(رسالة الحقوق)
مدخل:
لما كان الإنسان مخلوقاً مدنياً بالطبع، فهو لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلف عن مسايرة ركبهم، لأنه متى انفرد أحس بالوحشة والغربة.
فهو عنصر من عناصر المجتمع، ولبنة في كيانه، تـتجاذبه أواصر شتى وصلات مختلفة من العقيدة، والصداقة والثقافة وغير ذلك.
وهذا الترابط الاجتماعي، أو المجتمع المترابط بحاجة لدستور ينظم حياته، ويوثق أواصره، ويحقق العدل الاجتماعي في ظلاله بما يرسمه من حقوق وواجبات فردية تضمن صالح المجتمع وتصون حقوقه وحرماته ومقدساته.
ليكون المجتمع سعيداً بالوئام والسلام، زاهراً بالخير والجمال، بعيداً عن البؤس والشقاء.
وقد جاءت الشريعة السمحاء بدستور أخلاقي هادف بناء ينظم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما يرسم له من حقوق وآداب اجتماعية في مختلف الحقول والمجالات من أجل ذلك صار لزاماً أن يستنطق المسلمون ذلك الدستور، ليعرفوا كل واحد منهم ما له وما عليه من الواجبات والحقوق، ويسعى للتطبيق ليكون مثلاً رفيعاً في جمال السيرة وحسن السلوك، ورعاية حقوق من ينتسب إليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط والصلات الاجتماعية.
الحقوق والواجبات:
فهناك حقوق وواجبات، ترتبط بالإنسان، فله مجموعة من الحقوق، وعليه مجموعة من الواجبات، لكن ما هي الحقوق وما هي الواجبات؟…
الحقوق عبارة عن الأشياء الثابتة على الإنسان للآخرين،أو الثابتة على الآخرين للإنسان.
أما الواجبات فهي الأشياء الثابتة على الإنسان للآخرين، أو على الآخرين له.
وهذا يعني أن هذين اللفظين يشتركان في معنى واحد وهو كون مؤداهما الإلزام من طرف لآخر، وإن اختلفا بلحاظ الطرف الملزم، فإن كان الآخرون هم الطرف الملزم، صارت واجبات، وإن كان الإنسان هو الطرف الملزم صارت حقوقاً.
ولهذا كل حق واجب، وكل واجب حق، بلحاظ أن الملزم يكون ذلك عليه واجب، والآخر يكون له حق، كبّر الوالدين، فهو واجب على الولد، وحق للأبوين، وكتربية الولد، فهو واجب على الأبوين، لكنه حق للولد، وهكذا الأمور الأخرى.
انتظام الحياة بهذا القانون:
ولكي تنتظم الحياة البشرية في المجتمعات، بعد أن كان الإنسان مدنياً بطبعه، لزم أن يتمتع الإنسان بالحقوق التي له، وعليه أن يؤدي الواجبات التي عليه، ومتى حدث خلل في هذه المعادلة، أدى ذلك إلى اضطراب في حياة الفرد والمجتمع.
فهناك حقوق متبادلة في الحياة العائلية بين الزوجين مثلاً، قال تعالى:- (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف).(سورة البقرة الآية رقم 228).
فمتى التـزم الطرفان بأداء ما عليهما من واجبات وحقوق، عاشا في سعادة ووئام، أما إذا تخلف أحد الطرفين عن القيام بشيء من واجباته تجاه الآخر، فستكون النتيجة هي اضطراب العلاقة، وفقدان الانسجام وبالتالي تضعضع كيان الأسرة.
فمن الخطأ أن يعتقد الزوج أن له كل الحق على زوجته، وليس لها عليه أي حق، وكذا الأب مطالب تجاه أولاده بمجموعة من الحقوق كما هم مطالبون بذلك، فليس له كل الحق عليهم، وليس لهم عليه من حق دون واجبات.
وهناك حقوق متبادلة بين الأصدقاء، من الرعاية المادية وقت الضيق المادي الخانق، والرعاية الأدبية، والمداراة.
وهناك حقوق للجوار من خلال حسنه ورعاية الجار وإكرامه وبدئه بالسلام وعيادته في مرضه، وتهنئته في فرحه، وتعزيته في مصائبه.
وهناك حقوق الأقرباء بصلتهم وترك قطيعتهم وجفائهم، وهكذا.
وتـتفاوت الحقوق بتفاوت أصحابها، وقيم فضلهم وعطفهم على المحسنين إليهم، فليست كلها سواء، فحق الصديق أقل من حق الشقيق البار العطوف الذي جمع بين آصرة القربى وجمال اللطف والحنان.
أنواع الحقوق:
هذا وتنقسم الحقوق إلى قسمين:
الأول:الحقوق الإلهية.
الثاني:حقوق العباد.
الحقوق الإلهية:
وهي أعظم الحقوق، لأن الله تعالى هو المنعم الأعظم الذي خلق الإنسان، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده.
ولا يمكن للإنسان أن يحصي الحقوق الإلهية، والقيام بشكرها، إلا بعون الله تعالى وتوفيقه.
ونحن نشير هنا إلى بعض الحقوق الإلهية:
العبادة:
وقد طالعنا الإمام زين العابدين(ع)في بداية الحديث بكلمته الغراء من رسالة الحقوق، في بيان هذا الجانب، قال(ع):فأما حق الله الأكبر، فإنك تعبده ولا تشرك به شيئاً فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة ويحفظ لك ما تحب.(رسالة الحقوق).
ويكفي في بيان عظمتها أن الله تعالى قد جعلها الغاية الكبرى من خلق البشر وإيجادهم، ومن المعلوم أن الله تعالى غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضره معصية العاصين، وإنما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها العظيمة، الموجبة لتكاملهم وإسعادهم.
ومن عبادة الله تعالى أداء حقوقه الأخرى، وهي على قسمين:
1-الحقوق المالية، كالخمس والزكاة والنذور والكفارات.
2-الحقوق غير المالية، كحد الارتداد عن الإسلام، وحد القذف وهو أن يرمي شخص شخصاً آخر بالزنا أو اللواط، وحد السرقة، وحد الزنا والسحاق.
الطاعة:
وهي الخضوع لله سبحانه وتعالى وامتثال أوامره ونواهيه، وهي من أشرف المزايا، وأجلّ الخلال الباعثة على سعادة المطيع وفوزه بشرف الدنيا والآخرة.
الشكر:
وهو عرفان نعمة المنعم، وشكره عليها، واستعمالها في مرضاته، والشكر صفة يقدسها العقل والشرع،ويحتمها الضمير والوجدان إزاء المحسنين من الناس،فكيف بالمنعم الأعظم الذي لا تحصى نعماؤه،ولا تعد آلاؤه.
التوكل:
وهو الاعتماد على الله عز وجل في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عما سواه.
وهو من أجل خصائص المؤمنين ومزاياهم المشرفة، الموجبة لعزتهم وسمو كرامتهم وارتياح ضمائرهم، بترفعهم عن الاتكال والاستعانة بالمخلوقين، ولجوئهم وتوكلهم على الخلاق العظيم القدير.
حقوق العباد:
وهي الحقوق التي يتوجب على الإنسان أدائها للمخلوقين مثله،لكن ليس المخلوقون جميعهم سواء في المرتبة والمنـزلة،فهناك المعصومون،فعلى الإنسان واجبات تجاههم،ولهم حقوق عليه،فمن حقوق النبي(ص) علينا:
1-طاعته.
2-محبته.
3-الصلاة عليه.
4-مودة أهل بيته الطاهرين(ع).
ومن حقوق الأئمة الطاهرين(ع)علينا:
1-معرفتهم.
2-موالاتهم.
3-طاعتهم.
4-أداء حقهم من الخمس.
5-الإحسان إلى ذريتهم.
6-مدحهم ونشر فضائلهم.
7-زيارة مشاهدهم.
كما عليك حقوقاً لوالديك، وللعلماء وللزوجة وللأصدقاء وللجيران، وهكذا.
وهناك حقوق للإخوان، فعن رسول الله(ص)قال:إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً، فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له وعليه.(بحار الأنوار ج 74 ص 236).
وقد حدد إمامنا زين العابدين(ع)حق الأخ بقوله:أما حق أخيك، فأن تعلم أنه يدك وعزك وقوتك، فلا تتخذه سلاحاً على معصية الله، ولا عدة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوه والنصيحة له، فإن أطاع الله وإلا فليكن الله أكرم عليك منه.(الخصال ج 2 ص 568).
الواجبات أولاً:
وكما للإنسان على الآخرين حقوق يطالبهم بأدائها، للآخرين عليه واجبات يطالب بأدائها، ولذا تبدأ نقطة الانطلاقة لبناء علاقة صحيحة ومثمرة مع الآخرين، من خلال المبادرة لأداء الحقوق المتوجبة عليه، مما يلزم الآخر ويشجعه على التعامل بالمثل، فتستقيم العلاقة وتنتظم.
وهذا يعني أن يفكر الإنسان في الواجبات التي عليه، قبل أن يفكر في الحقوق التي له، وأن ينجز ما عليه قبل أن يطالب الآخرين بما له.
لكن ما نعانيه فعلاً أن الكثيرين يتجاهلون ما عليهم من واجبات، بل يتناسوها، ثم يتجهون للمطالبة بما لهم من حقوق.
وهذا هو ما أشِار له أمير المؤمنين(ع)بقوله:فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف.
فكل أحد يجيد الحديث عن الحق ووصفه وتبيـينه ما دام إلى جانبه، أما في مقام الالتزام بأداء حقوق الآخرين وإنصافهم، يضيق الجميع منه ذرعاً.
ولذا يجب على الإنسان البدأ بنفسه، فيلزمها أداء حقوق الآخرين، قبل المطالبة بأداء حقوقه.
لأنه مسئول أمام الله سبحانه عن تلك الواجبات التي عليه، لأن حقوق الناس جزء لا يتجزأ من الحقوق الإلهية، فعن أمير المؤمنين(ع):ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض.
بل ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين(ع)كون أداء حقوق العباد مقدمة لأداء حقوق الله سبحانه وتعالى، قال(ع):جعل الله سبحانه حقوق عباده مقدمة لحقوقه، فمن قام بحقوق عباد الله كان ذلك مؤدياً إلى القيام بحقوق الله.(غرر الحكم رقم 64)
فلا يخرج الإنسان من عهدة المسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى إلا بأداء حقوق الناس.
ومتى بادر الإنسان إلى أداء حقوق الآخرين،كان في ذلك تثبيت لحقه،لأن الحقوق يوجب بعضها بعضاً،ولا يستوجب بعضها إلا ببعض،كما قال أمير المؤمنين(ع)،مضافاً إلى أن هذا يشكل دافعاً قانونياً للطرف الآخر ومحركاً للمجاراة والمحاكاة.
محورية الذات:
وأمام الدعوى الأخوية التي نقدمها للأخوة في أداء الواجبات، لتؤدى لهم الحقوق، نواجه بقسم كبير من الناس يوغلون في التمحور حول الذات، بحيث لا يرون الحق إلا من خلال الزاوية التي يكونوا فيها فقط، فيتحدثون عن المفروض والواجب على الغير فقط، دون أن يلتفتوا إلى ما ينبغي عليهم من حقوق وواجبات.
فلو كان يسير في طريق فرعي، ولم يسمح له بالدخول إلى الطريق الرئيسي، تراه يذم العجلة، ويعتبرها من الشيطان، ويشير إلى أن في التأني السلامة، وأنه ينبغي أن يفسح المجال للآخرين وهكذا.
ومرة أخرى نراه في الطريق الرئيسي، ويرى هناك من يتواجد في الطريق الفرعي، فيأخذ في الحديث عليهم، وأن هؤلاء لا يراعون قوانين المرور وضوابطها، وما يلزم في مثل هكذا موارد وهكذا.
وإذا كان مدعواً مع جماعة إلى طعام، وتأخر في المجئ فابتدأ القوم عنه، بدأ بذم العجلة، وعاتب على عدم الانتظار، أما لو كان موجوداً وتأخر البقية، فإنه يعاتب على عدم احترام حقوق الآخرين، وعدم الانتظام في المواعيد، وما شابه.
نحو وعي حقوقي:
وأمام كل هذا وما نعانيه من مشاكل في واقع حياتنا اليومية، من إهمال، أو تهميش للحقوق، وعدم مراعاتها، والسعي لأدائها، يطرح علينا سؤال نفسه:
لماذا يتجاهل أكثر الناس الحقوق التي عليهم، أو يتساهلون في القيام بها؟…
حينما نود أن نجيب عليه، نجد أمامنا مجموعة من الأسباب تبرز كأمور رئيسية لذلك:
الأول:عامل الجهل وضعف الوعي الحقوقي، حيث لا زال الكثير من أبناء المجتمع يفتقدون إلى معرفة ما يتوجب عليهم تجاه الآخرين، خصوصاً إذا لاحظنا أن العلاقات في مجتمعاتنا تسير بشكل عفوي، وضمن أعراف وتقاليد، تقوم غالباً على قوة الطرف وموقعيته، ففي الحياة الزوجية نجد السلطة للزوج، وذلك لأنه يتواجد في موقع القدرة، فتصبح حقوق الزوجة مهملة ومغيبة.
وهكذا بالنسبة لدوره كأب في علاقته مع أبنائه.
وفي المدرسة، وتبعاً لسلطة المدرس، فإن حقوق الطالب تتجاهل، وهكذا.
وهذا يكشف عن وجود حاجة ماسة لثقافة حقوقية، توضح للإنسان ما له وما عليه، وتوجهه إلى الالتزام بأداء ما عليه من واجبات أولاً، ليطالب بما له من حقوق بعد ذلك.
لكن هذا لا يعني أن يتساهل الإنسان في ما له من حقوق، فلا يطالب بها، ويسكت عن مصادريها، بل مقصودنا أن لا تكون المطالبة بالحقوق أمراً بديلاً عن أداء الواجبات، ولا أن يقوم الإنسان بتوزيع المفروضات والمسؤوليات على الآخرين ويتناسى نفسه، بل يبدأ بنفسه أولاً، ثم يطالب الآخرين.
الثاني:عامل التربية النفسية والبناء الأخلاقي لشخصية الإنسان،حيث يحتاج إلى التذكير بالقيم والمبادئ،وكيف أنهما الأساس والمحور لتصرفات الشخص ومواقفه،وبيان أن المصالح الذاتية ليست هي المقياس.
الثالث:عدم الشعور بالمسؤولية، لأنه في أداء حقوق الآخرين شعور بالمسؤولية الموجهة للإنسان، بل إن اعترافه بثبوتها عليه، يعني تحمله إياها، بينما المطالبة بحقوقه تحميل للآخرين، ويمثل لوناً من ألوان التهرب من المسؤولية.
وقد عدّ أداء حقوق الآخرين من أفضل العبادات، فعن أبي عبد الله الصادق(ع):ما عبد الله بشيء أفضل من أداء حق المؤمن.(الكافي ج 2 ص 170).
حقوق المقربين:
ومما يبتلى به المجتمع تساهل كثيرين من أفراده في أداء حقوق القريبين منهم، معتمدين على العلاقة المميزة فيما بينهم، وكأن ذلك يعفيهم من التزاماتهم تجاههم.
وهذا خطأ كبير، بل المطلوب هو إعطاء حقوق هؤلاء أهمية إضافية على الحقوق الطبيعية الأخرى، لأنهم أكثر احتكاكاً وارتباطاً بالإنسان، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي(ع):لا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه.(نهج البلاغة كتاب 31).
رسالة الحقوق:
هذا وستمر علينا هذا الأسبوع ذكرى أليمة، وهي شهادة الإمام زين العابدين(ع)وقد ترك لنا هذا الإمام العظيم تراثاً هائلاً، جديراً بالبحث والدراسة، في مجال الحقوق، وفي طريق تحصيل الوعي الحقوقي، وهو رسالة الحقوق، وهي من المصادر التي ينبغي أن تدرس دراسة معمقة لكونها أحد المصادر الرئيسية للوصول إلى الوعي الحقوقي.
وهي تشتمل على الحقوق(الواجبات)التي على الإنسان تجاه الآخرين، بدءاً من حق الله تعالى، ومروراً بحق النفس، وبقية أعضاء الجسم، وهكذا.