اليقظة

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
112
0

إن المستفاد من نصوص كثيرة عندنا آيات وروايات أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من أجل غاية وهدف ألا وهو تحقق العبادة الحقة الخالصة له عز وجل المستندة إلى المعرفة الشرعية به سبحانه وبأسمائه وصفاته ومتى ما تحقق للإنسان ذلك حظي بمراتب المقربين إلى الله وهو مقام البقاء بعد الفناء كما يعبر عنه أهل المعرفة أي البقاء بالله بعد التخلي عن عبودية النفس والفناء في الله بما يعنيه من ذوبان إرادة الإنسان في الإرادة الإلهية .

وهم الذين يلاقونه يوم القيامة كراما بوجوه ناضرة إلى ربها ناظرة لأنهم تخلقوا بأخلاقه الكريمة وهو ما حثت النصوص عليه ورغبت إليه . كما أنهم اكتسبوا الكمالات العلمية والعملية بما يسعه الوعاء الوجودي لكل منهم .

ومن المعلوم أن الشرع المقدس لما حدد هذه الغاية لخلق الإنسان لابد وأن يحدد طرقا للوصول إليها وذلك من خلال حركة تكاملية تعرف عند أهل المعرفة بحركة السير والسلوك إلى الله عز وجل .

هذه الحركة التي تجعل الإنسان يتحلى بالكمالات كيما يكون مؤهلا لقربه من الباري عز وجل .

هذا ولا يخفى أن هذا السير والتحليق في رحاب السير التكاملي لا يمكن تحققه مع وجود الغفلة من المكلف عن غاية خلقه .

إذ لا ريب في أن مثل هذه الغفلة تستدعي أن يخلد الإنسان إلى الأرض فيكون أسيرا لنـزعاته المادية وشؤونها ومظاهرها .

قال تعالى ) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون . أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى( [1].

بل نرى أنه سبحانه يؤكد على أن الغفلة تجعل الإنسان كالأنعام بل أضل قال عز من قائل )ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ([2].

ثم إن هذا التشكيك إنما يعود لانهماكهم في اللذائذ والشهوات الجنسية فحسب وجاء في آية أخرى الإشارة إلى عاقبة الغفلة وأنها النار.

قال تعالى) إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون( [3].

لأن الغفلة عن آيات الله أساس البعد عنه سبحانه والإبتعاد عنه هو منبع عدم الإحساس بالمسؤولية والتلوث بالظلم والفساد والمعصية ولا ريب في أن عاقبة ذلك هي النار.

وإلى مثل هذا أشار أمير المؤمنين u في وصيته لابنه الحسنu : أي بني الفكرة تورث نورا والغفلة ظلمة [4].

ولا يكون الخروج من هذه الظلمات إلا بالتفكر وهو اليقظة التي تمثل بداية طريق سلوك الإنسان في حركته التكاملية .

ولذا نجد اهتمام الشارع بإيقاظ الإنسان وإنقاذه من أسر الغفلة التي تنشأ من الجهل فنراه يدعو إلى طلب العلم والمعرفة الإلهية وبيان ما لها من أهمية في حياة الإنسان دنياً وآخره ويحذر من الجهل ومضاره .

بل نجده يدعو للتفكر من أجل إنهاء الغفلة فنلاحظ كثرة الآيات الحاثة إلى التفكر في آيات الله ومخلوقاته وفي الآفاق والأنفس. كما تدعوه إلى التدبر في أسرارها الوجودية وتجنيد نعمة العقل للوصول للغاية القصوى والهدف الأسمى.

على أن هذه الآيات تشير إلى شيء آخر غير الحث على التفكر وهو تنبيه الإنسان إلى أهمية دوره وخطورته كخليفة لله سبحانه وحامل للأمانة التكريمية التي خص بها بعد ما لم تطق السموات والأرض والجبال حملها . الذي متى ما عمل بما تقتضيه هذه الأمانة وصل إلى مراتب كمالية سامية .

اليقظة قيام لله :

ثم إن هذه الحالة التي تدعو النصوص قرآنية وروائية إلى إيجادها عند الإنسان كمقدمة لحركته في معارج القرب إلى الله يطلق عليها عند أهل المعرفة باليقظة وقد فسر بعضهم القيام لله في قوله تعالى ) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله ([5] فسرها بقوله :

بأنها اليقظة من سنة الغفلة والنهوض من ورطة الفترة وهي أول ما يستنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه [6].

فلا تتحقق اليقظة عمليا إلا إذا اقترنت بالتحرك السلوكي نحو الحق تبارك وتعالى .

وبالجملة فيتحصل مما تقدم أن هدف القرآن والنصوص الروائية من سعيهم بإيجاد حالة اليقظة هو تزويد الإنسان بالعزم والإرادة اللازمة للتحرك نحو مقصده السامي فيكون قائما لله قيام المخلص وهذا كما عرفنا هو الثمرة العملية لمفهوم اليقظة .

كيفية الحصول على اليقظة :

وهنا نواجه سؤالا مفاده : كيف يمكن للإنسان أن يحصل على اليقظة التي هي استنارة قلبية تنتج من رؤية العبد بقلبه نور التنبيه من ربه ؟

والجواب : أن ذلك يحصل من خلال الإستعانة بالله سبحانه والإستمداد منه في كل حين خصوصا وأن الحاجة لليقظة مستمرة فليست الحاجة إليها محدودة وإن وصفناها بأنها تفتح طريق السلوك إلى الله سبحانه وتعالى .

بل إن الحاجة لها مستمرة لما لها من مراتب كثيرة متناسبة مع مراتب ومقامات المتقربين إلى الحق عز وجل فهي مثل المراقبة والمحاسبة يحتاجها السالك حتى يتخلق بالأخلاق الإلهية باستمرار وفي كل مرتبة لأنها تزوده بالطاقة التي يحتاجها في استمرار طيه المراتب التكاملية .

وعلى هذا يكون الركون إلى مرتبة كمالية معينة غفلة عن المرتبة الأسمى وخضوعا لأسر الفترة .

والحاصل إن تحصيل الغفلة لا يتحقق بالجهد الإنساني الذاتي وحده ولا العلم المتعارف وحده حيث لا يقدر هذا على منح نور التنبيه الإلهي لقلب الإنسان ولا إيجاد العزم والإرادة اللازم للقيام لله والتحرك في المسيرة التكاملية .

نعم ذلك مع صدق التوجه يوفر الأرضية لنـزول اللطف الإلهي والإحياء لقلب الإنسان من الله كما يعد الوعاء اللازم لاستقبال النور الإلهي شرط أن لا يتكل عليه الإنسان لأن الإتكال على النفس يوقع الإنسان في حبائل عبادتها والإعجاب بها ويجعله عاجزا عن الخروج منها والهجرة إلى الله تبارك وتعالى ، بل يجعل توكله على الله سبحانه وتعالى .

الأمر الثاني لتحصيلها : إدامة التفكر :

وهذا هو الذي يسلكه الإنسان حتى يصل لليقظة المعنوية وحتى يكون مستعدا لتلقي نور الأحياء، وقد وردت دعوة القرآن الكريم إلى التفكر قال عز وجل ) قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ( [7].

وقد أكد هذا المعنى نفسه إمام العارفين u حيث قال : نبه بالفكر قلبك [8]. إذ أنه يحدد أن سبيل إيجاد حالة اليقظة هو التفكر.

ومرادنا من التفكر هو التفكر في آيات الله وكتابه المنـزل وكلمات الهداة من أهل بيت النبوة .

ويعتبر هذا التفكر أحد شروط مجاهدة النفس والسير إلى الله . بل يعده بعض العرفاء المنـزل الخامس من منازل السائرين حسب تصنيفه .

مجالات الفكر:

ومن أجل تحقيق هذه الغاية المطلوبة ذكر أهل المعرفة مجالات رئيسية ثلاثة للتفكر المطلوب لإيجاد اليقظة ، وهذه المجالات تؤكدها نصوص قرآنية وروائية كثيرة .

الأول : الشكر :

بتوجه القلب إلى عظمة النعم الإلهية على الإنسان إذ هيئ له سبحانه كل ما يحتاجه في حياته الدنيا كما هيئ له ما يلزمه في إعمار الآخرة وطي مدارج الكمال ونبهه إلى حقيقة عجزه وتقصيره في أداء حق هذا النعم وشكرها . كما نبهه إلى كيفية تدارك هذا العجز والتقصير وذلك من خلال الإستعانة بالله للإستفادة منها في تحقيق الغاية من خلق هذا النعم وخلق الإنسان ألا وهي مرتبة إيصال الإنسان إلى مرتبة العبادة الخالصة الحقة لله عز وجل .

وما ذكرناه هو الشكر الذي تأمر به النصوص بخصوص العلاقة مع الله لأن الشكر الذي بين المخلوقين لا يصدق بأي حال من الأحوال على الشكر بين العبد وربه حيث أن هذا المفهوم يستلزم استقلال الشاكر عن المشكور وتقديمه شيئا ينفعه وهو محال في شكر العبد ربه على نعمائه لفقده للإستقلال كما أنه لا يملك شيئا من عنده حتى يقدمه لربه لأن كل ما عنده هو من فضله سبحانه . وهذا هو ما يشير له زين العابدين u من أن شكر الإنسان ربه يحتاج إلى شكر قال u في مناجاة الشاكرين : فآلآوك جمة ضعف لساني عن إحصائها ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلا عن استقصائها فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر فكلما قلت لك الحمد وجب علي لذلك أن أقول لك الحمد [9]

ولما كان الإنسان عاجزا عن شكر الله سبحانه وتعالى عن جميع النعم المفاضة عليه فمقتضى الإعتراف بالإحسان هو أن يسعى إلى الحصول على رضا المنعم ما دام عاجزا عن شكره .

ومن ثم فإن الإيمان الوجداني بالعجز عن شكر المنعم يجهز الإنسان بطاقة قوية للتحرك باتجاه تسخير هذه النعم للقيام لله والسعي لرضاه ويجعل همته في ذلك.

وهذا هو شرط السلوك الخالص الذي ينقي قيام الإنسان وتحركه من الأهداف الوثنية ويوصله إلى حقيقة العبادة .

الثاني : التفكر في عواقب الذنوب :

فالتفكر في أمر المعاصي وآثارها يؤدي إلى اليقظة والقيام لله سبحانه وتعالى ، وقد ركزت كثير من المواعظ القرآنية ومواعظ أهل البيت على ذلك .

ثم إن التفكر في خطورة عواقب المعاصي يثير في الإنسان دوافع حب النفس الفطرية وحب دفع الضرر عنها وجلب الخير لها فيسعى إلى تدارك التقصير الناجم من ارتكاب الذنوب من خلال إزالة أثرها بالكفارة أو القضاء أو الرد وما شابه ذلك .

كما أن التفكر في خطورة آثار المعاصي يدفع الإنسان إلى التحرك لتطهير النفس منها ومن الظلمات التي توجدها في القلب وتجعله فاقدا لأهلية استقبال وتلقي أنوار الهداية الإلهية .

ومن أجل تحقيق هذه الغاية المطلوبة من التفكر في الأضرار التي تلحقها المعاصي بالإنسان لا بد من ترسيخ الإيمان القلبي بعظمة الله تبارك وتعالى الذي تمثل المعصية تحديا وجرأة عليه وتعرضا لسخطه وانتقامه فمثل هذا الإيمان يزرع في النفس الرهبة والخوف من هذا القادر العظيم ومن ثم ردع النفس عن معصيته .

وعلى الجانب الآخر فإن التفكر في ضعف الإنسان وعجزه عن الفرار من العقاب الإلهي ما دام في المعصية فهو في قبضة الله عز وجل فلا سبيل لخلاصه من عقابه إلا بالمبادرة للتوبة والإستغفار والتضرع إليه رجاء لعفوه ومغفرته .

الثالث : الحرص على العمر وذكر الموت :

فالتفكر في طريقة التعامل مع العمر لكونه أهم رأس مال عند الإنسان في حياته الدنيا وهذا ما أكده القرآن الكريم والنصوص المعصومية حيث نلاحظ تركيزها على تنبيه الإنسان وبصورة مستمرة على محدودية عمره وأنه فرصة للعمل لا يعرف وقت انتهائها لكون معرفة الآجال مختصة به تعالى .

كما أنها تؤكد أنه لا توجد فرصة أخرى للعمل والتدارك غير هذه الأيام المعدودة التي يفنيها الإنسان في هذه الحياة الدنيا وأن من الظلم الفظيع إضاعتها في البطالة والغفلة .

يقول أمير المؤمنين u : ما انزل الموت حق منـزلته من عد غدا من أجله ، ما أطال العبد الأمل إلا أساء العمل .

وقال أيضا : لو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض العمل من طلب الدنيا .

وعن إمامنا الباقر u قال : سئل النبي : أي المؤمنين أكيس ؟ قال : أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم له استعدادا .

فإدراك الإنسان هذه الحقيقة وترسيخها في نفسه واستذكاره المستمر لها يشكل دافعا مهما يحرضه على السعي إلى استثمار العمر وجعل الحياة الدنيا مزرعة لحياته الأخروية فيعمرها بالطاعات والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى .

وتعرف قيمة العمر من خلال صحبة الأولياء والصالحين والعلماء الزاهدين حتى تتأدب النفس بآدابهم وتتخلق بأخلاقهم وتستمد منهم وتحسن أحوالها ببركة أنفاسهم لأن النفس لا تتأثر بشيء كتأثرها بالصحبة ولا تترك عاداتها وطبيعتها إلا بصحبة أهل الصلاح .

ومن المعلوم أن صحبة الصالحين الملتزمين بالشرع الحنيف تشكل عاملا مهما في تحريض الفرد على الإلتزام به والتأدب بآدابه الشرعية وأخلاقه والتخلي عن العادات السيئة والقبائح.

ما بعد اليقظة :

ثم بعد ما يتحرر الفرد من سجن الغفلة ويتحلى بشروط اليقظة فيبدأ السير والسلوك إلى الحق تبارك وتعالى ينبغي أن يتعرف على شروط السلوك وضوابطه الشرعية ويحدد قنواتها التي يأخذها منها وهما قناتا القرآن العزيز والعترة الطاهرة وهما الثقلان اللذان تركهما فينا رسول الله ضمانة لنا من الضلال وصراطا مستقيما يوصلنا إلى المقصد الأسمى .

فلا ضمان ولا أمان من الضلالة إلا بإتباع أئمة الهداية وأهل بيت النبوة فولايتهم هي ولاية الله وهم سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك والمتقدم لهم مارق والمتخلف عنهم زاهق واللازم لهم لا حق .

————————————————–

[1] سورة الروم الآية 7 – 8.

[2] سورة الأعراف الآية 179.

[3] سورة يونس الآية 7 .

[4] تحف العقول ص 59 .

[5] سورة الزمر الآية 46.

[6] منازل السائرين ص 11 .

[7] سورة سبأ الآية 46 .

[8] أصول الكافي ج 2 ص 54 ح 1 .

[9] الصحيفة السجادية المناجاة الخمس عشرة .

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة