29 مارس,2024

أهمية الدين في الحياة البشرية (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدخل:

كنا في البحث السابق إلى بيان نظريتين، وأشرنا للفرق بينهما وما يمكن ملاحظته عليهما، والان نحن بصدد الحديث عن النظرية الثالثة في الموضوع.

نظرية الشهيد الصدر:

ومع عمق ودقة نظرية السيد العلامة(ره)، إلا أن السيد الشهيد الصدر(ره) له عليها ملاحظة مما دعاه إلى الإتيان بنظرية جديدة، يمكن التعبير عنها بأنها تكميلية لنظرية السيد العلامة(ره)، وحاصل نظرية السيد الشهيد(قده):

إن جميع النظريات الاجتماعية من دون فرق بين كونها نظرية إلهية، أم نظرية مادية، تتفق على أن المجتمع يتقوم من خلال ثلاثة عناصر أساسية، يمكن استفادتها من قوله تعالى:- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)[1] وتلك العناصر هي:

1-الإنسان، أو الخليفة: وهو المحور الأساس والعنصر الأهم من بين عناصر المجتمع الإنساني الذي خلقه الله تعالى للقيام بهذا الدور الاجتماعي.

2-الأرض والطبيعة: ونعني بها جسم الكرة الأرضية وما يحيط بها من عوالم مرتبطة بها وبالإنسان، فهي كل الكون المحيط بالإنسان والذي يتفاعل معه، وليست خصوص الكرة الأرضية فقط.

3-العلاقة القائمة بين الإنسان والأرض من ناحية، وبين الإنسان والإنسان من ناحية أخرى.

ولا ريب أن مقتضى هذا الاشتراك المشار إليه يستدعي وجود تساؤل عند القارئ بأنه إذا كانت النظريات الاجتماعية مع اختلاف مشاربها متفقة على التكوين المذكور للمجتمع، فما هو الفرق إذاً فيما بينها؟…وبعبارة أخرى: ما هو الفرق بين النظرية الإلهية القرآنية وبين النظريات المادية؟…

إن هناك فرقاً جوهرياً بين النظرية القرآنية والنظرية المادية، وذلك لأننا نتصور صيغتين للمجتمع وعناصره:

الأولى: الصيغة الثلاثية: وهي الصيغة التي تتبناها النظرية المادية، حيث ترى أن أطراف العلاقة هي: الإنسان، والإنسان الآخر، والطبيعة(الأرض).

الثانية: الصيغة الرباعية: وهي الصيغة التي تعبر عن التصور القرآني لأطراف العلاقة في المجتمع الإنساني، وهي: الله سبحانه وتعالى، والإنسان، والإنسان الآخر، والطبيعة.

هذا ولا يتصور أن إضافة العنصر الرابع في المقام من قبيل الإضافة العددية للأطراف لتصبح أربعة بدل الثلاثة، بل هي إضافة ذات تأثير جوهري على مضمون هذه العلاقة بين الأطراف الأخرى، لأنه ووفقاً للتصور الثلاثي سوف تقوم العلاقة على أساس الصراع والندية بين الإنسان والإنسان الآخر، وعلى أساس المالكية والهيمنة بينه وبين الطبيعة.

وهذا بخلافه بناءً على التصور الرباعي، إذ سوف تتحول العلاقة على أساس آخر وهو الاستخلاف، وذلك لأن أطرافها ثلاثة:

1-المستخلِف في الطبيعة، وهو الباري سبحانه وتعالى.

2-الخليفة، ونعني به الإنسان.

3-المستخلَف عليه وهو الطبيعة وبقية الناس.

إن قلت: مقتضى ما ذكرتموه من كون الباري سبحانه طرفاً في هذه العلاقة يستدعي أن يكون جزءً من هذا المجتمع؟…

قلت: لا يلزم ذلك، وذلك بسبب عدم كونه عنصراً أساسياً فيه، بل هو خارج عنه، نعم لما فرضنا في علاقة الإنسان الاجتماعية التي هي العنصر الثالث وجود عنصر ثالث غير الطبيعة والإنسان، وهو الله تعالى، فهي علاقة الاستخلاف، وهي تتقوم بوجود المستخلِف وهو الله عز وجل، فالعلاقة به سبحانه تكون مستبطنة في علاقات الإنسان مع العناصر الأخرى.

وبناءً على ما تقدم سوف يكون الدين سنة من سنن التاريخ الإنساني الذي يتحكم بمسار حركة الإنسان والتاريخ، وهذا الدين هو الدين الفطري الذي فطر الله الإنسان عليه، وهو إحساسه بالاستخلاف والاستئمان، والذي كان يوجه البشرية في حركتها في مقابل الكفر، والوقوع تحت تأثير الشهوات والطغيان والشيطان.

ومن خلال ما سبق عرضه يتضح لنا أن آدم(ع) لما كان مستخلفاً منذ البداية كان ملتفتاً إلى البعد الرابع وهو أنه خليفة لله على الأرض، وأن مهمته هي المحافظة على الأمانة التي وضعها الباري سبحانه في عنقه التي هي مضمون الاستخلاف، وهذه الخلافة تتحكم في علاقته بالأرض، وفي علاقته مع الإنسان الآخر، ذلك لأن مقتضى أنه مستخلف يعني أنه مستأمن.

والحاصل، إن فطرة الإنسان على الإحساس بالخلافة لله سبحانه والتي كانت أساس الوحدة الاجتماعية في الدور الأول من تاريخ الإنسان، وهذه الخلافة تستبطن عدة عناصر فطرية أخرى، وهي:

1-عنصر التوحيد الخالص:

وذلك لأن الإنسان يستبطن إحساساً تجاه المستخلف وهو الله سبحانه وتعالى، وتكون بقية الانتماءات في طول هذا الانتماء، وهذا التوحيد هو الذي قام على أساسه الإسلام، وكان موضوع رسالات الأنبياء(ع).

2-عنصر الحرية:

ونعني به تحرير الإنسان من عبودية الآلهة الأخرى غير الباري سبحانه، وانحصار عنصر العبودية من الإنسان لله تعالى.

3-عنصر الأخوة العامة والمساواة:

وهذا العنصر يستبطن الانتماء الفطري لله سبحانه، وأنه واحد لا شريك له، وأنه المالك الحقيقي، ومقتضى هذه الملكية المطلقة له تعالى، تساوي جميع الناس بالنسبة إليه في العبودية، مما يعني ثبوت أخوة متكافئة بينهم في الكرامة الإنسانية والحقوق، وأنه لا تميـيز بينهم في شيء من الحقوق، وإنما ينحصر عنصر التميـيز في خصوص التقوى، والعمل الصالح.

4-التفاضل بالمقايـيس الواقعية:

إن الرجوع للجذور الأولية للتاريخ وبالتحديد في قصة ولدي آدم عندما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر يتضح أن هناك سبباً أدى للقبول من هابيل دون قابيل، لكن ما هو هذا السبب، هل هو عبارة عن الانتماء العرقي، أو اللون، أو شيء آخر، مع ملاحظة أنهما من أب واحد، ولا تفضيل لأحدهما على الآخر في ملاك القدرة البدنية، إذاً ما هو سبب القبول من أحدهما دون الآخر؟…

إن الموجب لذلك ينحصر في خصوص العمل الصالح، حيث قد عرفت قبل قليل أن الناس متساوون من حيث الكرامة، ولا تفاضل بينهم.

وهذا يعني أن التفاضل ليس بأمور نظرية، بل التفاضل يكون وفق معايـير واقعية، وهي:

أ-التقوى في السلوك العام.

ب-العلم بالحقيقة الإلهية، والحقائق الكونية، والشرعية.

ج-الجهاد في سبيل الله.

5-عنصر المسؤولية:

فالإنسان لما كان مستخلفاً، فهذا يعني أنه يستبطن في فطرته وإحساسه مسؤولية تنشأ من أنه خليفة الله، مما يعني أنه ملزم بأن يتقيد بهذه الخلافة في جميع حركاته وأفعاله وما يأتي به من أمور، وهكذا.

هذا والمسؤولية علاقة ذات حدين:

الأول: الالتـزام والتقيد بأحكام الله سبحانه مستخلف الإنسان في الأرض، وهذا يعني أنه ليس للإنسان الحكم بهواه، ولا برأيه أو اجتهاده، بل لابد أن يكون كل ما يصدر منه وفق القوانين التي وضعها الباري سبحانه.

الثاني: إن مقتضى الاستخلاف في الأرض يستدعي أن يكون الإنسان حراً مختاراً، بإمكانه أن يختار الصواب والهدى، أو يختار الخطأ والضلال، فمتى أختار الأول سمى، ومتى كان اختياره الثاني تسافل وانحط.

6-وحدة المصالح والأهداف والمصير:

فقد ابتدأت في أول تكوين المجتمع البشري بسيطة، ثم تطورت بحكم تطور الوضع الإنساني وصارت تحمل أهدافاً مادية، وغير ذلك. وقد استوعب الإنسان منذ اليوم الأول أنه لا يتسنى له أن يتحصل على ما يريد مستقلاً، لذا رأى أن هناك أهدافاً واحدة ومصالح مشتركة، بل صار يشعر بأن الخطر المحدق بأحدهم يؤدي إلى القضاء على الكل مما يعني أن المصير واحد.

الفرق بين نظريتي السيدين العلامة والشهيد:

هذا وبعد استعراض نظرية السيد الشهيد الصدر(ره)، يتضح الفارق بينها وبين نظرية السيد العلامة الطباطبائي(قده)، ويمكن حصر الفارق بين النظريتين في أمور ثلاثة:

الأول: في تحديد دور الدين في حياة الإنسان، فبينما يرى السيد العلامة(ره) وجوده في مرحلة متأخرة عن مرحلة الوحدة الفطرية، يرى السيد الشهيد(قده) أن الدين كان موجوداً منذ البداية مواكباً وجود الإنسان، لأنه مقتضى الخلافة الإلهية المقررة للإنسان على الأرض.

الثاني: لقد قرر العلامة الطباطبائي(ره) العامل التوحيدي الفطري من خلال الاتجاه للتسخير، الذي كان عامل توحيد على أساس العدالة التصالحية، وأما السيد الشهيد(قده) فيرى أن العامل التوحيدي الفطري يتمثل في إحساس الإنسان بالبعد الرابع للعلاقة، وهو الاستخلاف.

الثالث: إن الهدف الأولي للإنسان في حياته على الأرض بنظر السيد العلامة يتبلور في التسخير وربطه بالمصالح المادية، وأما الشهيد فيرى أن الهدف هو تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى، ومن ثمّ إدارة شؤون حياته المادية.

النـتيجة:

هذا ولو كنا بصدد بيان أي النظريتين أقرب إلى الظاهر والمستفاد من الآية الشريفة لوجدنا أن ما أفاده السيد الشهيد(رض) أكثر انسجاماً مع الظهور المستفاد منها دون ما أفاده السيد العلامة(قده).

وجود الاختلاف:

ثم إنه بعدما كان المجتمع البشري يعيش حالة من الوحدة الفطرية، تعرض للاختلاف، وكان الاختلاف في دوره الأول بدائياً، ثم أخذ في التطور بعد ذلك، حتى أصبح اختلافاً معقداً.

وقد تعرض القرآن الكريم في غير واحدة من آياته الشريفة إلى موضوع الاختلاف، واحدة منها الآية التي افتـتحنا بها المقام.

هذا وكما يستفاد من القرآن الكريم الإشارة إلى موضوع الاختلاف في آياته، يستفاد منه أيضاً بيان أن الموجب لوجود هذا الاختلاف يعود لحكمة إلهية.

تفسير الاختلاف:

هذا وينبغي أن نتعرض إلى تفسير هذا الاختلاف الذي حصل في المجتمع بعدما كان المجتمع يعيش حالة من الوحدة، وتوجد هناك عدة نظريات في هذا المجال، لكننا نقتصر على التعرض لنظريتين:

نظرية الطباطبائي:

والنظرية الأولى هي نظرية السيد العلامة الطباطبائي(قده) في كتابه القيم الميزان، وقد سبق منا توضيحها عند الحديث حول الوحدة الفطرية للمجتمع البشري، وقد ذكرنا هناك أن السيد العلامة(رض) قد افترض عدة فروض، ما يهمنا في البين هو واحد منها، وهو أنه في مرحلة متقدمة من الوجود البشري وبسبب وجود تفاوت في المستويات والقدرات والإمكانات، عقلية وذهنية ومادية، لأن بعضهم يولد قوياً، بينما يولد الآخر ضعيفاً، كما أن بعضهم يولد أقوى عقلاً وقدرة على الإبداع والتصور، فيتحرك من أجل تحقيق تصوراته، والآخر يتسم بالخمول والتخلف الذهني.

وهذا الاختلاف في القدرات لدى البشر إذا ضم لها عنصر الاستخدام المفطور الإنسان عليه، ورغبته الجامحة في السيطرة والاستيلاء، أوجب حصول اختلال في العدالة والتقسيم التصالحي، لأن بعض الناس يأخذ في الحركة بصورة أسرع من الآخرين، فيسيطر ويهيمن، وعندها ينحصر دور الطرف الثاني في أحد أمرين:

إما بالاستسلام لأنه يشعر بالعجز، أو يعمد إلى المقاومة حتى يتبين له العجز عنها وعدم القدرة عليها أو عدم القدرة على الاستمرار فيها.

والحاصل، أنه على جميع الاحتمالات ينشأ الاختلاف والتفاوت في تقسيم الأشياء وتحدث الفرقة في المجتمع الذي كان مجتمعاً واحداً.

نظرية الشهيد الصدر:

ولم تختلف نظرية السيد الشهيد(قده) عن نظرية السيد العلامة(ره) في داعي وجود الاختلاف في المجتمع البشري، حيث ذكر أن ذلك يعود إلى تفاوت مستويات مواهب الإنسان الفكرية والعقلية، وإمكاناته وقدراته المادية التي تختلف من شخص لآخر، وتبرز هذه المواهب والمستويات من خلال حركته الاجتماعية.

هذا وقد ترتب على حصول التفاوت في المواهب والقدرات، قضية الاستغلال في المجتمع البشري كنـتاج لحركته الاجتماعية.

ومن الطبيعي أن يترتب على ظهور قضية الاستغلال وجود أناس يفكرون في استغلال الآخرين، ووجود أناس مستَغَلين غير قادرين على مقاومة المستغِلين، أو مستسلمين، وبناءً على هذا انقسم المجتمع إلى ثلاثة أقسام:

الأول: قسم المستَغلِين والمستـثمرين والطغاة المهيمنيـين.

الثاني: قسم المستَغَلين والمستضعفين والمستسلمين للطغاة.

الثالث: قسم المستغَلين والمستضعفين غير المستسلمين للطغاة، الذين يؤمنون بمقاومة الظلم ومواجهة الاستغلال.

ونتيجة لوجود هذه الأقسام الثلاثة التي انقسم المجتمع إليها، حصلت حالة الاختلاف بعد حالة الوحدة الفطرية، وأحتاج المجتمع إلى نظام وقانون جديد يعمد إلى إعادة المجتمع البشري إلى حالته الطبيعية والسليمة، ولم يكن هناك من شيء يقوم بهذا الدور إلا الدين، فعندها بعث نوح برسالته.

سؤال وجواب:

ومن خلال ما تقدم يتضح جواب على سؤال يخطر بالأذهان دائماً لماذا كانت بداية رسالات أولي العزم من نوح، ولم تكن من آدم(ع).

وجواب ذلك واضح، ذلك أن آدم(ع) عندما نزل إلى الأرض، ووفقاً لنظرية السيد الشهيد(ره)، لم يكن بحاجة إلى شريعة جديدة، بسبب وجود الدين كعنصر فطري.

لكنه وتبعاً لحصول حالة الاختلاف التي كانت عند العنصر البشري احتاج المجتمع إلى ما يقوم أوده، وكان ذلك من خلال إرسال نوح برسالة سماوية، وبكتاب جديد.

دور الدين في الحياة البشرية:

كما يتضح من خلال ما تقدم مدى أهمية الدين في الحياة البشرية، وأنه لا يمكن للإنسان أن يقوم في حياته بما يكفل له حياة سعيدة، من دون الدين، لأن الدين هو العنصر الأساس في تنظيم هذه الحياة البشرية، ومن دونه تتحول الحياة البشرية إلى اختلاف، وتأتي العناصر الثلاثة في المجتمع التي أشير لها في كلام السيد الشهيد(ره).

سنة الاختلاف:

هذا ولنختم هذا البحث بأمر ربما تبادر إلى الأذهان، وحاصله:

إذا كان الاختلاف أمراً متحققاً، فلماذا لم يخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان منذ البداية إنساناً موحداً كما هو مقتضى الفطرة، وبعيداً عن وجود حالة الاختلاف؟…

والظاهر جواباً لهذا التساؤل أن الاختلاف نوع من أنواع الابتلاء الإلهي الذي جعل وسيلة لامتحان الإنسان ومن ثمّ تمحيصه، والصعود به في مدارج الكمال، وهذا المعنى هو المستفاد من خلال جملة من الآيات الشريفة.

————————————————-

[1] سورة البقرة الآية رقم 30.