18 أبريل,2024

مانعية الدين من الاستطاعة (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

ثم إنه بعد الفراغ عن كون المسألة من صغريات التزاحم، يأتي البحث في تحديد أيهما أهم ملاكاً ليكون مقدماً، فهل أن الأهم ملاكاً هو أداء الدين، فيكون له التقديم، أم أن الأهم ملاكاً هو أداء الحج فيكون التقديم له، خلاف بين الأصحاب، إذ ذهب لكل واحد من المحتملين فريق.

أما القائلون بوجوب تقديم الحج، فقد استدلوا لذلك بأمور:

الأول: إن الحج مما بني عليه الإسلام، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: بني الإسلام على خمسة أشياء، على الصلاة، والزكاة والحج، والصوم والولاية، قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن، قلت: ثم الذي يلي في الفضل؟ فقال: الصلاة، إن رسول الله(ص) قال: الصلاة عمود دينكم، قال: قلت: ثم الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة، لأنه قرنها بها وبدأ بالصلاة قبلها، وقال رسول الله(ص): الزكاة تذهب الذنوب، قلت: والذي يليها في الفضل؟ قال: الحج، قال الله عز وجل:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)[1]. ولا ريب في أن ما بني عليه الإسلام يكون أهم مما لم يبن عليه، فالحج لما كان مما بني عليه الإسلام يكون أهم من أداء الدين الذي لم يبن عليه، فيقدم الحج على أداء الدين.

وهذا التقريب يعتمد على تمامية كبراه، فلو منع عنها سقط الاستدلال، والصحيح عدم تماميتها، ضرورة أنه يوجد في الفقه أمور لم يبن عليها الإسلام، وهي أهم مما ذكر، كحفظ النفس، فلا يختلف إثنان في أنه مقدم على الصوم والحج، مع أنه مما لم يبن عليه الإسلام، وهذا يعني أنه ليس من الضروري أن يكون ما بني عليه الإسلام أهم مما لم يبن عليه، فلاحظ.

الثاني: النصوص التي تضمنت أن الحج أحد الواجبات المؤكد عليها في الشريعة، وأن من تركه فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام، وأنه يحشر يوم القيامة أعمى، وأضل سبيلاً، فيستكشف من ترتب هذه الآثار الشديدة على تركه وتسويفه، أهميته لغيره كأداء الدين، فيكون مقدماً عليه.

وأجاب عنه بعض الأعيان(قده) بجوابين:

الأول: المنع من كون المقام من باب تزاحم الخطابين في مرحلة الامتثال، بل هو من تزاحم الملاكين في مرحلة الجعل والتشريع،ـ ومناط التقديم في هذا الباب غير مناطه في باب تزاحم الخطابين[2].

وقد أوضح كلامه(ره) بهذا البيان: إن التمانع بين الأحكام الشرعية على أربعة أنحاء:

الأول: التمانع والتزاحم في باب الملاكات، وهو مربوط بالشارع، فهو الذي يعلم أي الملاكين أهم من الآخر، ويجعل الحكم طبقاً للملاك الأهم عنده، ويعبر عنه بتزاحم الملاكات في مقام الجعل والتشريع، وله ربط بمقام الانشاء لا الامتثال، والمرجح في هذا الباب هو أولوية الملاك الواقعي، وتشخيصه بيد الشارع. مثلاً لو كان لصلاة الظهر ملاك، ولصلاة الجمعة ملاك آخر، وقد عين الشارع الأهم منهما عنده، لأن الفرض أنه لا يريد جعل أكثر من صلاة واحدة في عهدة المكلف، فإما أن يوجب الظهر أو الجمعة.

الثاني: تزاحم الخطابين في مقام الامتثال، بمعنى وجود الملاك في كلا الحكمين والخطابين الشرعيـين، ولذا فإن الشارع-ووفقاً لكل ملاك-جعل حكماً على وفق ذلك الملاك، فلا تزاحم بينهما في مقام الجعل، بل هو في مقام الامتثال، لعدم قدرة المكلف إلا على امتثال أحدهما، فيقع التزاحم بين هذين الحكمين والخطابين، ويلزم على المكلف صرف قدرته فيما هو الأهم ملاكاً. مثلاً لو جعل ملاك لحفظ النفس من الهلاك، وجعل للتصرف في مال الغير ملاك آخر، وجعل الشارع للأول وجوب إنقاذ الغريق، وللثاني حرمة التصرف في مال الغير إلا بإذنه، وعجز المكلف في مورد واحد عن تحصيل كلا الملاكين وامتثال الخطابين، فلم يكن قادراً إلا على تحصيل أحدهما، وامتثال أحدهما، فيكون من تزاحم الخطابين.

الثالث: التمانع في باب الأخبار، ويعبر عنه بالتعارض، مثلاً لو وجد خبران مشمولان لدليل الحجية، وعُلم بكذب أحدهما، فيكون من باب التعارض. ولا يكون المناط في هذا النحو وتقديم أحدهما على الآخر، هو أهمية الملاك وأولويته، بل يكون المناط هو الترجيح بالمرجحات المحددة من قبل الشارع، كالشهرة بين الأصحاب، وموافقة الكتاب، ومخالفة العامة.

الرابع: التمانع في باب الأمارات، ويفرق عن الوجه السابق، أن السابق كان تمانعاً بين الأخبار في الأخبار في الأحكام الشرعية، ويعبر عنه اصطلاحاً بتعارض الأدلة، أما هنا فتعارض الأمارات يكون في الموضوعات، ويعبر عنه بتعارض الأمارات. مثل ما إذا قامت البينة على ملكية زيد لهذه الدار، وقامت بينة أخرى على ملكية عمرو لها، فإنه يكون من تعارض البينتين. والمناط حينذٍ في التقديم هو مرجحات قد ذكرت في باب القضاء، كالأعدلية، وما شابه، وليس هو الأهم ملاكاً في مقام الجعل، أو في مقام تزاحم الخطابين، ولا مرجحات باب التعارض.

بعد وضوح الأنحاء الأربعة، فإشكال بعض الأعيان، حاصله:

إن المقام من التزاحم في باب الملاكات، فالشارع هو الذي يحدد الأهم منهما-أعني الحج وأداء الدين-ولا علاقة له بفحص المجتهد وتشخيصه للأهم منهما.

ويلاحظ عليه: إننا نسلم بكون المورد مجرى للتـزاحم، إلا أننا نمنع من جعل كبرى المقام هي التزاحم بين الملاكات، بل الصحيح أن المقام من التزاحم بين الخطابين، والوجه في ذلك يتضح من خلال ملاحظة مورد جريان التزاحم بين الملاكات، فنقول: إن التزاحم بين الملاكات يتصور في مقامين:

الأول: أن يكون في العمل الواحد مصلحة ومفسدة أيضاً، كشرب الخمر مثلاً، فإن فيه منافع للناس، وفيه مضار أيضاً، فيكون من تزاحم الملاكات، وقد لاحظ الشارع المقدس منافعه ومضاره، وحكم على ما هو الأولى في نظره.

الثاني: أن يتعدد العمل مع العلم بعدم مشروعية أكثر من عمل، وعدم إرادة المولى لأكثر من عمل، كصلاتي الظهر والجمعة، ففي كل منهما ملاك ومصلحة، وعلى فرض مشروعيتيهما، فيجب الاتيان بكليهما، لكن الفرض أنه بتحقق أحد الملاكين لا يمكن تحقق الآخر، لعدم بقاء شيء من الملاك لامتثال الآخر، أو لتضاد الملاكين، فالملاك في يوم الجمعة يمكن أن يتحقق بصلاة الجمعة ويمكن أن يتحقق بصلاة الظهر، فإن تحقق بأحدهما فلا يمكن تحققه بالآخر خارجاً، وعندها يرى الشارع المقدس من هو أهم منهما ملاكاً فيقدمه على الآخر، فلا يجعل أكثر من حكم، فيقول: تجب صلاة الظهر، فتبقى صلاة الجمعة بلا ملاك، لذا إذا أتى المكلف بصلاة الجمعة فكأنه لم يأتِ بشيء أصلاً.

ولا يخفى أن مقامنا ليس من هذا القبيل، فليس هو عمل واحد، بل اثنان، أحدهما حجة الإسلام، والآخر أداء الدين، وليس هو عملان بحيث إن وجد ملاك أحدهما لم يمكن وجود ملاك الآخر، بل يمكن وجود كلا الملاكين، بل كلاهما موجودان، غاية الأمر عدم قدرة المكلف إلا على إيجاد أحدهما فقط، فلا تنافي أصلاً بين ملاك حجة الإسلام وملاك أداء الدين، في حين أن ملاك صلاة الظهر لا يبقي مجالاً لملاك صلاة الجمعة وبالعكس، وليس الأمر كذلك في باب الحج، فلاحظ.

وبالجملة، إن المشكلة من جهة عدم قدرة المكلف على امتثال كليهما، ولا ربط لها بالملاك، لأن القدرة شرط للتكليف لا للملاك، فكلا الملاكين تام، مع عدم القدرة على تحصيل كليهما، فيكون من باب تزاحم الخطابين.

الإشكال الثاني: إنه بعد التسليم بكون المقام من صغريات تزاحم الخطابين، وليس من باب تزاحم الملاكين، إلا أنه لا سبيل لنا لمعرفة أن الحج أهم من أداء الدين[3]. وذلك لأن الطريق لمعرفة أهمية الحج على أداء الدين تنحصر في أربعة أشياء:

أولها: القول بأن الكبائر المكفِرة أهم من الكبائر المكفَرة، فتقدم الأولى عليها، والأولى هي الكبائر التي يوجب تركها الكفر، كترك الصلاة، والحج وغيرهما، كما ورد في النصوص، بينما الثانية هي القابلة للعفو والغفران من المولى، فتغفر بالتوبة والاستغفار، ولا يخفى أن أداء الدين من الثاني. بينما أداء الحج من الأول، فيكون مقدماً.

وهذا الوجه مسدود، أولاً: لأنه ثبت في المباحث السابقة أن ترك الحج ليس موجباً للكفر، نعم هو معصية كبيرة.

ثانياً: بعد التسليم بكون تركه موجباً للكفر، إلا أنه لا دليل على تقديم الكبائر المكفِرة على الكبائر المكفَرة، بل يقدم أهمها ملاكاً، فإن إلقاء النفس في التهلكة وترك حفظها ليس من الكبائر المكفِرة، ومع ذلك يقدم وجوب حفظ النفس على وجوب الحج والصلاة الذين يعتبر تركهما من باب الكفائر المكفِرة، لأهمية ملاك حفظ النفس عند الشارع.

الثاني: إن الحج مما بني عليه الإسلام، وأما أداء الدين فليس كذلك، ولا ريب في أن ما بني عليه الإسلام أهم مما لم يبن عليه، فيقدم الحج.

وقد اتضح جوابه مما تقدم، في الجواب عن الوجه الأول مما ذكر للتقديم، فلا نعيد.

الثالث: إن التبعات المترتبة على عصيان وترك الحج أشد من التبعات المترتبة على عصيان وترك أداء الدين ومنه يعلم أهمية الحج على أداء الدين.

ويلاحظ عليه: بأن تبعات عصيان وترك أداء الدين شديدة أيضاً، فلاحظ رواية محمد بن جعفر عن أبيه أبي عبد الله(ع) عن آبائه(ع) عن علي(ع) قال: قال رسول الله(ص) لي: الواجد بالدين ُيحلُ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله عز وجل[4].

فهذه التبعة المترتبة على ترك أداء الدين شديدة جداً، فليس ثمة ما هو أهم من العرض إلا نفس المسلم في الإسلام، فأي معصية هذه التي تسبب جواز هتك عرضه.

بل في خبر حنان عن أبيه عن أبي جعفر(ع) قال: كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدين لا كفارة له إلا أداؤه أو يقضي صاحبه أو يعفو الذي له الحق[5]. وغير ذلك من النصوص.

الرابع: أن حق الله عند الشارع أهم من حق الناس، وقد تضمنت بعض النصوص التعبير عن الحج بدَين الله، ودين الله أحق بالقضاء من دين الناس، فيقدم الحج على أداء الدين.

هذا ولا يخفى أننا أشرنا مسبقاً لكون المقام من صغريات التـزاحم، وعليه فهل مجرد كون الحج دين الله، يوجب تقديمه عند التزاحم على أداء الدين، أم أن ذلك لا يوجب ذلك، سيأتي أنه لا مجال للاستناد لمثل هذا الأمر لثبوت موجب التقديم، فلاحظ.

الأمر الثالث مما تمسك به القائلون بتقديم الحج على أداء الدين، النصوص الدالة على أهمية الحج وتقديمه على الدين:

منها: صحيحة معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن رجل عليه دين، أعليه أن يحج؟ قال: نعم، إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي من المسلمين[6]. ودلالتها على عدم مانعية الدين من أداء الحج واضحة لا خفاء فيها.

إلا أن الأصحاب أوردوا على الاستدلال بها:

أولاً: ما جاء في كلمات بعض الأساطين(قده) من أنها مما أعرض المشهور عنه، لتضمنها ما لا يمكن الالتـزام به وهو وجوب حجة الإسلام على من أطاق المشيء من المسلمين[7].

والانصاف، أن الكبرى وإن كانت مسلمة كما ذكرنا ذلك في محله، إلا أن الظاهر أن المقام ليس من صغرياتها، ضرورة أن الإعراض في البين إعراض صناعي، ومع كونه كذلك، فإنه لا يسقط الخبر عن الحجية، كما فصل في محله، فلاحظ.

على أنه لو تنـزلنا وسلمنا بكون الإعراض في البين من الإعراض المسقط للخبر عن الحجية، إلا أنه من التفكيك في الحجية، فيلتـزم بأن ما أعرض المشهور عنه هو خصوص الحج ماشياً لمن أطاق، أما فقرة الاستدلال، وهي عدم مانعية الدين، فلم يعرض المشهور، فيمكن الاستناد إليها.

والإنصاف، وإن كان ما ذكر حسناً، إلا أن البناء عليه صعب، خصوصاً بملاحظة ما تكرر منا من أن التفكيك من الأمور العقلائية، ويبدو أن العقلاء لا يعمدون للتفكيك في مثل هكذا موارد، فلاحظ وتأمل.

ثانياً: ما ذكره الفقيه السيد اليزدي(ره) من المناقشة في دلالتها، وأنها أجنبية عن المقام، وذلك لموضوع فيها هو من استقر عليه الحج، ولا ريب في أنه يجب عليه الحج ولو كان مشياً على الأقدام، كما هو واضح.

وقد عرفت فيما تقدم عند الحديث عن اعتبار الراحلة في الاستطاعة، أنها ناظرة إلى أصل وجوب حجة الاسلام، ولا نظر فيها لمن استقر عليه الحج كما يدعى، فراجع.

ثالثاً: ما جاء في كلمات بعض الأعلام(قده) من أن الصحيحة ظاهرة في وجوب كلا الأمرين، وفاء الدين، والحج، وأنه يلزمه أداء الدين بالمال، والحج ماشياً، فهي لا دلالة لها على ما نحن فيه، لعدم ارتباطها بمورد المزاحمة[8].

والانصاف أن ما ذكر غير عرفي، ضرورة أن ظاهر السؤال عن أن السائل يود الحج، والسؤال عن وظيفته فهل يؤدي دينه، أم يصرف ماله في أداء الحج من خلال تهيئة الزاد والراحلة، وما شابه، فكان الجواب منه(ع) بعدم مانعية الدين، بل ترقى أن الحج واجب على كل من أطاق المشي، فكيف يقال أنها ناظرة للأمرين، فلاحظ.

رابعاً: ما جاء في كلمات بعض الأعيان(قده)، من أن مفاد الصحيحة هو وجوب الحج عليه إذا أطاق المشي، ولو كانت ذمته مشغولة بالدين، فلو كان مفهوم الصحيحة: أنه مع وجود الدين لو لم يطلق المشي كان عليه الرواح إلى الحج مع الراحلة، لكان دليلاً على تقديم الحج على الدين، ولكنه ليس كذلك، وذلك لعدم وجود جملة شرطية أو نحوها لها مفهوم، غاية ما هناك قوله(ع): إن حجة الإسلام واجبة على من أطاق المشي…الخ….، وهي جملة مركبة من الموضوع والمحمول، فيكون من اللقب، وثبت في محله عدم المفهوم له.

على أنه لو سلم بثبوت المفهوم للقب، فمفهومه ليس ما ذكر من التقريب في الاستدلال، بل مفهومه أنه لو لم يطق المشي لم يجب عليه الحج، بل عليه أن يؤدي دينه تعيـيناً، فجعل هذه الصحيح دليلاً على تقديم الدين على الحج، أولى من العكس[9].

وحاصل ما أفاده(ره) أن المستفاد من الصححية أنه يجب عليه أداء الدين، ويؤدي الحج ماشياً، ومن الواضح أن هذاا لمعنى يفيد تقديم الدين على أداء الحج، لا تقديم أداءا لحج على أداء الدين، ولو منع من الالتـزام بما ذكر استناداً لقاعدة نفي الحرج، على أساس أن أدائه الحج ماشياً حرجي عليه، فيسقط عندها وجوب الحج عليه، ويلزمه صرف المال في أداء الدين، فيتعين أيضاً تقديم الدين، لا الحج.

والإنصاف عدم المساعدة على ما أفاده، ذلك لأن قوله(ع): إن حجة الإسلام…إلخ…بمثابة التنـزل، فكأنه يقول: بأن الدين ليس مانعاً من تحقق الاستطاعة، فإن من كان متمكناً من أداء المناسك وجوب الحج، وتنـزل فذكر مثالاً للمستطيع وهو من أطاق أن يحج ولو ماشياً، فتدبر.

ومنها: خبر الكناني عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: أرأيت الرجل التاجر ذا المال حين يسوف الحج في كل عام وليس يشغله عنه إلا التجارة أو الدين؟ فقال: لا عذر له يسوف الحج، إن مات وقد ترك الحج فقد ترك شريعة من شرائع الاسلام[10]. وتقريب دلالتها على المدعى، يتضح من خلال ملاحظة السؤال، فإنه سئل عن التاجر الذي لا يمنعه من الحج مانع إلا التجارة أو الدين، وقد كانت إجابته(ع)، بأن هذين ليسا مانعين من اشتغال الذمة بالوجوب، وتنجزه عليه، وهذا يعني عدم مانعية الدين عن أداء الحج، فيستفاد تقديمه على أداء الدين، وهو المطلوب.

وأجاب عنه بعض الأعيان: بأن المستفاد من الخبر وروده في مورد شخص متهاون ومهمل للحج، معتذراً في ذلك بوجود تجارة أو دين، مع أنه ذو سعة وثروة لا توجب كون دينه مانعاً له عن الأداء في كل عام[11].

وحاصل كلامه(ره) أن الخبر المذكور أجنبي عن المقام، ضرورة أن مقامنا ما إذا كان المال الموجود عنده لا يفي إلا بأحد التكليفين، إما أداء الدين، أو أداء الحج، لا ما إذا كانت له ثروة يمكنه من خلالها أداء دينه، وأداء الحج كما هو الظاهر من الخبر، فلاحظ.

ومنها: صحيحة معاوية بن وهب عن غير واحد، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) يكون عليّ الدين فتقع في يدي الدراهم، فإن وزعتها بينهم لم يبق شيء فاحج بها أو أوزعها بين الغرّام؟ فقال: تحج بها، وادع الله أن يقضي عنك دينك[12].

والإنصاف أن دلالتها على المدعى واضحة جداً لا تحتاج بياناً، بل هي أوضح دلالة على المدعى مما تقدم، فلاحظ.

وأورد على التمسك بها للمدعى غير واحد من الأصحاب:

منها: ما جاء في كلمات بعض الأساطين(قده)، إن المستفاد من الصحيح دلالتها على جواز الحج بالمعنى الأعم من الوجوب، ذلك أنه(ع) قال: تحج بها، فيدل قوله(ع) على جواز الحج، لا على وجوبه، وتقديمه على أداء الدين، وهذا يجعلها أجنبية عن مقامنا، فإنه البناء على وجوب تقديم أداء الحج على أداء الدين[13].

وصدور هذا الإشكال منه(قده) غريب جداً، ضرورة أن الصحيح قد اشتمل على ما يفيد الوجوب لا الجواز بالمعنى الأعم، فإن قوله(ع): تحج بها، جملة خبرية في مقام الإنشاء، ولا ريب في ظهورها في الوجوب لا في الجواز، فلاحظ.

ومنها: ما ذكره بعض الأعيان(قده) من أن دلالة الصحيحة على المدعى إنما تتم لو أحرزنا أن الحج الوارد فيها هو حجة الإسلام، لا ما إذا كان الحج الواقع فيها حجاً آخر، والأول غير محرز، فلا تصلح دليلاً على المدعى، وهو حجة الإسلام[14].

ولا يخفى أن هذا الإشكال يدفعه ما ذكرناه جواباً عن بعض الأساطين(ره)، ضرورة أن البناء على أن الوارد في الصحيح هو الوجوب، لا الجواز يقضي بأن الحج الوارد فيه هو حجة الإسلام، كما لا يخفى. وبعبارة أخرى: إن قوله(ع): تحج، قرينة على أن المراد من الحج فيها هو حجة الإسلام، لا أن المراد حج آخر، فتدبر.

هذا وقد يورد على الصحيح بأنه قضية في واقعة، ولا ريب أنها لا تصلح لإفادة حكم كلي عام يمكن الاستناد إليه في مقام الاستدلال. خصوصاً وأن الاستناد للصحيح المذكور سوف يكون من خلال الاطلاق اللفظي، إذ أنه(ع) ترك الاستفصال، فلم يسأل هل أن الدين حال، أم مؤجل، ولو كان حالاً فهل أذن الدائن أم لا، وهل لك قدرة على أدائه بعد العود أم لا، فكل هذه الأمور بمقتضى الاطلاق اللفظي رفعنا اليد عنها، لكن مقتضى كون الصحيح يمثل قضية في واقعة يمنع من الاستناد لهذاا لاطلاق على فرض انعقاده، لأن من المحتمل أنه(ع) كان محيطاً بكل هذه الأمور، فلم يعمد الراوي لذكرها اعتماداً على أنه(ع) على دراية بها وإحاطة كما لا يخفى[15].

ومنها: خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قال أبو عبد الله(ع): الحج واجب على الرجل، وإن كان عليه دين[16].

وناقش في دلالتها بعض الأعيان(قده) بأن من المحتمل أن يكون المراد من قوله(ع): وإن كان عليه دين، هو عدم اختصاص وجوب الحج بمن كانت له الاستطاعة المالية من جميع الجهات، بل ربما يتوجه إلى من ليس كذلك، بأن لا يكون واجداً للراحلة، لكنه فيما إذا أطاق المشي، فلا يتم الاستدلال[17].

وحاصل كلامه(ره)، أنه(ع) يقرر أن وجوب الحج لا ينحصر في من كان واجداً للزاد والراحلة، بل يجب الحج على كل من أطاق المشي، وهو من لم يكن واجداً للراحلة، فقوله(ع): وإن كان عليه دين، كناية عن عدم اعتبار الراحلة في من يطيق المشي، وبالتالي تكون أجنبية عن مقامنا، لأنها ليست ناظرة لما نحن فيه.

ولا يخفى بعده جداً، ضرورة أنه من التصرف في الظاهر، وهو بحاجة إلى قرينة واضحة، وهي مفقودة في المقام، فلاحظ.

نعم لو أورد على الرواية بأنها ضعيفة سندها لاشتمالها على القاسم بن محمد، وهو مشترك، بين الثقة والضعيف، كان ذلك في محله، فتدبر.

أو أورد عليها بما جاء في كلام بعض الأعاظم(قده) بأنها ناظرة لما إذا لم يكن الدين حالاً، لأنه يكون عندها مقدم على أداء الحج بالبداهة، فيقيد الاطلاق بغير ما إذا كان الدين حالاً، فلاحظ[18].

ومنها: رواية أبي همام قال: قلت للرضا(ع): الرجل يكون عليه الدين ويحضره الشيء أيقضي دينه أو يحج؟ قال: يقضي ببعض ويحج ببعض، قلت: فإنه لا يكون إلا بقدر نفقة الحج، قال: يقضي سنة، ويحج سنة، قلت: أعطي المال من ناحية السلطان؟ قال: لا بأس عليكم[19].

والانصاف أنها أجنبية عن المقام تماماً، بل هي دالة على وجوب تقديم أداء الدين على أداء الحج، فلاحظ.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة النصوص المذكورة على المدعى، إلا أنها معارضة بنصوص أخرى تدل على خلاف ما جاء فيها، ومن تلك النصوص:

معتبرة عبد الملك بن عتبة، قال: سألت أبا الحسن(ع) عن الرجل عليه دين يستقرض ويحج؟ قال: إن كان له وجه في مال فلا بأس[20]. ودلالتها على أنه لا يحج ما دام عليه دين إلا إذا كان متمكناً من أداء الدين بعد عوده من الحج، نتيجة وجود مال عنده، مما يعني مانعية الدين عن الحج، فلاحظ.

وبعبارة أخرى، إن المستفاد منها عدم تحقق عنوان الاستطاعة مع وجود دين عليه، فيمنع ذلك من الحج، فضلاً عن تقديم الحج على أداء الدين.

ومنها: معتبر موسى بن بكر الواسطي قال: سألت أبا الحسن(ع) عن الرجل يستقرض ويحج، فقال: إن كان خلف ظهره مال إن حدث به حدث أدى عنه فلا بأس[21].

ودلالتها على المدعى كسابقتها، نعم قد يمنع من الاستناد إليها اشتمالها على موسى بن بكر الراوي، وهو ممن لم يرد فيه توثيق خاص، ويبنى على وثاقته إما لكونه وقع في أسناد تفسير القمي، وقد عرفت غير مرة حال مثل هكذا توثيق، أو لكونه من المعاريف كما عن شيخنا التبريزي(ره)، والبحث في الكبرى فضلاً عن الصغرى.

نعم الصحيح أن يبنى على وثاقته لرواية جعفر بن بشير عنه، وقد ذكرنا في محله[22] أنه ممن لا يروي إلا عن ثقة، فلاحظ.

وهناك رواية أخرى لموسى لا يبعد اتحادها مع الرواية المذكورة، وإن كان الطريق مختلفاً.

وعلى أي حال، فلا ريب في حصول المعارضة بين الطائفتين، وبالتالي قد يجمع بينهما-كما قيل-بحمل الطائفة الثانية على الاستحباب، وفقاً لكونها مطلقة، والثانية مقيدة بالواجب، فيكون الموضوع في الطائفة الثانية هو المستحب.

ولا يخفى ما فيه، ضرورة أن المستفاد من النصوص أن الحج المستحب لا يمنع عنه وجود الدين، وهذا يوجب عدم تمامية الجمع المذكور، فلاحظ.

والانصاف أن النسبة بين الطائفتين هي العموم من وجه، وبالتالي تكون المعارضة بينهما مستقرة، فإن بني على ما هو المختار من الترجيح بالحكومة، كان مقتضى ذلك البناء على تقدم الطائفة الثانية على الطائفة الأولى، وبالتالي تكون النتيجة هي مانعية الدين مطلقاً عن أداء إلا أن يكون قادراً على أدائه بعد العود.

وإلا كانت النتيجة هي التساقط، وبالتالي يحكم بالرجوع للمطلقات، فلاحظ وتدبر.

الرابع مما تمسك به لإثبات تقديم الحج على أداء الدين، هو أن الحج دين الله، كما ورد التعبير عنه بذلك في جملة من النصوص، ولا إشكال في أن دين الله أحق بالقضاء من دين الناس، وهذا يقتضي أن يصرف المال في قضاء دين الله، فيقدم على صرفه في أداء دين الناس.

أقول: إن الوجه المذكور يعتمد على كبرى مفادها أن أداء دين الله تعالى أولى ومقدم على حق الناس، وهذا يستدعي معرفة مستند هذه الكبرى، وقد ذكر لها مستند في كتب القوم، ولم يرد في شيء من مصادرنا الأصلية، وإنما ورد في كتاب مستدرك الوسائل وفي كتاب الذكرى، وهو ليس مصدراً حديثياً، مع اختلاف في التعبير عما جاء فيهما، وما جاء في كتب القوم، ففي مستدرك الوسائل نقلاً عن الشيخ أبي الفتوح الراضي في تفسيره-وهو من التفاسير القديمة المعتنى بها-عن امرأة خثعمية أنها أتت إلى رسول الله(ص) فقالت: يا رسول الله(ص) إن فرض الحج قد أدرك أبي، وهو شيخ لا يقدر على ركوب الراحلة، أيجوز أن أحج عنه؟ قال(ص): يجوز، قالت: يا رسول الله، ينفعه ذلك؟ قال(ص): أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أما كان يجزئ؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق[23].

وقال الشهيد(ره) في الذكرى: وفي البخاري وغيره عن ابن عباس، قال رجل: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي(ص): لو كان عليها دين أكنت قضيته؟ قال: نعم، قال: فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء[24].

ولا يخفى أن ما جاء في الذكرى يعاني مشكلة سندية، فهو مرسل من طرقنا، إذ لم يذكر الشهيد(ره) طريقه إليه، كما أنه مخدوش في كتب القوم، فلاحظ.

هذا وقد نوقشت دلالتها بمناقشتين:

الأولى: ما جاء في كلمات بعض الأعيان(قده)، من أن الرواية أجنبية عن المدعى، وذلك لأنها تدل على أن دين الله أحق أن يصح قضاؤه بقرينة كون السؤال عن ذلك، فلاحظ قوله: أينفعه ذلك، وبالتالي فلا ربط لها بالمقام وهو تقديم أداء الحج على أداء الدين، كما لا يخفى[25].

الثانية: إن أداء دين الناس حق الله أيضاً، لأن جميع الواجبات الإلهية حقوق الله تعالى، نعم بعضها يتضمن حقوقاً للناس أيضاً، وبعضها يتمحض في حق الله تعالى، فيمكن أن يكون المراد من التعبير بحق الله في بعضها أنه الحق المتمحض في حق الله تعالى، فيمكن أن يراد أن الحق المشترك بين الله وبين الناس إذا يقضى فحق الله المتمحض في حقه تعالى من دون مشاركة خلقه أحق أن يقضى، والحاصل إن المراد من الروايات على تقدير صحتها مجمل[26].

ويلاحظ عليه، أولاً: بأننا نسلم بأن الوظائف والأحكام الإلهية ينطبق عليها جميعاً أنها حقوق الله سبحانه، إلا أن التعبير الوارد في الخبر هو(دين الله)، وهذا التعبير لم يرد في النصوص إلا في خصوص بعض الواجبات كالصلاة والحج، وهذا يعني أن الحج دين الله، وأما أداء الدين فهو حق الله، وليس دينه، فلاحظ.

ثانياً: بعد التسليم بكون المراد من التعبير بــــــــ(دين الله) في الخبر هو حق الله، فسوف يكون الظاهر منه هو: أن الحج الذي هو حق الله مقدم على أداء الدين الذي هو حق الناس.

على أنه لو سلمنا أن أداء الدين حق الله كذلك، إلا أننا نجد أنه(ص) قد حكم بتقديم الحج في الخبر، وقال بأنه أحق بالقضاء، مع أن الفرض أن أداء الدين حق الله كذلك، فيقدم الحج على أداء الدين بالدليل، وبالتالي لا يتصور في البين إجمال أصلاً، فتدبر.

فتحصل إلى هنا أن ما يمكن لاستناد إليه في الالتـزام بتقديم أداء الحج على أداء الدين ينحصر في صحيحة معاوية بن عمار، بناءً على القبول بعدم حصول الإعراض عنها من قبل المشهور، وتمامية دلالتها من خلال رفع اليد عما ذكرناه في بحث اعتبار الراحلة مطلقاً في الاستطاعة، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب مقدمة العبادات ح 2.

[2] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 120.

[3] المصدر السابق.

[4] وسائل الشيعة ب 8 من أبواب ترك الدين والقرض ح 4.

[5] المصدر السابق ب 4 من أبواب الدين والقرض ح 1.

[6] وسائل الشيعة ب 11 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 1.

[7] مستمسك العروة ج 10 ص 70.

[8] المرتقى إلى الفقه الأرقى كتاب الحج ج 1 ص 82.

[9] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 121.

[10] وسائل الشيعة ب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 4.

[11] كتاب الحج للسيد الشاهردوي ج 1 ص 122.

[12] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 10.

[13] مستمسك العروة ج 10 ص 97.

[14] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 123.

[15] المصدر السابق.

[16] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 4.

[17] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 122.

[18] معتمد العروة ج 26 ص 93.

[19] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 6.

[20] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 5.

[21] المصدر السابق ح 7.

[22] ذكرنا ذلك في بحث قاعدة لا ضرر، فراجع.

[23] مستدر الوسائل ب 18 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ح 3.

[24] الذكرى ج 2 ص 66.

[25] كتاب الحج للسيد الشاهرودي ج 1 ص 124.

[26] كتاب الحج للسيد حسن القمي ج 1 ص 121.