28 مارس,2024

تأملات في الخطبة الشعبانية(13)-المطالب البشرية من الله

اطبع المقالة اطبع المقالة

المطالب البشرية من الله

بعدما عدد النبي(ص) الخصوصيات التي امتاز بها شهر رمضان المبارك على بقية الشهور، بدأ الآن في عرض ما ينبغي للناس أن يسألوا الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر وفقاً لما قدمه من ميز، لأنه ما دام لهذا الشهر ميز، فلابد أن يستغلها الإنسان ويستفيد منها، وذلك من خلال سؤاله الله سبحانه وتعالى، فبدأ(ص) بتعداد تلك المسائل التي ينبغي على الإنسان سؤال الله إياها، فذكر طلب التوفيق لأمرين، وهما:

1-التوفيق لصيامه.

2-تلاوة كتابه

سؤال الله

فأسالوا الله ربكم بنيات صادقة(1)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)توجيه من النبي محمد(ض) إلى أمته، أن يستفيدوا من هذا الشهر الشريف، بتحصيل ما فيه من عطاء رباني، فعرض في هذه العبارة: سؤال الله سبحانه، وقد قيد السؤال أن يكون مشتملاً على قيدين:

الأول: أن يكون السؤال بنيات صادقة، وهذا التعبير كأنما يشير إلى أن النية قد لا تكون صادقة.

الثاني: أن يكون السؤال بقلوب طاهرة، وهو كسابقه أيضاً يشعر أن القلوب السائلة، قد لا تكون طاهرة كذلك.

وعلى أي حال، لنبدأ أولاً ببيان معنى السؤال، الذي ورد في هذه العبارة.

السـؤال:

إن أول ما يلحظ القارئ لهذا المقطع من الخطبة، يجد أنه(ع) عبر بكلمة(سؤال)، ولم يعبر بكلمة دعاء، يعني لماذا ورد تعبيره(ص): فأسالوا الله، ولم يرد تعبيره: فادعوا الله، هل يوجد فرق بين التعبيرين، بحيث يقال: أن التعبير بالسؤال مثلاً، أفضل من التعبير بالدعاء، أم أنه لا يوجد فرق بينهما، وإنما هو نوع من أنوع التفنن في التعبير والمغايرة في استعمال الألفاظ المترادفة في المعنى.

أما الدعاء، فقد تقدم منا بيان حقيقته فيما مضى، فلا حاجة لتكرار ذلك وإعادته.

السؤال: هو ما يسأله الإنسان، ويمكن التعبير عنه بأنه طلب شخص أمراً ما، ويختلف الطلب بالنسبة للمطلوب، لأن المطلوب قد يكون مالاً، وقد يكون علماً، وقد يكون شيئاً آخر.

نعم قد يختلف التعبير عنه وفقاً للمطلوب، فيقال: إذا كان المطلوب مالاً، فإنه يسمى حينئذٍ استعطاء، وإذا كان المطلوب علماً، يعبر عنه بأنه استعلام، وهكذا.

وبالجملة، ينطبق على الجميع عنوان الطلب، وقد عرفت حقيقته.

نعم قد ذكروا أن الطلب يفترق عن السؤال بأن الطلب صفة نفسانية قائمة بالنفس، ولا يحتاج إلى الظهور، أو إلى الإظهار كما في طلب الكمال، وفيه إلزام.

وهذا يعني أن الطلب أوسع دائرة من حيث المفهوم من السؤال، فيشمل السؤال وغيره، بينما السؤال أخص، فلاحظ.

أقسام الطلب:

هذا وقد ذكروا أن الطلب على ثلاثة أقسام، لأنه قد يكون من العالي إلى الداني، وقد يكون من المساوي للمساوي، وقد يكون من الداني للعالي، فإذا كان من العالي إلى الداني، سمي أمراً، ولو كان من المساوي للمساوي سمي التماساً، ولو كان من الداني إلى العالي، سمي سؤالاً.

ولعل هذا هو منشأ تعبيره(ص) بالسؤال، ولم يعبر مثلاً بغيره من الكلمات، إشعاراً للسائلين بأنك تطلب من العالي، وأنت الداني.

هذا ويختلف السؤال عن الدعاء، بأن الدعاء بمنـزلة الغاية للسؤال، فالسؤال هدف وغاية مترتبة على الدعاء.

كما أنهما يختلفان من حيث أن الدعاء متقوم دائماً بعنصري الخضوع والتذلل، فلا يتصور حصوله خارجاً من دون ذلك، بخلاف السؤال، فإنه لا يتقوم بذلك، بل قد عرفت أنه مطلق الطلب، نعم قد يكون السؤال مشتملاً على ذلك، فلاحظ.

أصناف السائلين:

هذا وقد ذكر الأعلام أن للسائلين أصنافاً ثلاثة:

الأول: من يسأل الله سبحانه على سبيل الاستعجال.

الثاني: من يسأل الله سبحانه على سبيل الاحتمال.

الثالث: من يسأل الله سبحانه على سبيل الامتثال.

أما الصنف الأول، فهو الذي قد قدر الباري سبحانه وتعالى له في علمه ما يريد، لكنه يتعجل الحصول على ذلك، مثلاً قدر الله له التوفيق للحج، أو التوفيق للزوجة الصالحة، بحيث لو انكشف له الغطاء، ونظر في اللوح المحفوظ، لوجد أن ذلك مقدراً له، لكنه يستعجل الحصول على ذلك، ولا يعلم أنه مقدر ومكتوب له.

وأما الصنف الثاني، فالإنسان الذي يحتمل أن الله سبحانه وتعالى قد ربط إجابة دعوته وتحقيق رغبته بالدعاء، كالرزق، فهو يعتقد أن تحصيل طلبه ورزقه مثلاً من خلال الدعاء، فلو لم يدع لن يحصل على ما يريد، وكذا الحج، فما لم يدعو ربه، فإنه لن يكتب من الحجاج.

وأما الصنف الثالث، فهو من يسأل الله سبحانه وتعالى امتثالاً لأمره سبحانه، فإن الله تعالى يقول:- (وسئلوا الله من فضله)[1]، فالله يحب أن يرى عبده يسأله، فحتى لو لم يكن الإنسان محتاجاً، إلا أن عليه أن يسأل الله تعالى، لأن الله يحب أن يراه سائلاً خاضعاً.

والحاصل، إن أصحاب الصنف الثالث، لا يسألون الله سبحانه رغبة في جنة، ودفع نار، وإنما منشأ سؤالهم حبهم لله تعالى، وهذا مثل ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) في منشأ عبادته، وأنه وجد الله سبحانه أهلاً للعبادة فعبده.

النية:

وقد علق النبي(ص) السؤال على ما إذا كانت النيات صادقة، بمعنى أنه لو لم تكن النيات كذلك، فلا حاجة للسؤال، وهذا يعني أن النية قد توصف بكونها صادقة، وقد تصوف بعدم كونها صادقة، ولكي يتضح ذلك، نحتاج أن نتعرف على حقيقة النية، ومن ثمّ نتعرض لكيفية توصيفها بالصادقة، أو عدمه.

تعريف النية:

ذكروا للنية عدة معان يمكن أن تراد منها:

1-النية اللفظية: وهو ما قد ينطقه الإنسان عند إرادة الدخول في الصلاة، أو في بعض أفعال الحج.

2-الإخطار الذهني: بمعنى تذكر واستحضار مضمون النية اللفظية، بدون نطقها.

3-القصد: هو أن تعرف أنك ماذا تفعل، بحيث لو سئلت عنه أمكنك الجواب، وهذا المعنى شامل لكل الأفعال الاختيارية القصدية أو المتعددة.

وبهذا المعنى قد يفسر ما ورد من: أن الأعمال بالنيات، أي بالقصود، وكل عمل لا قصد فيه، فهو خال من النية.

4-الهدف أو الاستهداف، وهو ما يقصده الفرد في عمله كنـتيجة نهائية، فإن كان الهدف صالحاً، قيل: إن نيته صالحة، وإن كان الهدف سيئاً، قيل: إن نيته سيئة.

وبهذا المعنى ورد: لكل امرئ ما نوى، أي ما يستهدف، فإن استهدف خيراً رأى خيراً، وإن استهدف شراً رأى شراً، وعاد الوبال عليه.

5-الباطن، أو المحتوى الداخلي للإنسان، أو قل: النفس، أو القلب، فمن كانت نفسه صافية وقلبه طاهراً، فنيته حسنة، ومن كانت نفسه خبيثة، وقلبه غليظاً، فنيته سيئة.

وبهذا المعنى ورد: إن نية المؤمن خير من عمله، ونية الفاسق شر من عمله، لأن العمل إنما يمثل المحتوى الداخلي للفرد، وهذا المحتوى أهم من طبيعة العمل بطبيعة الحال[2].

تقسيم النية:

ثم إن التأمل في الكلمة النبوية محل البحث بعد وضوح حقيقة النية، يعطي أن النية تنقسم إلى قسمين:

أحدهما: النية الصادقة.

ثانيهما: النية غير الصادقة.

ومنشأ هذا التقسيم هو التوصيف الصادر منه(ص)، لأن تقيـيده النية التي يسأل السائلون الله سبحانه وتعالى بها بكونها نية صادقة، يعطي هذا المعنى، لأن القيد المذكور، سواء كان قيداً احترازياً، أم كان قيداً توضيحياً يفيد هذا المعنى، إذ أنه ووفقاً لكونه احترازياً، فهو احتراز عن السؤال بنية غير صادقة، وإن كان توضيحياًً، فهو أجلى وأوضح، بأن المطلوب هو خصوص هذه النية، لا مطلق النية.

النية الصادقة:

وعلى أي حال، فالمقصود من النية الصادقة، هي النية التي: تكون الدوافع الداعية للإنسان لامتثال العمل وإتيانه حبه لله سبحانه وتعالى، وليس له من دافع آخر وراء ذلك.

ولذا لو قيل أنك لن تدخل الجنة حتى لو قمت بأداء الصلاة وبالصيام، وبالحج، وبدفع الخمس، فإن ذلك لا يمنعه حينئذٍ، لأن نيته الصادقة هي التي دفعته لذلك. يقول أبو عبد الله الصادق(ع): صاحب النية الصادقة، صاحب القلب السليم[3].

وبالجملة، إن النية الصادقة، هي التي تكون من غير تأثر قلبي إلا رجاء رضا الله سبحانه وتعالى، وهي واحدة من المواهب الإلهية التي يفيضها الباري سبحانه على عبده، لأن الإنسان لا يكاد يخلو عمل من أعماله التي يعمل مهما بلغت درجة قربه من ربه-إلا من عصم-من شائبة ونظر للنفس، بعجب أو ما شابه.

هذا وقد حكى غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده)، كلاماً للشيخ البهائي في بيان حقيقة النية الصادقة، قال(قده): المراد بالنية الصادقة انبعاث القلب نحو الطاعة ، غير ملحوظ فيه شيء سوى وجه الله سبحانه ، لا كمن يعتق عبده مثلا ملاحظاً مع القربة الخلاص من مؤنته أو سوء خلقه ، أو يتصدّق بحضور الناس لغرض الثواب والثناء معاً ، بحيث لو كان منفرداً لم يـبعثه مجرّد الثواب على الصدقة ، وإن كان يعلم من نفسه أنه لولا الرغبة في الثواب لم يـبعثه مجرد الرئاء على الإعطاء.
ولا كمن له وِرْد في الصلاة وعادة في الصدقات ، واتفق أن حضر في وقتها جماعة فصار الفعل أخفّ عليه ، وحصل له نشاط مّا بسبب مشاهدتهم ، وإن كان يعلم من نفسه أنهم لو لم يحضروا أيضا لم يكن يترك العمل أو يفتر عنه البتة.
فأمثال هذه الأمور مما يخل بصدق النية ، وبالجملة فكل عمل قصدت به القربة ، وانضاف إليه حظٌ من حظوظ الدنيا بحيث تركب الباعث عليه من ديني ونفسي فنيتك فيه غير صادقة ، سواء كان الباعث الديني أقوى من الباعث النفسي أو أضعف أو مساوياً.[4]

هذا وما أفاده(قده) لا ربط له بمسألة الرياء، إذ أن الحديث في العمل الصحيح، عمدة ما كان أنه ليس خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى من حيث النية.

وبعبارة أخرى، لابد من التفريق بين نحوين من النية، إذ تارة يكون الملحوظ في النية هو اللحاظ الفقهي فقط، فيكون المربوط بها هو صحة العمل من الناحية الفقهية، وأخرى يكون المربوط بالنية تحصيل قبول العمل وإحراز الغرض والهدف المترتب عليه. فالعمل العبادي مثلاً وإن لم يخلو من الشرك الباطني، فإنه يحكم بصحته من الناحية الفقهية، لكنه بلحاظ فلسفة العبادة، وبلحاظ باطن الشرع الموجب لترتب الهدف على العمل العبادي فاسد، غير مقبول.

ولذا تقدم منا فيما مضى أنه لا توجد ملازمة بين صحة العمل وبين قبوله، إذ ربما يكون العمل صحيحاً لكنه لا يكون مقبولاً، ولا عكس، فلاحظ. ولكي يتضح ما ذكرناه نشير لبعض الأمثلة، فنقول:

إن هناك بعض الناس يعمدون لدفع صدقة في وقت من الأوقات لشفاء مريض، أو لدفع بلية، أو لقضاء حاجة، وهذه الصدقة لا يقول أحد بعدم صحتها من الناحية الفقهية، وتترتب عليها الآثار المرجوة منها، والمطلوبة من أدائها، لكنه لا يمكن البناء على صحته من حيث فلسفة العبادات لأنها ليست عبادة للحق سبحانه وتعالى، وليست مشتملة على النية الصادقة، إذ من الواضح أنها عبادات لنيل الرغبات النفسية الدنيوية.

ومثل ذلك ما ورد في عبادة الإنسان خوفاً من النار أو طمعاً في الجنة، ولذا عبر علي(ع) أنه عبد الله سبحانه لأنه أهل للعبادة، وهو يشير بذلك للنية الصادقة، إذ من الواضح أن الفارق بين الأقسام الثلاثة مرجعه للنية الصادقة في ثالث الأقسام وعدم توفرها فيا لقسمين الأولين، فلاحظ.

وكذلك يجري الكلام بالنسبة لمن يصلي ليلة القدر رغبة في تحقيق غاية معينة، وتحصيل حاجة يرجو الحصول عليها، أو من يصلي صلاة الليل لأجل أن يزيد الله سبحانه وتعالى في رزقه، وهكذا.

لماذا النية الصادقة:

ثم إنه ربما يسأل البعض لماذا نص النبي(ص) على أن تكون النية المسئولة بها نية صادقة، وليس مطلق النية؟…

ويجاب بأن الموجب لأي عمل يعمد الإنسان إلى الإتيان به تحقيق الغرض منه، وهو إصابة الغرض والهدف، فالداعي غرضه من دعائه تحصيل حاجته، والمستغفر غرض من استغفاره غفران ذنوبه، وطالب الحاجة يرجو قضاء حاجته، وهكذا.

ولا ريب أن تحقق الغرض لإصابة الهدف الذي يرجو الإنسان تحصيله من عمله الذي عمله، متوقف على تحقق أسباب ذلك، وواحد من تلك الأسباب هي النية الصادقة، ويستفاد هذا المعنى مما ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع)، حيث قال في قوله تعالى:- (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، قال: ليس يعني أكثركم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والخشية[5].

فهو(ع) يقرر أن تحصيل الإصابة متوقفة على أمرين، ثانيهما النية الصادقة، وقد عرفت فيما تقدم حقيقتها، فتدبر.

ولذا متى ما كان العمل الصادر من الإنسان أبعد ما يكون عن الشرك، وأصفى كلما كان أكمل.

وحتى يتجلى الأمر واضحاً في أن العمل قد يصدر من الإنسان، وبنية لكن نيته لا تكون صادقة، ننقل ما ذكره صاحب جامع السعادات(قده) المولى النراقي، أن رجلاً من المسلمين قتل في إحدى الغزوات بأيدي الكفار، وكان يدعى بين المسلمين قتيل الحمار، لأنه قاتل رجلاً من الكافرين نية أن يأخذ حماره وسلبه، فقتل على ذلك فأضيف إلى نيته[6].

وكذا أيضاً ينقل أن رجلاً من الأنصار قاتل مع المسلمين يوم أحد، وأبلى بلاء حسناً، فوقع صريعاً على الأرض، فجاءه المسلمون يهنئونه على بلائه في المعركة، فأجابهم إنما قاتلت حمية عن قومي، ثم اشتد عليه ألم جراحه، فعمد إلى عرق في يده فقطعه ومات منـتحراً، فهذا كانت له نية، لكنها ليست نية صادقة، والنماذج كثيرة.

إذاً النبي(ص) يدعوا الناس في هذا الشهر إلى أن يسألوا الله سبحانه وتعالى بنية صادقة، وقد عرفنا أنها النية المجردة عن شيء آخر غير رجا الله سبحانه ووجه وطلب رضاه وامتثال أمره.

——————————————————————————–

[1] سورة النساء الآية رقم 32.

[2] فقه الأخلاق ص 21-22.

[3] بحار الأنوار ج 70 ص 210.

[4] بحار الأنوار ج 67 ص 232.

[5] أصول الكافي ج 2 كتاب الإيمان والكفر باب الإخلاص ح 4.

[6] جامع السعادات ج 3 ص 113.