29 مارس,2024

الإمامة أصل وضرورة(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

الإمامة أصل وضرورة(1)

 

 

لم ينحصر الخلاف الموجود بين المسلمين في مسألة الإمامة في تحديد الإمام بعد النبي الأكرم محمد(ص)، ومن الذي يتصدى لنصبه، وما هي الصفات التي لزم توفرها فيه، بل قد وقع الخلاف بينهم في أن الإمامة أصل من أصول الدين، أو أنها فرع من فروعه، وهل هي ضرورة دينية، أو مذهبية، أولا شيء من ذلك أصلاً.

 

أصول الدين وفروعه:

يقصد من أصول الدين[1]، هو ما يرتكز الدين عليها ويبنى، وهي عبارة عن التي يتوقف الانتماء إلى الدين على توفرها عند الإنسان واعتقاده بها، بحيث يكون إنكاره شيئاً منها مانعاً من كونه منتمياً إلى الدين، نظير الاعتراف لله سبحانه وتعالى بالتوحيد بعد الإقرار بوجوده سبحانه وتعالى، وأنه عالم قادر حكيم حي، وكذا الإقرار بنبوة النبي الأكرم محمد(ص)، ومثل ذلك الالتزام الإجمالي بحقانية كل ما جاء به النبي(ص) في الرسالة المحمدية، وعدم رفض كل ما يحتمل أنه منها.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام في عددها، والمعروف أنها خمسة، وهي: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد.

 

وقال بعضهم أنها ثلاثة، وهي: التوحيد، والنبوة، والمعادة. وجعلهم ثالث اثنين: التوحيد، والنبوة.

ولا يتصور أن منشأ الاختلاف الحاصل بين الأعلام(رض)، يرجع لوجود اختلاف في الأدلة، وإنما منشأه يعود لإرجاع بعض الأصول المذكورة لبعضها الآخر، فإن القائلين بأنها ثلاثة، قد أرجعوا أصل العدل للتوحيد، لكونه يمثل واحدة من الصفات الثبوتية الفعلية للذات المقدسة، وكذا أرجع القائلون بعدم عدّ المعاد أصلاً إما إلى التوحيد لأنه من لوازم الخلق التكليف، حذراً من العبثية، ومن لوازم التكليف المجازاة، وليست دار الدنيا محلاً لذلك، فلابد من دار ونشأة أخرى تكون مورداً للمجازاة، فلزم إعادة الموتى إلى الحياة من جديد من أجل الجزاء. أو إلى النبوة لنفس النكتة السابقة، أو قريب منها.

 

وهذا بنفسه يجري بالنسبة للإمامة، وعدم ذكرها ضمن أصول الدين في كلمات من عدّ الأصول اثنين، أو ثلاثة، فإنه قد أدرجها ضمن النبوة، وجعل من لوازمها، وليست قسيماً لها، وإن كان الصحيح كما سيتضح من خلال بيان حقيقتها أنها قسيم، وليس مقسماً.

والحاصل، إن الخلاف الواقع بين الأعلام في عددها، يرجع إلى بناءهم على تداخل بعضها مع بعض، واندراجها فيها، وهذا يعني أن هناك اتفاقاً منهم على أصلية كل ما يعد أصلاً من أصول الدين، وإن لم يصرح بكونه كذلك في كلماتهم.

وأما فروع الدين، فيقصد منها: الأحكام العملية للإسلام، التي شرعها الله سبحانه وتعالى من أجل توجيه سلوك الإنسان العملي والعبادي، وتنظيم معاملاته مع الله سبحانه وتعالى، ومع المجتمع، وكل ما يحيط به. وقد عدّوها عشرة، لكن الظاهر عدم حصرها في هذا العدد.

وهي تختلف عن أصول الدين، في أن إنكار شيء منها لا يوجب خروج المنكر له من الدين، فلا يحكم بكفر من لم يقر بوجوب الخمس في أرباح المكاسب مثلاً، إلا أن يكون منشأ ذلك تكذيبه للنبي الأكرم محمد(ص)، وهكذا.

 

أصول المذهب:

وكما يوجد مصطلح أصول الدين، يوجد مصطلح أصول المذهب، وهو مفهوم أضيق دائرة من المفهوم السابق، إذ يقصد منه: الأمور التي لا يتحقق الانتماء لمذهب ما إلا بالاعتقاد بها، لأنها تمثل الأركان الأساسية التي يقوم عليها، ويتركز في وجوده، فمن أنكر إمامة ولادة الإمام المنتظر(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، يكون خارجاً من مذهب الإمامية.

 

منكر أصل الدين أو المذهب:

ولإنكار شيء من أصول الدين أو المذهب، صورتان:

 

الأولى: أن يكون ذلك ناجماً عن عناد وجحود، كمن تم لديه الدليل والبرهان على نبوة النبي الأكرم محمد(ص)، إلا أنه عمد إلى جحد ذلك وإنكاره. أو قام لديه البرهان على ثبوت الرجعة[2] إلا أنه لم يعترف بذلك.

الثانية: أن يكون منشأ إنكاره لشيء من ذلك راجعاً لشبهة وجدت عنده، أو لتقصير في الوصول إلى الحجة والدليل، كمن قرر أنه لم يثبت لديه الدليل على خاتمية المصطفى الحبيب(ص) للأنبياء والمرسلين(ع)، أو لم ينهض لديه البرهان على حصول الولادة الميمونة لولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء).

والظاهر أنه لا فرق بين الصورتين، في الحكم على المنكر فيهما بأنه خارج منهما، حال كون المنكر أصلاً من أصول الدين، وخارجاً من المذهب حال كونه أصلاً من أصول المذهب.

 

الإمامة من أصول الدين:

ثم إنه قد وقع الخلاف بين المسلمين في أن الإمامة من أصول الدين، أو من أصول المذهب، أو من فروعه، على أقوال ثلاثة:

الأول: أنها أصل من أصول الدين، لأنها امتداد للنبوة الخاتمة، وخلافة للنبي(ص) في أدواره ومهامه، فتكون من المسائل الأصلية الاعتقادية.

الثاني: الالتـزام بعدم كونها من أصول الدين، وإنما هي أصل من أصول المذهب.

 

الثالث: البناء على عدّها من فروع الدين، وليست من أصوله، فتكون من المسائل الفقهية الفرعية، لأنه لما كان الناس بحاجة إلى من يقوم بتدبير شؤونهم ويدير أمورهم، نشأت الحاجة إلى وجود الإمام، كرئيس يقوم بذلك.

ولا يخفى أنه لو بني على أن الإمامة من الفروع الفقهية فسوف يبنى على إمكانية تدخل الآراء البشرية في تحديدها، وتعيـين الإمام، بعد تحديده وتشخيصه، بل حتى الصفات التي يعتبر توفرها فيه، لأن المفروض أن ذلك ينتج من حاجتهم، وبالتالي يكون الشخص المتصدي للمنصب المذكور مستجمعاً لما يلبي تلك الاحتياجات.

 

وهذا بخلاف ما لو بني على أنها أصل من أصول المذهب، فضلاً عما لو كانت من أصول الدين، فإنه لن يكون للوجود البشري مسرح في شيء مما يرتبط بها، بدئاً من التحديد والتشخيص، والمواصفات، وغير ذلك، بل سوف تكون منصباً سماوياً شأنها شأن النبوة.

وقد أجمع علماء الإمامية على القول الأول، وأنها أصل من أصول الدين، وهي لا تقل أهمية عن بقية الأصول الأخرى أعني التوحيد، والعدل والنبوة والمعاد، وهذا بلحاظ حقيقتها، فهي خلافة الباري سبحانه وتعالى في الأرض، كما أنها امتداد لمنصب النبوة، وهي أحد أسباب عز الدين، والالتـزام بالأحكام والتعاليم، وبها تقام الفرائض، والحدود.

 

قال غواص بحار الأنوار(ره): لا ريب في أن الولاية والاعتقاد بإمامة الأئمة(ع) والإذعان بها من جملة أصول الدين، وأفضل من جميع الأعمال البدنية[3].

وقال الشيخ البهبهاني(قده): إن الإمامة من أصول الدين، والاعتراف بإمامة الإمام وولايته كالإقرار بنبوة النبي(ص)، من الأصول لا من الفروع[4].

وقال الشيخ المظفر(قده): نعتقد أن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الآباء والأهل والمربين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها، كما يجب في التوحيد والنبوة[5].

وقد وافقهم في ذلك بعض علماء المسلمين، كالقاضي البيضاوي، حيث صرح في كتاب المنهاج بأن مسألة الإمامة من أعظم مسائل أصول الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة[6].

ومثله قال السبكي[7] بأنها من الأصول، ومخالفتها بدعة، ومؤثرة في الفتن[8].

 

وهذا هو الظاهر أيضاً من الأسفرائيني حيث قال: اتفق جمهور أهل السنة والجماعة على أصول من أركان الدين، كل منها يجب على كل عاقل بالغ معرفة حقيقته. ثم أخذ في ذكر الأركان، حتى قال: والركن الثاني عشر أن الإمامة فرض واجب[9].

بل نص بعضهم أنها وإن كانت من الفروع، إلا أنها تلحق بالأصول من أجل غاية ومصلحة، فقد قال الإيجي: الإمامة، فإنها وإن كانت من فرع الدين إلا أنها ألحقت بأصوله دفعاً لخرافات أهل البدع والأهواء[10].

ومن الغريب ما نجده من علماء الجمهور القائلين بأنها من فروع الدين، فإنهم يطبقون عليها ما يكشف عن كونها من الأصول، فتراهم يكفرون كل من لا يعتقد بإمامة الخلفاء الأُول، وهكذا.

إن قلت: إنه لا حاجة للالتزام بكون الإمامة أصلاً من أصول الدين بنحو الاستقلال لتكون قسيماً للنبوة، لأنها لن تخرج عنها، بل هي مندرجة فيها، وواحدة من لوازمها.

 

قلت: إن ملاحظة معنى الإمامة وحقيقتها يكشف عن وجود مغايرة بينها وبين النبوة، ما يعني عدم اندراجها ضمنها، بل هي قسيم إليها، فقد اتفقت كلمة المسلمين على تعريفها بأنها: رئاسة عامة في أمور الدنيا والدين لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي(ص)[11].

فإن المستفاد من التعريف المذكور أن الرئاسة المجعولة للإمام حاصلة له من قبل البشر من خلال النص عليه بواسطتهم، فالنبي(ص) هو الذي نص على أمير المؤمنين(ع)، وأمير المؤمنين(ع)، قد نص على الإمامين الهمامين الحسنين(ع)، وهكذا، كل إمام سابق ينص على الإمام اللاحق بعده.

والحاصل، إن منشأ الاستخلاف في الإمامة لم يكن عن الله سبحانه وتعالى مباشرة، بل كان عن الله عز وجل بواسطة البشر. وهذا بخلاف النبوة، فإنها استخلاف للنبي(ص) في الأرض بواسطة الله سبحانه وتعالى من دون وجود واسطة.

 

الإمامة ليست من الفروع:

ومن خلال التعريف المذكور لبيان حقيقة الإمامة يتضح عدم صحة عدّها من الفروع، لأن من جعلها كذلك من علماء الجمهور قد ضيق دائرتها وحقيقتها، فجعلها مختصة بالإمامة السياسية، وإدارة شؤون المسلمين، مع أنك قد عرفت أن حقيقتها وفقاً لما اتفق عليه المسلمون أوسع من ذلك.

وبالجملة، لما كانت الإمامة غير منحصرة في الزعامة السياسية للأمة، وأنها أوسع من ذلك، لاشتمالها على الرئاسة الدينية، فلا يمكن أن تكون من الفروع، لأن من يكون مالكاً لهذين المنصبين، رئاسة الدين، ورئاسة الدنيا، لا يكون مجعولاً منصبه فيمن قبل الناس، بل يكون أمر نصبه وجعله بيد الله سبحانه وتعالى.

 

سعة مفهوم الإمامة:

ولا يذهب عليك أن التعريف المذكور وإن ورد في كلمات أعلامنا(رض)، إلا أنه مختص بخصوص الإمامة الظاهرية، ولا يشمل الإمامة الواقعية، لأنها أوسع من ذلك، فإن التعريف المذكور قد حصر الإمامة في خصوص أمرين: أمر الدين، وأمر الدنيا، فيكون دوره متعيناً في الرئاسة والقيادة، مع أن الذي نعتقده أن الإمامة أوسع من ذلك، فإنها تشمل الإمامة الدينية، والإمامة السياسية.

ويقصد من الإمامة الدينية أن للإمام(ع) قيمومة على الدين، كما للنبي(ص)، بحكم إحاطته بالمفاهيم الدينية والتعاليم، والأحكام، ومعرفته الحاصلة له من الله تعالى، وهذا يجعل الإمامة امتداداً للنبوة، نعم يفرق الإمام عن النبي في أنه لا يتلقى الوحي. وأما الإمامة السياسية، فتعني قيادة الناس من خلال تولي السلطة والحكم.

 

وبالجملة، إن الإمام خليفة الله سبحانه في الأرض، وله جميع ما يكون للمستخلف عن الله تعالى من القدرة على التصرف في هذا العالم، بما يكون في صالحه.

والذي دعى أعلامنا(رض) للالتزام بالتعريف الضيق لمفهوم الإمامة الذي قد سمعته، هو المجاراة مع علماء الجمهور، في مقام الجدل والاستدلال.

 

الإمامة من شؤون النبوة:

وكما أن الإمامة أصل من أصول الدين لأنها في عرض النبوة بالبيان المتقدم، فإنه يحكم بكونها أصلاً من أصول الدين أيضاً لو جعلت من شؤون النبوة، لأنها نيابة عن النبي(ص)، وامتداد لدوره السماوي في الأرض، وتطبيق لرسالته التي جاء بها، فالإمام الحامي للتعاليم التي تضمنتها الشريعة، والحافظ لها، والعامد لتطبيقها، والمبين إليها.

ولا مجال للنقض على ذلك، بالأمور الأخرى المعتبرة من شؤون النبوة، لأنه لا يتوفر فيها ما يتوفر في الإمامة، ما يعني وجود فرق بينها، وهذا كافٍ لعدم كونها أصولاً كالإمامة.

 

الإمامة من أصول المذهب:

وقد ألتـزم بعض متأخري المتأخرين من علمائنا بأن الإمامة من أصول المذهب، وليست من أصول الدين، وهذا يعني اختصاص ثبوتها عند خصوص من يعتقد بها دون غيره، فمن لم تثبت عنده، لن يكون خارجاً عن الإسلام، ولا مبتعداً عن ربقة الدين، بل سوف يكون مسلماً، وإنما لن يكون منتمياً لمذهب الإمامية، كما سمعت عند الحديث عن بيان ضابطة أصول المذهب.

والظاهر أن الذي دعاهم للالتزام بذلك هو الحذر من تكفير بقية الفرق الإسلامية الأخرى، فإن اللازم من جعل الإمامة أصلاً من أصول الدين البناء على كفر كل من لم يعتقد بذلك، وفقاً لما تقدم في بيان ضابطة أصول الدين، فيسلب الانتماء للدين من كل من أنكر واحداً من أصوله. ولا ريب في إنكار جملة من المسلمين لموضوع امامة أمير المؤمنين، وأولاده(ع)، فيلزم الحكم بكفرهم.

 

إلا أن ما ذكر مانعاً من البناء على كونها أصلاً من الأصول لا يصلح للمانعية، فإنه يلتـزم بكونها أصلاً من أصول الدين، وفي نفس الوقت لا يحكم بكفر المنكرين إليها، تعبداً استناداً للنصوص الشريفة الواردة عن المعصومين(ع)، والتي تضمنت ترتيب آثار الإسلام وأحكامه على كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً(ص) رسول الله، وأن له جميع ما للمسلمين، من الحقوق، فيحكم بطهارته، وتحل ذبيحته، ويجوز تزويجه، ويحرم ماله وعرضه، وعليه ما عليهم من الواجبات.

وللقائلين بهذا القول وجوه ذكرها في مقام برهنته وإثباته، سوف نعرض إليها إن شاء الله تعالى، فانتظر.

 

أدلة أصلية الإمامة:

ويستدل لكون الإمامة من أصول الدين، بأدلة ثلاثة، الكتاب العزيز زاد الله عزة وشرفاً، والسنة الشريفة، والعقل.

 

الكتاب العزيز:

ويمكن استفادة ذلك من مجموعة من الآيات الريفة، نشير لبعضها:

منها: قوله تعالى:- (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)[12]، فإن المستفاد منها أن هناك أمراً مهماً جداً إذا لم يقم النبي الأكرم محمد(ص) بإبلاغه للناس، فكأنه لم يؤد شيئاً من الرسالة ولم يبلغها، وقد ثبت في محله أن المطلوب منه إبلاغه في هذه الآية هو إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) وولايته، فيستفاد من ذلك أنها جزء مكمل ومتمم للرسالة والنبوة، ومن الواضح جداً أن ما يكون جزءاً مكملاً للرسالة والنبوة، بحيث لا تتم إلا به، يثبت أنه أصل من أصول الدين.

قال السيد الطباطبائي(قده): إن الله تعالى بيّن أحكاماً كثيرة في أيام كثيرة فما بال هذا الحكم في هذا اليوم قد خصه الله بالمزية فسماه اكمال الدي واتمام النعمة.

 

ثم ما معنى قوله تعالى:- (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً) وتقديره اليوم رضيت، ولماذا يئس الكفار من دينكم فلا تخشوهم، وكانوا قد يأسوا قبل سنة أو سنتين فهم يحاولون أن يضلوكم ويردوكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم ذلكم أنهم كانوا آخر ما يرجونه زوال الدين بموت النبي ولا عقب له لأنهم رأوه ملك بصورة النبوة.

 

مما تقدم يظهر أن تمام يأس الكفار إنما يتحقق عندما ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي في حفظه وتدبيره أمره فيتحول الأمر من مرحلة قيام الدين بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعي ويكون الإكمال بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، كل هذا يؤيد ما ورد في الروايات أنها نزلت في يوم غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة عشر من الهجرة.

 

فالنعمة المرادة هي تشريع ولاية الأمر، وهي الجانب العملي للدين فلا تتم ولاية الله إلا بولاية رسوله ولا ولاية رسوله إلا بولاية ولي الأمر من بعده، وهي تدبيرهم لأمور الأمة، لقوله تعالى:- (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون). فإكمال الدين يفرض الولاية وإتمام النعمة بالآثار التي ستنتجها الولاية وهي إدارة أمور الدين والأمة فلابد من نصب قيّم عليها، فقد كان الولي مجهولاً حتى إذا عرّفه النبي للأمة كمل الدين ورضي لنا الله ديناً كامل الأجزاء نظرياً وتطبيقياً[13].

 

ومنها: قوله تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)[14]، وقد ثبت أن الشيء الذي كمل الدين بنـزوله وإبلاغه للناس، وبه تمت النعمة هو إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وولايته، وهذا يجعل الإمامة أصلاً من أصول الدين، وأساساً من أساسياته.

 

ومنها: قوله تعالى:- (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً)[15]، ومن الواضح أن الاستفهام الوارد في الآية الشريفة ليس على حقيقته، لأن ذلك يستلزم الجهل، وهذا يعني أن المقصود منه استفهام استنكاري، يشير للتوبيخ والإنكار، وهذا إنما يكون في الأمر المتحقق بالضرورة، ما يعني أن الانقلاب بعد موت النبي(ص) محققاً، وحاصلاً واقعاً لا محالة. ويساعد على ذلك مجيء الفعل بصيغة الماضي(انقلبتم)، ومن المعلوم عدم ارتداد أحد من الصحابة عن الإسلام بعد رسول الله(ص) في المدينة المنورة، فيكون المقصود من الانقلاب شيئاً آخر، عند مراجعة التأريخ لا نجد شيئاً في تلك الفترة إلا إنكار إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وخلافته للنبي(ص)، لأنه لم يصدر من الصحابة فعل يصلح أن يكون المقصود بالانقلاب غيره، بالإجماع، فإذا كان إنكار إمامته(ع) انقلاباً عن الدين، دل ذلك على أن الإمامة أصل من أصوله.

 

ولا يضر بذلك أن الآية الشريفة نازلة في يوم أحد، لأن ذلك لا يستوجب اختصاصها به، لا لعدم حجية سبب النـزول، لأنه في الحقيقة يشكل قرينة عقلائية، مانعة من حجية الظهور في بعض الموارد، وإنما منشأ عدم الضرر، ما ثبت في محله من أن المورد لا يخصص الوارد، وبالتالي يبقى الشيء على عمومه وإطلاقه. ويساعد على ذلك اشمال الآية على الترديد بين القتل والموت، وما كان يوم أحد هو خصوص دعوى القتل، والجواب عنها.

 

ومنها: قوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[16]، فإن جعل الولاية للذين قد اتصفوا بتلك الصفات التي تضمنتها الآية المباركة في عرض ولاية الله سبحانه وتعالى، وولاية الرسول(ص)، يدلل على أنها لا تقل أهمية عن ولاية النبي الأكرم محمد(ص)، وفي رتبتها ومنزلتها، هذا يكفي للبناء على كونها أصلاً من أصول الدين، لأن صاحب هذا المنصب قد ثبتت له ولاية كالولاية الثابتة للنبي(ص). وقد ثبت في محله أن الذي تصدق في صلاته حال ركوعه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).

 

ومنها: قوله تعالى:- (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)[17]، وتقريب دلالتها على أصلية الإمامة قريب جداً من تقريب دلالة الآية السابقة، إذ يقرر أن طاعة أولي الأمر في عرض طاعة الله سبحانه وطاعة الرسول الكريم(ص)، ومن الطبيعي أن من تكون طاعته عدلاً لطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله الأمين(ص)، لن يكون في منصب عادي، بل سوف يكون في منصب مهم وخطير، وهو منصب يعادل أصلاً من أصول الدين، وقد ثبت في محله أن المقصود بأولي الأمر هو أمير المؤمنين وأولاده الطاهرين(ع)، فيكون منصبهم من أصول الدين.

 

 

[1] لم يرد التعبير بأصول الدين في شيء من الآيات القرآنية، ولا النصوص الشريفة، وإنما هو مصطلح علمائي، تبانى عليه الأعلام(رض) مستخلصين إياه من الأدلة الشرعية سواء الآيات أم الروايات، لدلالة على ما يكون ركيزة وركناً أأمراً أساسياً يقوم عليه الدين، ولا يوجد دون وجوده.

[2] بناء على المشهور بين الأعلام من أنها من أصول المذهب.

[3] بحار الأنوار ج 65 ص 334.

[4] مصباح الهداية ص 133.

[5] عقائد الإمامية ص 65.

[6] حكاه عنه في إحقاق الحق ج 2 ص 307.

[7] أحد علماء القرن السابع الهجري.

[8] الإبهاج ج 2 ص 296.

[9] الفرق بين الفرق ص 340.

[10] كتاب المواقف ج 1 ص 17.

[11] الباب الحادي عشر ص 105.

[12] سورة المائدة الآية رقم 67.

[13] الميزان في تفسير القرآن ج 6 ص 17-193(بتصرف).

[14] سورة المائدة الآية رقم 3.

[15] سورة آل عمران الآية رقم 144.

[16] سورة المائدة الآية رقم 56.

[17] سورة النساء الآية رقم 60.