26 أبريل,2024

الذكر اليونسي أركانه وتأثيره

اطبع المقالة اطبع المقالة

من الأنبياء الذين تحدث القرآن الكريم عنهم، نبي الله يونس(ع)، وقد عرض الباري سبحانه وتعالى قصته وفقاً للمنهج المتبع في عرضه لقصص الأنبياء الآخرين، بذكر أهم الفصول فيها ذات الارتباط برسالة النبي(ص) وما تتضمنه من موعظة وعبرة لمعاصريه، ومن أبرز الآيات الشريفة التي أشير فيها لقصته المباركة، قوله تعالى:- (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)[1]، وتتجلى أهميتها بلحاظ ما تضمنته، إذ مضافاً لاشتمالها على بحث تربوي يحوي أركان العودة إلى الله سبحانه وتعالى، وما يلزم توفره لحصول التأثير من خلال ما يعرف بالذكر اليونسي، فقد تضمنت أيضاً شبهة تمسك بها المخطئة لنفي العصمة عن نبي الله يونس(ع)، بل جعلت الآية الشريفة أحد الأدلة المستند إليها في نفي العصمة المطلقة عن جميع الأنبياء(ع).

وبالجملة، إن الآية المذكورة تنطوي على مبحثين مهمين، أحدهما مبحث عقدي، وهو ما توهمه المخطئة، والآخر مبحث تربوي، وهو ما يظهر من الذكر اليونسي.

عصمة النبي يونس:

ويرتبط البحث العقدي كما عرفت بمسألة العصمة، فقد تمسك المخطئة بقوله تعالى:- (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)[2]، للقول بعدم ثبوت عصمة النبي يونس(ع)، واستندوا في ذلك إلى أمور ثلاثة من الآية الشريفة:

الأول: نص الآية المباركة على أنه(ع) قد ذهب مغاضباً، ومن الواضح، أن ذهابه مغاضباً كان من ربه سبحانه وتعالى، ولا يتصور في شخص معصوم لا يصدر منه الخطأ أن يذهب مغاضباً لربه سبحانه وتعالى، فصدور هذا الفعل منه كاشف عن عدم عصمته. وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى:- (وذا النون إذ ذهب مغاضباً).

الثاني: اعتقاده بعجز الله سبحانه وتعالى وعدم قدرته الواسعة، كما يظهر هذا من قوله تعالى:- (فظن أن لن نقدر عليه)، فإن وجود هذا الظن والمعتقد عنده لا يتناسب وكونه معصوماً، بل هو يدل دلالة واضحة على انتفاء صفة العصمة منه، لأن من يكون معصوماً لا يمكن أن يعيش هذا الحال من الظن والاعتقاد.

الثالث: اعترافه بكونه من الظالمين، كما في قوله تعالى:- (إني كنت من الظالمين)، ومن المعلوم أن الظلم إما أن يكون للنفس أو يكون للآخرين، وسواء كان المقصود منه الأول أم الثاني، فإنه يكشف عن وجود ذنب ومعصية، وإلا لا يوصف الإنسان بالظلم، فيدل ذلك على عدم وجود صفة العصمة.

وبكلمة ثانية، إن الظلم لا يجتمع والعصمة، لأن الظلم يكشف عن المعصية والخطيئة، وهذا لا ينسجم مع العصمة، فإما أن يكون الإنسان معصوماً، أو يكون ظالماً، ولما اعترف النبي يونس(ع) على نفسه الظلم، فقد ثبت أنه ليس معصوماً.

وللأعلام إجابات عن الإشكالات الثلاثة، حاصلها:

أما عن الأول، فقد عرفت أن ورود الإشكال، يتوقف على أن يكون قوله تعالى(مغاضباً) لربه لأنه لم ينـزل العذاب على قومه. أما لو كان هناك احتمال آخر يجري في البين، وأنه المقصود فلن يرد الإشكال المذكور.

وهذا هو الصحيح، ذلك أن المقصود من ذهابه مغاضباً، ذهابه مغاضباً لقومه، أي كان غضبه على قومه لتكذيبهم له واصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم.

وأما عن الثاني، فإن منشأ التوهم المذكور هو تفسير قوله تعالى:- (لن نقدر) بمعنى القدرة، والصحيح أنه ليس المقصود به ذلك، بل المقصود به شيء آخر، وهو الضيق، فمعنى(لن نقدر) الضيق، نظير قوله تعالى:- (إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)[3]، وعليه يكون معنى الآية الشريفة أن نبي الله يونس(ع) ظن أنه لا يضيق عليه الأمر نتيجة تركه الصبر والمصابرة مع قومه.

وهذان الجوابان يستفادا من الرواية الواردة عن الإمام الرضا(ع) عندما سأله المأمون عن الآية الشريفة، فقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا عن ابن الجهم، قال: أن المأمون سأل الإمام الرضا(ع) عن قول الله عز وجل:- (وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه)، فقال الرضا(ع): ذلك يونس بن متى(ع)، ذهب مغاضباً لقومه(فظن) بمعنى استيقن(أن لن نقدر عليه)أي لن يضيق عليه فقتر(فنادى في الظلمات)ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت(أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)بتركي مثل هذه العبادة التي فرغتني لها في بطن الحوت، فاستجاب الله له، وقال عز وجل:- (فلولا أنه كان من المسبحين* للبث في بطنه إلى يوم يبعثون)[4].

وأما الثالث، فيلزم تحديد المقصود من كلمة الظلم التي وصف نبي الله يونس(ع) نفسه بها، لأن ورود إشكال المخطئة يقوم على البناء أن المقصود منها في الآية الشريفة، لا يخرج عن أحد محتملين، إما ظلم النفس، أو ظلم الآخرين، وكلاهما لا ينسجم والقول بالعصمة.

ويدفع هذا الإشكال، بأن من الممكن أن يكون المقصود من الظلم في الآية الشريفة هو المعنى اللغوي، وليس المقصود منه المعنى الاصطلاحي، هذا بعد البناء على أن للشارع المقدس اصطلاحاً في حقيقته تغاير المعنى اللغوي، والصحيح أنه ليس للشارع المقدس اصطلاح خاص كما لا يخفى.

وكيف ما كان، فإن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أن المقصود من الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه. وبناءً على هذا التفسير لحقيقة الظلم، يمكن تفسير ما صدر منه(ع) بأحد معنيـين:

الأول: أن يكون المقصود من الظلم، هو تركه قومه في الظرف العصيب، فإن ذلك لم يكن أمراً مترقباً صدوره منه وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه، بل كان المترقب منه الحنان والعطف لذا كان فعله واقعاً في محله.

الثاني: أن يكون الفعل الصادر منه في غير موضعه هو طلبه نزول العذاب على قومه، وترك المصابرة ويؤيده، قوله تعالى:- (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم)[5].

ووفقاً لما تقدم، يتضح أن الظلم المذكور في الآية الشريفة، لا يقصد منه ظلم النفس ولا ظلم الآخرين، فلا يكون منافياً للعصمة، كما لا يخفى.

ولنختم المقام بما جاء في كلام السيد المرتضى(قده)، حول الآية الشريفة، قال(قده): أما من ظن أن يونس(ع) خرج مغاضباً لربه من حيث لم ينـزل بقومه العذاب فقد خرج في الافتراء على الأنبياء بسوء الظن بهم عن الحد، وليس يجوز أن يغاضب ربه إلا من كان معادياً وجاهلاً بأن الحكمة في سائر أفعاله، وهذا لا يليق باتباع الأنبياء من المؤمنين فضلاً عمن عصمه الله ورفع درجته، وأقبح من ذلك ظن الجهال أنه ظن أن ربه لا يقدر عليه من جهة القدرة التي يصح بها الفعل، ويكاد يخرج عندنا من ظن بالأنبياء مثل ذلك عن باب التميـيز والتكليف، ولكن كان غضبه(ع) على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم، فخرج من بينهم خوفاً من أن ينـزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم، فأما قوله:- (فظن أن لن نقدر عليه) فمعناه أنا لا نضيق عليه المسلك، وتشدد عليه المحنة والتكليف، لأن ذلك مما يجوز أن يظنه النبي، ولا شك في أن قول القائل: قدرت وقدرت بالتشديد والتخفيف معناه التضيـيق، قال الله تعالى:- (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)، وقال تعالى:- (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)، وقال تعالى:- (وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه) والتضيـيق الذي قدّره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت، وما لحقه في ذلك من المشقة الشديدة إلى نجاه الله تعالى منها[6].

الذكر اليونسي والعودة إلى الله:

يعرف قوله تعالى:- (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، عند علماء السير والسلوك والأخلاق، بالذكر اليونسي، وهو من الأذكار التي يعتنى بها في طريق العودة إلى الله سبحانه وتعالى. ولذا كثيراً ما نجد حثاً من العرفاء على أهمية الالتزام بهذا الذكر، ولزوم المداومة عليه، حتى قد ورد في سير بعضهم أنه كان يردده في سجوده في اليوم والليلة مقداراً محدداً، وعرف عن بعضهم أنه كان يلتـزم به قبل أدائه صلاة الليل، وحكي عن آخر أنه كان يقوله في سجدة الشكر عقيب كل صلاة فريضة كذا مرة.

ومن المعلوم، أن الحديث عن الذكر اليونسي، وعن الآثار المترتبة عليه، لن تكون بمقدار ما يكرر ذكراً لسانياً، وإنما بمقدار ما يترك من أثر على الشخص الموجد لهذا الذكر.

وهذا يستدعيا لإحاطة بأمرين:

الأول: عناصر الذكر اليونسي الذي يلقى هذه الأهمية عند من عرفت من الأعلام.

الثاني: الآثار المترتبة على الذكر اليونسي، وكيف يكون ترتبها.

عناصر الذكر اليونسي:

إن التأمل في الآية الشريفة، يفيد أن للذكر اليونسي عناصر ثلاثة تستفاد منها:

الأول: التوحيد والتهليل:

وهو من المفاهيم العقدية الواضحة التي لا تحتاج بياناً وإيضاحاً، وهذا ما يثير تساؤلاً في البين، حاصله: ما هي العلاقة بين التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى؟ خصوصاً وأن التوحيد مسألة عقدية، والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى مسألة سلوكية، ولا ربط بين هذين الموضوعين؟ مضافاً إلى أنه كيف يتصور أن تكون عودة المؤمن الله تعالى من خلال التوحيد، والمفروض أنه قد تخطى ذلك كما لا يخفى، إذ المفروض كونه موحداً، عمدة ما كان هو مبتعد عن الباري عز وجل، والابتعاد لا يضر بالتوحيد كما هو المفروض.

والإنصاف، أن التساؤل المذكور وما يلحق به من حيثيات في محله، وهذا يستوجب أن ينظر ما يذكر حول موضوع التوحيد، وعند العودة لما يذكر في البحوث الكلامية، نجد أنهم يذكرون حول ذلك مسائل ثلاث:

الأولى: توحيد السيادة والسلطان في الكون، ويقصد به نفي أي سيادة وسلطان لغير الله سبحانه وتعالى.

الثانية: توحيد الولاية والسيادة التشريعية له تعالى على حياة الانسان بدليل ولايته وسيادته التكوينية على الكون، فهو الذي يحكم الكون كله بما في ذلك الانسان.

الثالثة: توحيد ولاية الله تعالى على الانسان، وهو يستتبع توحيد الطاعة من الانسان لله تعالى، فلا طاعة لغيره على الانسان.

فأي واحد من هذه من مسائل التوحيد هو المراد في المقام؟

لا ريب ولا إشكال، أنه لن يكون المقصود بالتوحيد والتهليل في البين أي واحد من هذه المسائل الثلاث، ذلك أن المفروض تجاوز نبي الله يونس(ع) إياها جميعاً، وهذا يستوجب أن يكون المقصود بها نوعاً آخر من التوحيد، ليس واحداً مما تقدم، وهذا يساعد على أنه توحيد غير ما يذكر في كتب الكلام، وما يعرفه المتكلمون، أو قل ليس مما نص عليه في كلماتهم.

والتأمل، يقضي أن المقصود بالتوحيد والتهليل الذي أشير إليه في الركن الأول من أركان الذكر اليونسي، هو توحيد المعاذ، وهذا وإن لم يذكر في كلمات المتكلمين، إلا أنه مقصود إليهم، فهو يعتبر آخر مراحل التوحيد، ويعدّ قمة شامخة لا يصلها كل أحد، ويمكن تقريب حقيقته بالطفل الذي تسخط عليه أمه، وتغضب منه، فإنه عندما يشعر بخطر حوله، ولو كان الخطر هو غضبها عليه، يلتفت يمنة ويسرى عله يجد ملجأ يلجأ إليه ويقصده، فلا يجد ملجأ ومعاذاً يأوي إليه أكثر أمناً وحناناً من حجر أمه التي أغضبها وأزعجها بفعله وتصرفه.

وهكذا أيضاً الإنسان الراشد، فإنه يفعل ما يفعل ويقوم بما يقوم به من أعمال تغضب الله سبحانه وتعالى، فيعمد إلى البحث عن ما يعوذ به من غضب الله تعالى وسخطه، ويسعى للوصول إلى الملجأ الذي يمكنه الدخول فيه ليحمي نفسه، إلا أنه لا يجد شيئاً يلوذ به ويأوي إليه ويحميه غير الله تعالى، فيعوذ به من جديد.

ولقد أعطي هذا النوع من التوحيد نبي الله يونس(ع)، وقد أشير إلى هذا النوع من التوحيد في الكثير من الأدعية الواردة عن المعصومين(ع):

منها: ما جاء في المناجاة الرابعة من المناجاة الخمسة عشر، المروية عن الإمام زين العابدين(ع): يا من كل هارب إليه يلتجئ، وكل طالب إياه يرتجي، يا خير مرجو، وأكرم مدعو، يا من لا يرد سائله، ولا يخيب آمله، يا من بابه مفتوح للداعين، وحجابه مرفوع للراجين.

فالداعي قد وعى أنه أغضب الله سبحانه وتعالى، ما جعله بحاجة إلى ملجأ يلجأ إليه، ومكان يعوذ به من أن تحل به نقمته وسخطه، كما أنه يعي أنه ليس له من ملجأ ولا مأوى يمكنه أن يقصده يحميه من غضب الله عز وجل وانتقامه، إلا الله سبحانه وتعالى نفسه.

والحاصل، إن الداعي يعي أمرين:

الأول: حاجته للملجأ بعد وعيه بما صدر منه.

الثاني: انحصار الملجأ والمعاذ في خصوص الباري سبحانه وتعالى.

ومنها: ما جاء في المناجاة الشعبانية: إلهي أعوذ بك من غضبك.

ومنها: ما جاء في المناجاة الخامسة من المناجيات المعروفة: وها أنا متعرض لنفحات روحك وعطفك، ومنتجع غيث جودك ولطفك، فارٌ من سخطك إلى رضاك هارب منك إليك.

ومنها: ما جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي(رض): وأنا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك إليك، متنجز ما وعدت من الصفح عمن أحسن بك ظناً.

ومنها: ما في مناجاة التائبين: وعزتك ما أجد لذنوبي سواك غافراً، ولا أرى لكسري غيرك جابراً، فإن طردتني عن بابك فبمن ألوذ، وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ، فو أسفاه من خجلتي وافتضاحي، ووالهفاه من سوء عملي واجتراحي، إلهي هل يرجع العبد الآبق إلا إلى مولاه، أم هل يجيره من سخطه أحد سواه، لك العتبى حتى ترضى. إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سميته التوبة، فقلت: توبوا إلى الله توبة نصوحاً، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه.

والحاصل، إن التهليل والتوحيد الذي ورد على لسان نبي الله يونس(ع)، هو توحيد المفزع والمعاذ الذي أراد به أن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى لأنه ليس من أحد يلجأ إليه من الله تعالى إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الملجأ والمفزع والمعاذ.

الثاني: التسبيح:

وهو لغة بمعنى التنـزيه، وفي الاصطلاح، يقصد به تنـزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، من عجز أو جهل أو نقص، أو فقر أو غير ذلك.

والتسبيح يرتبط بالصفات الجلالية، توضيحه: إن لله سبحانه وتعالى نوعين من الصفات، صفات جمالية، وصفات جلالية، ويراد بالأولى، إثبات كل صفات الكمال لله عز وجل، كالعلم، والسلطان، والحلم، والعفو، والقدرة، والحياة، والجود، والحكمة، وهكذا.

وأما الثانية، فيراد بها نفي كل صفة نقص وعجز عنه تعالى، فينفى عنه البخل، والجهل، والفقر والحاجة، وهكذا.

ولما كان التسبيح يحوي تنـزيهاً لله تعالى عن كل نقص وفقر، كان مرتبطاً بالصفات الجلالية، كما تبين.

وكما وجد سؤال عند الحديث عن الركن الأول، من أركان الذكر اليونسي، وهو التوحيد والتهليل، فإنه يرد سؤال في الركن الثاني أيضاً من أركانه وهو التسبيح، وحاصله: ما هي العلاقة بين التسبيح الذي هو نفي كل نقص وعجز عن الباري سبحانه، وبين العودة إلى الله سبحانه وتعالى؟

وبعبارة أخرى، هل أن التائب إلى الله سبحانه وتعالى من ذنوبه، يقر بالقدرة المطلقة لله تعالى، فإن هذا يرتبط بصفات الجمال، وليس الجلال، أم أنه ينفي عنه العجز، وكيف يتصور ذلك؟

إن منشأ السؤال المذكور، يعود إلى تصور أن التسبيح نوع واحد، بينما الصحيح أن التسبيح نوعان:

الأول: التسبيح العقدي، وهو الذي يتحدث عنه في الكتب الكلامية، وهو الذي يكون بتنـزيه الله تعالى عن كل قصور وعجز ونقص.

الثاني: التسبيح الأخلاقي، وهو الذي يكون مرتبطاً بمجال السير والسلوك، ويكون له ارتباط بالعلاقة مع الله سبحانه وتعالى. ويقصد به أن يعتقد الإنسان بأن كل ما يفعله من خير فهو من الله سبحانه وتعالى، وكل ما يفعله من شر فهو من نفسه، فكل جميل يصدر منه، إنما هو من الله، وكل قبيح يفعله، فهو مصدره، ولا ربط لله تعالى به أبداً.

وقد أشير لهذا النوع من التسبيح في دعاء الأسحار الوارد عن الإمام زين العابدين(ع)، حيث قال: أنت المحسن ونحن المسيئون، فتجاوز يا رب عن قبيح ما عندنا بجميل ما عندك.

ومن الواضح أن التسبيح المقصود في الذكر اليونسي من النوع الثاني، وليس من النوع الأول.

الاعتراض المكتوم:

وقد لا يتصور أحد أن يصدر من أحد البشر نسبة الفعل القبيح لله تعالى، ما يجعل حمل التسبيح الوارد في الذكر اليونسي على التسبيح الأخلاقي بعيداً، وبالتالي يبقى السؤال المطروح على حاله دونما جواب له.

لكنه يندفع هذا الإنكار عند ملاحظة حالة التنصل من المسؤولية من قبل الإنسان، ومحاولة إلقاء المسؤولية على الله سبحانه وتعالى، على أساس أن جميع ما يصدر عنه من أمور وإن كانت سيئات تعود لكونها مربوطة بمسألة القضاء والقدر الإلهي، وبما أن جميع الأفعال الصادرة من الإنسان خاضعة لقانون القضاء والقدر، وهو أمر مربوط بالله سبحانه وتعالى، فيكون الباري عز وجل هو العلة الأساس لوجود هذا المعلول، فلولا وجود العلة، لم يوجد المعلول.

والصحيح أن يقال، بأن هناك قضيتين لا ينبغي الخلط بينهما:

الأولى: أن جميع ما يصاب به الإنسان من الابتلاء، سواء كان ذلك الابتلاء بنقص في الأموال، أم في الأنفس، أم كان ذلك في الصحة أم غير ذلك، تقع وفق تقدير وقضاء محدد من قبل الله سبحانه وتعالى. وهذا الأمر يقع وفقاً لقانون العلة والمعلول، فوجود العلة سبب حتمي لوجود المعلول.

الثانية: هل يدخل ما يكون من القضاء والقدر في الأمور الحتمية التي ليس للإنسان فيها اختيار وإرادة، أم لا.

والصحيح، أن إرادة الإنسان جزء من العلة التامة التي تستوجب وجود المعلول، فلا يتحقق المعلول دون إرادة الإنسان، فالفعل الصادر واقع تحت اختيار الإنسان ومسؤوليته، وهذا يلقي على عاتقه مسؤولية عن الافعال الصادرة عنه، ولا يمكنه أن يتنصل عن مسؤوليتها، ويلقي باللائمة على موضوع القضاء والقدر، ليكون مقدماً اعتراضاً مكتوماً عليه سبحانه وتعالى.

ويشير إلى هذا المعنى ما جاء في دعاء كميل: إلهي ومولاي، أجريت علي حكماً اتبعت فيه هوى نفسي، ولم أحترس فيه من تزيـين عدوي، فغرني بما أهوى، وأسعده على ذلك القضاء، فتجاوزت بما جرى علي من ذلك بعض حدودك، وخالفت بعض أوامرك، فلك الحجة علي في جميع ذلك، ولا حجة لي في ما جرى علي فيه قضاؤك، والزمني حكمك وبلاؤك.

فإن جميع ما جرى، كان بإرادة من الإنسان واختيار منه، فلا يكون للإنسان حجة على الله سبحانه في ما جرى به القضاء الإلهي.

إلا أن الإنسان يريد أن يتخفف من المسؤولية، في ما يرتكبه من المعاصي والسيئات، ويجعل سبيله للتنصل من تلك المسؤولية، ابتلاء الله تعالى لعباده، وهذا هو الذي يعبر عنه بالاعتراض المكتوم، وهو موجود عند كثير من الناس، سواء بهذا الشكل، أم يأخذ أشكالاً أخرى، ويتعاظم هذا الأمر عند الإنسان حتى يتشبع به ذهنه، فيدخل العبد في علاقة سلبية مع الله سبحانه وتعالى، وهنا يستغل الشيطان هذه الحالة، ليجد له منفذاً يدخل منه للإنسان، لأنه يعتبر حالة الاعتراض المكتوم التي وجدت عند الإنسان خير وسيلة يستفيد منها لتمرير ما يريده من السيطرة على الإنسان.

وقد اتضح من خلال ما قدم، وجود حالة من الاعتراض تجعل العبد ينسب الفعل القبيح لله سبحانه وتعالى، من خلال تنصله من المسؤولية الخاصة به، فينسب جميع ما يصدر عنه من أفعال لله عز وجل.

وعليه، يكون التسبيح الصادر من نبي الله يونس(ع) متضمناً لنفي الاعتراض على الله سبحانه وتعالى، والإقرار والاعتراف بالظلم، وأنه العمل الذي لا يحسن أن يصدر ويحكم العقل بقبحه، انما يكون صادراً من العبد، وليس لله تعالى به أية علاقة.

الثالث: الاعتراف:

ويقابله الاعتراض، والاعتراف، يضع الإنسان في منازل الرحمة، بينما يحجبه الاعتراض عنها، والظاهر أن العلاقة بين الاعتراف وحلول الإنسان في منازل الرحمة علاقة تكوينية، كما أن العلاقة بين الاعتراض وبين الحجب عن منازل الرحمة كذلك.

ويتحقق الاعتراف عندما يتصاغر العبد بين يدي رحمة ربه، ليكون في موضع الفقر والحاجة إلى مغفرته ورضوانه، ليستنـزل بذلك رحمته، بينما يكون الاعتراض من خلال الاستكبار والغرور والتنصل عن المسؤولية والعجب، فيحرم من منازل رحمته، ويحجب عنها. لأن رحمته تعالى لا تنزل على الذنوب والمعاصي، لأن الذنوب تحجب صاحبها عن رحمة الله تعالى، وتحول بينه وبين هبوط رحمته عليه. نعم عند احساس العبد بالذنب وإحساسه بعظم الخطيئة، تكون الحجب قد زالت فتكون سبباً لنزول رحمته تعالى عليه.

ولا يخفى أن الاعتراف بالذنب يستبطن استغفاراً، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: الندم استغفار، والاقرار اعتذار.

شرائط التأثير:

ثم إنه بعد الإحاطة بأركان الذكر اليونسي، يبقى الأمر الأكثر أهمية من الإحاطة بأركانه، وهو كيف يمكن للعبد أن يستفيد منه، حتى يكون مؤثراً أثره، وإن شئت قل: كيف يمكن أن يكون الذكر اليونسي مؤثراً؟

قد يتصور البعض، أن مجرد المداومة على الذكر المذكور، ومحاولة تكراره يومياً، أو في أوقات محددة، وبعدد معين، يوجب حصول التأثير، وتحقيق غرضه المنشود منه.

إلا أن التصور المذكور ليس تاماً، فإن فائدة التلفظ والتكرار للذكر المذكور، والمداومة عليه، وجعله ورداً يردده العبد في اليوم والليلة عدداً معيناً، أمراً لا ينكر، إلا أن تأثيره لن يكون من خلال مجرد التلفظ باللسان فقط، بل لابد وأن يعيش العبد الذكر في كافة أحواله، وإلا لن تكون فائدته المرجوة حاصلة بصورة كاملة، توضيح ذلك:

إن للإنسان في علاقته مع الله تعالى ثلاث محطات:

الأولى: محطة الأقوال.

الثانية: محطة الأعمال.

الثالثة: محطة الأحوال، ونقصد بالأحوال الحالات التي تصيب العبد حال امتثاله العبادات الإلهية، من الخضوع والخشوع والاضطراب والخوف، وما شابه ذلك.

ومع ما للمحطتين الأولى والثانية من أهمية ومدخلية في العلاقة مع الله تعالى، إلا أن الأساس هي المحطة الثالثة، لأن قيمة القول والفعل تقدر بمقدار ما يحمل كل منهما من الحال، فكلما كان حظهما من الحال أكثر كانت عبادة العبد أقرب إلى مرضاة الله تعالى، وأكثر ثواباً.

فثواب الصلاة ومكانتها عند الله تعالى، يكون بمقدار ما يحظر قلب المصلي فيها، وما يعيشه من حالة الخضوع والذل والخضوع بين يدي الله تعالى، وهذا ما يعبر عنه بالأحوال.

وكذا قيمة التوبة يكون في العزم على العودة إلى الله تعالى، والكف عن معصيته، والاستحياء منه، والندم، وهي حالات يحبها الله تعالى لعبده، تستنـزل رحمته وتقدر قيمة التوبة عند الله بقدرها.

وكذا قيمة الصوم تكون في الأحوال، بالكف والجوع، فالكف سبب والجوع نتيجة. وهكذا. والحاصل، إن قيمة العبادات في ما تتضمنه وتستبطنه من الأحوال، وهي منازل رحمة الله تعالى.

ومن المعلوم أن هناك عوامل تساعد على نمو الأحوال عند الإنسان، كالوعي، والمعدات من الزمان والمكان، فإن لهما دوراً في تعميق الحال بعد تثبته، واجتناب المعوقات التي تعيق حصوله وتبطأ نموه من الذنوب والمعاصي.

وقد اتضح مما تقدم، أنه لكي يكون الذكر اليونسي مؤثراً، لابد أن يكون منبسطاً على أحوال الإنسان، مصاحباً لأقواله وأفعاله، فيعيش الإنسان حالات الخضوع والذل والفقر، والخشوع والاضطراب، والحب والخوف، والشوق مع الله سبحانه وتعالى[7].

——————–

[1] سورة الأنبياء الآية رقم 87.
[2] سورة الأنبياء الآية رقم 87.
[3] سورة الآية رقم
[4] بحار الأنوار ج 14 ص 387 ح 7.
[5] سورة القلم الآية رقم 48.
[6] تنـزيه الأنبياء ص 99-100.
[7] مستفاد من مقالة مع ذي النون(ع) في رحلة العودة إلى الله (بتصرف) مجلة المنهاج العدد 6، 7