الوقوف في عرفات مع المسلمين(6)
ومنها: معتبرة أبي الصباح الكناني قال: والله لقد قال لي جعفر بن محمد(ع): إن الله علّم نبيه التنـزيل والتأويل، فعلمه رسول الله(ص) علياً(ع)، قال: وعلمنا والله، ثم قال: ما صنعتم من شيء، أو حلفتم من يمين في تقية فأنتم منه في سعة[1]. فإن المستفاد منها أن المتقي في سعة من الجزء أو الشرط المتروكين تقية، ولا يترتب عليه من جهتها تكليف بالإعادة والقضاء، نظير قوله(ع) في رواية السفر: هم في سعة ما لم يعلموا. بناءً على شموله لما لك يعلم جزئيته أو شرطيته[2].
وقال بعض الأعيان(ره)[3]: إن الرواية تدل على أن لك ما صنع المكلف من زيادة في المأمور به أو نقيصة فيه فهو في سعة منه، فلا يترتب عليه الإعادة والقضاء، فهو كقوله: الناس في سعة ما لا يعلمون.
ثم إنه أشار(قده)، أنه لا مجال للبناء على كونها مختصة بالحكم التكليفي دون الوضعي، لأن العرف لا يفهم منها الاختصاص بذلك.
وقد اختلفت كلمات بعض الأساطين(ره)، فبينما تجده يناقش دلالتها في موضع[4]، تراه في موضع آخر يميل لتمامية دلالتها على المطلوب، وإن أمر في النهاية بالتأمل[5].
وقد أشار بعض فضلاء العصر(دام موفقاً) إلى أنها أجنبية عن المدعى، لأن هناك اختلافاً في نسخها، فقد رويت في كتاب بصائر الدرجات دون لفظة: في تقية، والتي يقوم الاستدلال عليها، ولهذا فسرها غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) بتفسير لا يتناسب وكون موضوعها مرتبطاً بالتقية أصلاً، قال(قده): أي، أي شيء صنعتم وقلتم في بيان وفور علمنا أو حلفتم عليه، فلا جناح عليكم لأنكم صادقون، ويحتمل أن يكون فاعل قال، هو فاعل علمنا، أي قال علي(ع): بعدما علمنا أي شيء صنعتم، موافقاً لما علمتم وحلفتم على حقيته، فلا جناح عليكم[6].
نعم لو بني على ترجيح نسخة الكافي على نسخة البصائر، من جهة حصول سقط في متن البصائر، أمكن الاستناد إليها[7].
ويمكن أن يرجح ما جاء في الكافي المشتمل على: في تقية، لما هو المعروف بين الأعلام، من أضبطيته على غيره من كتب الحديث، ويظهر ذلك مما ذكره النجاشي(ره) في ترجمة الشيخ الكليني(ره)، فتأمل.
وقد عرفت في تقريب دلالة المعتبرة أن الاستدلال بها مبني على أن يكون المقصود من قوله(ع): فأنتم منه في سعة، بعد قوله(ع): ما صنعتم من شيء، فيكون المعنى أن العمل الصادر منكم ولو كان فاقداً لجزء أو شرط، أو مشتملاً على مانع، فإنه يكون صحيحاً، ولا يلزم قضاؤه، فيكون قوله(ع): فأنتم في سعة، ملازماً لنفي القضاء، لأن القضاء يوجب ثقلاً وضيقاً على المكلف، فيكون الحكم بفساد العمل، ولزوم إعادته في الوقت، أو قضائه خلاف السعة التي دلت عليها المعتبرة. وهذا يوجب تمامية دلالة المعتبرة حتى نسخة البصائر الفاقدة لمفردة التقية، لأن المفروض استفادتها من خلال مناسبة الحكم للموضوع، إذ لا يتصور أن يكون المقصود منها تصحيح العمل الفاقد لشرط أو جزء، أو مشتمل على مانع، لأنها سوف تكون معارضة لما دل على اعتبار الشرطية والجزئية، وعدم المانع.
ثم إنه لو بني على تقدم نسخة الكافي على نسخة البصائر، منعت دلالة المعتبرة على الإجزاء أيضاً، وذلك لإن الأمر بالإعادة، أو القضاء وإن كان يوجب الضيق بالنسبة إلى المكلف، لكنه ليس من جهة ما صنعه، وإنما من جهة ما لم يصنعه.
أما في وجوب الإعادة، فلأنه ليس في واقعه إلا نفس الوجوب الأول المتوجه إلى المكلف فإنه لم يمتثله، إذ أن ما أتى به لم يكن مطابقاً للمأمور به، فبقاؤه إنما هو من جهة عدم إتيانه بالمأمور به على وجه، لا إتيانه به لا على وجهه، والقول بأنه: وجبت عليه الإعادة، لأنه زاد أو نقص في صلاته، مثلاً، مبني على ضرب من المسامحة من وجهين:
أولاً: إنه لا وجوب للإعادة حقيقة، بل هو الوجوب الأول لأداء الصلاة حيث لم يمتثل، فبقي يقتضي الامتثال، ويكون ذلك بالإعادة.
ثانياً: إنه ليس الوجه في ثبوته هو الزيادة والنقيصة حقيقة، بل عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه أي كامل الأجزاء والشرائط.
وأما في وجوب القضاء، فهناك احتمالان في موضوعه:
الأول: أن يبنى على أن موضوعه هو عدم الاتيان بالمأمور به الموقت في وقته على وجهه، فيكون مترتباً على ذلك، وليس مترتباً على الاتيان به في الوقت لا على وجهه.
الثاني: أن يبنى على أن موضوعه هو الفوت الذي هو معنى وجودي، وعندها يقال: إنه موضوع له بالمعنى الاسم المصدري، وليس موضوعاً له بالمعنى المصدري، ولذلك يجب القضاء على من غلبه النوم في تمام الوقت، فلا تشمله الصحيحة أيضاً، كما لا تشمل الموارد المشابهة مما يكون الأثر مترتباً على المعنى الاسم المصدري دون المعنى المصدري، كما لو اضطر تقية إلى ملامسة ما هو نجس عندنا، وطاهر عند المخالفين، كالمني، فإن النجاسة تترتب على الملاقاة بالمعنى الاسم المصدري[8].
وهو عين ما ذكره بعض الأعاظم(ره) قال: أن السعة إنما هي في مقابل الضيق، فمدلول الصحيحة أن العمل المأتي به في الخارج إذا كان فيه ضيق في نفسه -لولا التقية- فيرتفع عنه ضيقه ويتبدل بالسعة فيما إذا أُتي به لأجل التقية والاضطرار، مثلاً شرب المسكر أمر فيه ضيق من ناحيتين-لولا التقية-وهما جهتا حرمته وحده، لأن من شربه متعمداً بالاختيار ترتب عليه العقوبة والحد، ويحكم بفسقه لارتكابه الحرام بالاختيار، فيقع المكلف في الضيق من جهتهما، فإذا صدر منه ذلك من أجل التقية أو الاضطرار، لأنه لو لم يشربه لقتله السلطان، أو أخذ أمواله أو مات في وقته لمرضه، ارتفعت عنه الجهتان ولا يترتب عليه الحرمة ولا الحد، فيكون المكلف في سعة من قبلهما، وكذلك الحال فيما إذا تناول ما لا يراه العامة مفطراً للصوم، فإنه مما يترتب عليه الحكم بالحرمة، كما أنه موجب للكفارة لا محالة، لأنه إفطار عمدي على الفرض، إلا أنهما ترتفعان عن ذلك فيما إذا استند إلى التقية والاضطرار، ويكون المكلف في سعة من جهة الحرمة والكفارة.
وعلى الجملة، إن مقتضى الصحيحة أن أي أثر كان يتعلق بالعمل أو يترتب عليه ترتب الحكم على موضوعه-لولا التقية-يرتفع عنه عند التقية والاضطرار، فيكون المكلف في سعة من ناحيته، وهذا المعنى غير متحقق عند ترك الجزء أو الشرط أو الاتيان بالمانع، وذلك لأنه لا يترتب على تلك التكاليف الغيرية أي ضيق حتى يتبدل إلى السعة للتقية والاضطرار.
أما بطلان العمل بتركها، أو بإتيانها، فلأن البطلان كالصحة أمران واقعيان خارجان عن اختيار الشارع وتصرفاته، وليس له رفعهما ولا وضعهما، فإن البطلان عبارة عن مخالفة المأتي به للمأمور به كما أن الصحة عبارة عن موافقة المأتي به للمأمور به.
وأما وجوب الإعادة أو القضاء بترك الاتيان بالجزء أو الشرط أو بالإتيان بالمانع، فلأن الاعادة غير مترتبة على الاتيان بالعمل الفاسد، بل موضوع الاعادة عدم الاتيان بالمأمور به، لأن الأمر بالإعادة هو بعينه الأمر بالإتيان بالمأمور به وامتثاله، كما أن القضاء كذلك، فإنه مترتب على فوات الواجب وغير مترتب على الاتيان بالعمل الفاسد، وعليه فلا ضيق على المكلف في مخالفة التكاليف الغيرية حتى يرتفع عنه بالتقية، ويكون المكلف في سعة من جهته، وينتج ذلك وجوب الاتيان بالعمل الفاقد لجزئه أو لشرطه أو الواجد لمانعه[9].
وحاصل هذا الجواب، هو الالتـزام بكون المعتبرة أخص من المدعى، لأنها لا تدل على إجزاء المأتي به فاقداً لما يعتبر فيه سواء بوجود مانع، أم بفقد شرط أو جزء مطلقاً، وإنما في خصوص ما إذا كان في الفعل ضيق، كما لو استدعى العمل بالتقية شرب المسكر أو النبيذ، فإن الضيق من جهتين مع قطع النظر عن التقية، من جهة الحرمة، وترتب المؤاخذة على الشرب، ومن جهة استلزامه إقامة الحد، وهذا الضيق مرفوع بالمعتبرة واستبداله بالسعة، فترتفع الجهتان المترتبان على الفعل.
ويلاحظ عليه، أولاً: إن المراجع للنصوص يقف على اشتمالها على موارد عديدة وفي أبواب متفرقة قد رتب القضاء فيها على الفعل، وهذا يمنع أن تكون الرواية أخص من المدعى لترفع اليد عنها للدلالة على الإجزاء. ويساعد على ما ذكرنا أن الضمير في قوله(ع): فأنتم منه في سعة، راجع إلى الفعل وهو اسم الموصول في قوله: ما صنعتم، فيكون مدلول النص: إنكم في سعة من الأفعال التي تفعلوها تقية، وهذا يعني عدم وجوب إعادتها، أو قضائها، والاكتفاء بالعمل الناقص.
ثانياً: إن الالتـزام بكون المعتبرة أخص من المدعى مبني على استفادة ترتب الضيق المذكور في النص على نفس العمل من دون واسطة، وهو غير مقبول، فإن المستفاد من النص أنه في كل مورد ترتب الضيق على العمل ولو مع الواسطة كان ذلك موجباً لارتفاعه حال التقية. فالإعادة وإن لم تكن من آثار نفس ترك الجزء أو الشرط، إلا أن ترك الجزء سبب لعدم اتيان المأمور به، والإعادة من آثار ذلك، ويساعد على ذلك أن قوله(ع): فأنتم منه في سعة، لا يقصد منه المعنى الحرفي لذات الكلمات، وإنما هو تعبير كنائي عن عدم ترتب شيء حال صدور العمل ناقصاً تقية.
ثالثاً: إن موضوع الإعادة هو إتيان العمل فاسداً وناقصاً، فلا تصدق كلمة الإعادة حال عدم الاتيان بالفعل أصلاً، وإنما تصدق حال الاتيان بالفعل ناقصاً، فيجب الاتيان به ثانية، ومنه يتضح عدم صحة كون موضوع الإعادة هو عدم إتيان المأمور به، فإنه أمر عدمي لا يصلح أن يكون موضوعاً لحكم شرعي وجودي.
وقد وقع في سند المعتبرة سيف بن عميرة، وقد نص ابن شهراشوب على أنه واقفي، ولم يرتضه بعض الأعاظم(قده)، وعدّه من سهو القلم، أو غلط النساخ، واستند في ذلك إلى أنه لم ينص أحد على إدراكه الإمام الرضا(ع) ما يكشف عن بنائهم على وفاته في حياة الإمام الكاظم(ع)[10]. وبمثل ذلك قال بعض الأعلام(قده)[11].
وتحقيق مذهب الرجل ليس مهماً ما دام قد ثبتت وثاقته لكفاية التعويل على خبر الثقة، وعدم اعتبار العدالة في حجية الخبر.
ومنها: مضمرة سماعة، قال: سألته عن رجل كان يصلي فخرج الإمام وقد صلى الرجل ركعة من صلاة فريضة؟ قال: إن كان إماماً عدلاً فليصل أخرى، وينصرف ويجعلهما تطوعاً وليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو ويصلي ركعة أخرى، ويجلس قدر ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله(ص)، ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع، فإن التقية واسعة، وليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها، إن شاء الله[12].
وتعتمد دلالتها على أن يكون المقصود من قوله(ع): التقية واسعة، علة للاكتفاء بما يأتي به المكلف ناقصاً، أو مشتملاً على مانع، فيجتزئ بالعمل المتقى به، وإن كان على خلاف المأمور به، فيكون معنى: ما استطاع في قوله(ع): ما يستطيع المكلف أداءه من الفعل المشتمل على بعض الأجزاء والشرائط، والفاقد لبعضها الآخر، والمتضمن لبعض الموانع أيضاً.
والحاصل، إن موضع الاستدلال بالمضمرة هو قوله(ع): ثم ليتم صلاته معه على ما استطاع، فإن التقية واسعة.
وقريب من هذا المعنى ذكر الشيخ الأعظم(ره)، فإنه قرب دلالتها من خلال أن الأمر بإتمام الصلاة على ما استطاع مع عدم الاضطرار إلى فعل الفريضة في ذلك الوقت، معللاً بأن التقية واسعة، يدل على جواز أداء الصلاة في سعة الوقت على جميع وجوه التقية، بل على جواز كل عمل على وجه التقية، وإن لم يضطر إلى ذلك العمل لتمكنه من تأخره إلى وقت الأمن[13]. وقريب منه ذكر المحقق الهمداني(قده) في مصباح الفقيه[14].
وقد تمسك المحقق الأصفهاني(قده) في تقريب دلالتها على المدعى من خلال عموم التعليل، فإنه يقتضي أن غير الصلاة تكون كالصلاة في التوسعة من حيث الصحة على ما استطاع من دون تقيـيد بالتأخير أو الإعادة[15].
وقد ذكر بعض الأعيان(قده)، أنها أوضح دلالة على المطلوب من غيرها، لأنها كالنص على صحة صلاته بمحضر منهم[16].
وذكر بعض الأساطين(ره)، ظهور المضمرة في الصحة وفي وجود المندوحة[17]. وذكر بعض الأعلام(قده)، أن المضمرة كالصريح في صحة الصلاة مع موافقتها للتقية، فيكون ظاهر التعليل في الذيل كون المراد بعموم سعة التقية ما يقضي السعة الوضعية الراجعة للإجزاء[18].
ومع تسليم بعض فضلاء العصر(دام مجده)، بكون المقصود من قوله(ع): التقية واسعة، علة للاكتفاء بالمأتي. إلا أنه منع دلالة الموثقة على الإجزاء بأمرين:
الأول: عدم كون المقصود من الاكتفاء الوارد في المضمرة والمستفاد من قوله(ع): ما استطاع، هو كفاية المأتي به فاقداً لما يعتبر فيه تقية عن الأمر الواقعي، وإنما المقصود منه كفاية الاتيان بما يستطيع من المعية والمتابعة للإمام في الجماعة، فيكون النص أجنبياً تماماً عن المدعى.
الثاني: إنه مختص بموضوعه، وهو الصلاة، فلا يتعدى منه إلى غيره[19].
والظاهر أن مقصوده(وفقه الله) في جوابه الأول أن الجماعة صورية وليست حقيقية، وهو قريب مما ذكره صاحب الوسائل(ره)، فإنه قد عنون الباب بقوله: استحباب اظهار المتابعة حينئذٍ مع المخالف للتقية، ومن الواضح أن المقصود من المتابعة أن يظهر المكلف الصلاة معهم وهو في نفس الوقت يعمل وفق وظيفته الواقعية، وعندها سوف يكون الحكم بصحة صلاته على وفق القاعدة، لأنه اتى بالصلاة الواقعية، فلا يكون للموثقة دلالة على صحة المأتي به فاقداً لما يعتبر فيه تقية.
وحمل المتابعة على كونها صورية خلاف الظاهر، فإن قوله(ع): ويصلي ركعة أخرى، ظاهر في أنه يكتفي بقراءة الإمام، وهي ركعة المصلي الثانية.
على أن الالتـزام بكون المعية في الموثق ظاهرية صورية تحتاج قيداً، وهو مفقود في المقام، بخلاف المعية الحقيقية الواقعية، فإنه يكفي للتمسك بها الإطلاق.
وأما الثاني، فإنه مبني على الاستدلال بخصوص صدر المضمرة، وإلا لو تمسك بذيلها، وهو قوله(ع): فإن التقية واسعة، وليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله، فإنه واضح في إعطاء كبرى كلية، وليس حكماً مختصاً بالصلاة.
إلا أنه ليس المقصود منه الاكتفاء بالمأتي به فاقداً لما يعتبر في العمل، وإنما المقصود منه الاكتفاء بما يتمكن المصلي من الاتيان بالمعية مع الإمام، فيكون قوله(ع): ما استطاع هو المعية، وليس كفاية المأتي به فاقداً لما يعتبر فيه، فيكون معنى النص: هو كفاية الاتيان بما تبقى من الصلاة جماعة مع المخالف ولو في أثناء صلاته الفرادى.
وقد منعت دلالتها على المدعى، لأن المقصود من قوله(ع): ما استطاع، ليس ما يتمكن المكلف فعله من التكليف فاقداً لما هو المعتبر فيه، وإنما المقصود منه المعية مع الإمام بمتابعته في الأفعال من الركعة الثانية،
وقد ذكر هذا الجواب عن دلالة الموثقة بعض الأعاظم(ره)[20]، وبعض أعلام تلامذته أيضاً.
ولم يكنف بعض الأعاظم(ره) بمناقشة دلالتها، بل خدشها سنداً أيضاً، فذكر أن الرواية مضمرة، وللمناقشة في سندها مجال، لأن مضمرها وهو سماعة، ليس كزرارة، ومحمد بن مسلم، وأضرابهما من الأجلاء، والفقهاء الذين لا يناسبهم السؤال عن غير أئمتهم(ع)، بل هو من الواقفة، ومن الجائز أن يسأل غير أئمتنا(ع)[21].
لا تنقض السنة الفريضة:
الرابع: الاستناد لقاعدة لا تنقض السنة الفريضة المستفادة من صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: لا تعاد الصلاة إلا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود. ثم قال: القراءة سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة[22].
ويعتمد الاستدلال بها على التسليم بظهور الذيل في بيان كبرى كلية تتضمن تقسيم المجعولات إلى قسمين: فرائض وسنن، ويقصد من الفريضة: هو كل ما أوجبه الله تعالى في كتابه العزيز، أو جاء على لسان رسوله الكريم(ص)، حكاية عن الله تعالى. وأما السنة: فهي كل ما أمر به النبي الأكرم(ص) في السنة.
ولو تم الاستدلال بالقاعدة المذكورة، فإنه لن يفرق في ذلك بين صورتي احتمال الموافقة، والقطع بالمخالفة، وحال تمكن الحاج من العودة إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج في العام القادم، وفقاً للموازين الشرعية المعتبرة في ثبوت الهلال.
وتقريب دلالتها على المدعى له صورتان:
الصورة الأولى: الالتـزام بكون الوقوف في عرفات سنة وليس فريضة، وهذا يجعل الإخلال به عن عذر ولو بسبب الاضطرار للوقوف تقية موجب لعدم فساد الحج، والبناء على صحته، ويدل على كون الوقوف في عرفات سنة خبران:
أحدهما ما رواه الأعمش، عن جعفر بن محمد(ع)-في حديث شرائع الدين-قال: ولا يجوز الحج إلا متمتعاً، ولا يجوز القران والإفراد إلا لمن كان أهله حاضري المسجد الحرام، ولا يجوز الإحرام قبل بلوغ الميقات، ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلا لمرض أو تقية، وقد قال الله عز وجل:- (وأتموا الحج والعمرة لله)، وتمامهما اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج، ولا يجزي في النسك الخصي لأنه ناقص، ويجوز الموجوء إذا لم يوجد غيره، وفرائض الحج الإحرام والتلبيات الأربع، وهي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريط لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، والطواف بالبيت للعمرة فريضة، وطواف النساء فريضة، وركعتاه عند المقام فريضة، ولا سعي بعده بين الصفا والمروة، والوقوف بالمشعر فريضة، والهدي للمتمتع فريضة، فأما الوقوف بعرفة، فهو سنة واجبة، والحلق سنة، ورمي الجمار سنة-إلى أن قال-: وتحليل المتعتين واجب، كما أنزل الله في كتابه وسنهما رسول الله(ص)، متعة الحجة ومتعة النساء[23]. وقد تضمن النص صريحاً بكون الوقوف بعرفات من السنن الواجبة، وليس من الفرائض، ذلك أنه لم يستعرضه ضمن استعراضه للفرائض، وإنما ذكره في خصوص السنن، ونص على ذلك.
ثانيهما: مرسل الصدوق(ره) الجزمي قال الإمام الصادق(ع): الوقوف بعرفة سنة، وبالمشعر فريضة، وما سوى ذلك من المناسك سنة[24]. ولا تختلف دلالته على المدعى عن دلالة سابقه، لأنه نص صريح في عدّ الوقوف بعرفات سنة، وليس فريضة.
وقد منع كون الوقوف في عرفات سنة، فإنه مضافاً لضعف الخبرين المذكورين باشتمال الأول منهما على مجموعة من المجاهيل، والثاني بالإرسال، ومجرد كونه من مراسيل الصدوق(ره) الجزمية، لا يوجب حجيته، فإنه يستفاد من قوله تعالى:- (فإذا أفضتم من عرفات)[25]، أن الوقوف في عرفات فريضة، وليس سنة، وتقريب دلالة الآية على كون الوقوف بعرفات فريضة ببيانين:
أحدهما: إن الإفاضة من الشيء والتي هي بمعنى الصدور منه أفواجاً كما في كلمات أهل اللغة، لا تكون إلا بعد الكون فيه ولو قليلاً، فالإفاضة من عرفات إنما تكون بعد التواجد فيها بمقدار ما، فتدل الآية الشريفة على وجوب الوقوف فيها[26].
ويلاحظ عليه: بأن الآية لم تأمر بالإفاضة من عرفات ليكون ذلك دالاً على وجوب الوقوف فيها، وإنما قد ذكرت الإفاضة منه توطئة للحديث عما يلزم الحاج فعله بعد الإفاضة حين التواجد في المشعر، فذكر الإفاضة إنما هو لغرض بيان الوظيفة حال التواجد في المشعر، نظير قولك: إذا جاءك عالم فأكرمه، فإن ذكر المجيء إنما هو توطئة ومقدمة لحصول الإكرام، إلا أنه لا يدل على أن المجيء واجب، أو لازم، وهذا ما تفيده الآية، فإنها وإن دلت على أن الحاج موجود في عرفات لتحقق الإفاضة منها، إلا أنها لا تدل على وجوب التواجد فيها، وإنما أقصى ما تفيده، أن من كان متواجداً في عرفات عليه الإفاضة.
ثانيهما: إن المرتكز في أذهان الناس أن من أعمال الحج الوقوف في عرفات في يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وهو مما قد سنّه خليل الرحمن إبراهيم(ع)، وجرت عليه عادة العرب، ولم يرد ردع من الشارع المقدس عن ذلك، بل قد تضمنت الآية الشريفة حكاية لهذا الفعل، وهو ظاهر في التقرير والإمضاء، فيكشف ذلك عن كونه من سنة الخليل(ع) حقاً المتوارثة، وليس مما تم ابتداعه.
كما أنه لم يتضمن التشريع الإسلامي ما يشير لنسخ هذا العمل، فإنه لو كان منسوخاً لم تحكه الآية المباركة بنحو الإمضاء والتقرير له.
وهذا التقريب وإن دل على وجوب الوقوف في عرفات، إلا أنه لا يستكشف منه أنه واجب بالكتاب الكريم، وإنما هو إبقاء لما كانت ثابتاً في شريعة خليل الرحمن إبراهيم(ع).
على أنه لو سلم باستفادة الوجوب من القرآن الكريم، لوجود تقرير وإمضاء كما عرفت، فإنه يشك في شمول مفهوم الفريضة الذي تقدم ذكره لمثل هكذا مصداق، فإن الظاهر من القائلين بالقاعدة المذكورة يقررون أن المقصود منه ما أوجبه الله تعالى في كتابه، وهو ظاهر في الجعل الخاص، وليس إمضاءاً لما كان ثابتاً في الشرائع السابق، فإنه لا يصدق عليه أنه قد أوجبه الله تعالى في كتابه، ولا أقل من الشك في شموله، فيكون التمسك لإثباته بالقاعدة المذكورة تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية.
الصورة الثانية: أن لا يكون السنة هو الوقوف بعرفات، وإنما زمان الوقوف فيها، فإن أقصى ما تدل عليه الآية هو وجوب الوقوف، إلا أنها لم تتضمن تحديد وقت الوقوف وزمانه، وقد استفيد ذلك من السنة، فإن رسول الله(ص) هو من حدد وقت الوقوف في يوم التاسع من شهر ذي الحجة من زوال الشمس إلى غروبها، وعليه يكون الإخلال به لعذر ولو بسبب الاضطرار لذلك تقية لا يضر بصحة الحج، لأنه إخلال بالسنة، وقد دلت القاعدة على أن السنة لا تنقض الفريضة. فيكون المقام نظير السجود الذي هو من فرائض الصلاة، لوروده في القرآن الكريم، إلا أن بعض شروطه ككونه على ما أنبتته الأرض من غير المأكول والملبوس من السنة، فلا يضر الإخلال بما يسجد عليه لعذر بصحة الصلاة.
والحاصل، لا مانع من أن يكون أصل الواجب من الفرائض، وبعض قيوده من السنن.
وقد أجيب عنه، أولاً: بمنع كون زمان الوقوف من السنة، بل من الفريضة، وذلك لأن ما دلت عليه الآية الشريفة لا يتضمن أصل الوقوف فقط، بل الوقوف الذي يكون في زمان خاص محدد، لأن هذا ما كان ثابتاً في شريعة خليل الرحمن(ع)، بل من زمن نبي الله آدم(ع)، كما دلت على ذلك النصوص، وقد أقرته الآية الشريفة. نعم من المحتمل جداً أن يكون زمان الوقوف الاضطراري من السنة.
ثانياً: بعد التسليم بكون زمان الوقوف في عرفات من السنة، إلا أنها معارضة بما دل على فوات الحج بفوات المشعر، لأنه مطلق يشمل ما إذا فاته حال الاضطرار، ولا يختص بمن فاته ذلك اختياراً، وقاعدة لا تنقض السنة الفريضة، وإن كانت تقبل التخصيص، إلا أن النسبة بينها وبين فوات الحج بفوات المشعر هي العموم من وجه، فتستقر المعارضة بينهما، ومورد المعارضة هو ما إذا ترك الوقوف في المشعر في وقته المحدد له شرعاً تقية. ولا مرجح لأحدهما على الآخر، فلا مناص من التساقط، ويكون المرجع عندها هو إطلاق ما دل على أن الوقوف في المشعر في الوقت الشرعي جزء للحج، وهو يقتضي بطلان الحج الناقص حسب الفرض[27].
ولا يخفى أن جوابه(دام مجده) الأول مبني على دلالة الآية المباركة على أمرين:
الأول: وجوب الوقوف في عرفات.
الثاني: تحديد زمان الوقوف، وأنه من زوال الشمس إلى غروبها.
وكلا الأمرين مستفادان من الموروث عن شرائع الأنبياء السابقين لو بني على أن آدم(ع) صاحب شريعة ولو في الجملة، فإن آدم(ع) قد وقف في عرفات، والمفروض أن وقوفه كان من زوال الشمس إلى غروبها، وأن إبراهيم(ع) قد وقف في عرفات وأن وقوفه كان من زوال الشمس إلى غروبها.
أما لو بني على عدم ثبوت ذلك، وأن وقوفهما في عرفات لم يكن بالطريقة المذكورة، فلن يتم الجواب المذكور. وعند ملاحظة النصوص التي تعرضت للحديث عن حج الأنبياء السابقين لا نجد فيها عيناً ولا أثراً لكون وقوف آدم(ع) كان بهذه الكيفية، أو أن وقوف إبراهيم الخليل(ع) كان كذلك.
على أنه لو سلم، وبني على أنهما(ع) قد وقفا في عرفات بهذه الطريقة، إلا أن ذلك لن يوجب أن يكون زمان الوقوف من الفريضة، لما عرفت في جواب مناقشة الصورة الأولى، فلا نعيد.
ويمكن الجواب عن الثاني، بأن تكون قاعدة لا تنقض السنة الفريضة حاكمة على إطلاقات فوات الحج بعدم الوقوف بالمشعر الحرام، ليكون مدلولها أن ذلك مختصاً بحال الفوات عن اختيار، لا ما إذا كان الفوات بسبب الاضطرار، كما لو كان ذلك لتقية، وعليه، فلا موجب للبناء على التساقط.
نعم قد يمنع من الاستناد للقاعدة المذكورة، التشكيك في دلالتها لإجمال مفهوم الفريضة والسنة فيها، وإلا لو كانا واضحين، فالظاهر إمكانية الاستدلال بالقاعدة المذكورة على المدعى.
على أنه لو بني على عدم الإجمال فيهما، فإن الاستناد إليها من صغريات التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ لا يوجد بأيدينا ما يشير إلى أن ما صدر عن رسول الله(ص) صدر عنه(ص) بما هو محمد بن عبد الله(ص)، وبما أعطيه من حق الجعل والتشريع، لا بما هو حاكٍ مما يوحى إليه عن الله عز وجل، وهذا يعني أنه في كل ما يصدر عنه(ص) يحتمل أن يكون صادراً منه(ص)، ويحتمل أنه حكاية عن الله تعالى، وإدراجه في الأول دون الثاني من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
نعم ما تضمنته النصوص أنه من السنن فلا مناص من ترتيب الأثر عليه، وهذا يعني أنه لا ترفع اليد عن القاعدة المذكورة كليةً، وإنما ترفع اليد عنها بعرضها العريض الوارد في كلمات بعض أساطين العصر من المحققين(دامت أيام بركاته)، والفاضل المعاصر(دام موفقاً)، ويقتصر فيها كما عن بعض الأعاظم(ره) على خصوص موارد التطبيق الصادر من المعصوم(ع) لنصه على شيء ما أنه سنة.
ثم إن هذا كله فرع البناء على ثبوت حق الجعل والتشريع لرسول الله(ص) والأئمة الطاهرين(ع) من بعده، وقد فصلنا ذلك في بحث الأصول وانتهينا إلى عدم ثبوت ذلك إليهم(ع)، وإنما تنحصر وظيفتهم في بيان ما تضمنه القرآن الكريم، وحوته آياته الشريفة.
[1] وسائل الشيعة ج 23 ب 12 من أبواب كتاب الأيمان ح 2 ص 224.
[2] رسائل فقهية للشيخ الأعظم(ره) ص 93.
[3] الرسائل ج 2 ص 192.
[4] مستمسك العروة ج 2 ص 405.
[5] المصدر السابق ج 8 ص 326.
[6] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ج 26 ص 173.
[7] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 684-685.
[8] بحوث في شرح المناسك ج 18 ص 686.
[9] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 5 ص 243-245.
[10] معجم رجال الحديث ج ص
[11] قاموس الرجال ج 5 ص
[12] وسائل الشيعة ج 8 ب 57 من أبواب صلاة الجماعة ح 2 ص 405.
[13] موسوعة الشيخ الأعظم(ره) ج 23 ص 92.
[14] مصباح الفقيه ج 2 ص 454.
[15] صلاة الجماعة ص 231.
[16] الرسائل ج 2 ص 192.
[17] مستمسك العروة ج 2 ص 404.
[18] مصباح المنهاج كتاب الطهارة ج 2 ص 382.
[19] بحوث في شرح المناسك ج 18 ص 697.
[20] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 5 ص 249.
[21] المصدر السابق.
[22] وسائل الشيعة ج 5 ب 1 من أبواب أفعال الصلاة ح 14 ص 471.
[23] وسائل الشيعة ج 11 ب 2 من أبواب كيفية أنواع الحج وجملة من حكامها ح 29 ص 233-234.
[24] وسائل الشيعة ج 14 ب 4 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 3 ص 10.
[25] سورة البقرة الآية رقم 198.
[26] مواهب الرحمن ج ص
[27] بحوث في شرح مناسك الحج ج 18 ص 478-479.