29 مارس,2024

موقع الآية في التدوين

اطبع المقالة اطبع المقالة

ذكرنا في بداية الدرس السابق أننا نتحدث ضمن نقطتين،وكان الحديث في النقطة الأولى،ينصب حول نزول آية التطهير،وما يقال من أنها نزلت في زوجات النبي(ص)والإستدلال على نزولها في أصحاب الكساء الخمسة من خلال روايات الفريقين.

وحان الآن حديثنا عن النقطة الثانية وهي:موقع الآية الشريفة في التدوين:

موقع الآية في التدوين:

عندما يدور البحث حول آية التطهير والبرهنة على كونها نازلة في أصحاب الكساء الخمسة،نواجه سؤالاً مفاده:

لماذا جاء تدوينها في هذا الموضع بالذات،في ذيل الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب،خصوصاً وقد ثبت أنها منفصلة ومستقلة في النـزول عن هذه الايات المتحدثة عن زوجات النبي(ص).

وعندما نود الإجابة على هذا السؤال،ينبغي لنا الإلتفات إلى نكتة مهمة،لابد من ملاحظتها في المنهج القرآني والقواعد التي تم وفقها تدوين القرآن وترتيب آياته.

ترتيب الآيات:

إن الذي نعتقده نحن الشيعة الإمامية أن الترتيب الذي عليه القرآن الكريم اليوم،هو الذي حصل في أيام رسول الله،بمعنى أن القرآن قد جمع في حياة النبي(ص)وهو الذي قد جعل ترتيـبه بهذه الكيفية.

ولما لم يكن غرضنا هنا الحديث عن هذا المطلب،فإننا نحيل القارئ العزيز على بعض المصادر الشيعة التي أشبعت هذا الموضوع،فليراجع على سبيل المثال لا الحصر،كتاب البيان للسيد الخوئي(قده).

الدليل على جمع القرآن في حياة النبي(ص):

هذا ويمكننا أن نذكر عدة أدلة تدل على ما ذكرناه من أن القرآن قد جمع في حياة رسول الله(ص)نقتصر منها على دليلين:

الدليل الأول:عموم الأحاديث النبوية التي أرجعت المسلمين إلى القرآن الكريم،مثل حديث الثقلين،والأحاديث التي أرشدت المسلمين وطالبتهم بعرض ما ينسب إلى رسول الله(ص)على القرآن،فإنها تدل على وجود كتاب محدد يحوي بين دفتيه ما أنـزل من القرآن الكريم.

كما أن هناك نصوصاً نقلها السيد الخوئي(ره)في كتابه القيم البيان،تؤكد جمع القرآن في حياة رسول الله(ص):

منها:ما رواه الطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال:جمع القرآن على عهد رسول الله(ص)ستة من الأنصار:أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وسعد بن عبادة وأبو زيد[1].

ومنها:ما رواه قتادة قال:سألت أنس بن مالك:من جمع القرآن على عهد النبي(ص)؟قال:أربعة كلهم من الأنصار:أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد[2].

ثم إن الذي يظهر من بعض النصوص أن النبي(ص)كان يحدد لكتاب الوحي موضع ومكان كل آية بعد نزولها،ويعين ترتيـبها في السور وبين الايات،فقد ورد في تفسير الدر المنـثور:أخرج أحمد،عن عثمان بن أبي العاص قال:كنت عند رسول الله(ص)جالساً إذ شخص بصره ثم صوبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض.قال:ثم شخص ببصره فقال:أتاني جبريل(ع)فأمرني أن أضع هذه الاية بهذا الموضع من السورة(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)إلى قوله(تذكرون)[3].

ومن هذا الحديث وأمثاله يتضح لنا أن القرآن كان على عهد رسول بشكل سور،والسورة عبارة عن مجموعة متـتالية من الآيات تبدأ بـ(بسم الله)وتمضي على ترتيب معين،ويتضح أيضاً أن الآيات المختلفة النازلة في مختلف السور،إنما أخذت مواقعها الخاصة بناءاً على أوامر من رسول الله(ص)إذ عين لها هذه المواقع وحددها.

وهذا يكشف لنا أن تحديد السور ومواضع الآيات وترتيـبها كان مما تم وأنجز على عهد رسول الله(ص).

وهذان الأمران يشيران إلى أن تدوين الكتاب تم بإشراف النبي(ص)وعلمه،مضافاً إلى أن التاريخ والروايات تؤكد أن النبي(ص)كان يتلو في صلواته سوراً معينة،مما يعني أن هذه السور كانت قد أخذت شكلها وإطارها الذي تحددت فيه بدايتها ونهايتها وتتالي الآيات فيها.

ويؤيد ذلك الأحاديث المروية عن النبي(ص)في فضيلة قراءة السور،فراجع البحار[4].

الدليل الثاني:وهو دليل اعتباري،يمكن قبوله،وحاصله:

لقد كان رسول الله(ص)يـبذل غاية الجهد ويولي كل اهتمامه للآيات القرآنية النازلة في نزولها،أو حفظها،ولا يمكن أن يكون سلبياً تجاه تنظيم هذه الآيات وجمعها،وأنه-والعياذ بالله-كان مهملاً لذلك،وهو المعجزة الخالدة لبعثـته والكتاب السماوي الخاتم وآخر رسالات الله للبشرية.

فالثقل الأكبر الوارد في كلمات رسول الله،لا يمكن أن يكون المقصود منه الآيات المبثوثة في الصحائف أو المحمولة في الصدور،وأنه أوكل أمر جمعها في مصحف واحد يشملها جميعاً وفوضه إلى غيره،مما يخضعه للأهواء والأمزجة والأغراض والمصالح الخاصة.

ومن الواضح أن هذا التفويض يستلزم المساس بالقرآن الكريم والإخلال به،مما يعني التفريط بأمر حيوي وأساسي يوقع الأمة في الفوضى والضياع.

والمنع عن ذلك هو وظيفة الرسول(ص)،وحاشاه(ص)أن يخل بالوظيفة التي أنيطت به،وأن يفرط في أداء الواجب الذي أوكل إليه.

نعم هناك من يعتقد أن النبي(ص)قد أناط هذا الأمر لربيب بيت الرسالة أمير المؤمنين(ع)خصوصاً وأن علياً في بعض كلماته يشير إلى أنه يحتفظ بالقرآن النازل على رسول الله(ص).

لكن هذا لا يعني أن علياً قام بجمع القرآن وأن النبي(ص)رحل إلى جوار ربه قبل جمع القرآن،إن كلمات أمير المؤمنين،تشير إلى القرآن الذي عنده هو النازل على النبي مع أسباب النـزول،والتفسير والتأويل وكشف الغوامض والأسرار.

وهذا الذي ذكرناه هو ما جاء على لسان أمير المؤمنين،ومن أراد فليراجع كتاب الإحتجاج[5].

شبهة وردها:

قد يقول قائل:نحن نسلم بأن القرآن قد جمع في عهد الرسول(ص)وأنه ما رحل عن أمته إلا وقد جمع القرآن،لكن أليس من المحتمل أن القرآن الموجود بأيدينا اليوم قد تعرض للعبث،خصوصاً وأن المشهور اليوم أن عثمان هو الذي جمع كتاب الله،حتى أصبح يشار ويقال:المصحف العثماني،فمع فرض قيام عثمان بالجمع،من أين نعلم أن القرآن الذي بأيدينا اليوم هو الذي نهض الرسول(ص)بجمعه،لا الذي جمعه عثمان،وعليه فإن الإستدلال على عدم التصرف في ترتيب الآيات من منطلق تصدي النبي(ص)لهذه المهمة وانجازها في حياته يـبقى ناقصاً؟…

وجوابها:

يتسالم المحققون على أن دور عثمان كان منحصراً في معالجة القرءات المختلفة للقرآن الكريم،لعلل وأهداف ليس هذا محل ذكرها،فجمعه للقرآن،ليس جمع الآيات والسور،بل جمع الناس على قراءة واحدة،وهي القراءة المشهورة المتواترة بين المسلمين،التي أخذوها عن الرسول(ص)،فكتب القرآن على تلك الصورة.

وهذا يعني أن عثمان قد أشاع نفس الكتاب الذي ألفّ رسول الله بين آياته،وفق القراءة المعروفة المتداولة،وثبتها من بين بقية القراءات الأخرى المختلفة.

ومن هنا يتقرر أن الكتاب الموجود بأيدينا اليوم هو نفسه الذي وضعه النبي(ص)وخلفه بيد المسلمين قبل ما يربو على ألف وأربعمائة عام ونيف،وهكذا يتقرر أن آية التطهير جاءت في سياق آيات سورة الأحزاب المشار إليها،وأن محلها هو نفسه الذي نعهده في المصاحف الشريفة.

أسرة النبي وعائلته:

هذا وبعيداً عن الناحية التعبدية التي استدعت أن يكون محل الآية المباركة في هذا الموضع،لأمر من النبي(ص)وهو الذي لا ينطق عن الهوى.

يمكننا أن نطرح تصوراً آخر لجعل الاية هنا،وهو يؤيد ما تقدم من الحكم التعبدي،وفي نفس الوقت قد يكون تعليلاً لجعلها هنا،فنقول:

إن كون الآية الشريفة في هذا الموضع يستدعي وجود قسمين لأسرة النبي وعائلته،حيث تصور الآيات الشريفة الأسرة النبوية بأنها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول منه:هو القسم الذي يتضمن زوجات النبي(ص)ونسائه،وهذا القسم لم تذكره الآيات باسم بيت النبي(ص)،بل بنفس البيت الذي يسكن هن فيه فاطلق(بيوتكن).

القسم الثاني:هو القسم الذي اطلق عليه وسمي بـ(أهل البيت)وتقدم من خلال ملاحظة سبب النـزول أنهم خمسة أفراد.

وحينما نتأمل الآيات نجدها وضعت خطتين،فوضعت لأهل القسم الأول برنامجاً عملياً من أجل السعادة والنجاة.وميزت القسم الثاني وخصته بخصوصيات انفرد بها.

البرنامج القرآني للقسم الأول:

تقدم منا بيان البرنامج القرآني للقسم الأول،وخلاصته:

1-عدم التعلق بالدنيا وزينـتها،وعند التخلف عليهن الإنفصال عن رسول الله(ص)بتطليقهن.

2-الإنقطاع إلى الله والإخلاص لذاته المقدسة،والطاعة والخضوع المطلق لرسول الله(ص)،والأجر الجزيل المضاعف الذي ينـتظرهن.

3-اجتناب الفواحش وقبائح الأعمال والمنكرات الفاضحة.

4-عدم الإختلاط بالرجال واجتناب الغرباء والحيطة،حتى في اسلوب الكلام ولحن الحديث بما يحصنهن عن أغراض الذين في قلوبهم مرض.

5-القول المتـزن،واجتناب القول المشين والحديث الجارح.

6-عدم التبرج وإظهار الزينة والجلوس في أماكن مشرفة،أو تطل على الطريق بحيث يكنّ على مرأى من الأجانب.

7-الإستقرار في البيوت،وعدم الخروج والتجوال في الطرق والتفسّح المريب،ثم اجتناب الدخول في القضايا السياسية والشؤون العامة للمسلمين.

امتياز الفريق الثاني:

أما الفريق الثاني،وهو الذي عبر عنه بأهل البيت،وهم الخمسة الذين اختصوا بالآية الشريفة،دون بقية أفراد الأسرة النبوية،فلا تشمل الأمور المتعلقة بهذا القسم فرداً من أفراد القسم الأول،كما عرفنا ذلك سابقاً.

هذا القسم موكل بمهمة ودور ناهض بمسؤولية ووظيفة حفظ الإسلام،وقيادة المسلمين،وزعامتهم،ولذا طهرهم الله تطهيراً،وأراد بأمره أن لا يعتري نفوسهم السامية كدر الذنب،بل حتى التفكير في الذنب،أو ينال أرواحهم العالية لوث المعاصي فيـبقون معادن خالصة مصفاة يحق لها ويليق بها أن تتولى دور الهداية وتخلف رسول الله(ص)فيه.

العلة في تدوين الآية في هذا الموضع:

ولما كان هناك مجال لتوهم البعض أن جميع أقرباء النبي(ص)لهم من الكفاءة والإستعداد والمنـزلة والمقام ما ذكر.

ولم يكن سبيل لرفع هذا التوهم إلا بأن تقحم جملة معترضة في وسط هذه الآيات علىنحو الإستطراد لتبدو وكأنها مقتطعة وضعت بين قوسين لئلا يـبقى أي هامش للإحتمال.

وهذا من شواهد البلاغة القرآنية التي تظهر في قدرته على نقل خطابه وتغيـير مخاطبه بشكل مفاجئ وسريع،ففي حين توجه بالخطاب إلى فئة معينة،وهي نساء النبي(ص)بالوعد والوعيد،والتحذير من السقوط في المعصية والهوى،ينـتقل بتمام التأكيد وغاية الإتقان ليخاطب فئة أخرى، أهل البيت(ع)،وكأنه يقول:كلا ليس الحال كذلك معكم أنتم،ليست كل الإسرة من أصل واحد،وليست نفوسهم من نسيج واحد،لا ليس كذلك،إنما أهل البيت مستـثنون،فقد طهرهم الله من الدنس وعصمهم من الزلل.

والنـتيجة التي نصل لها،هي أنه لا مانع من الإلتـزام بالقول بثبوت الترابط ووجوده بين آية التطهير وبين الآيات المتعرضة لنساء النبي،لما ذكرناه من كون كل منهما تشير لبرنامج لقسم من أسرة النبي(ص).

كما أن وقوع الآية في هذا المورد كان لدفع وهم قد يحصل لبعض الأفراد،مما استدعى دفعه.

وقد ثبت بحمد الله تعالى مما تقدم أن الآية مختصة بفئة خاصة من عائلة النبي(ص)وهم الخمسة أصحاب الكساء،النبي وعلي،والزهراء،والحسن،والحسين(ص).

——————————————————————————–

[1] المعجم الكبير للطبراني ج 2 ص 216 ح 2092.كنـز العمال ج 2 ص 589 ح 4797.

[2] صحيح البخاري ج 6 ص 125،باب القرّاء من أصحاب النبي ح 5003.

[3] مسند أحمد بن حنبل ج 6 ص 272 ح 17940.الدر المنثور ج 4 ص 128.الميزان في تفسير القرآن ج 12 ص 349.

[4] بحار الأنوار ج 92.

[5] الإحتجاج ج 1 ص 223-225.