الإشكالات على الرسالة العملية:
ومع ما للرسالة العملية من أهمية بالغة، لكونها الحجة بين المقلد وربه، وعلى الرغم من كل الإيجابيات التي تـتمتع بها، إلا أن فيها نقاطاً تعيقها عن أداء مهمتها بالقدر المأمول، ونشير إلى أهم تلك النقاط:
غموض التعبير:
مع أن الرسالة العملية مكتوبة من أجل المكلف، إلا أنها لا تخاطبه، لأن الكاتب لم يعيّن مخاطبه قبل الشروع في الكتابة، فهي لا تـتضمن الأساليب التي تعين على إيضاح المسألة الشرعية وتقريبها لأذهان المخاطبين، بل نجد فيها التعقيد والغموض والإجمال، هي السمة العامة فيها.
ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الظواهر الثلاث المطردة في كثير من الرسائل العملية.
الإيجاز:
يعتقد البعض أن الإيجاز في التعبير أمر مستحسن، لأن ذلك من الوسائل المهمة في الاستكمال الفكري والعلمي للدارسين، وهذا أمر حسن متى وضع في موضعه.
لكن هذا غير مستحسن في الرسائل العملية، لأن المطلوب فيها ليس الممارسة والتحقيق الفكريـين، بل إن الغاية القصوى فيها هي توضيح الأحكام الشرعية للمقلدين، ولا يتحقق هذا من خلال الإيجاز والإجمال، وإنما تـتطلب في أكثر الأحيان التبسيط والتفصيل في العبارة.
عدم استخدام الأمثلة:
إذ لا يخفى دور التمثيل في توضيح المطالب المعمقة وتسهيلها، كما له دور أيضاً في توضيح الأحكام الشرعية، سيما في موارد تشابه الحالات واشتباهها على المكلفين، فإن التمثيل هو الذي يميز هذه الحالات ويفصلها عن بعضها، وقل ما ترى التطبيق والتقريب بالمثال في الرسائل العملية.
بينما نجد الرغبة الملحة عند المقلدين لاستخدام الأمثلة في الأسئلة الشرعية الاستفتاءات التي يعرضونها على الفقهاء، إذ يغلب على أسئلتهم عن الحكام الشرعية المثال والتطبيق على الموضوعات المختلفة في الحياة.
استخدام المصطلحات الفقهية:
فقد اعتاد الفقهاء أن يذكروا في رسائلهم العملية المصطلحات الفقهية من دون إبداء تعريف لها، ومتى ذكروا تعريفاً، فإنه يقتصر على قلة منها.
مع أن استخدام المصطلحات في الرسائل العملية كان له مبرراته في السابق، لاقتراب الناس من تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد الناس عنها اليوم وتضاءلت معلوماتهم الفقهية حتى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب غريبة تماماً.
كما أن قراء الرسائل العملية في السابق كانوا مقصورين في الغالب على علماء البلد، وطلبة العلوم المتفقهين، لأن الكثيرين لم يكونوا متعلمين.
وأما اليوم فقد أصبح قراء الرسالة العملية عدد كبير من أبناء الأمة، وهذا يستدعي كتابتها بلغة تجعل القارئين قادرين على فهمها، خصوصاً وقد تضاءلت معلوماتهم الفقهية.
ومن جملة تلك المصطلحات المستخدمة، المصطلحات الاجتهادية التي تتعلق بكيفية بيان الفتوى أو الإشارة إلى بعض النكات العلمية، فقد يستشكل الفقيه أحياناً في استظهار الحكم من خلال الدليل، وعليه يقوي ما يختاره، فيذكر جميع هذا في الرسالة العملية، ولنشر لمثال على ذلك، قال السيد اليزدي(قده) في العروة: لكن في بطلان صلاته إشكال، والأقوى الصحة[1].
في حين أن المكلف لا يهمه إلا الوقوف على تكليفه من الوجوب أو الحرمة والصحة أو البطلان.
أما الاستشكال في الاستظهار من الأدلة أو انعكاس المبنى الأصولي عند بيان الفتوى، فيجب أن يقف عند حدود البحث الأصولي أو الفقهي.
وربما نجد المجتهد وهو بصدد التعبير عن الحكم الشرعي يفتي ثم يحتاط بما يخالف تلك الفتوى، أو يحتاط ثم يفتي بما يخالف ذلك الاحتياط، مثلاً: الأحوط عدم قطع النافلة، وإن كان القوى جوازه[2].
ومع أن الفقهاء ربما أوضحوا هذا الاحتياط في أول رسائلهم، وأنه من الاحتياط الإستحبابي، لكنه يمكن أن يؤدى بأسلوب آخر، ويفيد نفس المعنى بعيداً عن الغموض والإغلاق بالنسبة للمقلدين.
والشواهد على هذا الموضوع كثيرة جداً، كقولهم: يجوز على إشكال، أو يجب على إشكال وتأمل، والمشهور كذا، وفيه إشكال، إلى غير ذلك من المصطلحات المماثلة في تعابير الفقهاء.
عدم التنظيم الفني في عرض الأحكام:
فتخلوا الرسائل العملية في الغالب من المنهجية الفنية في تقسيم الأحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على البواب المختلفة، ولذا نرى كثيراً من الحكام أعطيت ضمن صور جزئية محدودة تبعاً للأبواب، ولم تعط لها صيغة عامة يمكن للمقلدين الاستفادة منها في نطاق واسع، فمثلاً كيفية تحقق التكليف، وشروطه وعلاماته، نجدها تذكر في كتاب الحجر مع أنها ينبغي أن تكون في أول الرسالة العملية.
بل إن هناك جملة من الحكام الإبتلائية لم تذكر نهائياً، ولعل ذلك لأنها لم تجد لها مجالاً ضمن التقسيم التقليدي.
عدم مسايرتها مع مستجدات الحياة:
فمع أن الرسالة العملية، قد وضعت للمكلف إلا أنه ربما يرى اشتمالها على العديد من المسائل الخارجة عن دائرة ابتلائه، وافتقادها لما هو داخل في دائرة الابتلاء، وعلى سبيل المثال لا زال الفقهاء يصرون على التعرض لماء البئر، وما يتعلق به من أحكام، مع أنه لا نرى لمثل هذا الشيء وجوداً خارجاً، وعلى فرض وجوده فإنه من القلة بمكان.
وفي المقابل لا نجد إشارة إلى التطهير بواسطة الغسالة الحديثة، وصحة ذلك أو عدمه، ومثله استخدام جهاز تجفيف للغُسالة، ومدى أداء ذلك للغرض.
ويكفينا أن الفقهاء لما كتبوا بعض المسائل المستحدثة، كمسائل البنوك والعمل فيها والمسائل الطبية، كالتلقيح الصناعي، واستخدام وسائل منع الحمل، والترقيع، والتشريح، وغير ذلك، جعلوها في ملحق يجعل في آخر الكتاب.
وهذا كتاب المعاملات، بحاجة إلى إعادة تبويب وتنظيم، بحيث يشمل العقود والمعاملات الحديثة وما شابهها.
وانطلاقاً من هذا المر والمعاناة التي يراها المكلف في تعامله مع الرسالة العملية، سوف نحاول هنا أن نـتعرض لشرح بعض المصطلحات الفقهية التي تحويها، وبيان بعض الأمور التي تكون غامضة على المكلفين، في محاولة منا لجعل الرسالة العملية في متناول أيدي المكلفين، ولتـتحقق الغاية التي من أجلها وضعت له إن شاء الله.
تقسيم الحكم الشرعي:
قسم الفقهاء الأحكام بحسب الموضوع إلى ثلاثة أقسام، أو إلى قسمين:
أما التقسيم الثلاثي، فهو:
1-الحكم الأولي.
2-الحكم الثانوي.
3-الحكم الولائي.
وأما التقسيم الثنائي، فهو:
1-الفتوى، وتنقسم إلى حكم أولي، وحكم ثانوي.
2-الحكم، ويقصد منه الحكم الولائي.
الحكم الأولي:
وهو الحكم الواقعي الذي يثبت لموضوعه ابتداءاً وبقطع النظر عما يطرأ على الموضوع من عوارض تقتضي تبدل الحكم الأولي بنحو يتناسب مع العنوان الطارئ على الموضوع، فأكل الميتة حرام، بقطع النظر عن الاضطرار إلى أكلها، والطهارة المائية شرط في صحة الصلاة، بقطع النظر عن الضرورة والحرج، والزواج مستحب، بقطع النظر عن خوف الوقوع في المعصية وهكذا.
والحكم الأولي ثابت لموضوعه دائماً من غير تغيـير، لأنه جاء لذات الموضوع بغض النظر عن الطوارئ عليه.
ويشترك فيه العالم والجاهل، لأنه ثابت لذات الموضوع رغم كون الجاهل معذوراً.
الحكم الثانوي:
وهو الحكم الواقعي الذي يثبت لموضوعه بسبب طروء بعض العوارض التي تقتضي لحمل هذا النحو من الحكم عليه، ولولا طروء هذه العوارض لكان الموضوع مقتضياً لحكم آخر، هو الحكم الأولي.
وبكلمة، إن الحكم الثانوي ثابت إذا ثبتت الحالة الطارئة، ولخصوص هذا الشخص الذي عرضت له.
فأكل الميتة بقطع النظر عن الطوارئ والعوارض يقتضي بنفسه ثبوت الحرمة، لكنه بسبب طروء حالة الاضطرار لأكلها، يتبدل الحكم الثابت لأكل الميتة إلى حكم آخر يتناسب مع الحالة الطارئة.
هذا الحكم الذي ثبت للموضوع بسبب ما طرأ عليه من عنوان هو الذي يعبر عنه بالحكم الثانوي.
كثرة العناوين الثانوية:
ثم إن الحالات الطارئة المؤدية لتغير الحكم عما كانت عليه كثيرة، نشير لأشهرها:
1-عنوان الضرورة والاضطرار:
وقد أشير في القرآن الكريم إليه بقوله تعالى:- (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا أثم عليه إن الله غفور رحيم)[3].
وقال سبحانه:- (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم)[4].
وقال عز من قائل:- (ومالكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصَّل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)[5].
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن المريض هل تمسك له المرأة شيئاً فيسجد عليه؟…فقال:لا، إلا أن يكون مضطراً ليس عنده غيرها، وليس شيء مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه[6].
2-عنوان الضرر والضرار:
وهو أيضاً وارد في الكتاب العزيز في موارد، مثل قوله تعالى:- ( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)[7]، كما ورد في السنة الشريفة، وعمدتها حديث لا ضرر ولا ضرار المعروف بين الفريقين.
3-عنوان العسر والحرج:
وقد ورد في القرآن الكريم أيضاً، قال تعالى:- ( ما جعل عليكم في الدين من حرج)[8]، ويدل عليه العديد من الروايات، يمكن مراجعتها في المصادر الحديثية.
4-عنوان التقية:
بجميع أقسامها، الخوفية والمدارتية، وغير ذلك من الأقسام الأخرى المعروفة والمذكورة في كتب الأعلام.
5-قاعدة الأهم والمهم عند التـزاحم:
ويدل عليها العقل والشرع، ويمكننا أن نمثل لها بالمثال المعروف، وهو الدخول في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق.
وقد تجعل أقساماً أخرى كمقدمة الواجب أو الحرام، وقد يجعل تحريم التنباك في القضية المشهور عن الميرزا الكبير(ره) من هذا القبيل، لأن استعماله كان سبباً لمزيد اشترائه، وهو بدوره كان سبباً لزيادة قوة الدول الاستعمارية، واستضعاف المسلمين وسلطة الأجانب على حياتهم.
وقد يجعل من مصاديق ذلك الكذب إذا كان بقصد الإصلاح لذات البين، أو الغيـبة مقدمة لنصح المستشير.
6-النذر والعهد والقسم:
الثابت بالكتاب والسنة، وجميعها من العناوين الثانوية، فكم من عمل مستحب أو مباح بعنوانه الأولي، يجب أو يحرم بالنذر أو العهد أو القسم، فصلاة الليل مستحبة، بعنوانها الأولي، ولكن تجب بالنذر بعنوانها الثانوي، فإذا انقضى النذر انقضى هذا الحكم، وكذا الإنفاق في سبيل الله وشبهه.
وفعل بعض الأمور مكروه بعنوانه الأولي، لكنه بالنذر أو بالقسم على تركه يحرم وهكذا أشباهها.
هذا وهناك موارد أخرى من مصاديق العناوين الثانوية، يمكن للمتبع والمتأمل فيما ذكرناه أن يجدها في الموارد الفقهية.
——————————————————————————–
[1] العروة الوثقى ص 30.
[2] المصدر السابق ص 251.
[3] سورة البقرة الآية رقم 172,
[4] سورة المائدة الآية رقم 5.
[5] سورة الحج الآية رقم 78.
[6] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب القيام ح 7.
[7] سورة البقرة الآية رقم 232.
[8] سورة الحج الآية رقم 78.